رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع عشر 19 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع عشر 

أرسلت سارة إلى باسل نظرة ممتنة تلك النظرة التي لا تقال بل تهمس من خلال العينين كأنها تقول له شكرا لأنك بقيت حين انصرف الجميع.
أومأ برأسه في صمت واثق ثم انسل من جوارها كجندي يعرف موقعه في معركة لا يرى فيها السلاح.
جاء صوت الممرضة رتيبا يحمل نبرة مهنية معتادة لكن كلماتها ارتطمت بجدران سارة كأنها أحجار تتساقط داخل بئر
سيدة سارة ستحتاجين إلى علاج كيميائي طويل الأمد. الأدوية التي سنحقنها في جسمك فعالة نعم لكنها ذات تأثير مخرب على الأوردة. وقد يحدث في بعض الحالات فرط تناضح والأدوية المستخدمة ذات طبيعة تآكلية. لهذا السبب نوصي غالبا بإدخال منفذ وريدي دائم في الذراع... لضمان تدفق العلاج بسلاسة نحو أعضاء جسدك.
ثم أضافت الممرضة كمن يحاول تلطيف الكارثة
ميزة هذه الطريقة أنها تجنبك تكرار غرز الإبر وتجعل مهمتنا أسهل. لكنها ستمنعك لاحقا من حمل أوزان ثقيلة بهذه الذراع.
لم تجادلها سارة. أومأت بهدوء كمن يسلم نفسه لقدر كتب سلفا. ثم مضت نحو غرفة العمليات.
لم تكن تلك العملية معقدة أو طويلة. لكن الألم... كان قصة أخرى.
رفضت سارة التخدير وقد أخبرت الطبيب عن حساسيتها الشديدة تجاهه ثم استلقت بهدوء مروع. وحين لامست شفرة الجراح جلدها وبدأت تشق طريقها

كما يشق السكين برتقالة ناضجة لم تصرخ لم تئن لم تعبس حتى.
فقط انعقدت حاجباها كأن الألم لم يكن في جسدها بل في الذاكرة.
توقف الطبيب للحظة وهو يتأمل صلابتها ثم تمتم بدهشة
من النادر أن نجد من يتحمل هذا النوع من الألم دون أن ينطق بكلمة...
أجابته بصوت خافت يشبه رجع ناي مكسور
لا أحد سيهتم لو صرخت... فلا بأس إن سكت.
وفجأة كما لو أن الحديث استحضر أشباحا من زمن غابر انزلق وعيها إلى الوراء إلى عام مضى حين سقطت في الماء وهي تئن بحمل هش وجسد منهك.
تعرضت حينها لولادة مبكرة وجرحت كما تجرح الأسماك حين تسحب من شباك البحر متخبطة بين الألم والموت.
رغم المخدر شعرت حينها بكل شرارة من شرارات الجراح وهي تخترق بطنها.
تذكرت كيف أغشي عليها من فرط الألم... لا من شدته بل من خذلان أحدهم.
كان أحمد زوجها يقف على بعد خطوات لكنه لم يمسك يدها لم ينقذ وجعها بل وقف كتمثال حجري على باب غرفة ولادة امرأة أخرى... مارينا.
في تلك الليلة لم تصرخ فقط من وجع الجسد... بل من عويل روحها.
ومنذها تعلمت درسها القاسي أن الألم أحيانا لا يسمع حتى لو صدح بكل اللغات.
لذا اختارت أن تصمت. أن تقابل الوجع بابتسامة خاوية وجسد لا يرتجف.
لقد أصبحت سارة واحدة من أولئك الذين يمضون في الحياة كمن
يمشي فوق الجمر دون أن يئن دون أن يشتكي... فقط لأنه لم يعد هناك من يسمع.
في اليوم التالي للعلاج الكيميائي كانت سارة كمن عبرت صحراء من الأوجاع دون زاد أو ظل تترنح بين الوعي والدوار ويجتاحها الإرهاق كما تجتاح العاصفة سفينة في عرض البحر.
خرجت من المستشفى بمساعدة باسل وكان الطريق القصير إلى مرآب السيارات يبدو لها كطريق جبلي صاعد يتطلب كل قطرة من طاقتها المنهكة. كانت تتوقف كل بضع خطوات تلتقط أنفاسها المبعثرة كما تلتقط الأم قلبها حين تراه على حافة هاوية.
كل حركة كانت تشعل بداخلها دوارا يشبه طوفانا من الغثيان وكل نسمة تمر على جسدها المتعب كانت كالسياط.
تنهد باسل ثم جثا على ركبتيه فجأة كمن قرر أن يخرق صمته فزعت تراجعت حاولت بصوت متهدج أن تعترض
باسل لا... أرجوك.
