رواية إنما للورد عشاق الفصل السابع عشر بقلم ماهي عاطف
استقامت من موضعها تتحرك نحو تلك التي تجثو على الأرض بتوجس شديد يغزو أوصالها من نظرات الأخرى التي تسحق قلبها خوفًا. اتخذت خطوة مرتجفة إلى الخلف عندما لاحظت شمّار جلبابها إلى نصف ذراعها؛ فبات لديها رغبة في البكاء لرؤيتها تلك الشمطاء تقترب منها ..
انكمشت على ذاتها أكثر عندما دنت منها صائحة: يعني فكرك لما تهربي مني مش هاعرف أجيبك يا بت!
انتفضت فجأة من مكانها حينما سمعت صوتها الهادر ينادي باسمها: ما تردي عليا يا سعاد
قالت بصوتٍ ضعيف وتحسرٍ على ما وصلت إليه في حياتها البائسة: نعم يا ست كوثر
_" عايزة أعرف إيه اللي كان بينك وبين ورد قبل موت فريد "
شهقت ذعرًا لعلمها بهذا الموضوع بالأخص، فصمتت كي تبحث عن حديث مراوغ تخبرها به. أجابت متلعثمة: مافيش حاجة، دي كانت بتديني حسنة لنور ابني
أطلقت ضحكة رنانة ساخرة قبل أن تعقب بمكر أنثوي: يعني مش هي السبب في موت فريد بتخطيط منك!
لتتابع بنبرةٍ قوية يملؤها التحذير: انطقي بدل ما ألبسك قضية موته
أزدرد لُعابها ثم طأطأت رأسها أرضًا فقالت بخفوت متوجس من القادم: كانت بتفكر في قتله لكن أستاذ فريد مات بسبب سكتة قلبية زي ما الدكتور قال
لتلتهب نيران الغضب من حديثها هذا، كانت تعلم أن هناك ما يخفونه عنها من أفعالٍ وحديثٍ غامض يجمعهم سويًا؛ لكنها سعدت في داخلها، فهكذا ستستطيع بكل بساطة أن تجعل ابنها يترك "ورد" ويعود تحت جناحيها من جديد !!
****
مع هدوء المكان الخالي من حولها، سكن جسدها المرهق أخيرًا بعد بكاء مرير. وقد ساهمت برودة الطقس الطفيفة مع الهواء الذي كان يداعب خصلاتها المتطايرة في سيمفونية بديعة ما بين نسمات عليلة وتراقص أوراق الشجر أمامها.
تنهدت كي تخمد نيران القهر بداخلها ولو قليلًا، وتصفي ذهنها المستنفد من أفكارها المشتتة، شاعرةً براحة تتخلل روحها المنهمكة، لتستكين مستسلمةً لسحر اللحظة.
إلا إذا بتر فقاعة الصمت والسكون السائد دخول "ماجد" بغضب شديد قائلًا باقتضاب: حضر لي العشا يا ورد
لم ينتظر إجابة منها فتحرك نحو غرفته. رمقت طيفه بدهشة من معاملته الجافة معها منذ ذهاب مديرها أمس، ولم ينبس ولو بكلمة معها، مما جعلها تصمت وتتراجع عن الحديث في أمر الانفصال كي لا تثير غضبه أكثر، ومحاولةً التقرب منه لتشاركه أحاديثه الغامضة المجهولة التي جعلت هيئته تتغير مائة وثمانين درجة!
هزت رأسها بيأس ثم دخلت المطبخ لتُعد الطعام له، ثم فتحت المبرد وأخرجت طبقًا به حلوى "كنافة بالمانجو"، فهي تعلم أنها حلوته المفضلة ..
استجمعت شجاعتها ثم اتجهت نحو غرفته تطرق بابه بخفة، فُتح بعد ثوانٍ سامحًا لها بالدخول.
