![]() |
رواية إنما للورد عشاق الفصل الثامن عشر بقلم ماهي عاطف
خمس أيام مرت على "فرح" كربيع حل فجأة على لياليها الشتوية القارصة، ليجعلها باهتة كورقة خريفية سقطت أرضًا كما لم تكن بتلك الهيئة من قبل.
أصبحت تمكث في غرفة لونها أزرق لدعم الاسترخاء والراحة النفسية لديها؛ لكنها لم تشعر بذلك بتاتًا عكس المتوقع.
حالتها باتت سيئة منذ مكوثها في المشفى، وترك "عاصي" لها شاعرةً بالوحدة، ولم يُوفَ بوعده الداعم لها !!
اعتادت على العزلة حتى إنها راضية تمامًا، فهذا يكفي عن الاعتياد على البشر والخزي من القريب كابن عمها .. كزوجها !!
لم تعُد تبحث عن أحد يجفف دموعها .. في الحقيقة قد لا تحتاج الدموع إلا نادرًا!!
مسحت عبراتها التي هبطت منذ استيقاظها في الصباح تاركة القلم والكراسة فوق الطاولة، فصار لديها عادة التدوين أمرًا هامًا كل يوم.
تدون أحزانها، وسعادتها التي لم تدُم كثيرًا، وحبها الذي بات ضائعًا يستحيل البحث والرجوع إليه مرةً أخرى، تأنيب الذات !!
تحركت نحو الشرفة كي تبتعد عن التفكير قليلاً، جاء في مخيلتها قبل يومين إلقاء ذاتها، لكن نفضت فكرها الأحمق هذا.
يكفي تكوين ذنوب والشعور بالنفور نحو ذاتها !!
صوت طرقات استمعت له جيدًا لكنها لم تبالِ، لكن الطارق امتثل لأمر الصمت ودلف دون استئذان مهرولًا نحوها، فبات الجميع قلقين بشأن صمتها المريب مما جعل التفكير الخاطئ يأخذ مجراه نحو أفعالها ..
تنفس "حمزة" الصعداء عندما رآها تقف مغمضة جفونها،خصلاتها تتطاير فوق ظهرها بحرية.
رمقها بإعجاب شديد لائمًا رفيقه لابتعاده عن تلك الفاتنة، اقترب منها بتأني عاقدًا ذراعه فوق الآخر قائلًا بحذر: فرح!
فتحت عينيها بضيق ثم نظرت نحوه مجيبة باقتضاب: نعم يا حمزة
_" أنتِ كويسة؟ "
أومأت له دون حديث، فقال بنبرة تعقلية: مش اتفقنا نبقى أصحاب وما نخبيش حاجة عن بعض؟ ليه حاطة حاجز بينا؟
تنهدت بيأس مرتسمة فوق شفتيها ابتسامة وجع معقبة بخذلان: إزاي بتطلب مني كده وأنا اتخذلت من عائلتي نفسها، أنا مكسورة من حبيبي نفسه، وعدني أنه هايفضل جنبي لحد ما أكون كويسة بس سابني لوحدي، ماعرفش حد ولا ليا حد، بابا وماما ماتوا وسابوني مع عاصي وأمه.
قهقهت بصخب، ضاربة كفًا فوق الآخر، مردفة بصوت لا حياة فيه: حتى دول هما كمان سابوني، تخيل!؟
ثم أشارت نحو قلبها المحطم قائلة بمرارة: قلبي بيوجعني أوي يا حمزة، أوي
لا يعلم لماذا شعر بالشفقة نحوها؟!
هيئتها الحزينة تجعل أي شخص يلين نحوها، فماذا عن قلب رفيقه؟
لم ينبس بكلمة معها، فتحرك نحو الخارج بغضب سافر، مخرجًا هاتفه من جيب البنطال كي يتعامل مع هذا الأحمق الذي يمتلك جوهرة لا يعلم قيمتها ..
****
صعد الدرج متجهًا نحو مكتبها الذي يقبع في الطابق الثاني، وقف يلتقط أنفاسه بتوتر، لا يعلم سبب مجيئه؛ لكنه أراد الخروج سويًا كي تعتاد على وجوده كما يخبرها كل يوم.
بات ينعم بالجنة لتواجدها معه وأمامه، حتى في المساء، على الرغم من العناء الذي يشعر به نحو عمله المرهق؛ لكنه يتفرغ لمراقبتها في صمت دون أن يرمش له جفنٌ!
