رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان واربعة
ها هي سيارة المايباخ رابضة أمام مدخل القصر كظل ثقيل لا يتحرك تماما كما كانت عيناه ثابتتان لا تبرحان الباب الذي خرجت منه فقد ظل جالسا في المقعد الخلفي مائلا قليلا كأن التعب قد هد أركانه ولم يبق فيه سوى شبح رجل أنهكته الظنون.
رآها تخرج فتململت روحه بصمت وأنزل النافذة بهدوء كأن نبضه يتدحرج على زجاجهاوبعينين متخمتين بالسهر وقد خالجه شعور أثقل من الصمت ذاته قال بصوت خفيض متعب
اصعدي.
توقفت سيرين تتأمله بنظرة حذرة وقد ظنت أنه عاد للتو وجاء ليقذف عليها بعضا من اللوم الذي تجهز له مسبقا بفعل خبث دينا فتصلبت ملامحها وقالت بفتور جامد
إن كان لديك ما
تقوله فقله هنا.
مرت لحظة صامتة ثم نطق بصوت يشبه تنهيدة من خذل كبرياءه
تبقى نصف شهر...
اختلط شيء ما في عينيها لمعة دهشة خاڤتة وسريعة كوميض برق في ظلمة قلبها... ثم فتحت باب السيارة وجلست جواره بصمت مثقل بذاكرة لم تندمل... ولكنه وللعجب لم يتحدث عن دينا وهي لم تسأله عن سبب قدومه المفاجئ وقد بدا كأن كل الكلمات قد تهالكت ولم يتبق منها سوى ما يخبئه كل منهما في قلبه من حطام.
دارت عجلات السيارة واهتزت معها مشاعر سيرين لا تدري إلى أين تقودها هذه اللحظة... وفجأة بادر بتبديد السكون وقال بصوت جامد كأوامره القديمة
سنعود إلى قصر العائلة اليوم.
لم تفهم فاستدارت نحوه
بتساؤل يطفو على نبرة صوتها
لماذا ما الذي يحدث
رد بعد لحظة تردد بصوت خاڤت لكنه محسوم
اقتربت العطلة و... ألم تقولي يوما إنك تحبين البقاء معي في القصر
صمت انسكب كالمطر داخلها... كانت تريد أن تقول له
لم أكن أرغب في القصر بل فيك... كنت أتشبث بالجدران لأنك كنت هناك لا لأن الحجر يحملني بل لأنك كنت الأمان المتصدع الذي توهمته وطنا.
لكنها لم تقل شيئا... لأن الحقيقة باتت أوضح من أن تقال وما عاد هناك معنى للبوح فقد ماټت الكلمات في الزحام الذي بينهما.
لقد فكرت كثيرا الليلة الماضية... مرت على جسدها كل الاحتمالات حتى وإن لم تحمل الآن فهي لا تزال تملك سائلا
منويا له تتمثل في فرصة أخرى لتصنع حياة جديدة بعيدا عنه... أما عن نوح فالآن وقد حصلت على خريطة قصر الغابة وعرفت الطريق إليه فها هي تفكر كيف ستسترده... كل ما كانت تخشاه أن يتمسك بها ظافر حد الاختناق... فهي تعرف جيدا أن الهروب منه ليس سهلا وأنه قادر على أن يعيدها إليه عنوة حتى لو ابتلعتها الأرض.
لهذا لم يكن أمامها إلا الانحناء للعاصفة مؤقتا حتى تبني الريح التي تقتلع جذورها من هذا الچحيم لذا ابتسمت بنعومة ومالت برأسها قائلة
بالتأكيد.
كأنها توافق لكن في داخلها كانت تخط خطة نجاة.
كان صمت قصر نصران يخفي وراء جدرانه أفواها تراقب وتدين فعيون الخدم ومدبرات المنزل
كانت تتلو صلوات صامتة من
الكراهية تنظر إلى سيرين كما لو أنها دخيلة دنست قداسة المكان... أما ظافر فكان غافلا عن هذا الجليد الكامن في الزوايا عن هذا الاحتراق البارد الذي يحاصرها كلما خطت خطوة داخل هذا القصر الذي لا تكن له سوى النفور.