وضعت الصينية فوق الطاولة ثم التفتت له مطأطئة رأسها على استحياء، مردفة بخفوت: عملت كنافة بالمانجا علشان عارفة إنك بتحبها
عجز لسانه عن مدحها لاهتمامها بطعامه، وملابسه، ونظافة المنزل، كل شيء، فتراجع مستطردًا بجمود: شكرًا، اقعدي علشان عايز اتكلم معاكِ
أومات له بفضول أثار حافظها، ثم جلست فوق المقعد تنظر أمامها رافضةً النظر نحوه كي لا تلتقي بعينَيْه التي ينبعث منهما شرر غضب لا تعلم سببه!
بعد نصف ساعة، جلست أمامه بعدما أشار لها بالاقتراب، وما زال الجمود يحتل قسمات وجهه. ارتبكت أكثر في جلستها حينما وجدته يقبض على كفيه بقوة، وازداد احمرار وجهه من شدة الضغط.
حمحم لينظف حنجرته محاولًا السيطرة على ذاته وإخراج نبرة تحمل التريث: بخصوص موضوع الطلاق إللى اتفتح امبارح ، ياريت يتقفل يا ورد علشان لا بابا ولا أنا هانسمح بكده، ومديرك في الشغل عايز حدود أكتر في التعامل، ياريت ما يكونش في معاملة أحسن
ليستكمل بنبرةٍ جامدة جعلتها تجحظ عينيها من الدهشة: ومن النهارده هاتنامي معايا في أوضتي ، مافيش أوضتي وأوضتك، سامعة؟
_"مش هاينفع طبعًا كلامك ده، أنا لسه ماتعودتش على وجودك أصلًا."
دنى منها يرمقها باستشاطة مغتاظ من حديثها، مردفًا بلا مبالاة: التعود هايجي واحدة واحدة بس أنتِ ماتقفليش دماغك دي وتجادلي، اتفضلي يلا نامي ومن بكرة تجيبي هدومك وحاجتك هنا.
زفرت بعصبية ثم دبت بأرجلها في الأرض من شدة الغيظ، فكم كرهت ولعنت ذاتها على تسمُرها كالصنم أمام حديثه التحذيري لها ..
بعدما راقبت دخوله الحمام، أسرعت بالاستلقاء على الفراش تتصنع النوم كي لا ينبس بكلمة معها بعدما رأت الوجوم يحتل وجهه، بينما هو خرج بعد ثوانٍ تفحص وجهها بتمعن ليجد أهدابها تتحرك فعلم بأنها ترفض المواجهة والحديث معه.
استند بظهره إلى الفراش متنهدًا بعمق يحمل في طياته الكثير، ثم نظر نحو تلك التي غفت في ثوانٍ حينما شعر بانتظام أنفاسها، فعلم بأنها غطت في نومٍ عميق.
غارق في مشاعر مشتتة لا يستطيع فك شفراتها، لكنها جديدة عليه ومؤثرة بشكل يخشاه قلبه الجريح. هو ليس شخصًا سيئًا كما يبدو، ربما يندفع بغلاظة دفاعية نحوها، لا تعلم سببها، لكنه حنون بشكل يجعلها تتأمل فيه ويُحرك شيء بداخلها ..
لم يشعر يومًا بهذا القدر من الزخم العاطفي حتى مع زوجته الأولى!
تذكر مهاتفة والدته في الصباح، مرسلة له مسجل صوتي بحديثٍ وقع على أذنيه جعله يشعر بالتحطم من ثقته بأقرب الأشخاص !!
حتى الفتاة الحنونة البريئة التي شعر بالشفقة نحوها مما حدث معها طيلة حياتها، غدرت به وكانت ترغب في قتل شقيقه !!
لا يصدق هذا بتاتًا، لا يصدق ..
لقد ذاقت المرارة في منزلهم ولم تشعر بالسعادة في حياتها، فأصبح التفكير بالتخلص من سجينها أمرًا واقعًا أرادته هي، ولم تسنح لها الفرصة لقتله فتوفاه الله كي يجعلها تشعر بالراحة لعدم فعلتها لهذا، إلا إذا كان قد حدث وباتت العوائق وخيمة!
