رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثامن و السبعون
حينها لم يكن لديهما إجابة سوى الصمت... صمت كأن فيه اعتذارا عن وجودهما في هذا العالم.
كان قلب نوح ممتلئا حد الفيضان لكنه لم يبك... لأن الطفل الذي يوجع كثيرا لا يملك دموعا كافية لكل تلك الندوب..
فقط شد الغطاء عليه أكثر وحدق في ظلمة الغرفة كأن
الليل وحده يفهم حجم ما يحمله من وجع.
حين عاد ظافر إلى القصر كان الليل قد أسدل ستائره لكن في داخله لم يكن الليل إلا بداية حسابٍ طويل.
استقبلته الحديقة التي بُعثت من سباتها بالأمس وقد نُزعت عنها الزهور التي أثقلت الهواء بحبوب اللقاح… بدا له المشهد نظيفًا، مرتبًا، خاليًا من الفوضى كما خلت روحه من اليقين.
لم يكن يعلم على وجه التحديد لماذا عاد مبكرًا ربما كان يبحث عن ردة فعل أو ابتسامة أو حتى عتاب صامت.
عندما استمعت سيرين إلى صوته سيارته تقترب هرعت إلى النافذة اتحرى صدق ما بثته إليها كوثر وراح يعتمل في عقلها كمراجل من الجمر ولكنها فوجئت حين لم تجد دينا بصحبته — تلك التي ظنّت سيرين أنها ستأتي معه لترى بأمّ عينيها الحدائق الجديدة… وإذا بظافر دخل وحيدًا.
في غرفة المعيشة عندما ولج كانت سيرين جالسة منحنية على دفتر مفتوح تخطّ فيه شيئًا بقلمٍ مائل الرأس كأنها تحاول أن تكتب على الورق ما تعجز عن قوله بصوت.
قال بصوته الهادئ:
"هل تناولتِ طعامك؟"
رفعت رأسها نحوه ببطء ثم أومأت دون أن تترك القلم من يدها:
"نعم، فعلت."
رمق طاولة الطعام بنظرة سريعة كانت نظيفة تمامًا لا توحي بشيء يُنتظر.
تتبعت سيرين نظراته التي تحفظها عن ظهر قلب ومن ثم قالت بهدوء مشوب بالبرود:
"لم أكن أظنك ستعود الليلة لذا لم أُعِدّ لك شيئًا."
كان في صوتها صدق غريب ممزوج
بندى خيبةٍ قديمة فسابقًا كانت تُحضّر له طعامه المفضل دون أن تنتظر تأكيدًا على مجيئه... كانت تفعل ذلك دومًا وكأنها تطهو بانتظار القدر لا الرجل لكنه دوماً ما كان يعود متأخرًا أو لا يعود وإن عاد لا يمسّ الطعام كمن لا يعنيه كل ما تفعله، أو لا يعنيه بالقدر الكافي.
سافرت بعدها واختفت عن هذا المكان كما تختفي النجمة خلف الغيم... وهناك أنجبت نوح وزكريا وبدأت تخيط مستقبلها بإبرة الإصرار.. أما الطبخ فصار من مهام فاطمة... وسيرين تلك التي طبخت ذات يوم حبًّا لم تعد تنوي العودة إلى المطبخ ولا إلى أيام البدايات.
اجتسها ظافر من بين دوامة أفكارها ولكنه لم يُظهر أي انفعال... فقط قال ببساطةٍ خالية من الوزن:
"وأنا أيضًا تناول طعامي."
كانت كذبة مهذبة... فهو لم يأكل شيئًا ذلك اليوم فقد أسرع في العودة متوهمًا أن رائحة عشاء قد تحتضنه حين يدخل
لكنه لم يجد سوى الصمت… والضوء الخافت… وسيرين اللا مبالية.
قالت سيرين كمن يُلقي بحبل من الكلمات في بحر التبرير:
"كوثر أصابها بردٌ مفاجئ… لذا سأذهب معها إلى المستشفى لاحقًا."
كانت تكذب لكنه لم يشك للحظة... هي فقط كانت تبحث عن لحظة مناسبة لاختبار الوقت واختيار التوقيت الأمثل للحمل.
الوقت… الذي أصبح يمر بينهما كالزائر الثقيل لا يسأل ولا يُسأل.
