رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وثمانية
عاد ظافر إلى قصره كما يعود الليل إلى سماء أنهكها النهار.
في داخل غرفة المعيشة الخاوية جلس ظافر على طرف الأريكة الجلدية السوداء يديه متشابكتان ونظره غارق في الأرض كمن يحاول انتشال نفسه من بئر بلا قاع.
لماذا الآن
لم يكن سؤالا بل طعنة أخرى في خاصرة تفكيره.
كيف تسللت سيرين من بين أصابعه وهو الذي ظن أنه يحكم القبضة على كل ما يخصها حتى أنفاسها
أعاد مشهد المكالمة في رأسه مرارا ذلك الصوت الآلي البارد كصفعة صامتة
عذرا... الرقم الذي اتصلت به غير متاح...
كأن الهاتف كان يعاقبه على خطاياه كلها ناطقا بالخذلان نيابة عن قلب ربما مات واقفا.
نهض فجأة يحدق في المرآة المعلقة فوق المدفأة فرأى انعكاس رجل مرهق لا يشبه القائد الذي اعتاد الجميع رؤيته.
شبح رجل بعينين ضائعتين ووجه شاحب كأنما شيخوخة العاطفة قد باغتته مبكرا.
اقترب من مرآته
ببطء يدقق النظر في انعكاس صورته ثم همس لنفسه بصوت متحشرج
أكنت ظالما أم كنت أحمقا... أحمقا ظن أن الحب يقاس بالسيطرة
أغمض عينيه للحظة فرأى وجهها... لم يكن بحاجة لتخيل ابتسامتها المنقوشة على جدران ذاكرته كما يحفر الجرح على الجلد.
كم مرة نظر إليها دون أن يراها وكم مرة سمع صوتها دون أن يصغي لنداءاتها الخافتة خلف الكلمات
وباغته صوت لين وهي تدعي البكاء ودموعها المزيفة كل هذا عاد يتسلل إلى عقله فشعر بوخز من الغضب لا نحوها بل نحوه هو.
كم من مرة صدق الكذب لأنه أراد تصديقه
نظر إلى الهاتف مرة أخرى يتفحص سجل المكالمات لكن لا جديد لكنه أصر واتصل... مرة... مرتان... ثلاث...
نفس الرسالة ونفس السكون القاسي بعدها.
جلس بصمت وأطلق زفرة من صدر مثقل
أين أنت يا سيرين أخبريني فقط... كيف أعيدك
وعندما لم يجد بدا صعد إلى غرفته ليأخذ حماما
باردا عله ينعش تفكيره كي يضع خططه لإيجادها.
فأين ستذهب ولا زال نوح في قبضته
خرج من المرحاض يرتدي ملابس جديدة تفوح منها رائحة الصابون والفقد يجلس على الأريكة وكأنها لا تسعه وساقاه الطويلتان تضجان بالضيق... شعره القصير لما يجف بعد وقطرات الماء العالقة في أطرافه بدت كأنها تسرد حكاية الاستحمام العاجل الذي لم يطفئ حرائق الداخل... وفي عينيه لم تكن هناك نظرة بل متاهة.
بعد قليل دخلت سيرين ولم ترمقه بنظرة واحدة وخطت بثبات داخلي إلى نفس وجهته السابقة متفادية أي نقاش ولكنها لعنة غباءها.
قال ظافر بصوت منخفض كأنما يخاطب صدى الغرفة لا امرأة تقف خلف باب المرحاض... يدها أدارت مقبض الباب عدت مرات ولم تظهر بعد
خلصنا سيرين... اخرجي... هل ستظلين بالداخل ما بقى من العمر.
شدت سيرين رداء الحمام حول جسدها بعصبية كما لو أنها تحصن نفسها من عاصفة على وشك
أن تقتلع صمتها وهمست برجاء مخنوق
اخرج.
لكنه لم يتحرك كأن أقدامه قد تشبثت بالأرض وقلبه علق في تلك البقعة منها.
ولما لم يحرك ساكنا خرجت على استحياء فاقترب منها بخطوات محسوبة وعيونه تنبش وجهها كمن يبحث عن كنز تحت رماد الانفعال.
لماذا أنت غاضبة
كان سؤاله بريئا حد السذاجة أو لعله كان يتمنى أن يكون الجواب بسيطا لكنه لم يكن قد بلغ حقيقة ما جرى بعد... كان ينتظر منها أن تفتح له باب الجحيم بكلمة لا أن يدخل وحده.
همست دون أن تنظر إليه وبنبرة خالية من أي شغف
لا يوجد سبب... أرجوك اخرج... أريد أن أغير ملابسي.
