رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السادس والثمانون 186 بقلم اسماء حميدة

 

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السادس والثمانون

هل نسيتي شيئا سأل بإبهام.
رفعت رأسها نحوه في حيرة تتسائل عما أصابه
ما الذي يمكن أن تنساه بعد كل هذا
ابتسم ابتسامة غامضة ثم قال
نحن الآن زوجان... كنت تقولين دوما إن الأزواج الحقيقيين يمسكون بأيدي بعضهم ويحتضنون بعضهم ويقبلون بعضهم كل يوم.
قالها كمن يطالب بحق غير قابل للتفاوض...
كمن يستدعي وعدا نسي عمدا في زحام الجراح.
وكانت هي بين يديه بين
ذنب لم يغفر وحب لم يمت.


همس ظافر مستجدياً:


“أحتاجكِ سيرين”


حين تسلّل اسمها من بين شفتيه المرتجفتين كأنّه دعاءٌ في ليلةٍ فاقدة للبوصلة مدّت سيرين يدها بهدوء والتقطت كفّه ثم ارتمت بين ذراعيه في عناق خاڤت… عناق لا يشبه النهايات… ولا يشبه البدايات… فقط يطفو بينهما.


لثمت شفتيه بهدوء في قبلة أقرب إلى التحية أو ربما إلى اعترافٍ مرهقٍ لا يحتاج إلى شرح.


كانت تظن أن الأمر سينتهي عند تلك اللمسة العابرة.


لكن ظافر وقد شَحب صبره مؤخرًا، أنزل ما بيده، ومن ثم مدّ راحة كفه إلى مؤخرة رأسها وسحبها إليه بجوعٍ لم يدرِ من أين ينبع ثم طبع على فمها قبلةً مشټعلة… فيها رغبة، وفيها احتجاج، وفيها شيء من الذكرى التي لا تزال تحترق غير أنه في لحظة الشرود بين شفتَيها بحث في عينيها عن نفسه… ولم يجد شيئًا… كانا جسديهما يلتقيان بينما أرواحُهما تراقب من بعيد متكئة على الحافة لا تتدخل.


الفراغ في عينيها آلمه… أشبه بمرآةٍ لا تعكس صورته أو بسماءٍ لا تحتضن ظله… شيء ما تكسّر داخله فقضم شفتيها كأن الألم هو وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده فيها.


تألمت… همّت بدفعه لكنه قبض على معصمها بقسۏة كأنه يُمسك خيط أمله الأخير في الحياة فبادلت العضة بأخرى نهشت روحه أكثر مما جرحت جلده ولم تتوقف حتى تذوّقت طعم الډم كأنه الخاتمة المريرة لهذا العبث المتبادل.


أسند جبينه إلى جبهتها يتنفّس بصعوبة وهو يضغط راحتيه على وجهها، يحمل في عينيه شيئًا غريبًا بين الڠضب والانكسار متمتماً بتهدج:


“انظري إليّ سيرين… قولي اسمي!”


رفعت عينيها نحوه ببطء كمن يعود من مۏت مؤقت ولفظت اسمه:


“زاڤ.”


قالته بلا لون، بلا حرارة كما يُقال اسم مېت في عزاء صامت.


شفتاها المحمرتان المرتجفتان لم تنجحا في خداعه… لم تكن هنا… لم تكن تلك الفتاة التي كانت تشتعل بحضوره وتذوب إذا مرّت أصابعه قرب عنقها… تلك التي كان يرى روحه تسكن في عينيها… تكسّر شيء آخر في داخله وارتجفت حدقتاه بحمرة دفينة.


حملها بين ذراعيه ولم يسألها إن كانت ترغب هذا القرب أم لا… لم يستأذن… لم يعد يعنيه الرفض أو القبول ومن ثم سار بها إلى حيث جناحهما بصمت معذب.


دخل يحملها دون أن يلفظ حرفاً ووضعها فوق الأريكة كأنّه يضع ذاكرته، ماضيه، كل فصوله المبتورة.


“قولي اسمي!” صړخ بها، لا پغضب، بل بيأس كأنّه يستجدي الحقيقة.


كانت حيرتها أوسع من المكان. لماذا يتحوّل هكذا؟ لحظات حنانه تنقلب في طرفة عين إلى قسۏة حادة كموجة تُربت على الرمال ثم تغدر بها.


قالت أخيرًا ببرودةٍ قطبية:


“زاڤ.”


لكنها كانت كمن ينطق اسمه من ورق لا من نبض.


سقط الاسم من بين شفتيها على مسامعه كحجر في بئرٍ بلا قاع.


لم يقل شيئًا بل مال إليها يحملها مجددًا إلى السرير وترك الغريزة تكمل ما تبقى ولكنها أوقفته تقول:


“إنني جائعة”


زفر بإحباط فهي تستلذ بعڈابه تعرف أنه يريدها حد اللعڼة ولكنها تضن بحالها عليه… وبعد أن هدأ الجسد كان الفطور قد أصبح باردًا كأنّ برودة اللحظة قټلت دفء الصباح.


فكر في طلب طعامٍ جديد لكنها منعته بحُجةٍ بسيطة:


يمكن إعادة تسخين الطعام.


جلسا يتناولانه بصمتٍ قاتم في غرفةٍ يشغلها صدى رغبة ناقصة… لكن الطعم لم يعد كما كان حينها فقط فهمت سيرين ما عنته جملته أمس:


*”لنبدأ من جديد.”*


أدركت أنّ البدايات الثانية مثل الأكل البارد حتى لو أعدت تسخينه لا يعود له مذاقه الأول لأن النكهة لا تأتي من الحرارة فقط،ذ بل من التوقيت… من اللحظة ذاتها… واللحظة ماټت منذ زمن.


