رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل العشرون 20 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل العشرون 

قبل أن تغادر، مرّت أنامل سارة برفق على وجهها المُتعب، تضفي عليه مسحة من الحياة ببعض مساحيق التجميل، كأنها تحاول خداع مرآتها أو استجداء بصيص من النضارة. كان البرد قارسًا، كأنه يستعير من الموت لسعته، فارتدت طبقات من الملابس كما لو كانت تتدرّع ضد هشاشتها المتفاقمة.

جسدها المنهك بعد العلاج الكيميائي لم يعد يعرف الصلابة، صار كهيكل زجاجي تُهدّده نسمة وتُرهقه لمسة. مناعتها التي كانت تقاتل دون إذن أصبحت تتلكأ، تُراجع صفوفها، وتنكسر أمام أبسط هجوم. كانت تُجري فحص تعداد دم كامل كل يومين، كأنها تُراجع درجات حرارتها الداخلية لتعرف إن كانت لا تزال تصلح للعيش.

إن هبطت النسبة عن حدّها الآمن، بات عليها أن تبتلع مزيدًا من الحبوب، لا للشفاء بل للاستمرار فحسب. وإلا، فإن أصغر عدوى قد تفتح لها باب الرحيل بصمت قاتل.

الدفء أهم من الجمال. والسلامة أولى من الأناقة. تلك كانت فلسفتها الجديدة. ولمّا مرّت أصابعها على بقايا شعرها المُتساقط في مؤخرة رأسها، تلمسته كمن يودّع ذكرى، ثم ارتدت قبعة سوداء بحذر، كأنها تُخفي خلفها هشيم الكبرياء.

في الجانب الآخر من الغرفة، كان باسل يُراقبها بعين طبيب لا يغفر، وقلبٍ لا يحتمل خسارتها. انفجر صوته قلقًا:

– "سارة... لا يمكنكِ الخروج

بهذه الحالة. لقد أجريتِ فحص الدم أمس وكانت النتائج دون المتوسط. أنتِ تعرفين جيدًا ما يعنيه هذا. وبصفتي الطبيب الرئيسي المشرف على حالتك... فأنا مسؤول عن حياتك."
رمقته بعينين تشربان من بئر الانكسار، لكنها لم تكن تبكي ضعفًا، بل حاجة. همست بصوت مُرتجف، كأن الكلمات تنزف من شفتيها:

– "باسل... لا أريد أن يراني في هيئةٍ بائسة. لا أريد أن أتركه وفي ملامحي ما يُشبه الهزيمة. دعني أودّعه وأنا واقفة... لا منحنيّة."

أغمض باسل عينيه لوهلة، كأنه يتذكّر تلك الليالي التي كانت تُخفي فيها خصال شعرها المبعثرة تحت الوسادة، وتستيقظ لتفتّش عنها كأنها تبحث عن ملامحها القديمة. تنهد وقال:

– "فقط... ابقي دافئة، أرجوكِ."

أومأت برأسها ببطء، ثم تمتمت:

– "سأنهي إجراءات الطلاق اليوم... لن يستغرق الأمر كثيرًا."

أجابها دون أن ينتظر موافقتها:

– "سأوصلكِ."

ولأول مرة، لم تعترض. كانت غارقة في همٍّ أكبر من أن ترفض المساعدة. في السيارة، انشغلت بتفقد رسائلها، حين وجدت واحدة من "إيفرلي". كانت رسالة محمّلة بالارتباك والخوف، إذ حاول حبيب إيفرلي اللحاق بها حتى منزلها، أثار ضجة في مقر عملها، ولم تجد بُدًّا من أخذ إجازة طويلة هربًا من مُطاردته.