في الخارج كان المطر ينهمر كأن السماء تطهر الأرض من خطيئة لم يكشف عنها بعد... ضباب خاڤت يتموج في الأفق يحتضن الأشجار والجدران ويحول المشهد إلى لوحة غائمة من الحزن والتريث وما إن توقفت السيارة حتى خرجت سيرين برفقة ظافر خطواتها بطيئة محملة بثقل وهمي كمن يسير وسط مياه راكدة.
رفعت بصرها إلى القصر الماثل أمامها فتملكها شعور بالاختناق تواسي حالها... سبعة عشر يوما فقط ثم ينقضي هذا العبء
أو هكذا كانت تأمل.
كان الحارس يرفع مظلة سوداء فوق رأسيهما لكن المطر ظل يتسلل من بين أطرافها يأبى إلا أن يبلل أرواحهم لا ثيابهم فقط.
وقف حسن مدير القصر ينتظر عند المدخل ترافقه خادمة شابة ذات ملامح ناعمة وعلى بعد خطوات قليلة كانت لين تقف تتفرس في ظافر بنظرات ملؤها الانبهار نظرات فتاة تكتشف الحب من أول نظرة أو تتوهم ذلك.
قال حسن بصوت يحاول فيه الحفاظ على رسميته
سيدي ظافر لقد أعددنا لك غرفة نومك وستكون لين مسئولة عن راحتك وراحة السيدة تهامي طوال مدة إقامتكما هنا.
كان واضحا أن سيرين التقطت ذلك الوميض الساكن في نظرة لين نحو ظافر لكنه مر كما تمر رعشة برد شعرت بها لكنها لم تتوقف عندها.
اقتربت الفتاة من ظافر وقالت برقة متكلفة
هل هناك ما يمكنني مساعدتك به سيدي
رد ببرود دون أن يلتفت إليها
لا حاجة لي بك الآن يمكنك الانصراف.
كلماته كانت كصڤعة لطيفة لكنها محملة بكل ما يكرهه... فظافر كان يكره امتلاء القصر بالخدم يكره عبء الأصوات التي تتسلل في المساء والعيون التي تراقب خلف الستائر ولعل هذا ما جعله يهرب قديما إلى العيش في عزلة يبني عالمه الخاص البعيد عن الضجيج.
غادرت لين كمن فقدت فرصتها في حلم وردي بينما اتجه ظافر وسيرين إلى الغرفة المعدة لهما... غرفة كصومعة رمادية هادئة خالية من الصخب مصممة بذوق صارم يشبه وجهه حين يغضب.
بدلت سيرين حذاءها ودخلت تهم بتجفيف معطفها
من قطرات المطر التي تناثرت عليه غير أن ظافر وقف أمامها فجأة يقطع طريقها بعينين تشي بشيء لا يقال لكنه يحس.
ألا تتذكرين شيئا اليوم سألها بنبرة حانية تخفي تحتها شيئا من العتاب.
وقبل أن تجيبه اختطفها من لحظتها وحملها بين ذراعيه كما لو كانت قطعة موسيقى أراد عزفها بعيدا عن الضجيج.
قرب وجهه منها ففاحت منه رائحة خفيفة مزيج من عطر باهت وسجائر دخنها مؤخرا... نعم لقد عرفت تلك الرائحة وعرفت ما تعنيه لكنها تجاهلت السؤال الذي لامس أنفها أكثر من أذنها.
كان قريبا منها إلى حد لم تعتده منذ زمن إلى حد جعل قلبها يتذكر كيف كان ينبض له وكيف كاد أن ينساه ولما
طال صمتها تملكته موجة من التوق فوضع كفه خلف رأسها
وجذبها نحوه ثم قبلها.