رواية قلب السلطة الفصل الواحد والعشرون
التفت شامل ببطء، كمن انتزعته تلك الهمسة من وهم الغياب... ليجدها.
نيرفانا كانت هناك، على أولى درجات السلم، لا تشبه نفسها كما كان يراها دومًا...
وجهٌ شاحبٌ يكسوه بياض الغياب، وعينان ذابلتان، لا لضعفٍ فيها، بل لفرط ما ابتلعت من دموع دون أن تنكسر.
نزلت بخطى وئيدة، كأنها تحادث الأرض تحتها وتُنذرها بكل خطوة أنها آتية لا محالة، حتى وقفت أمامه، فاصطدم به صمتها قبل كلماتها.
رفعت نظرها نحوه، لا رجاء في عينيها، فقط يقينٌ موجع... وقالت بنبرة باردة، حاسمة، كأنها تقطع بها خيطًا أخيرًا:
– "جيت تسأل عن حال بنت صاحبك؟ بعد ما اتدمرت حياتي على إيدكم؟"
لم تكن الكلمات مجرد لوم، كانت كأنها تُطلق رصاصًا من خلف صدرها المكسور.
ارتجف شيءٌ ما داخله، لكنه تشبث بجدار صمته، قبل أن يتمتم:
– "مكنتش متخيّل إن رائد... ممكن يعمل كده."
رفعت حاجبها بسخرية مُميتة، وقالت دون أن تخفض عينيها:
– "أنتَ أكتر واحد كان شايف بعينيه وساكت... كل ما كنت بسأل، كنت تقول لي 'أنا فاهمه وعارف مصلحته'... بس ما كنتش شايف مصلحتي أنا."
نظرت إليه نظرة كأنها تطلّ من حافة عمرها القصير، ثم أكملت:
– "كنت دايمًا تقول لي أوس مش ليّ... كنت شايف إنك بتحميني، بس الحقيقة إنك كنت بتهدّ اللي جوايا. كنتوا بتقصّوا من روحي حتة حتة، باسم الخوف عليّا."
حاول أن يقاطعها، لكنها سبقت كلماته بصوتٍ مهزوزٍ من شدّة التماسك:
– "بعد موت ماما، كنت محتاجة ضهر... مش سور يسدّ النفس! كنت محتاجة حضن... مش قرار فوق دماغي. أوس ما كانش عدوي، كان الباقي منّي... وانتو اللي أخدتوه."
تمتم شامل بصوت مبحوح:
– "أنا... كنت خايف عليكي... كنت فاكر إنه خطر، وإني كده بحميكِ..."
لكنها قطعت اعترافه بوجعٍ خالص:
– "أنا اتأذيت... وبالطريقة اللي ما كنتش أتخيلها. اتخذت قرارات عنّي، وكل واحد فيكم ساهم في إني أوصل للحظة دي… لحظة أنا مش عارفة فيها أنا مين!"
سكتت لثوانٍ، ثم قالت بهدوء يشبه الرماد:
– "الأسف مش دواء... واللي راح، ما بيرجعش."
ثم مرّت من جواره، كأنها لم تكن هناك... وصعدت الدرج بخطى واثقة، ليس فيها غضب، بل خيبة عميقة اختارت أخيرًا أن تُدير ظهرها
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
حين يضحك الذئب قبل الانقضاض
ضحكته الأخيرة كانت أطول من اللازم...
تلك التي أطلقها بعدما هزّ كتفيه باستهانة، وهو يقول:
"أنا جاي أشرب معاكي فنجان قهوة."
لكن ليلى، ورغم استيائها، لم تكن تعلم أن الضحك في فم هذا الرجل... علامة نهاية.
فداخل بيت عائشة، كانت الأشياء تنكمش.
الحيطان تقترب، والزمن يتمطى على حافة خنقة خفيّة.
رائد ما زال جالسًا، لكن جسده يتحرك الآن بلا ضجيج، نظراته بدأت تسكنها قسوة لم تظهر في البداية، وصوته... بات أبطأ، أكثر نعومة، أكثر اختناقًا.
هو لم يأتِ ليشرب قهوته...
هو أتى ليختبر حدودها.