انطلقت سيرين في سيارتها تشقّ ليل المدينة
إلى المستشفى حيث كانت كوثر تنتظرها وقد بدا على ملامحها توترٌ مموّه بابتسامة، وما إن لمحَت سيرين حتى قالت بسرعةٍ تخفي قلقًا:
"لقد حصلتُ على رقمٍ بالفعل... يمكنكِ الدخول مباشرةً للفحص."
أومأت سيرين برأسها دون أن تنطق ثم استلمت الورقة وتوجّهت كمن تُساق إلى قدرٍ مؤجّل، قلبها يدقّ إيقاعًا مضطربًا لا يراه سواها.
مرّت ساعة... ساعة بدت كعمرٍ مكتوم... ثم خرجت تمسك بالنتيجة بين يديها كأنها تمسك بسطرٍ يتنبأ بحياتها القادمة... عيناها تلمعان لا من البهجة بل من الترقب... النتيجة كانت واضحة:
ستدخل في فترة خصوبة خلال الأيام القليلة القادمة.
وعند باب المستشفى أخرجت كوثر علبة صغيرة من جيب معطفها ناولتها لسيرين بنظرةٍ ذات مغزى وهمسةٍ مشاكسة:
"تفضّلي ساسو."
نظرت سيرين إلى العلبة باستغراب فتقلّصت ملامح وجهها خجلًا حين أدركت أنها حبوب منشّطة توصف عادةً للرجال... لتقوية القدرة.
همست بنبرةٍ مخنوقة بالحرج:
"لا حاجة لنا بهذه... أظن."
ضحكت كوثر بخفة وخفّضت صوتها كما لو كانت تشاركها سراً عسكريًا:
"مَن يدري؟ بعض الرجال يفقدون القدرة على التركيز ، بل أكثرهم كذلك."
كانت كلماتها تحمل مكرًا أنثويًا خفيًا، خبيرًا يشبه وصفة سحرية تُلقى في أذن مترددة... وبالرغم من الخجل الذي لفّ وجه سيرين لكنها وضعت العلبة في حقيبتها خفيةً
فهي لم تكن مستعدة للمجازفة هذه المرة... متخذة قرار بأنها لن تفشل.
تردّدت سيرين قليلًا قبل أن تسأل ومن ثم همست في شرود:
"هل سيؤثر هذا على الطفل؟"
ردّت كوثر بثقة امرأة مرّت على العيادات بما يكفي:
"أبدًا... سألت طبيبًا ذات مرة فقال أن بعض الأزواج لا يملكون خيارًا سواه حتى في عمليات التلقيح الصناعي."
تأملت سيرين وجه كوثر للحظة كأنها ترى فيها امرأةً أقرب إلى مقاتلةٍ بعطرٍ أنيق تعرف تمامًا متى تبتسم... ومتى تضرب.
"أنتِ مثيرةٌ للإعجاب حقًا يا كوثر." قالتها بصدق.
فردّت كوثر بغمزةٍ واثقة:
"طبعًا. والآن... ابذلي كل ما بوسعك الليلة."
خجلت سيرين من صراحتها لكنها أجابت:
"نعم."
عادت سيرين إلى القصر الهواء الليلي يلامس بشرتها وكأنه يوقظ جسدها لخطةٍ رسمتها في سرّها... كان عليها أن تفكر كيف ستفتح نافذة الرغبة من جديد في قلب ظافر بعد أن أوصدها منذ زمن؟
حديث عابر ينساب معه إلى غرفتها؟ ربما...
لكن ما لن تسمح به الليلة أن يُفلت من بين يديها ويعود إلى غرفته كأنها طيف لا يُثير به شيئًا.
في الداخل كان ظافر جالسًا في غرفة المعيشة... لم يكن يقرأ ولا يشاهد التلفاز بل يتأمل عقارب الساعة وهي ترسم دوائر الملل حول التاسعة مساءً.
تساءل في سرّه، بنظرة خفية إلى المطبخ:
"أين هي؟ لماذا لم تُعِد لي شيئًا كما كانت تفعل من
قبل؟ هل حقاً لم أعد أعني لها شيئاً على الإطلاق؟!"
لم يكن يدري... أن الليلة لن تكون كسابقاتها.