لكنه أصر وبعينين يملؤهما القلق والصلابة همس بلهجة لا تحتمل التفاوض
جسدك لا يحتمل. وإن رفضت مساعدتي فلن يكون أمامي خيار سوى الاتصال بعائلتك... وأنت تعلمين من تبقى منهم. أحمد هو الأقرب أليس كذلك
انحبست أنفاسها فكأن اسمه طعن في صدرها بسكين صدئة. لم يكن زوجها السابق على الورق بعد لكنه كان الوحيد الذي يملك حق التوقيع على حياتها أو موتها.
لا تخبره... لا تخبره عن شيء.
صوتها خرج هامسا كأمنية
يهمس بها للقدر لا للبشر.
كانت تدرك أن أحمد لن يشعر سوى بالشماتة إن علم بمرضها. سيضحك في سره سيطالع ألمه على ملامحها كما يتلذذ القاتل بنزف ضحيته.
آخر ما تريده هو أن يراها ضعيفة كزهرة اقتلعت من جذورها.
أوصلها باسل إلى الشقة بصمت مغموس بالقلق وساعدها على الجلوس قبل أن يقول
سارة لا يمكنك الاستمرار وحدك. لست قادرة حتى على تحضير طعامك. تحتاجين إلى من يرعاك.
أومأت برأسها بصعوبة
أعلم. صديقتي ستعود قريبا من السفر. ستتكفل بالأمر. وأنت... لا ينبغي أن تبقى أليس لديك عمليات اليوم
نظر في ساعته ثم أومأ بنعم وأوصاها ببعض التعليمات الطبية وغادر كمن يغادر مسرح جريمة يخشى أن تعلق تفاصيلها في ذهنه.
وحدها... في تلك الغرفة الضيقة التي بالكاد تحتضن جسدها استلقت سارة على سريرها كجسد هرب منه الروح تتقلب على أوجاع لا تملك لها وصفا.
كل خلية فيها كانت تصرخ من أطراف أصابعها حتى نهايات شعرها وحتى الجرح في ذراعها الذي لم يلتئم بعد كان ينبض كجرس إنذار.
كان الألم يجثم على صدرها كثور هائج والدوخة تلف رأسها كدوامة لا مخرج منها.
الجحيم...
نعم هذا هو الوصف الأدق.
لكن المفاجأة لم تكن في الألم ذاته بل في الحنين الذي تسلل إليها دون إذن... الحنين لأحمد.
رغم الخيانة رغم
السقوط رغم السكين التي طعنها بها لم تستطع أن تنسى تلك اللحظة القديمة... يوم هرع بها إلى المستشفى وهي تتلوى من ألم الزائدة الدودية بينما الثلج يتساقط كالكفن الأبيض على المدينة.
يومها جلست باكية على الكرسي المتحرك ويده تحتضن يدها بشراسة وكأن يده وحدها هي ما يفصلها عن الموت.
قال حينها
لا تقلقي أنا هنا.
قالها أحمد.
ذاك الرجل الذي أصبح لاحقا يدا تمسك بأخرى... ليست يدها وأطفالا... لم يكونوا منها.
تذكرت كم اعتنى بها في تلك المرحلة كم قضى الليل بجانبها يجهز طعامها ويحرص على تناول أدويتها يوقظها ويبتسم كأن مرضها كان له معنى حينها.
لكن الزمن لا يرحم كما لا ترحم الخيانة.
عادت سارة إلى الواقع لتجبر نفسها على النسيان. كانت تردد في عقلها كتعويذة
لقد خانني... لقد قتل الثقة. انتهى الأمر.
زحفت من سريرها إلى المطبخ جسدها يتأرجح كظل في مهب ريح عاصفة وفتحت علبة معكرونة علها تعد وجبة تسند بها ما تبقى من يومها.
لكن قبل أن تغلي المياه...
سقطت دمعة.
ثم لحقتها أخرى وسرعان ما سقطت على العجين الجاف كما لو أن جسدها قرر أن يبكي عنها حين عز الكلام.
لم يكن الألم في الجسد فقط بل في الروح التي لم تجد من يضمها حين أرادت أن تبكي ولا من يقول لها مجددا
لا تقلقي... أنا هنا.
كان الألم
ينهش جسدها كما تفعل آلاف الشفرات الدقيقة المتعاقبة تمزقها في صمت قاس وتغرقها في دوامة لا تنتهي من العذاب. شعرت وكأن جسدها قد تحول إلى قوقعة فارغة تتنفس الوجع ولا تصدر صوتا وكأن أنفاسها صارت تخرج من بين أنصال لا ترحم.
