رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والتاسع و السبعون 179 بقلم اسماء حميدة

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والتاسع و السبعون


في الداخل كان ظافر جالسًا في غرفة المعيشة... لم يكن يقرأ ولا يشاهد التلفاز بل يتأمل عقارب الساعة وهي ترسم دوائر الملل حول التاسعة مساءً.


تساءل في سرّه، بنظرة خفية إلى المطبخ:


"أين هي؟ لماذا لم تُعِد لي شيئًا كما كانت تفعل من


قبل؟ هل حقاً لم أعد أعني لها شيئاً على الإطلاق؟!"

لم يكن يدري... أن الليلة لن تكون كسابقاتها.


كانت شادية تظن أن ظافر يحرص على كتمان حقيقة والدة نوح كما لو كانت سرا معيبا في سيرة حياته النظيفة فافترضت أن صمته المطبق عند إعادته للصغير ما هو إلا حائط عازل يحجب خلفه ماضيا لا يريد له أن ينفض غباره أمام أعين العائلة.

ولما أزعجها الغموض أفرغت فضولها دفعة واحدة في مكالمة هاتفية حادة كانت أسئلتها تسقط كالرصاص في أذنه.

ظل ظافر صامتا للحظة كأن الكلمات قد جفت في حلقه قبل أن يمر ذهنه بخاطرة مباغتة

هل كانت شادية ستتقبل نوح كأحد أفراد عائلتها لو لم يكن من دمه هل كانت لتكترث به لو لم تظن أنه وريثها المفترض

قال ظافر بصوت خافت لكنه حاسم

كفي عن التدخل في ما لا يعنيك أمي.

ثم أنهى المكالمة بضغطة باردة تاركا على الهاتف صدى غاضبا يتردد في الفراغ.

تململ ظافر في مكانه كمن ضاق صدره بجدران القصر ومن ثم التقط هاتفه كمن يبحث عن ملاذ فانزلق بإصبعه إلى ألبوم صور مخفي لا يدخله إلا حين تداهمه الأشباح.

ثلاث صور فقط.

الأولى صورة لتقرير الفحص الطبي حين اكتشف حمل سيرين قبل سنوات.

الثانية وجه نوح يحدق فيه بعينين تحملان نصفه ونصف حكاية لم تكتب.

أما الثالثة... فظهر شاب التقطت له صورة عن بعد وعين ظافر تحدق فيها كأنها خريطة تبحث


عن ملامح مفقودة

هل هذا ابن كارم هل هاتين الصورتين لوالد وولده

تقلبت شكوكه بين اليقين الإنكار لذا لم يجرؤ على إجراء فحص يقطع الشك باليقين فلو ثبت العدم لمات الأمل في قلبه خنقا.

أغلق الهاتف كما يغلق باب نعش وترك تلك الأسئلة تتخبط في أعماقه.

في الجهة الأخرى كانت شادية تجلس كملكة جريحة لكنها لم تفقد بعد شهيتها للسلطة إذ بدا على ملامحها ابتهاج خبيث وهي تتحدث مع سكرتيرتها

بغض النظر عن كل شيء أريد أن أرى الطفل.

أشارت بأصابعها النحيلة وكأنها توقع أمرا عسكريا فهي مستعدة لدفع أي ثمن مقابل الحقيقة ولو كلفها كل ما تملك فبالنسبة لها لم يكن نوح مجرد طفل بل حلقة نجاتها الأخيرة... وجوده كان سيثبت أمام كبار عائلة نصران أن جيناتها لم تخنها وأن ابن ظافر وريثهم الذي تأخر قد يكون ثمرة نخاعه رغم كل ما قيل عنه.

ففي زمن مضى قد أنجبت شادية توأما لكنها لم تنعم بالفرح طويلا فالأطباء اكتشفوا سريعا أن أحد الطفلين يحمل مرضا وراثيا نادرا وأعلنت شادية وفاة توأم ظافر على إثر هذا المرض ومنذ ذلك الوقت وبدأ الجحيم... فحماة شادية كانت كذئب عجوز شم رائحة العطب ولم تفوت فرصة لاتهامها بأنها أصل العلة فقلبت عليها العائلة بصمت عيونهم تنبش في دمها.


مرت سنوات حتى ورث ظافر زمام الأمور وأعاد لها شيئا من كرامتها أمامهم... لكنه ظل بلا طفل وبقيت الشائعات تنزف حول رجولته إذ قيل همسا إنه مريض وإنه عقيم.

لكن شادية لم تعترف قط... لم تبح حتى لظافر بالحقيقة كاملة... لم تخبره عن خطأ الجينات الذي ظنته عارا ولا عن الظلال التي أحاطت بماضيها الطبي... كانت امرأة تبتلع الألم ولا تخرجه إلا على شكل انتقام... واليوم ترى في نوح فرصتها الأخيرة لتتم انتقامها.

عودة إلى قصر ظافر.

حين عادت سيرين من المستشفى كان الليل قد ألقى وشاحه على المدينة لكن أضواء غرفة المعيشة ظلت مشتعلة تنبض بقلق خفي.

دفعت باب القصر بخطى هادئة وكأنها تخشى أن تفسد سكون اللحظة... داخل الغرفة كان ظافر مستلقيا على الأريكة يحيطه ضوء خافت يتلألأ من مصباح أرضي كخيط ذهب متهالك وقد أمسك بكتاب بين يديه يتظاهر بقراءته يقلب الصفحات كما لو أنه يبحث عن شيء لا يجده لكن نظراته لم تكن معلقة بالكلمات بل تائهة في مكان آخر بعيد تماما عن الحروف.

