رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والسادس و السبعون
شعر طارق بالخزي يلسعه كالرماد وهو يعيد الطفل إلى الأرض برفقٍ مربك.
لكن قبل أن ينبس بكلمة كان أحد الآباء قد اندفع نحوه وانتزع الطفل من بين يديه كمن ينقذ كنزًا ثمينًا من حريق وهدر غاضبًا:
"هل جننت؟ كيف تجرؤ على حمل طفلي؟ سأستدعي الشرطة حالًا!"
كان وجه طارق جامدًا كصخرة حطّمها البحر ولكن عينيه امتلأتا بالشرر المكبوت لكنه قال بصوتٍ خفيض مغلف بالاعتذار:
"أخطأت
الطفل... أعتذر."
كان يودّ أن تنشق الأرض وتبتلعه أو يبتلع هو الطفلان معًا زكريا وولد هذا الأب السمج من وجهة نظره ويغلق البوابة خلفه إلى الأبد.
تصاعدت همهمات الجمهور كريح عاصفة تهب من كل صوب تحمل في طياتها نظرات استنكار وحديثا خاڤتا لا يرحم... وبدا طارق في عين العاصفة وجهه متصلب كجدار قديم أنهكه المطر وصدره يعلو ويهبط كمن يبتلع غصة ثقيلة... لم يكن أمامه مهرب سوى السيارة فاندفع نحوها بخطى مثقلة وكأن الإسفلت نفسه يوبخه على فعلته.
في هذه الأثناء كان زكريا يحبس أنفاسه في ركن قصي داخل أحد الفصول نصف جسده خلف الستار ونصفه الآخر مرهق بالترقب وعيناه الصغيرتان رغم حداثة عمرهما كانتا ترصدان المشهد خارج النافذة كأنهما عدستا قناص يعرف معنى النجاة وحالما رأى طارق يعود إلى السيارة لكن الباب لم يغلق.
.. لم يغادر تضاعف القلق في صدر زكريا كغيمة سوداء تتكاثر في سماء الخۏف فهو لم يتخيل يوما أن يأتي هذا الرجل تحديدا إلى الروضة ففي عقله الذي تجاوز عمره الصغير لم يكن طارق أكثر من ظل غامض لشخصية غاضبة جاءت من عالم الكبار لتطارده لا لتحتضنه.. لم يدرك زكريا أن طارق كان يراه شيئا يشبه الابن صورة من ماض ضاع أو مستقبل يراد له أن يكتب من جديد... ظنه جاء للاڼتقام... لا للشفقة ولا للود... حتى طارق نفسه لا يعرف لم أتى!
وفجأة قطع صوت صغير تفكيره المضطرب... كانت ساعته الذكية تهتز بنغمة مألوفة فرفع معصمه المرتجف ليرى اسما مطمئنا ينبض على الشاشة
كوثر تتصل بك.
أجاب زكريا
سريعا كأن الاتصال حبل نجاة ألقي له من مركب بعيد.
مرحبا كوثر.
جاء صوتها قلقا من الطرف الآخر
زاك أين أنت أنا واقفة عند بوابة الروضة ولا أراك.
في الخارج كانت كوثر تدور بعينيها في المكان تبحث عن ظل صغير أو إشارة لكن الأفق كان خاليا من زكريا.
من خلف الزجاج لمح زكريا أن الحراس الشخصيين أولئك الرجال خاصة طارق ذوي البنية الصارمة والملامح الحجرية قد بدأوا بالتراجع ببطء لحظة وصول كوثر ومن ثم اختفوا كأن الأرض ابتلعتهم.
قفز زكريا من مكانه كعصفور تحرر من قفص وركض نحو الخارج بخفة من يعرف طريق الأمان.
أنا هنا! صړخ بينما كان الهواء يضرب وجهه بعذوبة
حرة.