فكيف تكون بجواره وينظر لشيءٍ آخر؟
وجدها تتحدث إلى شخص ما، مقتربًا منهما وعيناه تتأججان بنيران الغيرة.
استمع للحديث الذي دار بينهم محاولًا الاختباء وراء العمود كي لا تراه.
بينما "ورد" تحدثت مستفهمة وهي تشير بإصبعها إلى غرفة شاغرة: بقول لك يا وليد، بقالي أسبوع مش بشوف أستاذ منير، في حاجة والا إيه؟
_" إزاي ما تعرفيش؟ أستاذ منير بلغ الكل أنه هاينزل الفرع اللي في القاهرة وهايسيب الفرع ده لأستاذ أيمن "
أومأت له على مضض، بالرغم من أنه شخص ذو احترام ولديه فضل كبير عليها في العمل، إلا أنها شعرت بالارتياح حينما علمت بمغادرته، فهكذا ستستطيع التحرك كيفما شاءت بعدما كان الخجل مستحوذًا عليها من طريقتها المهينة له تلك المرة أمام "ماجد".
لاحظت طيف أحد بالقرب منها، فتحركت متأنية لترى ظل المختبئ، لكنها أطلقت شهقة حينما أقبل عليها بهيئته.
زفرت بضيق، فأقسمت بأنها ستموت رعبًا من فعلته البلهاء، لكنها تريثت في قولها النافذ للصبر: بتعمل إيه هنا يا ماجد؟
تلعثم، فلم يتمكن من الرد في حضرتها، لكنه ضغط على كف يده بقوة محاولًا التماسك بإخراج نبرة هادئة دون توتر: خلصت شغل فحبيت نتعشى برا، لو خلصتي شغلك أنتِ كمان
_"تمام جدًا، هاجيب شنطتي وأجي "
أقسم بأنه وجد اللهفة نحو حديثها، وجد عينيها تبتسمان وتلمعان بوميض غريب لا يعلمه، لكن لا يهم، فهو سيظل يعافر إلى أن يحصل على حبها. فهي شيء غريب لذيذ وصعب المنال، لكنه سيحصل عليها مهما صار ...
****
بعدما هاتفه" حمزة" ترك كل شيء بيده وذهب بلهفة ليعرف ما حدث لزوجته!
زوجته؟!! أي زوجة؟ تلك التي شعرت بالنقص تجاه حبها الذي أعطيته إياه وبادلها حديثًا وهميًا دون مراعاة لمشاعرها؟
تلك التي توقفت عن كل شيء لأجله، الذي وعدها بأنه سيظل بجوارها مهما حدث، وتركها بمفردها في مكان لا تعلم به أحد سوى رفيق زوجها !!
يخبر ذاته من حين إلى حين بأنها عاشقة له، وهي من فعلت بنفسها هذا، وليس لديه يد فيما حدث بتاتًا، هي من تناولت تلك العقاقير بإرادتها.
لمَ الجميع يلقي عليه اللوم؟
وجد صديقه في الممر يتحدث مع شخص ما، لكنه توقف عن الحديث عندما رآه، مشيرًا له باقتضاب أن يدلف نحو مكتبه كي ينتظره.
فأومى له بلا مبالاة كالعادة، لكن بداخله فضول لمعرفة ما يخفيه عنه من حديثٍ ..
بعد دقائق، دلف إليه يرمقه بنظرات نارية، اصطكّ أسنانه ببعض من كتلة البرود التي أمامه فتحدث بتساؤل عكس بداخله:
قول لي يا عاصي، إيه أكتر حاجة فرح بتحبها؟
بتعالٍ وثقة أجاب: أنـا
_" لأ والله مش ناقصة نرجسية، بتكلم بجد "
قهقه عاليًا ثم صمت معقبًا بجدية: والله مش بهزر، فرح بتحبني وبتتمنى أبادلها الحب ده جدًا
استفزه حديثه فتساءل بنبرةٍ غاضبة: يعني أنت بتعمل كل ده معاها ومش بتحبها؟
تنهد بسأم مردفًا بنبرةٍ قوية لا تحمل النقاش في هذا الموضوع بالأخص: مش لازم أكون بحبها علشان أساعدها، دي مهما كانت بنت عمي ومراتي.