فجأةً، ظهرت رسائل أخرى من أحمد. كثيرة. بعضها

يحمل كلمات مؤلمة، وبعضها يتضمّن تهديدًا مبطّنًا يمس سلامة "جيف" إن لم ترد عليه. استوعبت سارة أن أحمد أصبح مسعورًا، تلتهمه نيران الطلاق، ولن يهدأ حتى يحرق شيئًا ما. وهي، لن تمنحه إلا ما يُنهي هذا العبث.
في تلك الأثناء، وصلت رسالة من المحقق "لي كوفر". كانت مجموعة ملفات، نظّمها بدقة تستحق الاحترام. وبين طياتها، انكشفت الحقيقة..

بل إنه حوّل مبالغ مالية ضخمة لها، وسجّل باسمها سيارة فارهة تخطّت قيمتها المليون دولار.

ارتجف قلب سارة كأنما أصابته خيانة لم تكن في الحسبان. شعرت أن ثمة ثقبًا قد انفتح في ذاكرتها، يسحب منها صورة أبيها التي طالما حفرتها بقداسة. كيف لرجل اعتقدت أنه يشبه الجبال، أن ينحني هكذا خلف الستار؟

لكنها، في قرارة نفسها، لم تلُمَه كما كان متوقعًا. كانت تعرف أنّه وحيد، وأن أمها تركته منذ زمن طويل دون كلمة وداع، وأنه كرجل، يملك احتياجاته مثل أي بشر. وربما، كانت جودي تملأ في حياته فراغًا ما. لم تسأله يومًا، لم تستجوبه، فقط أحبّته كما تفعل الابنة حين تُبجّل الأب دون شرط.

 رفض عقل سارة هذا المشهد. لكن الواقع لا يستأذن.

الآن، بعد أن ماتت جودي ودخل جيف في غيبوبة طويلة، لم يعد أمامها سوى أن تفترض الحقيقة: لقد كانا….. .

كان جيف رجلًا كريمًا،

طيب القلب، ومن غير المعقول أن يؤذي جودي. لذا... لماذا إذًا يسعى أحمد للانتقام من عائلتها؟ ما الرابط الخفي؟
أثبت لي كوفر كفاءته بسرعة مذهلة. ثلاثة أيام فقط، وجاءها بكل تلك الأدلة. دفعت له جزءًا من الأجر، ثم طلبت منه أن يحقق في سبب وفاة جودي.

أغلقت الهاتف بعد لحظات من التحديق فيه، بينما بدأ الدوار ينهش رأسها. كانت اللقطات تُعيد نفسها في مخيلتها، كأنها كوابيس تعيد سرد القصة بلا نهاية.

كانت تثق في أخلاق والدها، أو هكذا اعتقدت. أما الآن... بعد أن شاهدت كل شيء، بدأت الشكوك تتسلّل إلى يقينها، كأنها ترى الرجل نفسه لأول مرة.

كانت المدينة قد ارتدت ثوبًا أبيض من الثلج، كأن السماء أهدتها كفنًا من الطهر لتُخفي ما في جوفها من ألم. وتحت تلك الطبقة الناصعة، كان الظلام يزحف بصمت، يتسلّل في الشقوق، ويتربّص كذئبٍ هرم ينتظر غفلة الضوء.

عندما وصلا إلى مبنى البلدية، أوقف باسل سيارته برفق، ثم أسرع يفتح لها الباب، كما لو كان يحرس ملكة مريضة. في عينيه كانت سارة ما تزال شبحًا زجاجيًا، مجرّد دمية خزفية مهددة بالكسر في كل لحظة.

قال بنبرة خفيفة، لكن قلقه يتسرّب بين الحروف:
– "تقدّمي ببطء... الشوارع زلقة، والسقوط فيها ليس كالسقوط في الطرقات، بل كالسقوط من الذات."

أجابت بابتسامة

امتنان، تلك الابتسامة التي تسرق الأمل من قاع الوجع:

– "باسل، يبدو أنك لا تعبأ بشيء سواي. لا تقلق، سأكون حذرة، فأنا أرغب في الحياة أكثر مما تظن... على الأقل، حتى أصل إلى الحقيقة."

كان الأمل آخر خيط تتشبّث به، خيط هش، لكنه لا يزال يشدّها بعيدًا عن القاع.

