رواية ترانيم في درب الهوى الفصل التاسع عشر
عادت ترنيم إلى الفيلا برفقة رجال غريب، وكانت ملامحها تحمل أثقل أعباء الحزن والألم. كادت وفاء أن تتحدث إليها، لكن غريب أشار لها بيده أن تبقى صامتة. صعدت ترنيم إلى غرفتها، حيث ألقت نفسها على السرير، وانفجرت في البكاء بحرقة. شعرت أن أنفاسها تكاد تتقطع من شدة الألم. في تلك اللحظة، شعرت بيد تلامس ظهرها، فانتفضت في مكانها واستقام جسدها. نظرت إليه بعينين متوقدتين من الغضب، وتحدثت بصراخ يملؤه العواطف:
"انت جاي ورايا ليييه؟ اطلع بره ملكش دعوة بيا."
ظل ينظر إليها بهدوء تام، قبل أن يتحدث بتساؤل:
"روحتي عنده؟"
تعالت شهقاتها وخرجت الكلمات من بين شفتيها بصوت غاضب:
"ملكش فيه."
حرك يده، ممسحًا دموعها، وتحدث بنبرة هادئة تتسم بالثقة:
"شاطره، هو ده القرار الصح، كنت متأكد انك رايحه تقوليله عن خبر جوازنا."
دفعت يد غريب بعيدًا عنها وهي تتحدث بنبرة ملتهبة:
"ابعد ايدك دي عني، ومين قالك إن أنا موافقه أتجوزك!"
استقام بجسده، ووضع يده داخل جيب بنطاله، ثم أردف بتوضيح وأناتٍ من برودة الأعصاب:
"مدام جايه من عنده وانتي في الحاله دي يبقى كنتي بتودعي، علشان كده ممنعتش انك تروحي عنده."
ضغطت على أسنانها بغضب، وأغلقت عينيها حتى تبلغ درجة من الهدوء. تكلمت بصوت مختنق:
"اطلع بره."
نظر إليها مطولاً، ثم تحرك نحو الباب، وهو يقول بصوت هادئ ولكنه يحمل تحذيرًا واضحًا:
"أنا هديكي وقتك تهدي فيه، بس مش كتير، واعملي حسابك هدوئي ده مش هيفضل كتير، يعني من وقت ما هتبقى مراتي وعلى اسمي، اسم أي راجل تاني تمحيه من حياتك، فاااهمه."
أنهى كلامه وخرج من عندها، مغلقًا الباب خلفه. كانت الغرفة غارقة في صمت موحش، وكأن الوقت توقف لحظة عودته. نظرت إلى أثره بغضب مكتوم، ثم صرخت بصوتٍ صاخب مصحوبًا بألمٍ وكأن جراح قلبها تختلج. كان صراخها يصدي في أرجاء الفيللا الفاخرة، محاطًا بجدران قد تحمل أسرار الكثيرين، لكنها الآن فقط تحمل ألمها. عادت إلى السرير واندفعت تبكي، تسكب دموعها على وسادتها وكأنها تخفف وطأة الألم الذي يعتصر روحها. كانت تلك الدموع تتدفق كجداول مائية، تحمل معها كل المشاعر المكبوتة والأحلام المكسورة، وكأنها تنحي كل آمالها المؤلمة في تلك اللحظة. كانت في حاجة إلى العزلة، إلى لحظة من الضعف تسمح لها بأن تواجه ما قد آلت إليه حياتها، لكن في أعماقها، كانت تعلم أن هذا العراك لن ينتهي هنا.
************************
في صباح اليوم التالي، استيقظت ترنيم من نومها، عينيها لا تزال غارقة في ظلال ليلة مريرة. نظرت إلى السقف، خيالات الماضي تقرع جدران ذهنها، ثم وضعت يدها على وجهها وبدأت تبكي بحرقة، فقد كان هناك شعور عميق بالخسارة يلتهم روحها. كانت مشاعر الألم تتلازم مع ذكرياتها الماضية، حيث حركت يدها على شفتيها وتذكرت قبلتها مع سلطان، تلك اللحظة التي كانت تتمنى أن تدوم للأبد، لكن الأحداث قد حولت تلك الأمنية إلى كابوس. حاولت أن تهدأ نفسها، أن تخرجها من آسر تلك الأفكار، ثم نهضت من فراشها بتثاقل، وتوجهت إلى المرحاض، لتغسل وجهها بالماء البارد كأنها تحاول غسل ذكرياتها المؤلمة. بعد فترة، خرجت وارتدت ملابسها بعناية، متمسكة بأمل بائس أن تنعم بيوم أفضل. ثم تحركت نحو باب غرفتها، قلبها يدق بسرعات متباينة من التوتر والترقب.
طرقت على باب غرفة غريب، وعقدت ذراعيها على صدرها بانتظار ظهوره، مشاعر متشابكة من الغضب والخوف تعصف بها. بعد ثوانٍ معدودة، فتح الباب، ونظر إليها باستغراب كما لو كان غير متوقع لرؤيتها في هذا الوقت المبكر، وقال:
"خير، مش معقوله جايه تقولي ليا صباح الخير."
فجأة، لا تعرف إن كان ما تشعر به ناتجًا عن غضبها أم عن ضرورة التحدث.
نظرت إليه، وقد بدا صوتها مختنقًا عندما قالت:
"ناوي تخرج سلطان امتى من المكان ده؟"
تساءلت في نفسها إذا كان سيتفهم مدى إحباطها ورغبتها في حريته، لكن كان عليها أن تعبر عن ذلك بوضوح.
عقد ذراعيه على صدره وأجاب:
"بعد جوازنا على طول."
كلماته كانت واضحة، لكنها كانت تدور في دائرة مغلقة، مما زاد من تعقيد مشاعرها. كانت تدرك أن مصير سلطان يُربط بمستقبلهم.
أومأت برأسها بالموافقة، ثم قالت:
"ماشي، شوف ناوي تتجوزني امتى علشان تنفذ كلامك وتخرج سلطان."
كان هناك تحدٍ في نبرة صوتها، رغبة في فرض السيطرة على مصيرها ومصير الشخص الذي تحبه بصمت.
اقترب منها بهدوء، محذرًا، حيث ألتصق بها أكثر وتحدث بنبرة هامسة:
"أنا لو عليا عايز دلوقتي، بس لسه فيه إجراءات لازم تتم. هروح السفارة وأخلصها وهقولك الميعاد."
كانت كلماته تحمل ثقة، لكنه لم يكن يدرك حجم الضغوط التي شعرت بها في تلك اللحظة.
تراجعت إلى الخلف، وتجاهلت نظرته الجادة، ثم قالت:
"اياك تقرب مني فاهم، ياريت تنجز في الإجراءات دي، خلينا نخلص."
كان قرارها نابعًا من إحساس عميق بالحاجة إلى المسافة؛ المسافة التي لم تكن قادرة على تحديدها.
أومأ برأسه وتحدث بنبرة هادئة:
"تمام، اللي انتي عايزاه. تحبي تعيشي هنا ولا في تركيا؟ ياريت يكون في تركيا."
ردت عليه بتهكم،
"اممم، علشان تعرف تشوف حياتك الإجرامية كويس."
كانت كلماتها تحمل منتفخ الغضب والخوف من مستقبلهما الغامض الذي يتراءى أمام عينيها.
تكلم بنبرة هادئة لكنها مخيفة بعض الشيء:
"أنا شغلي الإجرامي بعرف اشوفه في أي بلد وأي مكان، بس تركيا هي بلدي وحياتي كلها فيها."