ولأول مرة، شعرت ليلى أن المسافة بين الأريكة والباب... أبعد من أي وقتٍ مضى.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
تنهّدت وهي تنهض بتوتر، ويدها تزيح خصلات شعرها عن وجهها كأنها تحاول أن تزيح الخوف أيضًا، ثم تمتمت بجفاف:
– "القهوة خلصت... تحب أعمل لك فنجان تاني؟"
رفع عينيه نحوها ببطء، كأن السؤال مسّه بلطشة سخرية، ثم قال بابتسامة مائلة:
– "لو على القهوة... ممكن أشرب عشرة. بس أنا مش هنا علشان القهوة، ليلى."
شدّت على قبضتيها دون أن تتكلم.
كان هناك شيء تغيّر في نبرة صوته... نفس الكلمات، لكن وراها حاجة أبرد، حاجة تقفل النفس وتخنق الهوا.
خطى نحوها خطوتين. ببطء.
– "قوليلي... كنتي فاكرة إنك لما تسيبي البيت وتروحي عند عائشة، هتبقي بأمان؟"
ردّت بنبرة حادة:
– "أنا مش هاربة منك، أنا بهرب من الجنون اللي بقيت فيه بسببك!"
ضحك، ضحكة صغيرة، خافتة، لكن عينيه ما ضحكوش خالص.
– "وإنتي فاكرة إني هسيبك تهربي؟!"
اتّسعت عيناها، وتراجعت خطوة لا إرادية.
لكن قدميه تقدمتا دون استئذان. لم يكن يركض، لم يكن يهجم… فقط يتحرك كأن الغرفة ملكه، وكأنها من ممتلكاته.
قالت بصوت حاولت أن تجعله قويًا، لكنه ارتعش:
– "رائد... بلاش تلعب اللعبة دي، مش هتنفعك."
– "أنا ما بلعبش."
همسها، ثم تابع، كأن كل حرف في كلامه مرسوم بسكين:
– "أنا جيت آخد اللي بتاعي... وهاخده، فاهمة؟"
تشنجت ملامحها، ورفعت يدها فجأة في وجهه:
– "إنت تتجننت؟! اطلع برا البيت فورًا!"
اقترب أكتر... المسافة ما بين صوته وهمس أنفاسه بقت تكاد تُسمع على الجلد.
ثم مال برأسه ناحيتها، وقال بنبرة لا تخطئها العين:
– "بس إحنا خلاص هنبقي زوجين رسمي، البيت بيتنا... مش بيت حد تاني."
همسها كان شبيهًا بالبكاء، لكنه خرج غاضبًا:
– "ده بيت عائشة يا مجنون، مش بتاعك!"
لكن إيده كانت أسرع من أعصابها المرتبكة.
مدّ يده بهدوء... وأغلق الباب خلفه.
ببطء.
بنقْرة واضحة.
بصوتٍ لا يعلو... لكنه دوّى في قلبها كأنها سُمعت في أعماقها:
نظرت إلى المقبض، وكأنها ترى مصيرها يُغلق أمامها.
ثم نظرت إليه.
كان واقفًا... لا يصرخ، لا يهاجم، لكنه يملأ المكان كله.
عينيه لم تعدا تعتذران عن شيء.
نطق بنبرة أشد خطرًا من السكون:
– "إحنا هنتكلم... لحد ما تفهمي."
وبينما وقف وجهًا لوجه معها، داخل شقةٍ أغلقت أبوابها، بدأت ليلى تدرك:
الليلة دي مش عادية...
والخروج منها... مش مضمون.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
والمفتاح... في يده.
تجمّدت ليلى في مكانها، تحدّق فيه كأنها ترى الغول الذي كانت تتظاهر بأنه رجل.
كأنها تدرك أخيرًا... أن رائد الذهبي لم يكن يومًا يطرق الأبواب ليُستقبل،
بل ليُقفلها خلفه.
ظلّ واقفًا أمامها، يلوّح بالمفتاح بصمت، كأنه يقول لها:
"البداية... لسه جاية."
: "المفتاح الذي لا يُردّ"
قلب السلطة – بقلم: مروه البطراوى 💜
في منزل عائشة، بعد مغادرة رائد...
