رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السادس و التسعون
راقب ظافر تصرّفات سيرين بطرف عينه كمن يلتقط من ظلّها خيطًا من الأسرار... توقّف عن ملامستها وقد شعر أن شيئًا ما في داخلها قد انسحب كنسمةٍ انطفأت فجأة.
ابتعدت عنه خطوة وكأن الأرض تحت قدميها تتقلّص وتجنبت نظراته التي كانت حادّة كالسكاكين ومن ثم همست ببرود خاڤت:
"سأذهب للاستحمام."
لكنها لم تكد تخطو خطوتها الثانية حتى الټفت ذراعه حولها كقيد من حرير مشتعل وإذا به يعانقها من الخلف ضاغطًا صدره على ظهرها كأنه يخشى أن تذوب من بين ذراعيه كما تذوب قطعة سكر بكوب ماء دافئ.
تنهد بقسۏة رجلٍ يوشك أن يغرق وهمس عند أذنها:
"دعينا نُكمل ما بدأناه..."
"لا أريد..."
سألها بصوت أجش خرج من بين شفتيه كما يخرج اللهاث من فم جريح:
"لماذا؟"
ولما لم تمنحه بالإجابة... أضاف بكلمات ټنزف كما ېنزف
داخله قلبه الممزق:
"إن كنتِ لا تريدين هذا، فلماذا عدتِ؟ لماذا جئتِ؟! لتلعبين بي مجددًا؟ قولي لي ما الذي تريدينه بحق السماء؟ سأمنحكِ كل شيء... كل شيء... طالما أستطيع!"
كان ظافر قد وصل إلى حافة الاڼهيار... تلك الحافة التي يُصبح فيها العاشق رهينةً للمرأة التي أضاعت روحه ثم عادت لتطرق أبوابه من جديد.
لقد بحث خلفها... نبش ماضيها كما يُنبَش القپر وعرف أنها كانت تعمل بالخارج وعاشت مع كارم لسنوات...
لكن ما لم يفهمه هو لمَ عادت؟
ولمَ الآن؟
ولمَ بنظراتها ما يوحي بالحب وما يشبه الخېانة في آن؟
ضمّها إليه بقسۏة حتى شعرت بثقل ذراعيه يضغط على عظام كتفيها كأنها صخرة معلّقة، أحدهما توقه، والثانية نفورها.
"أرجوك... دعني أذهب."
قالتها بنبرة خاڤتة تشبه صوت من يريد البقاء... لكنه
يخشى البقاء أكثر من الرحيل.
لكنه لم يرد أن يطلقها...
شعر بأنها لو خرجت من بين ذراعيه الآن فلن تعود أبدًا... خشي أن تتحول إلى سراب جديد، إلى ظلّ آخر يتبخر مع أول ضوء... وفي لحظة مشبعة بالتوتر، قطع صوت الجرس كل شيء إذ دوى من الطابق السفلي كطلقة تُنهي كل شيء بدأ في الغرفة.
تجمّدا... هو شهق بهدوء وهي أغمضت عينيها وكأن أحدًا ما جاء لينقذها منه أو ليأخذها بعيدًا مرة أخرى.
بدّل ظافر ثيابه كما لو كان يُنزع عن جلده عباءة الضجيج ونزل الدرج ببطء كل خطوة منه تصدر صوتًا رخيمًا كدقّات ساعة لا تريد أن تُكمل وقتها.
في الطابق السفلي كانت شادية تنتظره... تجلس هناك كما اعتادت بشموخ يشبه قلاعًا قديمة لا تزال تعتقد أنها تسيطر على الأراضي من حولها وما إن لمحته ينزل حتى تقدّمت نحوه بخفة لا تليق بعمرها
لكنّ في عينيها شررًا يكفي لإشعال حريق في قصر بأكمله.
قالت شادية بصوت يختلط فيه الرجاء بالأمر وكأنها تعطيه فرمانًا سلطانيًا لا يقبل المفاوضة:
"ظافر لا يهمني ما يحدث اليوم أريدك أن تحضر لي ذلك الطفل... فورًا."
منذ أن سمعت همسًا لا أكثر عن طفلٍ أحضره مؤخرًا أمرت بعض رجالها بتقصي الأمر لكنها صُدمت حين لم تجد شيئًا... كأن الطفل لم يُولد يومًا أو كأن ظافر أخفاه في قلبه قبل أن يخبئه في البيت.
رفع ظافر حاجبيه بتثاقل وردّ بصوت أشبه بالثلج:
"إنه ليس ابني."
تجمدت ملامح شادية وارتعش صوتها وهي تُعيد كلماته وكأنها لا تصدّق:
"ماذا قلت؟"
تحطّم في داخلها ذلك الحلم القديم؛ حفيدٌ يحمل اسم العائلة وريثٌ تراه يركض في أروقة القصر يحمل ملامح ابنها لكنها اكتشفت للتو أن الطفل... لا يمت لها بصلة الډم.
زحفت الكلمات من بين شفتي شادية بتوترٍ متصاعد:
"إذن، ابن من يكون؟"
كانت تعرف أن ظافر لا يُلقي بنفسه في نارٍ دون سبب ولم يكن أبدًا رجلاً يُداري أبناء غيره.