نظرت في الاتجاه الآخر، وغضبها يتصاعد، وقالت:
"أنا مش هسيب مصر، بلدي. حابب تسافر بلدك بعد ما نتجوز، انت حر، ملكش دعوة بيا، وروح انت مكان ما تحب."
كان صوتها يحمل في طياته كل المشاعر المعقدة التي عاشتها كإمرأة عانت من فقدانها لخيارها في الحاضر، وهي تعبر عن رغبتها في البقاء مرتبطة بجذورها، حتى وإن كانت الأحوال صعبة.
نظر إليها بنظرة أربكتها وهو يقول:
"المكان اللي أحب أكون فيه هو أي مكان انتي فيه."
كانت نبرته تتأرجح بين الصدق والحنان، لكن لا شيء يمكن أن يخفف من حدة التوتر الذي كان يغلف الأجواء. كانت الكلمة الأخيرة قد استقرت في ذهنيهما كصخرة ثقيلة، تدفع كل منهما بعيدًا عن الآخر.
زفرت بضيق وتحركت سريعًا بعيدًا عنه، وهبطت إلى الأسفل متجاهلة إصراره أن تكون بالقرب منه. كانت تود لو أن بإمكانها البعد عنه. ظل ينظر إليها، وما لبثت أن غابت عن عينه، تاركةً وراءها سحابة من الشكوك والمشاعر المتضاربة. وتنهد بضيق قبل أن يعود مرة أخرى إلى غرفته.
**************************
بعد مرور عدة أسابيع...
جلست ترنيم في غرفتها، تتأمل إنعكاس صورتها في المرآة، بينما تنهمر الدموع من عينيها كالسيل الذي لا يتوقف. كان الحزن يضغط على قلبها، وكأن كل ذكرى حلوة مع سلطان تعود لتؤلمها من جديد. كانت تتذكر ضحكاته، ونظراته الحالمة، لكنها تعرف في أعماقها أن العلاقة التي كانت تربطهما لم تعد ممكنة. اليوم سيكتب فيه اسمها بجوار اسم رجل آخر، شعور غريب يعصف بها، كل جزء في جسدها يرفض هذه الفكرة، غير متقبلة فكرة وجود غريب في حياتها كبديل عن حبها الأول والأخير، سلطان. ولكن رغم كل ذلك، كان هناك صوت في داخلها يدفعها لتكون جريئة، ولتفتح قلبها للاحتمالات الجديدة، حتى لو كانت موجعة.
فجأة، اقتحمت صوت طرقات على الباب، فتحت والدتها الباب وجلست بجوارها، كما لو أنها شعرت بكل ما تعانيه ابنتها في تلك اللحظة. أمسكَت والدتها يدها بحنان، ونظرت إلى عينيها بعمق، وكأنها تحاول أن تلمس روحها، ثم تحدثت بنبرة حنونة، كالأم التي مرت بتجارب الحياة الصعبة:
"أنا حاسه بيكي، يا بنتي، وعارفة إحساسك إيه دلوقتي. لكن اللي إنتي عملتيه ده عين العقل. سلطان خلاص، مبقاش ينفعك. بقى عنده أسرة، مراته وبنته، مكانش ينفع تخديه منهم وتحرمي بنته منه. عارفة إنه أول راجل في حياتك وفتحتي عيونك عليه، بس هي دي الدنيا. الدنيا مش بتدينا كل حاجة عايزينها، أحيانًا بتجبرنا نختار اختيارات صعبة. أنا شايفة غريب، شاب محترم، حبه ليكي واضح في عينيه، مستحمل معاملتك ليه، ومقدر إنك لسه متعلقة براجل تاني. علشان كده، عايزاكي تخلي بالك يا بنتي، لتوقعي في المحظور. كلها دقايق وهتبقى زوجة. اسمك هيبقى مرتبط بأسم راجل تاني، وبدايتك معاه ممكن تكون جميلة لو فتحتي قلبك ليه. مينفعش أبدا تفكري في غيره، دي تبقى خيانة يا بنتي. حاولي تركزي مع جوزك وحياتك الجديدة، اتقي ربنا فيه. خليه هو محور حياتك، وصدقيني مع الوقت هتلاقي نفسك حبتيه. ادي لقلبك فرصة يدخل راجل غير سلطان، وساعتها، بس هتعرفي إن حبك لسلطان كان مجرد تعود، وحبك لغريب هيكون الحقيقي، لأنه هيكون من اختيارك."
ابتسمت بحزن، وقالت بصوت مختنق:
"ماما، هو إنتي عارفة غريب شغال إيه؟"
أومات رأسها بالتأكيد، وقالت:
"ايوه يا بنتي، رجل أعمال كبير في تركيا ومصر."
أغلقت عينيها بألم، وكأن ذكر غريب جاء معها بعبءٍ ثقيل، وقالت:
"اه، رجل أعمال. عموماً، يا ماما، عايزاكي تعرفي إن حبي لسلطان مش تعود زي ما بتقولي. حبي ليه في الأول كان تعود، لكن بعد ما كبرت وفهمت، حب التعود ده بقى عشق بجنون، حاجة كده مش قادرة أوصفها ليكي، زي كأن فيه رباط مشترك ما بينا، هو مش مجرد راجل بيمر بحياتي، هو جزء مني. فيه حاجه كل ما نبعد عن بعض ترجع تقربنا تاني كأننا عملنا عهد على الخلود في قلوب بعضنا. حتى يا ماما لو مكنتش اتجوزت غريب، مكنتش هتجوز سلطان، علشان زي ما قولتي كده، سلطان عنده عيلة، مراته وبنته، ومستحيل هقبل أخده منهم حتى وأنا روحي فيه. يعني حبه هيفضل في قلبي، و مستحيل أنساه."
اقتربت من رأس ابنتها وقبلتها بحب، وكأنها تحاول أن تبث فيها قوةً ودفئاً، وقالت:
"ربنا يسعدك ويريح قلبك، يا بنت بطني، يارب."
ابتسمت لها بحزن، والدموع تتجمع في عينيها، وكأنها تدرك أن كل شيء يتغير، ولكن الروح تبقى، وقالت:
"ويخليكي ليا، يا ست الكل."
خرجت وفاء من عند ابنتها وأغلقت الباب خلفها، تاركة خلفها جو من الحيرة، نظرت ترنيم إلى أثرها وتنفست بوجع، ثم بدأت تتجهز لعقد القران، تلك اللحظة التي كانت تنتظرها بفارغ الصبر مع سلطان، والآن تصارع مشاعرها المتناقضة. وبعد فترة، سمعت صوت طرقات على الباب، وعلمت من هو. تحركت نحو الباب وفتحته، ونظرت له بضيق، وكان بداخلها مزيج من القلق والغضب، وقالت:
"أفندم، عايز إيه يا غريب؟"
نظر لها بإعجاب، كأنما يجد في ملامحها كل ما يفتقده، وظلت عينيه تتجول على جسدها كالباحث عن شيء مفقود، وتحدث بصوت هامس، وكأن الكلمات نفسها تحمل شغفاً:
"الجمال ده كله بعد دقايق هيبقى بتاعي أنا."
نظرت في الاتجاه الآخر وتحدثت بصوت متضايق، معبرة عن قرارها الحدود:
"ممكن، لو سمحت، تحترم نفسك؟ لما أبقى مراتك، يبقى يحلها ربنا."
