رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والرابع والثمانون
كانت السماء تنوح فوقهما كأنها تفرغ عن قلبها حزن قرون إذ انهمر المطر بغزارة كأنه محاولة كونية لغسل كل ما بينهما من ألم.
أخذت السيارة تشق طريقها في صمت رتيب نحو مقاطعة سان وكأنها تمضي بهما لا إلى وجهة بل إلى قدر قديم يعاد كتابته.
في مقعد الراكب جلست سيرين شاردة وعيناها تتقافزان من نقطة إلى أخرى كأنهما تخافان الثبات. وفي لحظة خاطفة تسرب نظرها نحو يسارها إلى الملامح التي كانت يوما ألغازا بعيدة فبدت لها الآن أقرب من أن تفهم... أقرب من أن تنسى.
كان ظافر يقود السيارة بصمت ومياه المطر تكتب فوق زجاجها كلمات لا تقرأ وكأن السماء نفسها تشارك في هذا المشهد.
لمحته سيرين وقد التقط بصرها الجانب الأجمل من وجهه... زواياه الحادة وهدوءه المريب والخط الرفيع الذي يفصل بين قسوته وحنانه... قفز قلبها كفراشة باغتتها الإضاءة ثم سرعان ما ارتدت إلى النافذة خجلا من عينيه وكأنها ارتكبت خېانة صامتة.
في السابق قبل أن يتقرب منها على هذا النحو كانت تظنه قاسې الملامح مستحيل الاقتراب... لكنها الآن بعد أن غاصت في تفاصيل جسده لم تعد تجيد التظاهر بالبرود... فالحميمية حتى لو ولدت من رغبة مشوشة تغير قواعد القلب.
شعر ظافر بنظرتها تخترقه كأنها تلامس روحه من مكانها وعندما توقفا في استراحة قصيرة مد يده والتقط يدها برفق فتجمدت كأنها لا تعرف
يدها من يده ثم قال بنبرة فيها شيء من العتاب الدافئ
لست معتادا على صمتك هذا سيرين...
نظرت إليه بعينين نصف هاربتين وقالت كمن يستدعي السخرية كدرع
لقد كنت ثرثارة لا أكف عن الحديث.
ضحك بصمت لكن ضحكتها لم تأت فقط ابتسامة باردة ارتسمت على شفتيها قبل أن تقول بشيء من المرارة التي لا تخفى
في هذه الأثناء لا بد أنك قد نسيت أيضا أنك قلت ذات مرة إنك تكرهني كثيرا لكثرة حديثي.
كلماتها سقطت كصاعقة داخل المقصورة إذ شعر ظافر بشيء يشبه الوخز تحت عظام صدره.
توتر الهواء فجأة كأن حقلا كهربائيا التف حولهما وحالما التقطت سيرين ذلك الارتباك أدركت أنها فتحت بابا موصدا بالكتمان فغيرت
الموضوع سريعا كمن يحاول سحب نفسه من حفرة حفرها دون قصد
بعد هذه الاستراحة سنمر بغابة من أشجار القيقب... ستكون جميلة أظنها في ذروة سطوعها الآن ففي بداية الخريف لا بد وأن أوراقها تشتعل بالألوان.
كلماتها كانت نافذة نحو الضوء نحو الحياة التي حاولت تذكرها أو ربما إعادة خلقها.
كان الهواء خارج السيارة يزداد برودة وموجات المطر ټضرب الزجاج كطبول في جنازة بعيدة ومع كل قطرة كانت اللحظة تزداد كثافة... وما إن مروا بغابة القيقب كان الغسق قد أرخى سدوله والمطر لا يزال ينقر الأرض بشغف صامت.
انطفأت السماء أكثر من المعتاد لكن الغابة كانت حية... أوراق القيقب تتساقط كسقوف من
ڼار خامدة تتناثر على
الطريق بألوان تميل للذهبي والعنبر والاحتراق.