حيث ما زالت رائحة قهوته في الهواء، وصداه يهمس في الجدران.
كانت ليلى تجلس على الأريكة، مشدوهة كأنها خارجة من حلمٍ لم تفق منه بعد... أو كابوسٍ لم ينتهِ بعد.
كفّها الأيسر كان مضمومًا بشدة، ما زالت تشعر بحرارة أصابعه حين أمسكها، تلك اللمسة التي لم تكن حنونة بقدر ما كانت... حيازة.
حاولت أن تفك أصابعها ببطء، كما لو أنها تحرّر نفسها من قيدٍ غير مرئي.
في قلبها... كانت النار تشتعل.
غضبٌ مكبوت، وقلقٌ متضخم، وألمٌ لم تستطع تسميته بعد.
"إزاي حصل ده؟!"
"إزاي لقيت نفسي وسط كل ده؟!"
"فين كانت عقليتي لما وافقت؟!"
أسئلة تتلاحق كطلقات، لكنها لم تجد لها جدارًا تصطدم به سوى صدرها المرتجف.
زفرت، ثم قامت واقفة دفعةً واحدة، كما لو أن الحركة تُسكت التفكير.
لكن صوت رائد كان يسبقها، يزحف من ذاكرتها كدخانٍ ثقيل لا يُطرد بسهولة.
> "بحبك يا ليلي... إنتِ الوحيدة اللي دخلتي قلبي يا حبيبتي."
تقلّبت الكلمات داخل رأسها، لم تكن ناعمة كما بدت لحظتها.
كانت رخوة… كذيل حية.
في صوته صدقٌ ما، لكنها لم تثق به.
كأن حقيقته كانت حقيقية جدًا… ومخيفة جدًا في الوقت نفسه.
ضمّت ذراعيها إلى صدرها، كأنها تحتضن نفسها من عاصفة بدأت في الروح… ولن تنتهي بالهروب.
الغد قادم.
والبيت الجديد قادم.
ورائد… رائد لن يتوقف.
لم تكن تعرف كيف ستبدأ الغد... ولا كيف ستنتهي هذه اللعبة.
لكنها كانت متأكدة من شيءٍ واحد:
رائد الذهبي... مش راجل بيتنسي.
ولا بيتكسَر.
ولا بيتوقّف.
وهي... في طريقها إلى قَلب الإعصار.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
خيطٌ في العتمة
قلب السلطة – بقلم مروه البطراوى 💜
في صباح اليوم التالي، استيقظت ليلى قبل صوت المنبّه.
النوم لم يزرها كما ينبغي، فقط غفوات مشوشة، ورؤى متقطعة… كلها تحمل وجه رائد الذهبي، يبتسم بثقة، أو يحدّق بصمتٍ بارد.
نهضت ببطء، اتجهت للمطبخ تصنع قهوتها بيدين مرتجفتين، تحاول أن تستعيد إيقاع يومٍ عادي… في عالمٍ لم يعد عاديًّا.
كانت عائشة قد عادت فجرًا، لكنها لم توقظها.
مجرد ضوءٍ خافت تسلل من تحت الباب كان كافيًا لتدرك أن البيت لم يعد خاليًا... لكن قلبها ما زال كذلك.
في تمام التاسعة، دخلت عائشة المطبخ، بشعرٍ منكوش ووجهٍ لم يُغسل بعد، وقالت بنبرة مشوشة:
– "ليلى... هو في حاجة حصلت وأنا مش هنا؟"
تجمّدت ليلى لثانية، ثم رفعت عينيها وقالت ببرود مصطنع:
– "رائد جه هنا."
كادت عائشة تُسقط الكوب من يدها.
– "إييييه؟!! وإنتي سِبتيه يدخل؟!"
– "ما دخلش... هو دخل لوحده."
– "إنتي بتهزري؟!! ده البيت بتاعي يا بنتي!"
ابتسمت ليلى، ابتسامة صغيرة، يائسة، وقالت:
– "عارفة. بس الظاهر إن فيه حاجات بقت بتتعدى المفاتيح."
جلست عائشة وهي تضع يدها على جبهتها، تحاول استيعاب المشهد.