تركت يده ببطء، كمن ينزع نفسه من  دافئ مجبرًا، واستدارت لتتابع خطاها... ولكن الزمن توقّف فجأة، كأن الهواء تجمّد حولها.

عيناها التقتا بعينين تشعّان ظلامًا عبر الشارع... كان أحمد.

جالسًا في سيارة سوداء كحداد، يُراقب بصمتٍ يشبه العاصفة قبل أن تعوي. نظراته كانت سكاكين مغروسة في الهواء. وكان تركيزه منصبًّا على يدها... تلك اليد التي أمسكها باسل قبل لحظات.

برودة النظرة اخترقت ظهرها، كأنها تُمسكها من عظامها لا من جلدها. لقد عرفت هذا الوجه، وعرفت ماذا يمكن للغضب فيه أن يفعل. حتى وهو يكرهها، لم يكن ليسمح لرجل آخر بأن يلمسها. كان يراها ملكًا له... حتى وهي تهرب منه.

لهذا السبب بالذات رفضت عرض باسل بمرافقتها.

استشعرت الجمر المشتعل في نظرة أحمد، فاستدارت نحو باسل وقالت بصوتٍ مستعجل يخفي ذعرًا:
– "ألا يوجد لديك عملية جراحية؟ لا حاجة لمرافقتك، سأطلب سيارة أجرة بعد أن أنتهي من إجراءات الطلاق... اذهب الآن، أرجوك."

ردّ باسل بنبرة هادئة، لكنها تحمل عناد المحب:
– "العملية في فترة ما بعد الظهر... ولست مرتاحًا لتركك وحدك."

أرادت أن تُبعده بأي وسيلة، فشعرت بالكآبة تتسلل

إلى ملامحها، وقالت بنبرة خافتة توشك أن تنكسر:
– "لا صلة قرابة تجمعنا، باسل... ألا تخشى حديث الناس؟ نظراتهم؟ لعناتهم الخرساء؟"
ابتسم، لكنها ابتسامة حزن لا هزيمة:
– "لو كنت أخشى الثرثرة، لما وقفتُ معكِ لحظة واحدة."

ارتبكت، ثم شدّت قامتها كمن يحتمي بموقفه الأخير:
– "أما أنا، فأخافها. باسل، حتى لو انتهى كل شيء بيني وبين أحمد، ما زلت زوجته أمام القانون. لا أريد أن أكون مادة دسمة للأفواه الجائعة. أرجوك... لا تضع نفسك في هذا الموقف. حياتي لا تعنيك، فلا تتورّط في أوجاعي."

ثم تركته خلفها، ومضت.

مضت كمن يُطفئ شمعته بيده، رغم حاجته للضوء. تركت باسل هناك، يقف وسط الثلج، والخذلان.

كان باسل ابن عائلة مرموقة في المدينة، يحمل لقب الأطباء بكل فخر. لكن أمام سطوة اسم أحمد، لم يكن سوى ظلّ خافت. لم ترغب سارة في أن تتسبّب له في أذى... فحين يُغضب أحمد، لا أحد يعرف كم من الأرواح سيحترق معه.

شعر باسل بشيءٍ يشبه الركلة في صدره حين أدارت ظهرها ورحلت. كان الوجع صامتًا، لكنه خشن الحواف، يتسلل كرمادٍ حارّ إلى تجويف قلبه. ظل واقفًا مكانه، يُعيد في ذهنه كلماتها... وكلما فكّر فيها أكثر، ازداد اقتناعًا بأنها لم تكن قاسية، بل صادقة.
لم يكن له الحق. لا في الحضور، ولا حتى في القلق.

