رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الرابع و التسعون 194 بقلم اسماء حميدو

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الرابع و التسعون



ردّت كوثر على المكالمة كما يردّ المحكوم عليه بالإعدام على إعلان التنفيذ… دون رغبة، دون اعتراض... مجرد خضوع لحقيقة لا مهرب منها.

جاء صوته من الجانب الآخر رخيمًا كوتر كمان يُعزف برفق في عتمة مسرح:

"أين أنتِ الآن؟"

صمتت لوهلة ثم قالت بجمود:

"سأكون هناك حالًا."

أنهت المكالمة دون أن تترك خلفها مساحة للتنفس ثم أمرت السائق بالتوقف عند أول زاوية ممكنة.

نزلت من السيارة والكعب العالي لصوت خطواتها كان يُحاكي نبضات قلبها… متوترة، متسارعة، ومُزيفة الثقة.

دخلت كوثر إلى مطعم هادئ مغلَق تمامًا للزوار كأنه فصلٌ خاص من رواية غرامٍ مكتوم.
أما طارق... ذاك الذي لا يشبه أحدًا كان هناك جالسًا وحده بجوار نافذة تطل على المدينة، معطفه الأبيض لم ينزعه بعد وكأن الشتاء نفسه لا يجرؤ على الاقتراب منه... وجهه كان كمن نُحت بإزميل دقيق تكسوه رزانة ونظراته تهيم في الخارج كأنه لا ينتمي للمكان بل لكوكبٍ بعيدٍ يتلذذ بمراقبة الأرضيين.

في هذه الأثناء دخلت كوثر كإعصارٍ غير مرحب به ومن ثم رمقته للحظة وأدارت بصرها بسرعة كمن لمس نارًا بلا قصد وهي توبخ نفسها في سرّها:

لا تنخدعي… فالجمال إن لم يسكنه قلب، صار لعنة.

اقتربت ووقفت أمامه كجدار صلدّ لا ينهار، تقول:

"السيد طارق."

انتفض طارق من شروده والتفت إليها

كمن استيقظ من حلمه الخاص ينظر إليها من أعلى إلى أسفل... ملامحها لا تزال تحتفظ ببراءة لم تفسدها الحياة بعد... مربوطة الشعر بوجه ممتلئ قليلًا كأن الزمن لم يمر عليها بما يكفي بل كأنها خرجت من قاعة تخرّجها الآن فقط.
من هذه؟

تساءل في داخله كأن اللقاء بينهما لا يمتلك تاريخًا.

كان على وشك أن يسألها إن كان قد التقاها سابقًا لكن كوثر لم تمنحه تلك الرفاهية إذ قالت بحدةٍ جليدية:

"أنا هنا لأن والدي هدّدني لا أكثر. لذا لا تُرهق خيالك، ولا تفرط في التأويل."

لم تجلس... لم تُعطه حتى شرف النظر إليها كنظير بل وقفت كملكة تطلق قرارًا نافذًا لا يقبل المساواة ومن ثم استكملت بعبوس لذيذ:

"أرجوك... أخبر جدّك أنني لا أستحقك ولا أستحق عائلتك.
وأبلغه أن يعيد جميع هدايا الزفاف التي أرسلها... لعلّه يختار عروسًا أفضل."

لم يكن طارق يتوقّع ذلك إذ بدا كمن تلقّى صفعةً من يد القدر ومن ثم رمش بعينيه ببطء، وتساءل:

"هدايا زفاف؟!"

هنا... سقط الستار.
أدرك طارق – وللمرة الأولى – أنه ليس سوى خيط في نسيج حياكة دبّرها جدّه من خلف الكواليس وأن اللعبة كانت أكبر من مشاعره وأعمق من نظراته.

قالت كوثر وهي تعقد حاجبيها بدهشةٍ لم تستطع إخفاءها:

"ألَا تعرف؟"

كانت هي نفسها تُصارع غموض اللحظة... شيء ما لم يكن على ما يرام…

شيء لا تفهمه.
ابتسم طارق ابتسامة باهتة تحمل في طياتها برودة الحديد:

"بالطبع لا... لكن اسمعي... أريد الطفل... وسأعوّضكِ عمّا مضى."