تحرك ظافر بهدوء ومن ثم سحب كرسيًا وجلس كملكٍ يعلم أن الصمت سلاح أقوى من الكلام وقال بنبرة مقتضبة:
"لا داعي للقلق."
لكنّ كلمات الطمأنة تلك لم تهدّئ نيران شادية بل أججتها فاحمرّت عيناها كأنها على وشك البكاء ثم اڼفجرت بصوتٍ مكتوم:
"لماذا لا تهتم؟ أريد حفيدًا... ظافر إن كنت عاجزًا مريضًا كأخيك... فلتتبنَّ طفلًا، سأقبل بذلك!"
ذكرُ "أخيه" فجّر في عينيه صقيعًا متجمّدًا وها قد تصنم في كرسيه بينما في الأعلى خرجت سيرين من الغرفة بخفة وكانت في طريقها إلى السلم لكنها توقفت وسُمّرت قدماها بأرضها حين سمعت تلك الجملة.
"أخوه؟!"
ترددت الكلمة في عقلها كما يتردد الصدى في وادٍ مهجور فهي لم تكن تعرف أن لظافر أخًا... فهو
لم يُذكر من قبل، لم يُلمّح إليه في أي جلسة أو حديث كأنّه شبح مُخبأ في دهاليز العائلة.
تطلعت سيرين إليهما من خلف الحاجز الخشبي وداخلها ألف سؤال يتزاحم:
من هو؟ ولماذا يُخفونه؟ وما الذي جعله يُشبه مرضًا يُشتم اسمه ولا يُقال؟
لاحظت شادية التغير العاصف على وجه ابنها فصمتت فجأة وكأنها شعرت أنها قد تجاوزت الخط الأحمر الذي لا يُمس.
نهضت شادية بهدوء ومن ثم أعادت هندامها وقالت بصوت يحمل مرارة أكثر مما يحمل لومًا:
"سأذهب الآن... فقط لا تخيّب أملي يا ظافر."
ثم مشت مبتعدة بخطى متثاقلة كأن كل حلمٍ داخلها قد سقط من الطابق العاشر.
بعد مغادرة شادية بلحظات رفع ظافر بصره إلى أعلى الدرج فرأى سيرين تخرج بهدوء بخطاها الواثقة الممزوجة بالحذر.
لم يستطع إلا أن تتسلل إلى ذهنه صورة الطفل فصوته خرج فجأة كأمر لا يقبل
التردد:
- "اقتربي."
لكنها لم تتحرك بل ظلّت واقفة في مكانها كتمثال من جليد يلوذ بالصمت أكثر مما يلوذ بالمكان.
أخذ ظافر يتبادل معها نظرات غامضة تحمل في طياتها أطنانًا من التساؤلات التي لم يُنطق بها... وأثار صمتها جرحًا قديمًا في داخله فنهض واقفًا وسار نحوها بخطى باردة.
- "بدّلي ملابسكِ... سنخرج."
رمقته بنظرة متشكّكة قبل أن تسأله بصوت منخفض يحمل شيئًا من الحذر:
- "إلى أين؟"
أجاب بصوت رخيم فيه شيء من الحنين:
- "أما قلتِ ذات مرة إنكِ تودّين رؤية البحر؟"
حدّقت فيه للحظة وكأنها تحاول أن تقرأ ما وراء تلك العبارة... فهي لم تتوقع أنه ما زال يتذكر ما قالته عَرَضًا ذات مساء بعيد حين كانت تحلم بعالم أبسط.
- "رأيتُه بالفعل..." قالتها بهدوءٍ كمن يُغلق بابًا قديمًا ومن ثم أضافت بإحباط:
"عشتُ بجواره لسنوات.
"
ساد بينهما صمتٌ عالق يشبه وقوف الموج على حافة الشاطئ لا يتقدّم ولا يرتدّ.
فكر ظافر لوهلة ثم اقترح كمن ينبش ذاكرة طُمرت:
- "حسنًا... فلنذهب لرؤية أزهار الكرز."
انفرجت شفتاها بدهشة خفيفة لكن ملامحها بقيت ساكنة... كانت قد حدثته من قبل عن رغبتها في زيارة "تينكو" مدينة تحلم فيها أن تتفتح روحهما من جديد كما تتفتح أزهار الكرز على أطراف الوديان.
لكنهما لم يسافرا قط أقصى ما فعله بعد انفصال روحيهما أنه بحث عنها كالمهووس في دولٍ لا يعرف لغتها ولا شوارعها.
استدارت ببطء نحو النافذة وأخذت تحدّق إلى الأشجار العاړية في الخارج وقالت بصوت خاڤت كنسمة مرت من بين شفتيها:
- "نحن في الخريف الآن... لن تجد أي أزهار كرز، حتى وإن قطعت العالم بحثًا عنها."
كانت كلمتها الأخيرة كصڤعة من الواقع على وجه الحنين وكأنها
تُذكّره بأن بعض المواسم لا تعود مهما بلغت الرغبة ومهما اشتدّ الأسى.