رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثامن عشر
كانت إيفرلي تترنح بين الضحك الهستيري ونوبات البكاء المفاجئة، كأنما الروح تقفز بين ضفّتي الجنون. لولا يقظة سارة، لانتهت الليلة بمشاجرة صاخبة مع رجال الصالة، وربما بإراقة كؤوس أو دم.
للمرة الأولى، رأت سارة صديقتها رجلاً لا تعرفه، وتنهار باكية كأنما أثقلتها أمومتها لطفلين لم تُخطط لهما يومًا، ولم تستوعب وجودهما بعد.
كانت تلك لحظة انكسار لا تُرمم، ولم تجد سارة مهربًا من حملها والعودة بها إلى الشقة... شقتها الجديدة، التي لم يمسسها أحمد، ولم يعرف عنها شيئًا.
منذ فترة، كانت ممرضة "جيف" قد همست لها باسم قريبٍ يعرض شقة للإيجار، دون وسيط، دون عقود معقّدة. مجرد موافقة مكتوبة على واتساب، واتفاق ناعم لا يترك خلفه أوراقًا يُمكن تتبعها.
وكان هذا كافيًا بالنسبة لسارة؛ لا تريد لخطواتها أن تترك بصمات.
لا تريد أن يجدها أحد.
كانت الشقة متواضعة، بلا فخامة، بلا تلك الجدران المذهّبة التي اعتادت رؤيتها في منزل عائلتها يوم كانت الثروة تُغنيها عن التفسير. ولم تكن، بالطبع، تضاهي الفيلا التي تقاسمتها مع أحمد،
ذلك القصر الذي حوّله الألم إلى قبر مفتوح.
ومع ذلك، أحبت المكان.
ربما لأن الهدوء كان يملأه، أو لأن النوافذ عندما تُفتح، يُطلّ منها البحر كأنما يغسل ما تراكم على القلب من صدأ.
ذات مرة، نظرت إلى الخليج الممتد، وهمست لنفسها أن أحمد منحه لها، كهدية غير معلنة.
لكن، بعد وقتٍ قصير، علمت أن مارينا – مارينا بالذات – هي من عادت وسكنت هناك، فانهار المعنى.
حزنت. لا تنكر ذلك.
لكنها تعلمت أخيرًا أن البحر لا ينتمي لأحد، وأن الشمس تشرق على من يراه، لا على من يملكه.
على الشرفة الصغيرة، فرشت سجادًا ثقيلاً، وعلّقت بعض المصابيح الباهتة، وخطّطت لإحضار "جيف" إليها حين تتحسن حالته.
كانت تتخيّله جالسًا هناك، يحتسي الشاي معها، يتقاعد في هدوء... ويستمع إلى ضحكة ابنته، تلك الضحكة التي انكسرت قبل أن تكتمل.
لكن المرض لا يطرق الباب.
السرطان جاء كعاصفة في صيفٍ ساكن، وقلب كل شيء رأسًا على عقب.
شعرت بالغثيان، جرّاء الكحول، وابتلعت دواءها ثم تمددت بجوار سريرها الصغير. كان وضعها غير مريح، لكنه السبيل الوحيد لنيل قسط من
الراحة في عالمٍ فقد معناه.
نامت بعمقٍ لم تعرفه منذ أسابيع، واستفاقت في ضوءٍ رمادي بارد، لتجد إيفرلي تعدّ لها الفطور، كأن الليل لم يمزّقهما.
لم يتطرّق أحدٌ منهما لما حدث البارحة. البالغون بارعون في إخفاء كدماتهم تحت ضوء النهار.
بعد الفطور، هرولت إيفرلي نحو الباب، تمضغ خبزًا محمصًا وتُمسك بحذاء بكعب عالٍ كأنها بطلة فيلم متهور. تمتمت:
"الفطور على الطاولة. أنا متأخرة. سارة، سأذهب الآن."