طفح الكيل من بروده، فاستقام من مقعده يضرب فوق سطح المكتب الحديديّ بيده مستطردًا بعصبية مفرطة: يعني إيه؟ طالما مش بتحبها ولا بتبادلها الشعور، متجوزها ليه؟
_" علشان وعدتها إني هافضل جنبها لحد ما تتعافي "
عجز لسانه عن استيعاب ما أخبره به، فعقب بحروف مثقلة خرجت بصعوبة: وهاتطلقها؟!
ابتلع ريقه متنهدًا بوجع لكنه تحدث بإيجاز: أيوة يا حمزة، لازم ده يحصل علشان تشوف حياتها
_" حياتها؟! أنت عارف كويس بناءًا على كلامك إن أنت حياتها، إزاي قادر تتخلى عنها وتطلقها؟ جربت تحبها؟ جربت ولو مرة تعبر لها بكلمة حلوة؟ "
لا يمكنه قول شيء، فأصبح الصمت سيد الموقف. فارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه "حمزة"، قائلًا بجدية شديدة:
تمام يا عاصي، طالما أول ما تتعافي هاتطلقها من دلوقتي مش عايزك تيجي هنا تاني ولا تسأل عنها. هي مراتك آه، بس خليها تتعافي وتبدأ حياة جديدة تستقبل بها شخص يبادلها الحب ده
أشار بإصبعه أن يصمت، فقال باحتدام: وهاتلاقيه فين الشخص ده وأنا رافض خروجها من هنا أساسًا
_" أنا الشخص ده يا عاصي "
ركل المقعد بعصبية ثم تحدث بنبرة تحذيرية: الزم حدودك يا حمزة معايا
رمق أعلاه لأخمص قدمه بتقزز ثم تحرك للمغادرة، لكن قبل أن يسير خطوة واحدة، التفت له مجيبًا باستخفاف: شيلت الحدود خلاص، بحطها مع اللي يسوي بس
ثم خرج متحركًا نحو غرفتها من جديد كي يتحدث معها ويكتشف أمورًا جديدة في حياتها، غافلًا عن الذي رمق طيفه بجنون غير مصدق حديثه الذي أخبره به!
****
تلاقت الأعين طويلًا، توقفت عقارب الساعة، تسارعت الأنفاس ببطء، وضربات قلبها تقرع كالطبول. ابتلعت لعابها بصعوبة حينما وجدت عينيه ترتشفان ملامحها بنظرات متفحصة لها لأول وهلة!
مدَّ أصابع يده ليزيل خصلة شعرها المتمردة، يمرر إبهامه فوق وجنتيها بحنو مغمغمًا بصوت رجولي جذاب: ورد، أنا عارف إن كل حاجة متلغبطة، بس أنا في نفس الوقت حاسس إني ابتديت أحبك، مش عارف إزاي وماتسألنيش
ليتابع بنبرةٍ حزينة يملؤها اليأس: بس عارف إن وجودك معايا هايظلمك أكتر علشان مش بخلف، وأكيد أنتِ نفسك تكوني أم، فمش هاينفع نكون سوا
أشفقت عليه لشعوره بالعجز، هيئته المزرية المذلة. لأول مرة تتجرأ على فعل شيء نحوه، فببطء حركت يدها تحتضن كفه شاعرة ببرودة جسدهما معًا، لكنها نفضت هذا الإحساس. نظرت نحو عينيه من جديد قائلةً باطمئنان: مش علشان عيب بسيط زي كده أسيبك يا ماجد، مش هانعترض على إرادة ربنا. الحمد لله إنك كويس، ما تخليش حاجة تكرهك في نفسك مهما كانت
التقط كفها بسعادة من حديثها الذي شعره بامتلاك كل شيء في الحياة. طبع قبلة خفيفة فوق يدها ثم عقب بنبرةٍ هائمة عشقًا: ربنا يخليكِ ليا يا ورد، بإذن الله أقدر أعوضك عن حاجات تانية، بس أنتِ اسمحي لي، ممكن نقرب شوية من بعض؟
اصطبغ وجهها بحمرة خفيفة، يخدش حياءها بحديثه المعسول ونبرته الهادئة التي تحتضنها كزهرة.
فبدون تفكيرٍ كثير أومأت له على استحياء، مما جعله يحتضنها في عناقٍ دام لثوانٍ، ثم ابتعدت عنه راكضةً نحو الحمام بخجلٍ وسط ضحكاته الصاخبة التي امتلأت بها الغرفة ..