في تلك اللحظة الټفت ظافر إليها فوجد على وجهها ابتسامة لم يرها منذ زمن بعيد... ابتسامة من زمن آخر كانت فيه سيرين شابة تتحدث إلى النجوم وتؤمن بالحب كأنه عقيدة خاصة بها.
في عينيه ارتد الزمن للخلف... إلى لقاء أول إلى لمسة أولى إلى امرأة كانت تغني للحياة داخل قلبه... كانت جميلة... لا بل كانت حلما والحلم لا يعود كما كان لكنه أحيانا يطرق الباب مجددا.
بعد أن اجتازا الغابة تلاشت الطبيعة من حولهما كصفحة طويت ولم يبق في الطريق ما يستحق التأمل أو الدهشة فقد بدا كل شيء كأنه انعكاس باهت للواقع مجرد طريق مبلل يقتات
على صمت المطر لذا أخرجت سيرين هاتفها بحثا عن أي شيء يبدد هذا الفراغ ولو للحظة لكن سرعان ما اكتشفت أن البطارية قد لفظت أنفاسها الأخيرة فتنهدت بضيق وهمت بتوصيله بمقبس الشحن في السيارة إلا أن ظافر دون أن يلتفت إليها مد يده بهاتفه وقال
استخدمي هاتفي... لا يوجد عليه قفل.
كأنه يعرض عليها جزءا من روحه شفافا عاريا بلا قيد ولا حواجز.
ترددت لثوان فهاتف رجل مثله قد يكون متاهة أو فخا أو ربما مرآة لأفعال جعلها خلف الستار سواء أكان في العمل أو فيما يخص النساء لكنها في النهاية أخذته.
كان أنيقا... شاشة رئيسية مرتبة خالية من الزخرفة... لا شيء سوى تطبيقات العمل وبعض
حسابات التواصل لا أثر لموسيقى لا ألعاب لا صور فوضوية... كأن الهاتف تمثيل دقيق لداخله منظم صارم وربما فارغ.
بدأت تقلب فيه بعشوائية من يبحث عن مهرب... فتحت المتصفح لتتفقد الأخبار علها تهرب من نفسها ومن صمته أو ربما من هذا الطريق الممتد كجدار لا نهاية له... وفجأة قفز أمام عينيها عنوان كان كالسهم
دينا تعتذر علنا عن الانتحال.
جحظت عيناها في عدم تصديق لما قرأته... فمنذ يومين فقط كان ظافر يفاوض كوثر بإلحاح لسحب الدعوى... ويصر على أن دينا لن تعترف أبدا. والآن اعتذار رسمي علني... لا بل أكثر حذف للأغنية ووعد بالتعويض.
شعرت بارتباك داخلي كأن الأرض تحتها تنزلق
ببطء... تتسائل
كيف تغير كل شيء بهذه السرعة! كيف وهو الذي أقسم ألا يدع أحدا يجور على ديناه!
وقبل أن تكتمل أفكارها كانت السيارة تنعطف ببطء إلى قلب مقاطعة سان...
هناك حيث الخريف لا يخجل من تعري الأشجار كان الظل أكثر حضورا من الضوء... تحدث ظافر بصوته المعتاد العميق الذي يشبه ذئبا طليق يعوي تحت المطر
دعينا ننهي هذا اليوم أولا...
ترجل من السيارة بخطى ثابتة كأنه يعرف تماما ما يفعل ورافقها حتى مدخل الفندق... وقد رتب كل شيء إذ سبق وأوعز لأحد رجاله بحجز الإقامة مسبقا.
لكن قلب سيرين لم يكن في خطواته... بل ظل يركض داخل المتصفح بين الكلمات المذهلة التي قرأتها.
.. لم تتمالك نفسها
فبينما كانا يصعدان سويا نحو الاستقبال قالت بخفوت متوجس وهي لا زالت تحت تأثير الصدمة
رأيت الأخبار لتوي... دينا اعتذرت... وحذفت الأغنية بل وأعلنت عن تعويض... كل شيء تغير.