نادتها سارة برقة:
"إيف... قد لا أتمكن من البقاء برفقتك في الأيام القادمة. سأكون منشغلة."
ردّت إيفرلي، دون أن تنظر إليها:
"لا تقلقي. أتعلمين؟ أنا لست مدمنة على السهر والإنفاق كما تظنين. احتفال البارحة كان وداعًا... وداعًا لشبابٍ شربنا نخب نهايته. اليوم، استيقظت امرأة جديدة، تفضّل المال على الرجال، والخطوات الثابتة على الركض خلف وهم. لكن أخبريني إن احتجتِ شيئًا، حسنًا؟ لا أريدك أن تنهاري تحت ثقل العمل."
"أجل، فهمت."
اقتربتا من الباب، عناقٌ خفيف، كأن الأرواح تلمس أطراف أصابعها فقط.
"حوّاء... ستجدين رجلًا
أفضل. فقط تحمّلي قليلاً. أحيانًا، علينا أن نُكسر لنُعاد ترميمنا."
ضحكت إيفرلي، بابتسامة ساخرة كعادتها:
"آه، ها قد عدنا إلى نصائح الأفلام. تتكلمين وكأنكِ نجحتِ في الحفاظ على رجلِكِ المثالي. لِنرَ إن كان المستقبل سيهديكِ من يُشبهه."
رفعت سارة بصرها إلى الشمس، وابتسمت:
"في المستقبل؟... من يدري؟"
استدارت إيفرلي لتغادر، لكنها توقفت للحظة، وقد بدا أن قلبها ثقل فجأة بمنظر سارة تقف وحيدةً عند الباب.
عادت إلى الداخل، من الخلف، ووشوشت بصوتٍ اختلط فيه الدفء بالرجاء:
"سأكون مشغولة لبضعة أيام أنا أيضًا. عندما تهدأ العاصفة... سأعود إليكِ. اعتني بنفسك، حسنًا؟ الشتاء يقترب، وإذا لم تجد يدًا تدفئكِ، فكوني لنفسك المدفأة."
ردّت سارة، بصوت مبلل بالامتنان:
"على ما يُرام..."
بعد أن ودّعت إيفرلي كمن يُغلق صفحة فوضوية في دفتر عمره، بدأت سارة تُنظّف شقتها الصغيرة، علّ ترتيب المكان يُنظّم ارتباكها الداخلي. ما إن فرغت حتى أمسكت بهاتفها، لتجده قد ارتجّ بصمت طويل… مكالمة فائتة من أحمد.
نظرت إلى اسمه كما
لو كانت تنظر إلى مرآة مشروخة؛ تعكس صورة رجلٍ لم تعد تملك له إلا جرحًا.
لم تستغرب المكالمة. خمنت أنها تتعلق بالطلاق، ورغم أن قلبها لم يعد يرتجف لدى ذكره، فإنها لم تملك وقتًا لإغلاق فصل مؤلم كهذا... ليس الآن.
وبينما كانت تُحدّق في شاشة الهاتف، لاحظت أن "كلوي" أيضًا حاولت الاتصال بها عدة مرات. تنهدت، وضغطت زر الاتصال. جاءها صوت كلوي كنسيمٍ مغتربٍ تائه، ارتجف من شدّة قلقه:
"سارة... أين كنتِ بحق السماء؟ لقد قلقت عليكِ لأيام. هل تحتاجين إلى المال؟ يمكنني أن أحوّل المبلغ فورًا."
لم يكن صوت كلوي فقط ما يطفئ النار في صدرها، بل هدير المحيط، وهو يصطدم بجدران الشرفة كأنّه يحاول مواساتها.
لطالما تساءلت سارة، بعد رحيل كلوي، كيف استطاعت أن تتركها، أن تختفي بلا رسالة أو حتى عتاب.
كانت ترفض تصديق أن تلك المرأة التي ربّتها يومًا، أصبحت زوجة أب لمارينا!
مارينا؟! من بين نساء الأرض؟
!
