رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان 200 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان 

تنهدت سيرين وأغمضت عينيها للحظة وقد تلاشت كل شكوكها أمام بريق عينيه ففي النهاية هو طفل مجرد طفل في الرابعة من عمره... كيف يمكن أن يحمل كل هذا الوعي كيف يمكن له أن يرسم خريطة بحنكة وهو بالكاد يعرف الحروف
ربما زكريا... نعم زكريا هو من يتقن تلك الخطط والرموز... أما نوح فهو لا يزال نقيا يغزل عالمه بالألوان لا بالمؤامرات.
ربتت سيرين
على رأسه وهمست بعينين تدمعان حنانا
أجل... نوحي هو الأعظم.


أخفت سيرين ورقة نوح المطويّة كما يُخبّأ الكنز بين نياط القلب واحتضنتها في طيّات ملابسها بحذر... وعيناها تدركان أن هذا الرسم ليس مجرد خطوط عشوائية بل مفتاحٌ خفيّ لقصرٍ يضجّ بالأسرار.

كان القصر المنيف شامخًا كغابةٍ من الطوابق والأروقة، متشابك المسالك كأنه خُلق ليُضلّل الداخل إليه لا ليهديه وعند قدومها كانت تفكّر بخيبة في أنها بحاجة إلى يومين على الأقل لتفكيك خريطته الحقيقية ومع ذلك ستبقى الكاميرات المخفية عيونًا متربّصة لا تُرى بل تراقب من خلف ستائر الظلال.

في هذه الأثناء نزل ظافر إلى الطابق الأرضي بعد أن استبدل بزّته الرسمية بملابسٍ عادية ولكن حتى البساطة بدت عليه كأنها خُلقت له... إنه وسيمٌ في صمته، صارم في حضوره كأن جسده يحمل ظلّ مدينة بأكملها.

وقعت عيناه الداكنتان على سيرين الجالسة على السجادة يُحيطها دفء الأمومة فيما يتكور نوح على ركبتيها ككائنٍ صغير وجد وطنه أخيرًا... لم يكن المشهد سوى رقصة وئامٍ صامتة لكنها في عين ظافر أيقظت شيئًا غير مفهوم... لم تكن الغيرة فقط بل شعورٌ بالاقتحام... كأنّه غريب في لوحةٍ رُسمت من قلب امرأة لا يملك مفاتيحه.

ركض نوح نحوه بحماسٍ طفوليّ، وصاح:

— "سيدي، هل تود أن تلعب معنا؟"

كانت تلك الدعوة كقنبلة ناعمة تنفجر ضاحكةً في قلب ظافر الذي لم يزل يضمّد آثار الركلات الصغيرة على بدلته الفاخرة  بل ووجع الحرمان من إحساس الأبوة.

أما بالنسبة لنوح فتلك الركلات لم تكن كافية لردّ الصفعة لكنها أشعلت شيئًا دفينًا فيه.

أما سيرين فقد

ارتبكت بدورها إذ لم تكن ترغب أن يقتربا أكثر من اللازم فكل لحظةٍ يقضيها نوح مع ظافر تُقرب احتمالية انكشاف الحقيقة التي ينفطر قلبها من أجل حمايتها... ولكن ظافر بخطواتٍ لا تعرف التردد اقترب منهما وسأل بابتسامةٍ خافتة:
— "ماذا سنلعب؟"

أجاب نوح بعد لحظة تفكيرٍ خاطفة وعيناه تشعّان بالحماسة:

— "نلعب لعبة التمثيل... أنت الأب، وأمي الأم، وأنا ابنكما... موافق؟"

تجهم وجه سيرين بينما تجمد الزمن ذاته في عيني ظافر كأن الكلمات شقّت الطريق مباشرة إلى قلبه لتوقظه من سباتٍ داخلي.. وتساءل في نفسه: لِم يرغب هذا الطفل تحديدًا أن يراه أبًا له؟

ما الذي يدفعه إلى هذا الدور؟

ومَن الذي يزرع تلك البذور في ذهن طفل بالكاد تجاوز الرابعة؟

وقبل أن تُفلت سيرين شيئًا من فمها المرتجف قال نوح بخفةٍ ممزوجة بالخبث الطفولي:

— "سيدي، لا تظن أنني أستغلك، صحيح؟ أبي رجل ثري ويشرّفك أن تتظاهر بأنك أبي... لا تقلق، لن أخذلك."

رمقه ظافر بنظرةٍ لا تخلو من الذهول بينما عبس نوح كأنّه يمنح وسامًا لا يُرد فتدخلت سيرين وقد خنقها التوتر:

— "نوح، لا تُحرج السيد ظافر... لا ينبغي—"

لكن ظافر قاطعها بصوته الذي خرج هادئًا، عميقًا، كأنّه يخبئ شيئًا أكبر من مجرد موافقة:

— "بالتأكيد... سأكون والدك."

