رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والتاسع و التسعون 199 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والتاسع  و التسعون


حين خطت سيرين عتبة قصر الغابة هذه المرة كانت عيناها لا تتوقفان عن مسح المكان كما تفعل كاميرات المراقبة في فيلم مشحون بالغموض والإثارة... لم تكن الزيارة عادية ولم تكن نواياها كما تبدو... كانت مصممة وإن بدا ظافر متشبثا بوجود نوح في هذا القصر فهي ستجد السبيل لانتزاعه منه ولو اضطرت لكسر القواعد كلها.
في الطرف الآخر كان نوح واقفا عند البوابة كمن ينتظر وعدا تأخر... قدماه الصغيرتان ثابتتان في الأرض لكن قلبه يتقافز كفراشة تعانق النسيم وما إن لمحها حتى صرخ بصوت متهدج من الشوق
أمي!
هرولت نحوه كسحابة شتوية رأت ظل الأرض العطشى وانحنت تضمه إلى صدرها كما لو كانت تحاول إخفاءه عن العالم.
لماذا تقف هنا همست وهي تمسك بيده الصغيرة.
هل تشعر بالبرد
هز نوح رأسه بنفي خفيف ثم نظر خلفها حيث كان ظافر يقترب ببطء ومن ثم قال بصوت يشوبه التعب
سيدي ساقاي تخدرتا وأنا أنتظركما... هل يمكنك حملي إلى الداخل
قبل أن يجيب ظافر بادرت سيرين بعفوية تقول
سأحملك أنا.
لكن نوح أدار وجهه نحو ظافر مرة أخرى وأصر
أمي ضعيفة... أرجوك أنت احملني.
تجمدت ملامح ظافر للحظة وكأن الصغير باغته بسؤال وجودي فرفع رفع حاجبيه لا إراديا وتمتم بدهشة لا تخلو من الرهبة
أنا
أحست سيرين بالإحراج يتسلل إلى ملامحها وهمت بالتدخل لإقناع ابنها

لكن ظافر تنهد بخفوت ثم تقدم نحو الطفل ومد يده إلى حمالات بنطاله فرفعه لأعلى بحركة آلية.
ظل يحمله كما لو كان يحمل قنبلة موقوتة مسافة فاصلة بين جسديهما كأنه يخشى من انفجار.
وفي لمح البصر انطلقت ابتسامة خبيثة على وجه نوح وبدأ يركل ساقا ظافر بقدميه تاركا آثارا طينية صغيرة على منطال ظافر الفاخر الذي بدا كلوحة حديثة تلطخت دون إذن فنانها.
احمر وجه ظافر في الحال وصاح الطفل معتذرا
أنا آسف يا سيدي! أعتقد أنني أعاني من تشنج عضلي... لم أقصد أن أركلك!
كان ظافر ينظر إليه بعين نصف مصدومة نصف متأكدة من أن هذا الطفل لا يعاني شيئا سوى دهاء مبكر.
تمتم ظافر أخيرا محاولا السيطرة على غضبه ولا يعلم لما يصبر على هذا الماكر الصغير
لا بأس... سألقي نظرة على ساقيك لاحقا.
وما إن وضع نوح على الأريكة حتى مد يده ليفحص ساقيه غير أن نوح تراجع بسرعة وقال ببراءة زائفة
ساقاي بخير الآن شكرا لك سيدي.
لم ينبس ظافر بكلمة بل اكتفى بالتحديق فيه كأنه يحاول قراءة لغز مكتوب بلغة لا يتقنها.
رأت سيرين التوتر يتمدد في الغرفة بين المتنازعين فسارعت لإنهاء الموقف
أنا آسفة ظافر... لم يفعل نوح ذلك عن عمد... لم لا تبدل ملابسك أولا
تنهد ظافر وتذكر أن الغضب من طفل ليس سوى معركة خاسرة فابتلع كبرياءه ورد بهدوء
بالتأكيد.