لكن... الواقع لا يلتفت لصدمة القلب.
والحقيقة لا تنتظر موافقة الأرواح المكسورة.
همست، ببرود يُخفي تحت جلده بركانًا:
"أنا بخير يا أمي... لا داعي للقلق. أحمد أعطاني مالًا كافيًا لتغطية فواتير المستشفى."
صمتت كلوي للحظة، ثم جاء صوتها مرتبكًا:
"سارة، أرجوكِ، دعيني أراكِ. أريد أن أُصلح ما أفسدته... السنوات التي ضاعت."
أجابت سارة بنظراتها معلّقة بالمحيط، كأنها تخاطب الموج لا الهاتف:
"لو كنتِ تهتمين، لما غبتِ بلا كلمة. ولو كنتِ صادقة، لزرتِ أبي بدلًا من أن تعتني بابنة رجل آخر. كل ما فعلتِه أنكِ اخترتِ، ولم أكن أنا اختيارك."
"سارة، أنا—"
قاطعتها بحدّةٍ ناعمة، كمن يُغلق الباب برفق:
"دعينا نبقى كما نحن. لا أمّ لديّ، ولا ابنة لكِ."
لم تلُمها بقدر ما كانت غاضبة من اختفائها... من خذلانها… من ظهورها
في حياة مارينا، لا حياتها.
أغلقت المكالمة كما يُغلق كتاب قديم لم يعُد في القلب حبر لقراءته، ثم اتصلت بمكان عملها وطلبت إنهاء دوامها الجزئي.
كتبت رسالة لأحمد تطلب منه تأجيل مناقشة الطلاق، مُعلنة نهاية بلا رجعة.
أدركت أن ما بينهما لم يعد يحتمل صداقة، ولا فرصة ثانية.
انتهى.
ثم غادرت إلى المستشفى.
باسل كان في استقبالها. لم تكن ترتدي إلا ظلّها، وكأن الشمس أرادت أن تُظهر هشاشتها للعالم.
سألها بهدوء، وقد التمعت عينه بما يُشبه الخوف:
"هل تشعرين بالخوف؟"
ابتسمت كأنها تبتلع مرارة الحقيقة:
"بعض الشيء... لكن وجودك هنا يُطمئنني."
قال، بنبرة امتزج فيها العلم بالإيمان:
"أنا من صمّم تركيبة أدويتك... سأجعل العلاج الكيميائي أكثر رحمة. أعدكِ."
"شكرًا، باسل."
دخلت جناح المرضى الداخليين كما يدخل المحارب
أرض المعركة.
الطريق مفروشٌ بأرواح فقدت بريقها، أجساد متعبة، عيون زجاجية لا تنظر بل تتذكّر، رؤوسٌ حليقة تنكر ملامح أصحابها.
أدركت أن الانتماء إلى هذا المكان لم يعد خيارًا، بل قدرًا.
مع مساعدة باسل، حصلت على غرفة فردية. استقبلتها ممرضة شابة بابتسامة لطيفة:
"أنتِ الآنسة سارة أليس كذلك؟ الدكتور باسل أخبرنا عنكِ. تفضلي، واطلبي من عائلتكِ التوقيع على الاستمارات ودفع رسوم الصيدلية."
نظرت سارة حولها، ولم تجد أحدًا غير الفراغ.
قالت، بصوتٍ خافت كخيط دخان:
"لا أحد لديّ... فقط، أريد مَن يعتني بي."
ظهر القلق على الممرضة، وردّت بارتباك:
"هذا مستحيل. نحتاج توقيع أحد أفراد العائلة، شريك حياتك؟ والدتكِ؟ إخوتكِ؟"
وقفت سارة هناك، كطفلة ضائعة في ساحة مدرسة، تُفتّش في الوجوه عن أبٍ لم يأتِ.
قبل أن تسقط دمعتها،
تقدّم باسل بهدوء وأعلن:
"أنا من عائلتها. سأوقّع عنها."