أومأ برأسه وأمسك يدها بلطف، وفي عينيه كان هناك شيء أكثر من مجرد جاذبية، كان التزاماً، وقال:
"اعتبري حصل. المأذون تحت, ومستني."
ارتجف جسدها من الخوف، وكأنها تواجه عاصفة لا تملك القدرة على مواجهتها. أبعدت يدها عن قبضته القاسية التي لم تترك لها خيارًا، وتراجعت إلى الخلف بخطوات غير واثقة، وألقت نظرة عميقة إليه كأنما تصرخ بالرفض، بينما كانت عيناه تعكسان استعلاءً لا تعرف كيف تنقض عليه. لكن رد هذه النظرة بنظرة أخرى، مشبعة بالتحدي، وأمسك يدها مرة أخرى بحزم، وأرغمها على التحرك معه إلى الأسفل، كأنها قطعة الشطرنج التي تُحرك عنوة في لعبة غير مضمونة النتيجة. لكنها توقفت في مكانها عندما رأت عمها يجلس أمامها، وجهه محمل بالجدية والتشدد.
نظرت إلى غريب باستغراب، عيونها تتسع من الصدمة، وقالت بصوت مرتعش:
“د ده بيعمل إيه هنا؟”
أجابها بتوضيح، وهو يجلسها على المقعد، كأنه يضع حجرًا ثقيلًا على قلبها:
“أنا اللي جيبته علشان يكون وكيلك. ولو قصدك، يعني جه إزاي بعد اللي عملته في ابنه، برضه أنا اللي أجبرته ييجي بطريقتي.”
نظرت له، لا تعلم هل هي نظرة خوف أو كره أو نداء استغاثة لسلطان. كانت عيناها مليئتين بالدموع التي كانت تحبسها في أعماق روحها، تشعر وكأنها تنفصل عن ذاتها. ثم جلس غريب وبدأ عقد القران، بينما كان قلبها ينبض بصورة متسارعة، مملوءً بمشاعر مختلطة من الذعر والفقد. وبعد عدة دقائق مؤلمة، وضعوا أمامها الأوراق حتى توقع عليها. تجمعت الدموع في عينيها، كأنها سيول فردت على كفيها، وبدأت تحرك يدها المرتعشة، أمسكت القلم وكأنها تتسلم مصيرها، وضعته على الأوراق، وبدأت الدموع تنهمر بغزارة، تقطر على الصفحات كأن كل قطرة تحمل حكاية من الألم، وقلبها ينزف مع كل جرة قلم تتحطم، وكأنها توقع على شهادة وفاتها، شهادة لبراءة حياتها التي تتلاشى.
أنهت ما كانت تفعله، لكن بدا لها أن الأحلام تتبخر في الفضاء، ولم تستطع البقاء أكثر من ذلك. نهضت من على المقعد وركضت سريعًا إلى غرفتها، وكأنها تسعى للهروب من كابوس أصبح حقيقة. أنهى المأذون كل شيء وغادر المكان، مثلما يغادر عابر سبيل جادته. صعدت وفاء إلى غرفتها، بينما كان غريب، بعد كل هذه الزوبعة، خرج إلى الحديقة المرفقة بالفيلا، جلس على المقعد وظل يحدق أمامه بصمت، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره المتناثرة. ظل على هذه الوضعية لفترة لا بأس بها، ثم نظر إلى غرفة ترنيم ورأى الضوء ما زال مضيئًا عندها، وكأنما يضيء بصيص الأمل في عالمها المظلم. زفر بضيق، واستقام بجسده وتحرك إلى الأعلى، كمن يحمل همومًا فاقت طاقته، طرق على الباب ثم فتحه، فوجدها مستلقية على فراشها وتبكي بحرقة.
اقترب منها، وجلس بجوارها، وتحدث بنبرة هادئة تكاد تكون مرسلة من عالم آخر، محاولًا اختراق حواجز الرفض والانكسار:
"ممكن تبطلي عياط؟ أنا عايز أتكلم معاك كلمتين."
زاد الضغط على قلبها، وشهقتها تنطلق كصدى الألم، وتحدثت بصعوبة، كلماتها تتراقص بين البكاء والحرقة:
"اطلع بره، مش عايزة أسمع صوتك."
كانت عينيها تلمعان بالدموع، وكأن كل دمعة تمثل ذكرى مؤلمة، تعكس قسوة اللحظة التي وقعت فيها.
زفر بضيق، إحساس من القلق يتصاعد في صدره. أمسكها من ذراعها بلطف، ولكنه أرغمها على الجلوس، إذ أراد أن ينضم إليها في مساحات الألم التي تعيشها. وتحدث بهدوء حذر، محاولاً جذب انتباهها بعيداً عن الأحزان التي تملؤها:
"قولتلك بطلي عياط."
لم يكن هدفه فقط إيقاف بكائها، بل السعي نحو إيجاد اللقطة التي تعيد فيها ابتسامتها المتعبة.
نظرت له بعينين محمرتين من كثرة البكاء وعبرت عن كراهيتها بصوت ضعيف:
"مش عايزة أشوفك ولا أسمعك. اطلع بره، ابعد عني."
كان حديثها عاصفاً، يدل على الصراع الذي يدور في داخلها، حيث تتقافز مشاعر الحب والكراهية، والخوف والأمل.
ضغط على أسنانه بغضب، مشاعره محتدمة كالنار، وتحدث من بينهم كلمات مشحونة بالعاطفة:
"على فكرة، أنا لو عايز أخد منك حاجة، مش هستنى إذنك. إنتي مراتي، وكل حتة فيكي من حقي. بس أنا مش هعمل كده، مش هلمسك طول ما إنتي رافضة ده. كفاية إنك بقيتي مراتي، وبتاعتي. وهفضل محافظ على وعدي ليكي لحد ما أشوف نظرة في عيونك عايزة ده، متقبلة قربي منك، أنا مبحبش أفرض نفسي على حد، بس أنتي كنتي حاله إستثنائية، كنت مستعد أعمل أي حاجه علشان تبقى على أسمي.”
ثم تابع حديثه بنبرة تحمل تهديداً واضحاً، مختلطاً بقلق حقيقي:
"ومتقلقيش، كل وعد وعده ليكي هنفذه من بكرة وابن خالتك هيبقى حر، بس وحياتك عندي، لو فكرتي تستغفليني، يا ترنيم، وتقربي من سلطان، وتعيشي حياتك معاه كأنك حرة، ومش على ذمة راجل، هتشوفي وش تاني خالص، هتتفاجئ بي. والمرادتي مش هتكون قضية وحبس، لا، هيكون مقابل خيانتك ليا قتلة هو، حطي كلامي ده حلقة في ودنك علشان أنا مبحبش أقول كلامي مرتين، إنتي دلوقتي مرات غريب ضرغام، فاهمة؟”
أغلقت عينيها بألم، وتحدثت بصوت مختنق، وكأن الكلمات خرجت منها بتردد، مثقلة بمشاعر مختلطة من الخوف والتحدي:
"متخافش، أنا مش هعمل كده. بس مش علشان خايفة منك، لأ، أنا هعمل كده علشان أنا تربية المعلم سلطان الدسوقي، وعمري ما هسمح لحد يقول عليه إنه معرفش يربي."
استقام بجسده، ومال قليلاً برأسه مقبلاً مقدمة رأسها، في لحظة بدت وكأنها دلالة على الاحترام، قبل أن يهمس بكلمات اعتبرتها ناعمة، تعكس الاهتمام والرقة:
"تصبحي على خير."