لم يظهر اهتماما حين دخلت لم يرفع رأسه وكأنه أقسم على معاقبة قلبه بالصمت.

اقتربت منه سيرين بحذر كمن يتلمس طريقه وسط حقل ألغام... فقالت بصوت دافئ إذ أرادت له أن يكون بابا يفتح صقيع المسافة

بينهما

عندما عدت رأيت الزهور في الحديقة... بدت رائعة حقا.

كانت قد رأتها في الصباح لكنها اختارت تلك اللحظة لتذكرها كمن يمد له غصن زيتون مكسو بالعطر... ولولا حاجتها للتودد إليه لتحقيق ما تسعى إليه منذ أن عادت إلى المدينة ما كانت لتعقب على ما طرأ بالحديقة.

أغلق ظافر الكتاب ببطء كأن كل صفحة كانت مرآة تحرضه على النظر إلى ملامحها ثم التفت إليها... وجهه الوسيم بدا مثل قناع خزفي يخفي عاصفة مكتومة وعيناه عيناه لم تقولا شيئا لكن صمتهما كان أثقل من الشتائم.

بالتأكيد. قالها بصوت رخيم كخيوط كمان تعزف في قاعة خاوية صوت جميل لكنه لا يحمل دفئا.

شعرت بشيء ينهش قلبها شيء لم تستطع تسميته... كانت هناك مسافة بين نظراته وكلماته كأن الروح خرجت من الجسد وتركت خلفها نسخة باهتة.

تقدمت أكثر ومدت يدها بكيس صغير

في طريقي رأيت مطعما جديدا يبيع أطباقا أجنبية شهية... ففكرت أن أجلب لك شيئا ربما يعجبك.

وضعت الكيس على طاولة القهوة بعناية كأنها تضع أملا هشا على مذبح اللامبالاة إذ كانت تعلم أنه لا يحب العشاء بل كثيرا ما يكتفي بوجبة واحدة طوال اليوم لكنها أرادت أن تفتح معه بابا ولو صغيرا بابا قد يقودها إلى تلك الليلة التي تنتظرها بفارغ الصبر.


لكن كما توقعت دفع ظافر الكيس




بيده كما يدفع طفل غاضب طبقا لم يعجبه.

لا أريده. قالها بنبرة قاطعة كنصل بارد يمر على عنق رغبتها.

تجمدت الكلمات على لسانها... لم تكن المسألة في الطعام بل في ما وراءه... هو لم يرفض الوجبة بل رفض ما تمثله اقترابها محاولتها وجودها.

بدا ظافر وكأنه تمثال من الجليد تجمدت مشاعره خلف قناع مصطنع لكنه وحده كان يعلم أن هناك شيئا يغلي في صدره ككتلة نار انحبست تحت رماد بارد... لم يكن مجرد قلق عابر بل ثقل ينهش صدره من الداخل وكان السبب واضحا في ذهنه صارخا كصفعة... تلك المكالمة التي جمعته بشادية وذلك الطفل الذي أنجبته سيرين

كأن الكلمة وحدها كانت تكفي لتكسر شيئا بداخله

يحرسه لسنوات.

لم يطل الحديث بينهما ومن ثم ألقى بجسده على الأريكة وقد اكتظ رأسه بطنين الأسئلة... فقالت سيرين بنبرة منهكة تخفي صخبا لا يرى من موجة غضب... فها هي قد فقدت الأمل في الليلة

سأغتسل وأرتاح قليلا...

استدارت سيرين بصمت واتجهت نحو الدرج لكن قبل أن تضع قدمها على الدرجة الأولى شعرت بحركة خلفها وامتدت يده فجأة وأمسك بمعصمها.

كانت قبضته دافئة لكنها مهتزة كأنها لا تطلبها بل تستنجد بها.

توقفت في مكانها واستدارت نحوه وقد ارتسمت الحيرة على قسمات وجهها.

نظر إليها ظافر وفي عينيه شيء لم تره من قبل وجع قديم كبت طويلا والآن فقط بدأ يتسرب إلى السطح... قالها

بصوت منخفض متهدج كأن كل حرف ينتزع من قلبه لا من حنجرته

هل... مات طفلنا حقا آنذاك

سؤال تفجر وسط الغرفة كقنبلة صامتة رن صداه في قلبها قبل أذنيها.

كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها الألم يتكلم في عينيه... لا العتاب ولا الغضب بل الألم... ألم الخسارة والخذلان والحنين.

تلعثمت الكلمات داخل فمها.... وعلق الكذب في حلقها كما تعلق الشوكة في فم طفل جائع... أرادت أن ترد أن تقول الحقيقة أو حتى كذبة مقنعة... لكنها لم تستطع... فكان الصمت حينها أكثر بلاغة من الكلام.

ولما طال صمتها اقترب منها خطوة متمهلة لكن حين دنا إليها لم يوبخها ولم يعاتبها... بل جذبها إلى حضنه

دفعة واحدة وكأنه يعيد امتلاك شيء ضائع.

ضمها بقوة كما لو كان يخشى أن تنسل من بين ذراعيه كحلم... ثم همس وهمسه كان كصرخة مكتومة

لم تكرهينني إلى هذا الحد سيرين

كانت كلماته تنزف من داخله وكل ما فيها يقول أحبك أكثر مما ظننت... وأوجعتني أكثر مما توقعت.

ترى هل مات توأم ضافر وهل سيكون لشادي دورا في كشف الحقائق وماذا عن سيرين هل ستنجح فيما عادت من أجله أم ستضطر للاعتراف وماذا سيكون رد فعل ظافر اذا علم بما تخفيه عنه

الفصل المائة والثمانون من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1