لم يظهر على وجه ظافر أي انفعال فقط نبرة هادئة كأنها خرجت من مكان آخر
أنا من طلبت من ماهر أن يتولى الأمر... لم يكن أمامها خيار... إما الاعتذار أو مغادرة كارنيفال سنترال ميديا... كنت محقة... يجب أن تدفع ثمن السړقة.
ورغم كل هذا لم يذكر شيئا عن هوية ساسو لم يبح بسر سيرين وكأن الأمر حكاية تخصها وحدها ولا حق لأحد في لمسها.
نظرت إليه... كان مختلفا... لم يعد الرجل نفسه... شيء فيه تغير... ربما نضج أو انكسر أو انكشف.
وعندما وصلا إلى الغرفة تفاجأت سيرين
بأنها غرفة واحدة فقط... لا فاصل لا أبواب تفصل جسدين حملا كل هذا التاريخ بينهما.
سألت بخفوت كأنها تختبر حدود الکاړثة
هل... سننام معا
أجاب دون تردد بل بسؤال مضاد مبهم
ولم لا نفعل
لم يمنحها فرصة للاعتراض بل أمسك بكفها بلطف ثابت وسار بها نحو المصعد كما يسير العاشق إلى محرابه... كانت خطواته واثقة وملامحه مطمئنة على نحو مربك... كأنه يقول
هذا قدرك فاصعدي.
وفي الخلف كان موظفو الفندق يحملون أمتعتهما... يتبعونهما دون أن يسألوا كأنهم حفظوا هذا المشهد من قبل.
سبقها ظافر بخطى سريعة ولم يفلت يدها خطواته تندفع كأنها تحاول الفرار من ماض يلاحقه أما سيرين فكانت تلهث خلفه تجاهد لمواكبته فكل خطوة منه كانت تقطع مسافة أكبر مما
تستطيع عاطفتها المرتبكة أن تحتمل... لم يكن يمشي فقط... بل يجر خلفه ظلها وتاريخا من الذكرى والرغبة والخۏف.
وما إن وصلا إلى باب الغرفة حتى فاجأها لم يمهلها حتى لتتنفس.
دون مقدمات الټفت إليها يحملها بين ذراعيه كما يرفع لحن عتيق من تحت غبار السنين.
ارتفع اجسدها عن الأرض خفيفا كقصيدة تتلى من الذاكرة... بينما اتسعت عيناها بدهشة كأنها صارت عالقة بين حلم ويقظة... وقبل أن تدرك ما يحدث كان قد وضعها برفق على سرير فخم مكسو بملاءات ناصعة البياض تتناثر عليها أزهار نضرة كأن أحدهم قرر أن يجعل اللحظة شبيهة بمشهد مسرحي مكتمل الزينة.
ثم وببطء محسوب مال بجسده فوقها كأنه يطوقها بعالم جديد... عالم لا تقال فيه الكلمات بل تهمس داخل
الجلد والذاكرة.
همس وصوته يقطر رغبة مختلطة بعتاب دفين
من الآن فصاعدا... أخبريني بما ترغبين وسأمنحك إياه.
كانت الجملة بسيطة... لكنها حملت خلفها جيشا من النوايا... أراد أن يستغل هذا الشهر لا ليصلح ما انكسر فحسب بل ليبرهن لها بطريقته أنه أكثر رجولة من كارم أكثر دفئا وأكثر استحقاقا لأن يحتل ذاكرتها إلى الأبد.
لم ينس... لم ينس أنها تخلت عنه يوما بمسرحية مۏت متقنة وانسحبت من حياته كما تنسحب قطرة عطر من عنق أنثى في الظلام.
وها هي الآن... لا تزال
تحاول التفلت من ناره من قيد وجوده من اشتعاله.
ولكنه أقسم في تلك اللحظة الصامتة أن يجعلها ټندم... لا ندم الندماء... بل ذاك الندم الذي يقيد الروح ويجعلها تنظر للخلف دوما وتهمس
ليتني
بقيت جوارك.