نظرت له باستغراب، وتحدثت بتساؤل، صوتها يحمل لمحة من تحدي وآمل في آن واحد:
"هو إنت مش هتغصب عليا أروح أنام في أوضك؟"
حرك رأسه بالرفض، وكان هناك لمسة من الهدوء في صوته وهو يقول:
"لا طبعاً، أنا عمري ما هغصبك على حاجة. حابه تنامي هنا براحتك، حابه تنامي في أوضتي، ياريت طبعاً، هتنور بوجودك. هسيبك إنتي صاحبة القرار."
أنهى كلامه وخرج من عندها، وأغلق الباب خلفه، مما أضاف لمسة من الهدوء على الفراغ الذي تركه. نظرت إلى أثره باستغراب، والدهشة تتسلل إلى عقلها، لقد توقعت أنه سيرغمها على النوم بغرفته أو أخذ حقه الشرعي، لكنه لم يفعل ذلك، بل منحها خيارها بحرية. حركت كتفيها بلامبالاة، ثم مدت مرة أخرى على فراشها، وأغلقت عينيها، لتغوص في سبات عميق، حيث بدأت أحلامها تتماوج بين الخوف والأمل، وبين الحيرة والوضوح، في عالم ينسج من خيوط القدر وقوة الإرادة.
****************************
جلس سلطان في حبسه، حزينا، يتخبط في دوامة من الأفكار والمشاعر، يفكر في ترنيم، ويسترجع بصعوبة آخر لقاء جمعهما. انقطعت أخبارها عنه، واشتاق إليها بشدة، وكأنه مكبل في هذا المكان الرهيب، حيث جدران الزنزانة تذكره بمعاناته. كان قلبه يخفق بشدة، كأنه يدق جرس إنذار في عقله، وفكرة أنها قد ترتبط برجل آخر أشعلت النيران في داخله، مما أثار جنونه كبركان يتأهب للانفجار. وللأسف، كانت القضية تتعقد أكثر، مما يزيد العبء عليه ويضاعف من شعوره باليأس والخيبة. لم يكن يعرف كيف سيتعامل مع هذه المشاعر القاسية، لكن ظلال الغيرة والألم كانت تطغى عليه، مستنزفة قواه النفسية.
جاءه نداء من أحد العساكر بالخارج، فنهض بسرعة، وقد ارتسمت سعادة غامرة على وجهه، ظناً منه أن ترنيم جاءت لزيارته. لقد أحس للحظة وكأن الأمل قد عاد إلى حياته، كأن باقة من الزهور زُرعت في قلبه المنهك. ركض إلى الخارج بأقصى سرعة، وعندما دخل الغرفة، تجهمت ملامح وجهه، وخاب ظنه بشكل مؤلم. لم يكن هناك سوى حسام، الذي حاول بجهد إنقاذه من الجحيم الذي كان يعيش فيه. تحدث سلطان بصوت حزين، محبط، كمن فقد الأمل:
“هو أنت يا حسام؟ فكرتك ترنيم.”
اقترب منه حسام، وحرك رأسه بأسف، كأنه يشعر بآلام سلطان، وقال:
“أنا آسف، والله إن كنت سبب فشل عشمك. بس أنا جاي أبلغك بكلام المحامي. لسه متصل بيا وقالي: إن الصبح هيخلص إجراءات خروجك من هنا، بس القضية هتفضل مفتوحة. وبعتلك رسالة من غريب ضرغام، بيقولك: هو اللي خرجك من هنا، ومستعد يساعدك تتخلص من كل اللي كانوا سبب خيانتك. بس لو فكرت تقرب من ترنيم…”
صمت لثوانٍ، ثم تابع، رد فعل سلطان، ثم تنحنح وأكمل:
“تقرب من ترنيم، مراته هتبقى بدل القضية دي اتنين، وهيبقى مكانك في السجن على طول.”
ظل سلطان صامتا، يستوعب كلمات حسام بينما كان الآخر يتابعه بتوجس، حيث شعر بأن الانفجار وشيك. تكلم سلطان بهدوء حذر، متسائلا، كأن السؤال صارخ في صمته العميق:
“انت قولت ترنيم مراته؟”
ابتلع حسام ريقه بصعوبة، وأومأ برأسه تأكيدا، وكأن حقيقة جديدة أضيفت إلى المأساة التي يعاني منها سلطان:
“أيوه، هو المحامي اللي قال كده.”
تعالت أنفاس سلطان بشكل سريع غير معتاد، واحمرت عينه من شدة الغضب، إذ شعرت كل حواسه بتصاعد الغضب بداخله وكأن بركانًا على وشك الانفجار. تداخلت الأفكار في رأسه، بينما كانت ذكريات ترنيم تتلاعب بمشاعره، تعيقه عن التفكير بوضوح. فجأة ثار بشكل غير طبيعي كالثور الهائج، وتحولت مجرد كلمات إلى نار مشتعلة في صدره، تحرق كل ما حولها. حاول حسام تهدأته، فزفر بصوت عالٍ وحاول أن يذكره بالعقل والحكمة، لكن كلما تذكر كلمة "ترنيم" وزوجته، كانت النيران تتصاعد أكثر في داخله وتخمد العقل على الفور. تدخلت العساكر بأساليب قاسية، مستعينين بالقبض على ذراعَي حسام وتكبيله، بينما كان سلطان يحاول الإفلات من قبضة الجميع وكأنه أسد محبوس يسعى للتحرر. لكن أخيراً، وبسبب الانفعال الشديد الذي يعيش فيه، شعر بدوار شديد يلف ذهنه، وبدت الصورة أمام عينيه تتلاشى تدريجياً. سقط بين أيديهم، فاقداً للوعي، وقد ترك خلفه بركة من مشاعر الغضب والألم، مخلفا الشكوك والأسئلة التي ستبقى بلا إجابات.
***********************
في صباح يوم جديد، استيقظت ترنيم من نومها وهي تشعر بوخزة مؤلمة في قلبها، وكأن نصلًا خفيًا قد غرز في صدرها. وضعت يدها على صدرها، حيث شعرت نبضات قلبها تتسارع وكأنها تتسابق مع الزمن، وتعالت أنفاسها بقلقٍ عميق. همست برعبٍ، بينما كانت المشاعر تتخبط في رأسها:
"سلطان! فيه حاجة."
كانت كلماتها وكأنها صرخات تتردد في أرجاء الغرفة، تستدعي الأمل في أن يكون كل شيء على ما يرام.
حركت رأسها بالرفض، مشاعر الخوف والقلق تتزايد مع كل لحظة تمر، وكأنها تشعر بأن العالم من حولها ينهار. تجمعت الدموع في عينيها، تمنعها من رؤية الواقع بوضوح، وتمتمت دون وعي، مع رغبة ملحة أن يكون كل ما تشعر به مجرد أوهام، وأن سلطان بخير ومتواجد في مكان آمن. نهضت من فراشها ببطء، كأن ثقل الهموم يجثم على كتفيها، واتجهت إلى المرحاض، حيث انعكست في المرآة صورة وجهها الشاحب، مما جعلها تشعر بشكل أكبر بتلك الوحدة التي تطوقها.
بعد ثوانٍ من التفكير المكثف، غادرت الحمام، مشطت شعرها الطويل، الذي كان ينسدل كما ينحدر خيط من حزن مستمر، وتوجهت نحو الباب، تاركة الغرفة وراءها بكل ما تحمله من ذكريات مؤلمة. هبطت إلى الأسفل حيث وجدت غريب ووالدتها يجلسون في صمتٍ ثقيل، وكأنهما في انتظار شيء عظيم. كان الجو مليئًا بالتوتر، مما زاد من قلقها. اقتربت من والدتها وجلست بجوارها، قائلة بصوت خافت:
"صباح الخير."