حالما خرج ظافر من
الغرفة انحنت سيرين نحو نوح بلهفة تكسوها رقة الأم وقلقها العميق وهمست بصوت متهدج
هل تعاودك آلام العظام من جديد
كان ذلك السؤال كخنجر خفي يعرف الطفل أن وراءه ما يخفيه من رعب... فآلام العظام كانت أحد مؤشرات المرض الذي تتجنب سيرين تسميته لكنها تشعر بظلاله الثقيلة ترفرف على روح ابنها.
هز نوح رأسه بخفة ثم قال
لا... شعرت فقط بوخز خفيف كأن ساقي غفتا قليلا.
وبعد أن قالها مد ذراعيه كجناحين صغيرين وعانقها بقوة تشبه التوسل
لم أرك منذ زمن طويل يا أمي... افتقدتك كثيرا.
تفتت قلبها بين ضلوعها وشعرت كأن صدرها امتلأ بوخز من الندم فراحت تمرر أناملها فوق رأسه ومن ثم قالت
وأنا أيضا يا حبيبي... أشتاق إليك كل لحظة... سامحني على تأخري.
رمقهما السكون بنظرة حانية كأن الزمن نفسه توقف ليراقب هذا الاحتضان المشحون بالشوق.
ثم فجأة وكأنه يحمل سحرا صغيرا في جيبه أخرج نوح ورقة مطوية بعناية وأعطاها لسيرين هامسا
أمي رسمت هذا حين كنت أفتقدك.
ترددت أناملها قبل أن تبسط الورقة وعندما فتحتها انسكبت المفاجأة بمقلتيها كأن حبرا من الطفولة امتزج بالحنين فقد كانت الورقة تحمل رسما بدائيا لقصر الغابة هيئته نوافذه العالية والمنخفضة وبالرغم من خشونة الخطوط وتعرج الألوان إلا أن الرسم بدا حيا كأن الطفل رسم ما لا ترصده العدسات التي
تعلق في الزوايا.
اقترب منها نوح مجددا وهمس بمكر طفولي
حين أشعر بالملل تأخذني الآنسة وسام في جولات قصيرة... أرسم كل مكان يعجبني... أردت فقط أن أريك ما أحببته.
ضحكت سيرين برقة وقالت بحنان
أنت رائع حقا... وذكي أكثر مما ظننت.
لكن المفاجأة الحقيقية كانت في التفاصيل إذ بدا الرسم وكأنه خريطة مصغرة للقصر بخطوط توحي بمواقع الأبواب والسلالم بل وحتى النوافذ وما أثار فضولها حقا أن نوح أشار إلى زاوية في الورقة قائلا
هنا القطة وهنا الشجيرة... وهناك الأرجوحة!
نظرت إليه في دهشة وعادت عيناها إلى الورقة... كانت القطة في رسوماته أقرب لكاميرا مراقبة تتخفى في زوايا القصر.
خفق قلبها بسرعة فسألته وهي تحدق في عينيه وتشير إلى موقع الكاميرات بالرسم
ولم رسمت هذا يا نوح
أجاب ببساطة لا تحمل براءة أكثر منه إدعاء
قالت لنا المعلمة إن نرسم ما نراه بدقة فأردت أن أكون الأفضل... هل أعجبك رسمي
تنهدت سيرين وأغمضت عينيها للحظة وقد تلاشت كل شكوكها أمام بريق عينيه ففي النهاية هو طفل مجرد طفل في الرابعة من عمره... كيف يمكن أن يحمل كل هذا الوعي كيف يمكن له أن يرسم خريطة بحنكة وهو بالكاد يعرف الحروف
ربما زكريا... نعم زكريا هو من يتقن تلك الخطط والرموز... أما نوح فهو لا يزال نقيا يغزل عالمه بالألوان لا بالمؤامرات.
ربتت سيرين
على رأسه وهمست بعينين تدمعان حنانا
أجل... نوحي هو الأعظم.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1