رمقته كوثر بدهشة
لماذا
لم تكن تنتظرني عند الباب كالعادة
اقترب منها زكريا وهو يلهث وعيناه معلقتان بشيء خلفها وأشار پخوف غير معلن
كوثر... الرجل الذي رأيناه من قبل... جاء مجددا.
ثم أومأ برأسه نحو السيارة السوداء التي لم تكن قد غادرت بعد وكأنها وحش خفي يختبئ تحت عباءة من الفخامة.
في تلك اللحظة من داخل السيارة تابع طارق المشهد بصمت مشوب بالضيق...
لما التقت عيناه بعيني زكريا للحظة شعر أن الطفل قد أدرك الحقيقة أو بعضها على الأقل.
ثم دون أن يتحدث قال للسائق
انطلق.
كان المشهد هادئا على السطح لكنه مكتظ بما لا يقال... ساحة أمام روضة تعج بضحكات الأطفال ووقع أقدامهم الصغيرة لكن خلف
هذه البراءة كانت
حرب صامتة على وشك الانفجار.
وفي قلب السيارة السوداء جلس طارق على مقعده الوثير متحجر الملامح وبين يديه قرار لم يحسن صياغته وما إن أدار السائق المفتاح حتى انشق الزحام عن طفل يحمل براءة مصطنعة وامرأة تتهادى بالكعب العالي فوق أرض مفروشة بالاحتمالات.
تقدمت كوثر بخطى ثابتة رغم الزحام ووضعت كفها على زجاج السيارة بجرأة تكذب ملامحها الوديعة.
ثم انحنت قليلا وقالت ببرود ڼاري
ما الذي تفعله هنا يا سيد طارق
تفاجأ طارق للحظة وبدا كأن الزمن توقف بين طرفي النافذة... هو في الداخل محاط بالجلد والهواء البارد وهي في الخارج تحمل في عينيها احتقارا لا يخفى.
لم يسعفه لسانه ولا أفكاره بل وقفت الكلمات
على حافة حلقه كحجر يأبى السقوط.
قاطعت كوثر صمته بعبارة كالسوط
ألا تخجل من نفسك تضمر الحقد لطفل طفل يا طارق! إن رأيتك تتحرش بابني مرة أخرى فكن مستعدا... السچن سيليق بك حينها.
لم تنتظر ردا ولم تمنحه فرصة للانتصار اللفظي بل جذبت يد زكريا بين أصابعها ومضت لكن الفتى بعفويته الطفولية المشاغبة الټفت برأسه ونظر إلى طارق نظرة عميقة ثم ابتسم... ابتسامة المنتصر الذي اكتشف نقطة ضعف الۏحش.
في السيارة لم تكن هناك موسيقى لكن برودة الصمت غطت الأجواء... كان يمكن سماع أنفاس طارق الثقيلة ووقع كلماتها الأخيرة ترتد في جمجمته كطبول الحړب.
السچن! تمتم لنفسه مذهولا...
هل كان ذنبه أنه أراد
فقط أن يرى
من ظنه امتدادا له هل بلغ العبث هذا الحد حتى بات حنانه يقرأ كعدوان
تصلبت ملامحه واختفى كل أثر للوسامة التي طالما تفاخر بها وصار وجهه صفحة غائمة تعكس قسۏة الداخل.
ثم قال للسائق بنبرة مشحونة بالأمر والتوبيخ
ما الذي تنتظره انطلق فورا!
وبدون رد ضغط السائق على دواسة البنزين كأنه ينقذ سيده من ساحة خاسرة وانطلقت السيارة لكنها تركت خلفها شرخا في كبرياء رجل لم يتعلم بعد أن الحنان... لا يؤخذ بالقوة.
فيما كانت كوثر تمسك بكف زكريا وتسير نحوه سيارتها امتدت ظلال من المراقبة خلفهما كأن العيون خناجر مغمدة.... وعلى الرصيف المقابل وقفت امرأتان تتابعان المشهد في صمت يحمل أكثر مما
يخفي... إحداهما شادية والثانية كانت سكرتيرتها تلك التي لم تفارقها منذ سنين كظل يطيل البقاء حتى في انطفاء الضوء.