ابتسمت والدتها بحنان، تلك الابتسامة التي دائمًا ما كانت ترسل لها شعورًا بالأمان، وقالت:
"صباح النور يا حبيبتي، أنا وجوزك مستنينك تنزلي علشان نفطر."
كان هناك دعوة واضحة في كلماتها، لكنها آثرت تجاهلها، حيث انقبض قلب ترنيم عند ذكر زوجها. نظرت له بضيق، كأنما تتهمه بكل ما تشعر به، ثم قالت بشيء من التوتر:
"افطروا انتوا، أنا مليش نفس."
كانت تلك الكلمات كأنها قفزة إلى حالتها العاطفية، حيث أرادت أن تعبر عن عدم قدرتها على تحمل الوضع الحالي، وكأن تناول الطعام سيزيد من وطأة مشاعرها تجاه ما تشعر به.
لكن غريب، بنبرة هادئة لكنها حازمة، قال:
"مافيش حاجة اسمها مليش نفس، لازم تاكلي."
بغضب ردت:
"بالعافيه يعني؟ أنا قلتلك مليش نفس، مش غصب. يعني بالعربي، مش عايزة أكل معاك، وده من حقي."
فغضبها كان نابعًا من إحساسها بالاختناق وسط كل هذه الضغوط، وكان من الصعب عليها أن تعبر عن ما بداخلها من مشاعر وأفكار.
أغمض غريب عينيه ليتحكم في نفسه، ثم قال بهدوء حذر:
"أنا ممكن أطول بالي عليكي في حاجات كتير، لكن صحتك مش هسمحلك تهملي فيها، فاهمة؟ قومي يلا علشان تاكلي."
كانت كلماته تحمل وراءها مشاعر تكاملية، إذ كان يريد أن تكون أقوى.
نظرت له بضيق ثم نهضت على مضض. توجهت إلى الطاولة، كادت تجلس بعيداً عنه، لكن صوته المنبه أوقفها:
"استني، تعالي على الكرسي اللي جنبي ده."
كان يتمسك بشغف تلك اللحظات البسيطة التي تجمع بينهما على الرغم من الصعوبات التي يواجهنها معاً.
رفعت عينيها بملل وجلست بجانبه، بينما ظلت تحدق في الطعام دون أن تمسه. كان الطعام يبدو شهيًا، إلا أن حالتها النفسية كانت تسبب لها صداعًا يثنيها عن الاستمتاع بتلك الوجبة. أخذ غريب الطعام من أمامه وأعطاه لها، قائلاً:
"كلي ده كله."
ردت بضيق:
"مش جعاااانه، بلاش تعمل عليا دور الواصي الحنين بقى."
كان الصراع داخلها يتزايد، إذ كانت تشعر بالاستياء من اعتنائه الزائد، في حين كان غريب يحاول بجد ليجعلها تدرك احتياجها لرعاية نفسها.
رد عليها بهدوء:
"بس أنا فعلاً الواصي عليكي دلوقتي، أنا جوزك، بفكرك يعني لو كنتي نسيتي."
كانت كلماته تبحث عن طرق لكسر الجليد الذي يحيط بمشاعرهما، لتدفعها لشعور بالأمان.
زفرت بضيق وتكلمت بنفاذ صبر:
"اللهم طولك يا روح، عرفت خلاص أنك جوزي. أعملك إيه يعني، اضربلك تعظيم سلام؟"
بدا لها الأمر صعبًا، وكأنها تسعى لتحقيق التوازن بين مشاعر الحنق التي يجلبها معها.
ابتسم على تذمرها ووضع الطعام في فمه، مبتسمًا:
"طيب، كلي يلا اخلصي."
ظلت تتمتم بكلمات غير مفهومة، وبدأت تتناول طعامها بضيق. ومع مرور الوقت، انتهوا من تناول الطعام، واستقام غريب بجسده ونظر إلى ترنيم، قائلاً:
"تعالى ورايا، عايزك في كلمتين."
كان لحديثه هيبة رائعة، فهذا يعني أن هنالك أمرًا جديًا يتطلب انتباهها.
تحرك نحو غرفة المكتب، وتبعته ترنيم، حيث دلفت الغرفة وأغلقت الباب وراءها. أمسك غريب بكأس المشروب بيده، وضبطه بحذر على الطاولة بجانبه وكأنها رمزية للتوازن الذي يحاول بناءه. جلس على الأريكة، ارتشف من كأسه بهدوء، ثم نظر إلى ترنيم، قائلاً: "اقعدي."
جلست على المقعد، وظلت تنظر له بصمت. تكلم غريب بنبرة هادئة لكنها تحمل شيئاً من الجدية:
"سلطان خرجته النهاردة زي ما وعدتك."
كان هناك جاذبية في صوته، يمنحها الأمل رغم الصعوبات الماثلة أمامهما.
ارتسمت ابتسامة على وجه ترنيم، وتحدثت بعدم تصديق:
"بجد يا غريب؟ يعني سلطان خرج من المكان ده خلاص؟"
كانت مشاعرها متناقضة، إذ شعرت بسعادة غامرة في داخلها لسماع هذا الخبر المفرح، لكنها في الوقت نفسه كانت تدرك أن الأمور ليست بهذه البساطة.
اقترب منها، مشيراً بإصبعه محذراً إياها:
"أه، خرجته، بس القضية لسه شغالة. يعني لو فكرتي تقربي منه أو تستغفليني، هرجعه المكان ده تاني، وبدل القضية هتكون اتنين، فاهمة."
كانت نبرته مفعمة بالقلق، مما جعل قلب ترنيم ينبض بسرعة أكبر، وكل كلمة قالها كانت كالسهم الذي يستهدف مخاوفها. شعرت أن تهديداته ليست مجرد كلمات، بل هي تعبير عن حمايته لما يراه مهدداً لسيطرته على حياتهما.
نظرت له بضيق، وتجددت الدموع في عينيها وتحدثت بصوت مختنق:
"فاهمه، بس ممكن أقولك حاجة من غير ما تتعصب."
ترددت لحظة، وكأن الكلمات لم تكن جاهزة للخروج، لكنها كانت تحتاج إلى إنطلاقه. ارتشف من المشروب وأومأ برأسه، قائلاً:
"اتفضلي، قولي."
تنحنحت بتوتر، وتكلمت بصوت مهتز:
"طيب، انت بتقول مليش دعوة بيه. ازاي وهو ابن خالتي، وأكيد هنتقابل كتير. ومتنساش أنه هو اللي مربيني. يعني مينفعش اشوفه حتى من غير ما أسلم عليه. هو دلوقتي راجل متجوز وعنده بنت، حتى لو مكناش اتجوزنا أنا وأنت، مستحيل كنت هتجوزه واخده من مراته وبنته. آه، بحبه لسه، ومش هنكر ده، بس فيه حاجات تانية كتير مينفعش نغمي عيونه عنها، أرجوك افهم وجهة نظري يا غريب."
كان في كلماتها توتر ولغة قلب محطم يريد أن يُفهم.