ثلاثة أيام كاملة كانت فيها طريحة الفراش تتلوى كزهرة سقطت تحت شمس قاسية في صيف لا نهاية له. كان جسدها يحترق من الداخل والغثيان يعصف بمعدتها كعاصفة من أمواج سوداء في عرض المحيط.
ثم جاء صباح اليوم الرابع...
صباح مختلف كما لو أن الكون قرر أن يمنحها استراحة قصيرة من جلده الطويل.
شعرت بانخفاض حدة الألم وتراجع موجات الغثيان التي كانت تضربها بلا رحمة. شيء من الهدوء تسلل إليها ففتحت عينيها ببطء تستقبل النور وكأنه زائر غريب لا تعرف هل ترحب به أم تخافه.
ثم سمعت صوتا خافتا... سحب الستائر. التفتت برأسها الثقيلة فرأته.
كان باسل يدخل بخفة الظل والعناية كما لو أنه يمشي على زجاج مكسور. في يده كيس من المنتجات الطازجة وبعض رقائق البطاطس تلك التي كانت تشتهيها منذ أيام ولم تستطع حتى النطق برغبتها.
كان معطفه الصوفي الأسود مبللا من الأطراف وشعره ينقط بقطرات خفيفة كأنه خرج توا من حضن عاصفة. وعندما انحنى ليتفقد
حالها رأت ندفة ثلج عالقة فوق رموشه الطويلة ترقص فوقها لحظة قبل أن تذوب.
همست بصوت خافت أشبه بنبض بالكاد ينبض
هل... بدأ الثلج بالتساقط
أومأ برأسه وابتسم
نعم... غطى المدينة منذ الليلة الماضية. عندما تشعرين بتحسن سنذهب معا لنمشي في الثلج.
ردت بابتسامة ضعيفة
رائع... الألم أقل اليوم.
جلست على سريرها تلف جسدها النحيل ببيجامتها الثقيلة. لكنها ما إن استدارت حتى التقطت عيناها خصلة شعر ميتة فوق الوسادة. كانت رفيعة بنية تنتمي إليها... وكانت بداية النهاية.
تجمد الدم في عروقها وضرب قلبها على إيقاع متسارع كطبول إنذار. لم تفاجأ لقد قصت شعرها من قبل استعدادا لهذا لكنها لم تكن أبدا مستعدة لرؤيته يرحل عنها.
مدت يدها وسحبت البطانية بسرعة لتخفيها... لتخفي الحقيقة لتخفي الانهيار الذي بدأ في صمت.
وهمست دون أن تنظر في عينيه
سأغتسل...
لم يعلق. عرف هذا النوع من الخسارة رأى وجوه المرضى حين يرون أنفسهم يتحولون. رأى كيف يذوي الإنسان أولا في مرآة الحمام قبل أن يذوي على سريره.
بالتأكيد... خذي وقتك.
أغلقت الباب خلفها ووقفت أمام المرآة. نظرت إلى نفسها كما ينظر المرء إلى غريب يرتدي جلده.
كانت عيناها غائرتين وبشرتها شاحبة بلون الثلج
المتساقط... ثم مدت يدها المرتجفة إلى شعرها. سحبت خصلة برفق لكنها تساقطت كما تسقط أوراق الخريف دون مقاومة.
حدقت في يدها... كانت تحمل شيئا من ماضيها من أنوثتها من حضورها الذي كان.
وهنا دون صوت سقط القرار من بين شفتيها
يجب إنهاء الطلاق... الآن.
لم تستطع أن تتخيل نفسها تواجه أحمد بعد أن أفرغ رأسها من الشعر بعد أن سرقت منها رمزية الجمال القوة الكبرياء.
فتحت هاتفها بعد تردد متجاهلة عشرات الرسائل التي لم تقرأها.
لم تكن تعلم أن أحمد كان يبحث عنها كما يبحث العطشان عن السراب... يجوب المدينة يقلب الاحتمالات ويطارد صدى غيابها كأنه فقد ظله.
ضغطت على اسمه وانتظرت.
لم تمر ثلاث ثوان حتى جاء صوته من الطرف الآخر صوتا مشحونا بالغضب واللهفة
سارة... أين كنت بحق الجحيم!
كان صوتا يخفي انهيارا خلفه كأن الأربعة أيام التي غابت فيها كانت أربعة قرون في قلبه.
لكنها لم تبرر لم تحاول أن تشرح لم تشارك ألمها ولا تلمح لما يحدث داخلها.
قالت ببساطة حاسمة بنبرة تشبه بابا يغلق إلى الأبد
أحمد سأنتظرك في مبنى البلدية خلال ساعة. لا أريد إطالة هذا الأمر... دعنا ننفصل.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1