وقف ساكنا جامدا كمن يخشى أن يفسر الرفض على أنه خيانة ثم قال بصوت رتيب يحمل في طياته شيئا من الغرور المكسور
ليس وكأنني لم أرك هكذا من قبل من قبل.
احمر وجهها كما تحترق ورقة في مهب الاعتراف ورغبت للحظة في أن تفر
من ذاتها قبل أن تفر منه لكن لم يكن
أمامها خيار فاستدارت وبدأت بتغيير ملابسها وظهرها يواجهه كجدار شفاف يرى من خلاله الضعف والغضب والخذلان.
جلس ظافر على الأريكة مجددا عيناه معلقتان بذلك الظهر الذي خذله كما خذل قلبه وسرعان ما شعر بحرارة تتسلل إلى حلقه... حرارة تأتي من ارتباك داخلي فاض عن احتماله فأدار وجهه بسرعة كأنما يخشى أن تفضح نظراته أمام نفسه وأخرج هاتفه ليرى ما إن كان حارسه الشخصي قد أنهى المهمة... فوجد
تنبيه وارد
سيد ظافر نجحنا في دفع مدبرات المنزل للكلام بعد بعض الأساليب غير التقليدية... قلن إن الخادمة لين هي من أهانت السيدة تهامي أولا وهددتها بأنها ستخبر السيد الأب بما حصل ليطردها
فما كان من السيدة تهامي إلا أن غادرت القصر بإرادتها.
تجمدت أنفاسه كأن الغرفة قد انخفضت حرارتها فجأة وصوته الداخلي صاح فيه
وأنت أين كنت وامرأتك تهان بهذا الشكل يا wغد
كتب ظافر ردا سريعا موفده موجز
أحضروها إلى هنا.
أرسل الرسالة وأغلق الهاتف
ثم رفع عينيه نحو سيرين التي قد انتهت من ارتداء ملابسها لكن شيئا فيها لم يعد كما كان كأنها تخلت عن أنوثتها في سبيل الكبرياء.
سألها بنبرة تنوء بما تبقى فيه من حنان
لماذا لم تخبريني فورا
نظرت إليه مطولا ومن ثم ابتسمت بمرارة ساخرة وسألته بصوت خافت
ولو أخبرتك... هل كنت ستصدقني
ارتجف قلبه... لم يكن ردها سؤالا بل حكما نهائيا غير قابل للاستئناف ومن ثم تابعت بهدوء وكل كلمة كانت كقطرة حبر أسود تسيل في قلبه
سواء صدقتني أو لم تفعل كنت أعلم أنك لن تحرك ساكنا لأجلي.
لو لم تسمح أنت لما تجرأت خادمتك على إذلالي... أو تهديدي.
أنت السبب في كل شيء... لا أحد في عائلتك عاملني يوما كزوجتك.
أنا بالنسبة لهم مجرد امرأة صماء انتهازية تمسكت بك من أجل السلطة.
والثروة.
كانت كلماتها سكاكين مغروسة في كبريائه لكنها لم تكن تهتم إن نزف قد حصلت على ما جاءت من أجله... والمفتاح الأخير نحو إنقاذ نوح خريطة قصر الغابة لذا لم يعد هناك
ما تخشاه فأسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن يصرخ أن يثور أن يحطم شيئا ما لكنها كانت مستعدة لأي شيء من أجل نوح وزكريا ومن أجل أن ترى نفسها ذات يوم حرة.
كان صوتها ينساب كجرح مفتوح وكل كلمة تنزف من شفتيها دما لا يرى ومع ذلك ظل ظافر واقفا هناك قلبه يتأرجح بين أنقاض التبرير وهاوية الإنكار.
هل كنت مخطئا في تصديقي لما بدا منطقيا سأل نفسه بينما ارتسمت على ملامحه قسوة رجل لا يريد أن يكسر أمام امرأة جعلته يشك في مرآته... فهدر فيها بحدة
ألم تكذبي علي ألست من أخفى عني الحقيقة نطق كلماته ببطء كمن يحاول خنق ندمه قبل أن يتمرد عليه.
لكنه كتم الجزء الأشد قسوة الجزء الذي ظل يخنقه منذ اللحظة التي عرف فيها حقيقتها تلك التي خبأتها خلف جدران صمتها.
لم يفصح عن جرحه الأول حين اكتشف أنها كانت صماء وأن لا أحد من أهلها أنبأه بذلك قبل الزواج... لم يفصح رغم أنه كان على وشك أن يصرخ بها في وجهها لكنه اكتفى بنظرة مثقلة بما لم يتفوه به لسانه.
وفي المقابل كانت سيرين