ظل يتابعها بصمت مريب حتى شعرت بدقات قلبها تتسارع من الخوف. لم يكن الصمت مجرد هدوء، بل كان يعكس معركة داخلية تجري في عقله، تتصارع فيها مشاعر الحب والشغف مع الغيرة والرغبة في السيطرة. ابتلعت ريقها بصعوبة وسألت:
"أ إييه، أنت مردتش عليا ليه؟ هو أنا قولت حاجة غلط؟"
كان هناك شعور بالخزي، حيث شعرت كأن مشاعرها تُحمل أكثر مما تحتمل.
استقام بجسده، أشعل سيجارة، ونفث دخانها في الهواء بطريقة متأنية، مما أعطى للحظة جوًا من التوتر والترقب. كان يتحدث بنبرة تحذيرية، مما جعلها تشعر بشيء من القلق:
"طيب، أنا هصدق كلامك وهعتبر أن علاقتك بيه هتبقى في حدود ابن خالتك واللي مربيكي، بس ده ميمنعش إنه لو حتى شكيت بنسبة واحد في المية أن ما بينكم حاجة، هتشوفوا وش تاااني، خالص. بتمنى أنكم متوصلونيش للمرحلة دي."
كان صوته يبدو قاسيًا، يمزج بين الشك والقلق على مستقبلها، وكأنها كانت تجلس على بركان ينفجر في أي لحظة.
نهضت سريعاً واقتربت منه، وتراودها مشاعر التهديد والغضب، قائلة:
"لا، لا، لا مش هتوصلها إن شاء الله. ممكن بقى نروح عند خالتوا، صباح وحشتني أوي هي وسمية. أنا متأكدة إنك تعرف مكانهم فين، بس محبتش تقول لماما."
كانت الكلمات تتدفق من شفتيها برغبة في تغيير الموضوع وتخفيف حدة الموقف، كأنها تحاول إيجاد منفذ للهروب من الضغط المتزايد.
نظر لها نظرة مطولة، مليئة بالشكوك، ثم أومأ برأسه بالموافقة:
"ماشي، بس مش النهاردة؛ بكرة أو بعده."
ولكن في عمق قلبه، كان يعلم أن تلك الموافقة لم تكن تعني عدم عودته للتفكير في المخاوف الداخلية التي تعصف به. نظرت له بضيق، حيث أدركت أن هذه المحادثة ربما لن تنتهي قريبًا، وتكلمت بتذمر:
"طيب ليه مش النهاردة، مدام موافق على المبدأ؟"
كانت تنزعج من غموضه وثباته، وكأن الوقت يمضي بشكل متباطئ بينما تسعى لتفهم العوائق التي تمنعه من الانفتاح.
اتجه نحو الباب وهو يقول:
"قلت مش النهاردة، خلاص، مش عايز كلام كتير."
كانت كلمات الخروج كالسهم الذي يطعنها، وغادر الغرفة بينما تتابع أثره بضيق، قائلة:
"تساعد سلطان بس في أنه يخلص من اللي حواليه، وهبعد عنك في أول فرصة. وكده كده مخسرتش حاجة ولا قربت مني."
ثم تحركت إلى خارج الغرفة، جلست بجوار والدتها، وضعت رأسها على كتف والدتها بسعادة، وعادت الابتسامة إلى وجهها مرة أخرى. تلك السعادة التي كانت بحاجة لها مثل تنفس الهواء بعد غمرها في دوامة عواطف مختلطة. وكأن وجود والدتها بجوارها كان بمثابة ملاذ آمن، يمنحها القوة لمواجهة ما قد يأتي، وهي تعلم أنه حتى في الأوقات الصعبة، ستحصل على الدعم من أحبائها.
*************************
حسام ساعد سلطان على الخروج من المشفى بعد دخوله لها بالأمس، حيث تبين إصابته بارتفاع ضغط الدم بشكل مفاجئ. كانت تلك اللحظات مليئة بالقلق والارتباك، حيث قضى سلطان الليلة الماضية في غرفة فحص داخل المستشفى، محاطًا بأصوات المراقبة الطبية، وضوء الممرات الباهت، وأصوات الأطباء والممرضين الذين كانوا يراقبون حالته عن كثب. انتهوا من إجراءات الخروج من النيابة العامة، وصعدوا إلى السيارة. نظر سلطان إلى حسام وتحدث بنبرة جادة، كأنما يعبر عن ثقل المسئولية الملقاة على عاتقه:
"اطلع على الحارة."
نظر له حسام بتوتر، وقال بنبرة قلقة، كأنه يحاول حمايتة من المخاطر المتوقعة:
"بس يا معلم سلطان، أنت لسه تعبان! مش هينفع تروح وانت كده. رجالة المعلم حافظ واقفة على الائمه، ولو شافوك، مش هيحصل خير. من رأيي أنك تروح على الفيلا وتريح اليومين دول، وتسترد صحتك فيهم. بعد كده تعال الحارة واعمل اللي أنت عايز."
كانت كلماته تعبر عن خوفه الحقيقي على سلامة سلطان، فهو يعرف جيدًا كيف أن تلك الحارة تخبئ الكثير من المخاطر.
أومأ سلطان رأسه بالموافقة، فحسام كان محقًا، حيث لم يكن مستعدًا لأي مشاجرات في الوقت الحالي بسبب ضعف جسده وارتفاع ضغطه. كانت علامات التعب واضحة جليًا على وجهه، وبالكاد استطاع أن يتكلم دون أن يشعر بالدوار. تحرك حسام بالسيارة متجهًا إلى الفيلا، مسئوليته تجاهه تضاعفت وهو يشعر بثقل الموقف. ولما وصلا أمامها، ترجل حسام سريعًا وساعد سلطان على الحركة وكأنه ينقله من عالم الخطر إلى الملاذ الآمن. قرع الجرس، وبعد ثوانٍ، فتحت له الخادمة، لتظهر علامات الإرتياح على وجهها حين رأت وجه سلطان. تقدموا إلى الداخل، وعندما رأت رنيم سلطان، ركضت إليه وتشبثت به، وقالت بابتسامة مشرقة، كأنها تنتشل والدها من أتون الظلام:
"أخيرًا جيت يا بابي، وحشتني أوي! أول مرة تغيب عننا كده."
حملها على ذراعيه، وقبلها بحب، ثم احتضنها قائلًا بحنان:
"وانتي وحشتيني أوي يا قلب بابا، حقك عليا يا حبيبتي، غصب عني والله."
كان هذا الحب الأبوي يفيض من قلبه، يُشعره كأن الليل المطول قد انتهى بظهور شمس رنيم المتألقة.
نظرت رنيم خلفه باستغراب، وسألت ببراءة:
"أمال فين أبلة ترنيم، مجاتش معاك ليه؟"
كان سؤالها يدل على مشاعر الطفولة البريئة، والأمل الكبير في رؤية تلك المرأة التي اعتادوا جميعًا على محبتها.
أغلق سلطان عينيه بألم وعلت أنفاسه، فقد غلبه الحزن والقلق في ذات الوقت. عندما لاحظ ذلك، حملها حسام منه مبددًا قلقها، وقال بلطف:
"أبلة ترنيم عندها شوية شغل، ويومين وهتيجي. عمته سمية وتيتة فين؟"
مجرد وجود رنيم بجانبهم قلب أجواء المكان، لكن الأحاديث عن الغياب والافتقاد أثرت على الجميع، وكأن كل كلمة كانت تعبر عن قلق دفين يدور في قلوبهم.
أشارت رنيم بأصابعها الصغيرة إلى الداخل بطريقة مفعمة بالبراءة، قائلة بنبرة طفولية مليئة بالفرحة:
"عمته وتيته جوة، ومامي فوق في أوضتها."