مد يده يتحسس نعومة وجهها بطرف أصابعه بشغف لم يعي بما أصاب جسده من قشعريرة هزت كيانه لمجرد لمسها
فتنهد مستطردًا بحزم وعزيمة:
كل حاجة هاتتصلح يا ورد، ومهما حصل مش هاسيبك. أنا لما صدقت لاقيتك علشان تفوقيني من القوقعة اللي أنا فيها. عارف إني ماستهلش إني أخليكي جنبي، بس هاسيب الدنيا تحدد مصيرنا.
****
ارتفع ضوء الشمس الدافئة في السماء، ومعه فتحت جفونها ببطء لتقابل وجهه أمامها، تأملت محياه بعشق وتمعن شديدين، أرادت أن تلمس لحيته الكثيفة وتغلغل يدها بين خصلاته السوداء؛ لكنها ترددت في أن تفعل هذا وتراجعت عن تفكيرها، ولعنت ذاتها على رغبتها في لمسه، فبالنهاية حسمت أمرها بالذهاب نحو الحمام قبل استيقاظه، ويحدث ما لا يخطر على بالها من وقاحته اللا منتهية معها!
بخطواتٍ متأنية، استقامت متحركةً لتغتسل، ثم ترتدي ثيابها، والهبوط كي تجلس مع زوجة عمها تعطي إياها بعض النصائح من أجل التعامل مع ابنها الغليظ الذي بات قلبه كالحجر، لا يعلم معنى الحب والعشق سوى نحو ابنة عمه التي تركته وتزوجت بابن عمها لسببٍ مجهول رفض "عاصي" الإفصاح عنه !!
بعد قليل، هبطت الدرج بوجه مكفهر، مما جعل عيني "عنان" و"فيروز" ترمقانها بدهشة، فهي أصبحت في الآونة الأخيرة غاضبة يائسة، حتى وجهها لم يعد مشرقًا كما كان، فقط الحزن يتملك قلبها منذ زواجها.
ليتها تحاول تغيير مصيره وقلبه الذي تمنت أن يحفر اسمها بداخله لكن لا جدوى من فعلتها!
تنهدت ثم جلست فوق المقعد تتناول طعامها في صمت مريب، فلم تسنح لأحد بالحديث معها منذ هبوطها، لكن "فيروز" لم تصمت ولن تجعل الوجع يستحوذ عليها مرةً أخرى، فأردفت بدعابة: بذمتك، ده منظر واحدة رايحة الغردقة مع جوزها تقضي شهر العسل!
بسخرية جلي فوق قسماتها مجيبة بإزدراء: هاقوم ارقص يعني والا إيه؟ ما أنا كويسة أهو
_"فرح فكي كده يا حبيبتي أخويا مش بيحب النكد خلى بالك "
زفرت بعصبية ثم جاءت لتغادر، لكنها عاودت الجلوس حينما أقبل "عاصي" عليهم ملقيًا التحية. ثم جلس بجوارها يتناول طعامه.
بمكر أنثوي ونبرة خبيثة، عقبت والدته: جبت لك شنطة فيها حاجة هاتعجبك أوي يا فرح لما توصلي، ابقي افتحيها
أومات لها بعينيها، بينما "عاصي" وثب واقفًا مستطردًا بجدية نحوها: يلا نتحرك قبل الزحمة يا فرح
رمشت بأهدابها ثم وثبت أيضًا. وجه نظره نحو شقيقته بحنان مردفًا بنبرة تحمل السعادة لأجلها: بإذن الله هاننزل قبل كتب الكتاب بيومين، ماينفعش أسيب بنتي في يوم زي ده
بامتنان تفحصت وجهها. ثم أمسك بيد "فرح" التي تأملت علاقتهم بغصة مريرة تشكلت في حلقها، شعر بها هو ليحتوي كفها بحنو افتقدته.
خرج نحو السيارة ثم صعد مقعده قائلًا بنبرة هادئة تبث الأمان بداخلها: فرح، ماتقلقيش، العلاج هايبدأ من بكرة، ومش عايزك تقلقي خالص، بإذن الله هاتتعالجي وتبقي أقوى من كده، تمام!