تحرّك ببطء إلى السيارة، كأن خطواته تجرّ أثر الهزيمة. لم يلحظ وجود تلك السيارة الفاخرة، المصقولة كسكين، المتوقفة

بجانب الرصيف، حتى لمح انعكاسها على الزجاج. لوهلة، التقط عقله الصورة وركّب القطع معًا.
تنفّس ببطء وابتسم ابتسامة عاجزة، كشخصٍ فهم متأخرًا أنه ضيفٌ غير مرحّب به في قصة لا تخصه.
سارة ما زالت متورطة في حبّ أحمد، حتى وإن أنكرت. لم تكن تحاول حمايته من الناس، بل من أحمد نفسه. لم تكن تخشى القيل والقال، بل تخشى الدماء المتساقطة من الكلمات إن سُوء فهمٌ وقع.

أدار عجلة القيادة وغادر. بلا مقاومة، بلا كلمة.
فالرجل الذي يعرف متى ينسحب، لا يخسر، بل ينجو.

وفي السيارة السوداء المترصدة كالذئب في الوحل، كان "كيلفن" جالسًا متصلبًا، كمن ينتظر تنفيذ الحكم. شعر بأنفاس باردة خلف عنقه، لم تكن صادرة عن التكييف، بل عن عينين تسكنان في الظلّ وتحدّقان في روحه.
خاف أن يلتفت.
خاف أن ينظر.

وحين انطلقت ضحكة ساخرة من المقعد الخلفي، ارتجف قلبه كما لو أن الرصاص قد خرقه.

– "سيدي أحمد..." تمتم بها كيلفن، كمن يستغيث لا يُحيّي.

ردّ أحمد بصوته البارد، الذي يشبه طقطقة الجليد فوق النهر:
– "يا له من مشهدٍ قبيح."

كادت الكلمات أن تدفع كيلفن للبكاء. شعر بأنها لم تكن موجّهة له، بل عبرت خلاله لتصيب عمق الآخر. تمتم باضطراب:

– "سأغادر السيارة الآن... دَعْ برنت يتولى القيادة."

كان "برنت" جالسًا بجواره، شقيقه الأكثر فطنة، يرمقه بنظرة احتقار عابرة، قبل أن يُومئ برأسه لأحمد في صمتٍ احترامًا.

قال بنبرة

أقرب للتمرير منه للموافقة:
– "لقد لاحظتُ ذلك يا سيد أحمد."
أحمد لم يجب. فقط فتح الباب، وخرج.

كان المشهد خارج السيارة يشبه لوحةً زيتية رُسمت بألوان العاصفة. الريح تعوي، والثلج يتساقط كرماد من السماء. خطواته كانت ثابتة، تغرس نفسها في الطريق الأبيض، كأنّه يمشي فوق أجسادٍ لا فوق أرض.

في الداخل، صفع كيلفن جبينه بيده المرتجفة، حين أدرك الحقيقة المتأخرة:
كلمات أحمد لم تكن له.
كانت لباسل.
ذلك الطبيب الذي تجرأ ولمس ما لا يُمسّ.

وقفت سارة أمام مبنى البلدية، تنتظر المصير كمن ينتظر حكما نهائيًا في محكمة العواطف.
الريح تلفح وجهها، والثلج يذوب على وجنتيها كدموع باردة. وحين اقترب منها، شعرت أن كل ذرة في جسدها انتبهت.

من بعيد، برز معطف أحمد الأسود، كأنه خُلق ليُخالف بياض المدينة.
وجهه غطته ندف الثلج، لكنها لم تخفِ الحدة في ملامحه، ولا العاصفة في عينيه.

اقترب ببطء، خطواته تشقّ طريقًا من القلق في صدرها.

وقف أمامها، وصوته جاءها كرصاصة خرساء:
– "هل تطلبين الطلاق... لأجل هذا الرجل؟"

كانت الكلمات قاسية، لكنها لم تكن سؤالًا، بل اتهامًا يرتدي قناع الحيرة.

في عينيه، كان الغضب نمرًا محبوسًا خلف قضبان الكبرياء.

وفي قلبها، كانت ترتجف... لا من البرد، بل من أحمد.

من الرجل الذي يُحب بطريقته، ويكره بالطريقة ذاتها. لا فرق.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1