تحركوا جميعًا إلى داخل المنزل، وعندما رأتهم سمية، لم تتمالك نفسها من الفرح. ركضت نحو سلطان عانقته بحب، قائلة بين دموع السعادة:
"أنا مش مصدقة نفسي، أخيرًا خرجت يا سلطان. ولما أنت خارج النهاردة، حسام مقالش لينا ليه!"
كانت دموعها تتألق في عينيها، معبرة عن فرحة امتزجت مع مشاعر القلق التي عانت منها طيلة غيابه.
ربت سلطان على ظهرها بحنو، متطلعًا إلى عينيها اللتين امتلأت بالحب، وقال:
"وحشتيني يا حبيبتي، معلش، حسام انشغل معايا في الإجراءات، عشان كده نسي يبلغكم."
ثم اقترب من والدته، قبل رأسها بشوق كبير، وعيناه تلمعان بمزيج من الحزن والأمل. ثم قبل يدها بحنان، وتحدث بصوت مختنق مما أثقل قلبه من الشوق: "وحشتيني يا أما، عاملة إيه؟"
في هذه اللحظة، كانت مشاعره وكلماته تحمل في طياتها كل الألم والحنين الذي عاشه بعيدًا عنها.
احتضنته والدته بدموعِ فرحة مختلطة، وقبلت رأسه بحب، ثم تكلمت بين شهقاتها، معبرة عن مشاعر سعادة لا توصف:
"حمد الله على السلامة يا نور عيوني، أخيرًا ربنا استجاب دعائي، ألف حمد وشكر ليك يا رب. ده أنا هدبح عجل وأفرقه على الغلابة، لأ، هدبح اتنين!"
كانت كلماتها تنضح بحب الأم التي عانت كثيرًا في غيابه، وتمتلك الأمل في لم الشمل مجددًا، وكانت مستعدة للاحتفال بحياته الجديدة مع كل أفراد العائلة.
تمسك بها سلطان كطفل صغير، وتحدث بنبرة موجوعة:
"محتاج دعائك الفترة الجاية، يا أما. أنا لازم أرجع كل حاجة راحت مني بالغصب."
كانت كلماته مليئة بالقلق والتوتر، كأنه يحمل أعباء العالم على كتفيه. نظر إلى والدته بعيون مليئة بالأمل والرجاء، منتظرًا أن تهمس له بكلمات تشجيع تعيد إليه بعضًا من روح الثقة التي فقدها. لكن الحمل الذي يشعر به كان ثقيلًا، وكان يعرف أنه يحتاج إلى مزيد من الدعم.
فهمت صباح مقصده، وربتت على ظهره برفق، كما كانت تفعل عندما كان صغيرًا، وقالت:
"ربنا يطمن قلبنا عليها، هي وخالتك وفاء يا ابني."
كانت كلماتها تعمل كبلسم على جروحه، تجعله يشعر بالأمان وسط الفوضى. تذكرت كيف كانا يجلسان معًا في السابق، يشاركان أحلامهما وآمالهما، وتمنت أن يعود زمن السعادة والهدوء. في تلك اللحظة، تمنى كلاهما من أعماق قلبهما أن تكون الأيام القادمة مليئة بالخيرات، وأن تتبدد كوابيس الماضي.
في تلك اللحظة، هبطت فريدة من الأعلى، واقتربت منه واحتضنته بسعادة مقبلة عنقه، قائلة:
"حمد الله على السلامة يا سيد المعلمين، كفارة! وحشتني أوي."
تنحنح حسام بإحراج، فقال:
"طيب، أنا هروح أشوف شغلي في الشركة. تأمرني بحاجة يا معلم سلطان؟"
نظر له سلطان باستغراب، وسأل:
"هي سمية مش بتروح الشغل ولا إيه؟"
نظرت سمية إلى حسام بتوتر، فتحدث هو سريعًا، موضحًا:
"أنا مرضتش أخليها تروح الشركة، خصوصًا الفترة اللي فاتت، كان فيه لبش كتير وتوتر. قلت أخليها في البيت زيادة أمان ليها."
أومأ سلطان برأسه، متفهمًا، ثم استقام بجسده، وقال:
"هطلع أريح جسمي شوية."
كان مجرد حديثه عن الراحة قد منح له شعورًا بالاستقرار الذي افتقده منذ فترة، لكن عمق القلق لا يزال في داخله، مستمرًا في المخاوف التي ستواجههم جميعًا في المستقبل القريب. تجول في ذهنه تساؤلات عن كيفية التصدي لكل ما هو قادم، وأي خطوات عليه أن يتخذها ليكون قادرًا على تجاوز تلك العتمة التي تغلف روحه، لكن في هذه اللحظة، كان لديه عائلته، وهو ما يعده أغلى ما يملك في حياته.
وقفت فريدة بجواره رغم تجاهله لها، وتحركت معه إلى الأعلى في حذر، تتبع خطواته، وكأنها تتشبث بآخر خيوط الأمل. بينما غادر حسام وذهب إلى الشركة، فريدة كانت تدرك أن تلك اللحظة كانت دقيقة للغاية، إذ إن أي تصرف غير محسوب قد يدفع سلطان للابتعاد عنها أكثر.
أغلقت الباب خلفها بحذر، لتشتت عن عالمهم المليء بالذكريات والألم، واحتضنت سلطان من ظهره، قائلة بصوت هامس يملؤه الشوق:
"وحشتني أوي يا سلطان."
كانت تعني كل كلمة، فقد كان غيابه كالغيمة الحالكة التي ظللت سماء قلبها، وأصبح همسها ملاذًا لها.
ابتعد عنها وقال بنبرة جادة، أعادها من عالم الأحلام الجميلة إلى واقع مرير:
"ما هو واضح فعلا أني وحشتك بأمارة أنك طول الفترة اللي فاتت دي، مجتيش تزوريني ولا مرة."
كلماته كانت كالسهم، أثرت في فريدة بشدة، وجعلتها تشعر بإحباط عميق وكانت كأنها تعتذر عن أيام البعد التي مروا بها وتعيد شريط الذكريات الأليمة.
اقتربت منه، محاولًة في حديثها تهدئة الأمور:
"ما أنا مكنتش هعرف أجي علشان رنيم، هسيبها فين بس. ومكانش ينفع أجيبها معايا تشوفك في مكان زي ده."
شعرت بفراقهما كفقدان جزء منها، وبدأت بوضوح تدرك حجم الألم الذي تعاني منه،
"وبعدين، يا قلبي، مكنتش هستحمل أشوفك في الوضع ده. بس صدقني، أنا كنت بموت في بعدك عني. كل يوم بنام ودموعي على مخدتي."
كانت تلك اللحظات تعكس كل ما داخل قلبها الجريح، أوشكت على البكاء لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة.
ثم اقتربت منه أكثر، وقبلت صدره برقة، قائلة:
"أنت عارف يا سلطان، أنا بعشقك قد إيه."
كانت لها عيون تلمع بالأمل، ولكن بين كلماتها كان هناك خوف من رد فعله.
ابتعد عنها واتجه إلى المرحاض، وهو يحاول التهرب من كل تلك المشاعر المتضاربة، وقال:
"جهزي ليا هدوم على ما أخد دوش بسرعة."
ثم أغلق الباب خلفه، وكلما أغلقه، زاد الشعور بالتوتر والقلق في قلب فريدة.