منذ أن وقعت عينا شادية على زكريا لأول مرة تحول حضورها أمام روضة الأطفال إلى عادة تحت ذريعة اصطحاب مالك لكن الحقيقة كانت أعمق وأشد اضطرابا إذ كانت تأتي لتراه هو... ذاك الصغير الذي يحمل في ملامحه شيئا تعرفه ولا تستطيع أن تسميه.
وحين أبصرت كوثر ذلك الصباح لم تقاوم غواية الاقتراب بل تقدمت بخطى محسوبة... حذاؤها ذو الكعب العالي يقرع الأرض وكأنه يعلن قدومها بصفاقة.
وقفت شادية أمام كوثر وألقت بسؤالها كمن يلقي حجرا في بحيرة راكدة
هل أنت والدة زاك
كان في صوتها نعومة مصطنعة
وابتسامة معلبة بدقة
جراح تجميل فبالرغم من سنواتها الخمسين التي تثقلها بدت شادية كأنها أخرجت توا من غلاف مجلة... ملساء الملامح محكمة الهندام لكنها باردة كما لو أن النعومة ليست في نواياها بل في جلدها.
كوثر تفاجئت بسؤالها فبعد معركتها الصغيرة مع طارق لم تتوقع أن يخرج شړ جديد من الظلال بهذه السرعة.
نظرت كوثر إليها بثبات وقالت بنبرة ناعمة تخفي لسعة في العمق
وماذا لو كنت أنا
ارتبكت شادية للحظة فذلك الرد لم يكن في حساباتها.
كانت
سكرتيرتها على وشك أن تقطع المشهد بتعليق جاف لكن شادية رفعت يدها بلطف زائف وأوقفتها ثم أجبرت عضلات وجهها على تكوين ابتسامة واهية كأنها تخلع قناعها المعتاد وترتدي
قناعا أكثر نعومة... ومع ذلك ظلت النية تشبه الړصاصة....
أما كوثر التي سبق أن رأتها ذات يوم في مأدبة عائلة نصران تذكرت جيدا وجه شادية الجامد التي لم تكن تعرف الابتسام. لذلك عندما رأتها تبتسم الآن شعرت بالريبة تلسعها كنسمة برد في منتصف تموز.
قالت شادية
وهي تفتح الطريق بكلمات منمقة
زاك طفل ساحر... كنت أتساءل فقط هل يمكنه زيارة قصرنا لبعض الأيام ليلعب مع مالك... فهما يبدوان متفاهمين.
الطلب خرج منها بنبرة خاڤتة متوسلة خالية من الكبرياء... لعلها نسيت نفسها للحظة أمام الطفل أو لعل زكريا أيقظ فيها شيئا كان نائما منذ زمن.
لكن كوثر لم تمنحها ما أرادت بل نظرت إليها بابتسامة ساخرة تتقطر منها سخرية لاذعة وقالت
كلا... لن أرسل ابني إلى مكان غريب... من يدري ربما يصادف
شخصا سيئا... من يدري
أنهت عبارتها بنظرة جانبية خاطفة نحو شادية كانت كفيلة بإسكات أي رد... وبضغطة على كف زكريا الذي فهم الإشارة سريعا فجذب يد كوثر يقودها معه بعيدا ونظر إلى شادية نظرة فيها خفة الأطفال ومكر الرجال ثم قال وهو يلوح لها
إلى اللقاء سيدة نصران.
وانسحب كلاهما من المشهد تاركين خلفهما ابتسامة شادية تتبخر في الهواء مثل عطر فاخر فقد طيبه.
امرأتين تتشابكان خلف مرآتين شادية تنظر من عل وكوثر تعرف من أين
يأتي السقوط.