تسارعت أنفاسها وازدادت حيرتها.

طفل؟ أي طفل؟

كأنّ الكلمات اصطدمت بجدار ذاكرتها ولم تجد موطئًا للاستقرار... وما لبث أن مدّ نحوها شيكًا أبيضًا تم توقيعه في الأسفل كأنه ختم قدرٍ لا رجعة فيه، يقول بعنجهية:

"املئيه بالمبلغ الذي ترينه مناسبًا."

ظلت تحدق بالورقة التي بين يديه كما يرمق الغريق حبل نجاة لا يعرف إن كان مشدودًا أم هشًّا... لم تفهم لمَ يُعطيها المال أصلًا فهي لم تأتِ لبيع شيء لكن في أعماق عقلها كانت صور سيرين تتقافز كشرائط ممزقة في مهب الريح وذكريات الدين الثقيل الذي تدين به صديقتها لظافر.

ابتلعت كوثر ريقها بصعوبة وسألت ببطء:

"هل تقصد أنني يمكنني أن أملأه كما أشاء؟"

أجابها طارق بجمودٍ تام كمن يفرغ حقلًا من الأمل:

"طالما ستكفين عن مضايقتي وستتوقفين عن التودد إلى جدي كي يُجبرني على الزواج بك."

شهقت كوثر ورفعت رأسها فجأة كمن تلقّى صفعة غير متوقعة... تقول بهجوم:

"أنا لم أتودد إليه قط—"

قاطعها طارق بصوتٍ حادٍّ كالنصل:

"لستُ مهتمًا بسماع قصصكِ."

وفي لحظة فارقة قرّرت كوثر أن تلعب اللعبة حتى نهايتها وبعينين تتحديانه كأنها تضعه على المحك، قالت:

"أريد

عشرة مليارات دولار."
نعم... كانت تُخطط… ثمانية مليارات لسداد ديون سيرين وملياران لشراء حرّيتها من العالم بأسره، من أبيها، من الماضي، من كل شيء.

في هذه اللحظة ظنت أن طارق بثروته التي تشبه أملاك الأساطير لن يرمش حتى، لكنّه رمقها بنظرة غارقة في السخرية والاحتقار، وقال ببطء كمن يلفظ كلماته عنوة:

"هل تمزحين؟ عشرة مليارات؟! هل تنوين سرقة بنك؟"

في داخله كرهها أكثر… كره تلك الثقة المفرطة وذلك الهدوء الذي يستفز... يهمس إلى نفسه وهو يحدجها بحاجب مرفوع بنظرات دونية:

لماذا أحبّها جدي؟ ما الذي رآه فيها؟

قال أخيرًا وهو ينهض عن مقعده كأن الهواء لم يعد يصل إلى رئتيه:

"سأمنحكِ مئة مليون فقط... خذيها أو اتركيها."

ثم أضاف، دون أن يُعير نظراتها أي اهتمام:

"ارسلي الطفل إلى فيلتي خلال أيام."

كانت كلماته تنهال عليها كما تُلقى أوامر النفي في البلاط الملكي… لا تقبل النقاش، ولا تتسع للتفسير.

أما كوثر التي كانت لا تزال واقفة، تجمّدت للحظة.... كررت بصوت مسموع هذه المرة:

طفل؟ أي طفل؟

لكن إلى من تتحدث، لقد تخطاها بالفعل بعد أن ألقاها في عمق بحر التيه.... صرخت فجأة قبل أن يبلغ عتبة الباب:

"أي طفل تقصد؟!"

استدار وهو ينظر إليها بنظرة قاتمة وقال ببرود:

"أنتِ تعرفين تمامًا عمّن أتحدث."

شعرت كأن العالم ينهار

من تحتها والهواء يُسحب من رئتيها.
ظنته مجنونًا… أو أنه يُراوغ، أو أساء فهم كل شيء.
لكنها لم تجد الكلمات... فقط الصمت كان أنسب من أن تضحك.



تعليقات