نظرت إلى أثره بضيق، شعور بالإحباط يتسلل إلى أعماقها، ثم اتجهت إلى خزانة الملابس وأخرجت له شيئًا يرتديه، يتراءى لها أن مجرد لبسه قد يعيد بعضًا من ذكرياتهم السعيدة. وبعد وقت، خرج وهو يضع المنشفة حول خصره، وجلس على السرير، يبدو وكأنه يحاول جاهدًا استعادة بعض من هدوئه. أمسك التيشيرت ليرتديه، لكن فريدة اقتربت منه بسرعة ومنعته، قائلة بنبرة إغواء تدل على شغفها المدفون:
"وحشتني يا سلطان."
كانت كلماتها كالسحر، تحاول استعادة لحظاتهم الجميلة معًا.
نظر في الاتجاه الآخر، وتحدث بنبرة مختنقة كما لو كانت الأعباء التي يحملها على كتفيه تتزايد:
"مش وقته يا فريدة، أنا تعبان دلوقتي."
كان صوته ينضج بالتعب والإحباط، محاولاً الابتعاد عن تلك الهالة المثقلة بالمشاعر.
اقتربت منه بجرأة أكثر، ممسكة بيده، قائلة:
"أنا هنسيك التعب واللي كان السبب فيه."
أغلق عينيه بضيق، وصورة ترنيم، التي ظلت تطارده ككابوس، ظهرت أمامه، مما أشعل النار بداخله. فتح عينيه وقد احمرت من كثرة الغضب، ورأى الملاذ الذي سيفرغ به غضبه، وكأنه كان يحتاج إلى مخرج كل تلك المشاعر المتخبطة. ومدام هي من تريد ذلك، فلتتحمل تداعيات اختياراتها. اقترب منها بكل عنف، وبدأ يخرج بها ما يختلج داخل صدره، كأنما كانت وسيلته لتفريغ الغضب الذي كان يسكنه. كانت اللحظة التي ستحسم أقدارهم تمامًا.
***************************
في مكان بعيد، تجمعت مجموعة من عونة الشيطان في الظلام، حيث كانت تحيط بهم همسات الشر، تخيم على الأجواء رائحة الخيانة والانتصار المنشود. كانت الأنوار الخافتة تعكس ظلالهم المتحور، وتصاعدت زفرات متوترة من أفواههم بينما كانوا يخططون لثورتهم الشريرة، متفقين على هدفهم الجهنمي: تدمير العالم وإعادة تشكيله حسب رغباتهم المظلمة.
تكلمت إحدى الفتيات، صوتها يرتجف من شدة التوتر، كما لو أن كلماتها كانت تعكس القلق المستعر في صدورهم:
"سلطان خرج النهاردة من السجن، بس على ما أعتقد أنه مش بقوة زمان، وبالذات بعد ما ضرغام اتجوز حبيبته."
كانت عيناها تلمعان بالتساؤلات، وقد تدور في ذهنها احتمالية أن يعود سلطان لماضيه القاسي ويأخذ ثأره.
رد عليها رجب بصوت غاضب كالرعد، كأنه يريد أن يردع أي تفكير في الأمل:
"بلاش تطمنوا اوي كده. سلطان ده عامل شبه القطط بسبع ارواح! يعني يومين بالكتير وهيرجع اقوى من الأول.”
كان وجهه مشدودًا وعينيه تحترقان بالحميمية، وكأن تحذيراته كانت تحذرهم من النزول في بحر من الوهم.
تكلم تامر، ابنه، غير مقتنعًا كأنه يحاول توجيه النقاش إلى أرض أكثر واقعية:
"الغبيه اللي اسمها حسناء دي مش هتعرف تعمله حاجة وهي لوحدها كده. الرجالة بتاعتها مش هيقدروا عليه، محتاجة دعم مننا. وكمان لازم نكون مستعدين.”
كان صوته يحمل علامات الاستعداد والتحدي، وكأن شعلة الشر تنبض بداخله.
تحدثت مريم، عيناها تشتعل غضبًا، وكأن النيران هددت أن تحرق كل من يعترض طريقها:
"أنا كان نفسي ننتقم منه في حبيبته أكتر من كدة. إيه يعني اتجوزت ضرغام؟ هيتوجع شوية وخلاص. كان المفروض قتلناها. بصراحة متغاظة منها أوي، بقى أنا تضربني وتشدني من شعري. أآه لو كانت قصادي دلوقتي، كنت شربت من دمها.”
كانت كلماتها مثل السهام، تسعى لدك الحواجز النفسية التي شكلتها طاقتهم السلبية.
نظر لها تامر بغضب، يستشعر الضغط المتزايد، مع قلبه يخفق بقلق عميق:
"ما تتلمي شوية يا مريم. دي مهما كان، اختي برضه. المفروض نكون ضد سلطان.”
تجاوزت أحاديث الغضب حائطًا مشتركًا، ليزداد الضغط عليه بنقاش كانت له أبعاد أعمق من مجرد عائلة.
نظر له رجب بحدة، متسائلاً بصوت يعلوه قلق عميق:
"فيه أيه مالك؟ هتحن ليها ولا إيه؟”
كان صوته دليل على الشك المتزايد، وكأنه يريد حسم الأمور قبل أن تخرج عن السيطرة.
تكلم تامر بنبرة مختنقة، كأنه يحمل وراء كلماته تعهدًا خفيًا:
"ما هي برضه اختي يا أبا، ووقفت قصاد ضرغام علشان ميأذنيش.”
ردت عليه مريم، عزمها واضح في كلماتها، لكل كلمة كان لها وقع السيف:
"مش اختك دي! اللي طول عمرها مدلعه على حس المعلم سلطان، وكانت مش معتبراك راجل في حياتها. فوق يا تامر، احنا هدفنا واضح من الأول: سلطان وترنيم!”
كانت مريم تتجه لصياغة أسلحة ارادتها الخاصة، في شكل خطط ملؤها الحماسة والاستعداد للفعل.
زفر تامر بضيق شديد، وكأن ثقل العالم بأسره قد وُضِعَ على كتفيه، ثم وقف من على مقعده، مغادرًا بينما تركهم في حالة من الاضطراب العاطفي. كانت قدماه تقودانه نحو خارج الغرفة، لكن عقله كان مشغولًا بأفكار تعاكس إرادته؛ كيف أصبح كل شيء يطارده بهذه القوة؟ بينما كانوا داخل تلك الغرفة، كان الصوت المضطرب للجدل يتردد في أذنه، يثير مشاعر من الرفض والاستياء بسبب الإحساس بالخيانة. مسلسل من الأحداث كان يتكاشف أمامه، ولا يمكنه تجاهلها.
نظرت مريم على أثره، وتبدى الغضب في عينيها كالعاصفة الرعدية القريبة:
"تامر محتاج يفوق. يا عم رجب، ابنك بدأت مشاعره هي اللي تتحكم فيه."
في تلك اللحظة، لم تستطع إخفاء إحباطها. كان من المفترض أن يكون هو القائد، لكنها شعرت بأنه يضيع في دوامة من المشاعر المتناقضة، مما يزيد في تعقيد الأمور أكثر.
أومأ برأسه، وقد غلفه الخوف، لكن القلب كان ينبض بعزيمة مصممة:
"سيبي عليا متقلقيش. أنا هعرف أبرمجه. اتصلي بالجماعة وبلغيهم أن سلطان خرج علشان يبقوا جاهزين للخطوة التانية."
كانت الكلمات تطل من فمه واثقة، لكنه كان يدرك في داخل نفسه أنهم جميعًا يواجهون عاصفة لا يمكن توقع نتائجها. كان يحتاج إلى خطة واضحة وعدم التفريط