أومات له دون حديث، كابحة دموعها التي أصبحت على مشارف السقوط بغزارة، بداخلها خائفة من مغادرة هذه الحياة قبل أن تبتسم لها، متوجسة من ترك حبيبها لها، لا ترغب في التعافي كي لا ينفصل عنها وتعود وحيدة مرة أخرى بعدما وجدت الأمان والاحتواء معه !!
****
انتظرها بتأفف من تأخرها الدائم الذي جعله يرفض التواجد معها بسببه، لكنه يحبها وملزم بانتظارها مهما حدث!
أقبلت عليه بتهلل وابتسامتها التي يعشقها منذ معرفته بها، وثب يلتقط كفها ليصافحها ثم وضع قبلة صغيرة على ظهر يدها.
فابتسمت بحبور ثم جلست فوق مقعدها الذي سحبه لها بحركة رجولية أعجبت بها، فتحدثت بثناء: تسلم لي يا عثمان
_"بحبك بس بزعل من تأخيرك عليا أوي، بحس إنك مش بتدي مواعيدنا اهتمام "
على عجالة، تحدثت محركة رأسها بنفي: لأ والله مش كده، دا عاصي مسافر مع مراته لشهر العسل، فكنت مستنية يمشي علشان أجي
حرك رأسه بتفهم، مردفًا بهيام وعيناه تشعان الحب لها: ربنا يخليكم لبعض ويخليكِ ليا
رددت الدعوة خلفه ثم قالت بغيظ مكتوم: وبعدين حضرتك متضايق علشان اتأخرت عليك، وأنت أصلًا هاتسيبني بعد نص ساعة علشان تروح المطار توصل ابن خالتك!
قهقه بصخب على غضبها الطفولي الذي زادها جمالًا فوق جمالها الطاغي، فأسرع بقوله المتلهف: لأ، مش كده والله، أنتِ عارفة إنه أكتر من أخويا ومش هاينفع موصلهوش!
_" هو أصلًا جيه في إيه ومشي في إيه؟ "
أراح ظهره متنهدًا بيأس من تفكير الآخر، معقبًا بإيجاز: هو كان جاي مصر يستقر ويتجوز بس ما حصلش نصيب
تفهمت حديثه المشير نحو "فرح"، فأجابت بنبرةٍ تعقلية: طب ليه ما تقدمش لحد تاني يعني ليه ما دورش؟
_" هو بيحب يجرب الحاجة مرة واحدة، قبلت بيه خير وبركة لحد ما يفكر بعد سنة في تكرار التجربة "
قهقهت بخفة فتحدثت بمشاكسة: زيك كده يعني؟
رفع يده مستسلمًا فقال بدعابة: لأ، أنا واقع أوي والتأخير من عندكم مليش علاقة، بقالي سنة بقنعك أكلم عاصي وأنتِ رافضة
تلاشت الضحكة من وجهها ليحل محلها الحزن ثم أجابت بخفوت حزين: كنت خايفة منه يا عثمان
لتستكمل بمرارة ووجع حينما رأت شقيقها يغدق اهتمامه بشخص آخر: وبعدين هو مبقاش فاضي لي أصلًا ولا كان قبل مهتم بيا
_"علشان فرح؟ "
صمتت مطأطئة رأسها ولم تجب عليه، فوضع أصبعي السبابة والإبهام يرفعان رأسها كي تلتقي بعينيه ثم استطرَد بحزم وجدية: عنان، قُلت لك ملكيش دعوة بفرح، طلعيها من دماغك. ليه مُصرة إنك تخلقي حواجز وخناقات ملهاش داعي أساسًا؟ حرام تبصي لها في حتة الاهتمام من أخوكي، يعني على حسب كلامك إنها اتحرمت منه ومن أهلها، فماتجيش عليها أنتِ كمان!
ابتلعت غصة مريرة تشكلت في حلقها بصعوبة، وأغرورقت عيناها بالدموع ثم قالت بآسي: غصب عني يا عثمان، صدقني غصب عني
_" طب بصي، ممكن تعتبريني عاصي أخوكي وتتعاملي على الأساس ده معايا وتنسي إني خطيبك تمامًا؟ "
تنهدت مجيبة بابتسامة باهتة تخفي الكثير من الآلام: اتفقنا يا عثمان