كان صوته تلك اللحظة أشبه بوعدٍ أُلقي وسط ضباب الماضي... لا تدري سيرين إن كان مزاحًا، أم اعترافًا لا وعيًا بدمٍ يسري في العروق دون أن يُعلن عن نفسه.

حين لمح نوح ابتسامة الموافقة ترتسم على شفتي ظافر اندفع نحوه كالسهم واحتضن

ساقه بقوة كما لو أنه وجد ملاذه بعد سنواتٍ من التيه... ارتجف جسده الصغير وذابت دموعه مع خيوط المخاط على بنطال ظافر الجديد دون أن يبالي الطفل بمظهرٍ أو بروتوكول وربما تعمد ذلك.
— "أبي! اشتقت إليك... اشتقتُ إليك كثيرًا حتى كدتُ أموت!"

تجمد ظافر لوهلة وغريزته الأولى دفعته للتراجع لكن ذلك النداء الصاعق —"أبي"— ارتطم بجدران قلبه كسكينٍ يمرّ ببطءٍ على لحمٍ حي.

لم يعرف لماذا انفلتت أعصابه من قبضته، أو لماذا تلعثم داخله بهذا الشكل… فقط شعر بشيء غريب يعتمل في صدره، شيء يشبه الندم... أو ربما الذنب.

في الطرف الآخر من المشهد كانت سيرين تتلقّى طعنات غير مرئية في صمت وهي تراقب ابنها يعانق الرجل الذي حمل دمه دون أن يعرف... أنفاسها متقطّعة، ويداها مشدودتان إلى درجةٍ غرست فيها أظافرها في راحتيها كأنها تحاول عضّ قلبها كي لا يبوح فقد كانت تعرف كم يتوق زكريا ونوح إلى صورة الأب، كم يتمنيان في لا وعيهما رجلًا يستحقّ هذا اللقب... رجلًا لا يختفي في الظلال.

تمنّت للحظة لو تُخبر نوحًا أن هذا الرجل تحديدًا، من يحتضنه الآن ليس مجرد ضيف في مسرح اللعب... بل بطله الحقيقي، والده لكن الخوف كمّم لسانها.

أزاح نوح رأسه قليلًا ونظر إلى وجه ظافر بعينيه الكبيرتين المبللتين بدموع خالصة:

— "أبي، لماذا طردتنا أنا وأمي؟ هل تعرف كم تألمنا؟ كم بكينا؟"

قبل أن ينطق ظافر بحرف تابع نوح بصوتٍ مكسور:

— "هل كانت تلك الحقيرة تستحقّ أن تترك أمي من أجلها؟"

شهقت سيرين بصمت وشعرت بدوارٍ في رأسها وبالرغم من أنها كانت

تعلم أن نوح يتقمّص دورًا، يُمثّل فقط، لكن كلماته خرجت وكأنها وحيٌ موجّه بدقة، ولو لم تكن تعلم أن الطفل لا يعرف من هي "دينا"، لظنّت أنه يُصفي حساباته بالفعل.
أما ظافر فقد أصابه الذهول. من أين جاء طفل في الرابعة بهذا السيناريو؟ من أي فيلم التقط تلك العبارات؟ أهو ذكاء فطري أم خطة خفية؟

ورغم ارتباكه أجابه ببرودٍ متماسك مراوغًا بلعبةٍ تحاكي لعبته:

— "يا لك من طفل أحمق! كيف لي أن أتخلى عنك وعن أمك؟ كان كل شيء... مجرد سوء تفاهم."

قالها بصوتٍ رخيم كأنّه يهمس للندم القديم.

ارتسمت ابتسامة بريئة على وجه نوح فورًا واكتست ملامحه بسعادة خالصة كأن كل ظلام العالم تبدد بتلك الجملة:

— "كنتُ أعلم أنك لن تتركنا أبدًا!"

ثم انحنى مجددًا واحتضن ساق ظافر وقال ببراءة طفولية لا تخلو من المكر:

— "بما أنني وأمي عدنا إلى المنزل... ألا يجب عليك أن تفعل شيئًا مهمًّا؟"

رفع ظافر حاجبيه في حيرة وكذلك سيرين التي تساءلت بحذر:

— "نوح، ماذا تقصد؟ ماذا تريده أن يفعل؟"

التفت نوح مجددًا نحو ظافر وبصوته العذب المبلّل بالبكاء قال بنبرةٍ لا تُحتمل:

— "كل طفل نشأ وهو يرى أباه وأمه معًا... أما أنا فقد ربتني أمي وحدها... أبي عليك أن تعتذر لها أولًا."

كانت الجملة كالسهم الذي استقرّ في قلب ظافر دون رحمة.

نظر إلى سيرين وارتجفت شفتاه لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى الضوء.

فقط ظل ينظر إليها... كأن الاعتذار سُجن في عينيه ومن ثم.........

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1