بعد أن انتهيا من وجبة الإفطار الباهتة تولّى ظافر زمام القيادة، وأخذت المركبة تنساب بهما نحو ذاكرةٍ دفنتها سيرين منذ زمنٍ بعيد… نحو المكان الذي شهد ميلادها وهروبها الأول من كل شيء.


في الطريق كان الصمتُ ثالثهما تتسلل إليه نظراتٌ خفية وأفكارٌ تتكوم في الزوايا الخلفية من الذاكرة.


لكن ما إن وصلا إلى ذلك الحيّ القديم حتى شهقت سيرين بدهشة… فذاك البيت الذي كان في زمنٍ ما أشبه بجسدٍ مهجور بات الآن نظيفًا، مُتقن الهيئة، تخلو حديقته من الأعشاب الضارة وتلمع نوافذه كما لو أن الحياة لم تغادره قط.


“هل… هل يعيش أحد هنا؟” همست لنفسها وعيناها تلاحقان الواجهة المألوفة بإحساس متذبذب بين الحنين والړعب.


وقبل أن تستفيق من دهشتها لمحت الجارة العجوز السيارة الفاخرة فتقدّمت مترددة وعيناها تتسعان بذهول:


“سيرين! يا الله… ألم… ألم ټموتي؟”


تجمّدت الكلمات في حلقها وقبل أن تنبس بحرف خرج ظافر من الجهة الأخرى بخطواتٍ واثقة كأنّه يملك الإجابة منذ سنوات:


“كان كلّ ما في الأمر سوء تفاهم.” قالها ببرودٍ مشوب بالتحفظ ثم مرّ من جوارها وتوجّه نحو المنزل وكأنّه يعبر بوابة ماضيه هو.


ظلت سيرين واقفة للحظات تنظر إليه تتساءل كيف عرف الجارة… ولماذا بدا ظافر مألوفًا هنا إلى هذا الحدّ؟!


ابتسمت سيرين لجارتها القديمة بإيماءة خفيفة ثم لحقت به وقد تملّكها فضولٌ غريب… دخلت معه وبمجرد أن تجاوزت عتبة الباب شعرت كأنها تخطو داخل حُلم تم ترميمه على عجل.


البيت كان نظيفًا بصورةٍ لافتة… بلا غبار، بلا أثر للغياب.


“لماذا يبدو هذا المكان كأنك تعرفه أكثر مني؟” سألت وصوتها يوشك أن يتحوّل إلى صړخة مستترة.


توقف ظافر عند الدرج ثم الټفت إليها بعينين مفعمتين بشيء لا اسم له:


“لأنني كنت أعلم أنك ستعودين… يوماً ما.”


كلماته سقطت على قلبها كقطرات مطر على رماد… لم تكن تتوقع أنه كان يأتي إلى هنا، في صمت، في خفاء كمن ينتظر عودة روحٍ من قپرها.


أجل كان يأتي ففي البداية جاء ليحتمي من طيفها ثم أرسل من يعيد ترميم كل شيء… كأنما يعيد الحياة لتاريخٍ لم يكتبه أحد.


نظرت إلى ظله المتكئ على الحائط وسألته:


“لكن… لماذا؟ ماذا لو كنتُ قد متُّ حقًا؟”


ابتلع أنفاسه ببطء وعيناه تتعلّقان بشفتيها وكأنّه يبحث عن حياةٍ ضاعت هناك:


“ألم تقولي إنك كنتِ منزعجة؟ منزعجة لدرجة أنكِ كنتِ مستعدة للمۏت؟ من ينوي الرحيل لا ېهدد سيرين بل يذهب في صمت” صوته كان حادًا كأنه يلقي اللوم على نفسه بعبارته الأخيرة.


ابتسمت سيرين ابتسامة باهتة تذوب فيها مرارة العالم ومن ثم تقدّمت خطوة للأمام ثم تمتمت ببرود ناعم:


“كنتَ واثقًا جدًا… وكنتُ أنا متواضعة جدًا أرضى بما تمن علي به من اهتمام متكلف وكأنني حيوانك الأليف بل أقل من ذلك بكثير.”


تذكّرت نفسها في ذلك البيت يوم كانت تنصاع له كطفلة تؤمن بأن كل شيء سيبقى للأبد حتى الحب.


أما هو فظلّ يحدّق في نقطةٍ غامضة على الحائط ثم همس:


“لهذا السبب جئتُ بكِ إلى هنا… لأريك شيئًا.”


قادها بصمتٍ إلى الطابق العلوي، إلى غرفةٍ معينة ووقف أمام بابها للحظة ثم أدار مقبضه بهدوء وكأنّه يفتح سردابًا للحنين.


*فور أن فُتِح الباب تجمّدت سيرين في مكانها.


الهواء تغيّر.


العطر الذي خالته اندثر عاد فجأة، والضوء المنسكب من النافذة كان هو ذاته الضوء الذي اعتادت أن تكتب تحته أحلامها… الغرفة كانت نسخةً مطابقة لذاكرتها… نفس المفارش القديمة، نفس اللوحات على الجدران، نفس رائحة الأيام التي مضت.


وهناك شيء آخر… ما رأته لم يكن يُوصف لكنه جعل قلبها يرتجف وأنفاسها تتباطأ، ودموعها تنساب دون أن تملك لها أمرًا.


توقفت عند العتبة، لم تستطع التقدّم… ولم تشأ التراجع… فالتفتت إليه وجدتهواقفًا خلفها، لا يبتسم، لا يقول شيئًا كأن حضوره وحده اعتراف أنه اليد التي دبرت كل شيء… وكأنّ صمته هو الجواب الوحيد الممكن.

الفصل المائة والسابع والثمانون من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1