– "عملك حاجة؟ قالك حاجة؟"
– "اداني مفتاح."
رفعت عائشة رأسها بدهشة:
– "مفتاح إيه؟!"
سحبت ليلى نفسًا عميقًا، ثم قالت بصوتٍ منخفض، وكأنها تخبر نفسها:
– "مفتاح بيتي الجديد... اللي المفروض أعيش فيه معاه."
سقط الصمت كحجرٍ ثقيل في قلب الغرفة.
لم ترد عائشة، فقط ظلت تنظر إلى ليلى بعينين تتّقدان قلقًا.
همست أخيرًا:
– "ليلى... هو بيلعب. رائد ده مش بني آدم سهل. مش كل الكلام اللي بيتقال بيتصدق."
رفعت ليلى عينيها وقالت:
– "عارفة. بس أنا كمان مش بقيت سهلة. مش هسمح له يكتب نهايتي… على مزاجه."
ثم نهضت، أخذت رشفة أخيرة من قهوتها، وقالت وهي تتجه لغرفتها:
– "لو ناوي يدخل الحرب دي، يبقى لازم يعرف إني هاعرف أقاتل... حتى لو باتكسَّر وأنا بضحك."
وتركت وراءها عائشة مدهوشة، لا تدري إن كانت ترى أمامها صديقتها القديمة،
أم امرأة جديدة تولد في قلب العاصفة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
فوق رقعة السلطة
قلب السلطة – بقلم مروه البطراوى 💜
في الطابق الأخير من المبنى الإداري لمجموعة "الذهبي للاستثمار"،
كان كل شيء يلمع… الأرضيات، الزجاج، الأوامر.
لكن الأشد لمعانًا كان الجالس خلف المكتب الأسود الكبير،
رائد الذهبي.
كان يجلس بظهر مشدود، بذلة رمادية داكنة، ساعة سويسرية لامعة على معصمه، وصوت ناعم يخرج من سماعة الهاتف أمامه:
– "تمت مراجعة العقود، وبُعتت النسخة الأخيرة على الإيميل، يا فندم."
أغلق الخط دون ردّ، ثم أدار الكرسي لينظر من خلف الزجاج المُطل على النيل،
لكنه لم يكن يراه.
كل ما يراه… كان وجهها.
ليلى.
وقفتها، وهياج صوتها، رعشة يدها حين صرخ فيها قلبها:
– "اطلع برا!"
ابتسم.
ليست سخرية… ليست حنانًا.
بل شيء ما بين المتعة… والانتصار المؤجَّل.
مدّ يده وسحب درجًا صغيرًا في مكتبه، وأخرج المفتاح الآخر.
نسخة ثانية من مفتاح بيت الزوجية.
لم يُعطها الأصل... طبعًا.
"فيه حاجات مش بتتسلم كاملة، حتى في الجواز."
أعاد المفتاح إلى مكانه، وأغلق الدرج بهدوء.
ثم ضغط على زرٍ صغير في جانبه الأيسر، فدخل أحد رجاله.
قصير القامة، ملامحه بلا انفعال.
– "أي جديد من ناحيتهم؟"
– "الواد أوس اختفى تمامًا من المنطقة. بس أختُه شوهدت داخلة قسم أكتوبر يومين فاتوا. واضح إنها بتحاول تسأل عليه."
– "خليها تدور… دي مشكلتها."
أومأ الرجل وخرج.
نهض رائد من خلف مكتبه، فتح زرًا في سترته، وسار نحو الخزانة الجانبية.
فتحها بهدوء… أخرج منها صورة قديمة، مطوية عند الحافة.
في الصورة:
نديم الغالي… والد ليلى.
ورجلٌ آخر، وطفلة صغيرة في الخلفية.
نظر إليها طويلًا، ثم همس:
– "فاكر يا نديم؟
قلتلك هتدفع التمن، بس بطريقتي أنا..."
ثم أدار وجهه إلى الزجاج مرة أخرى.
ليلى… بنتك،
هتدخل الحكاية برجليها.
وأنا؟
أنا اللي هأقفل الباب... وراها.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
صباح يوم العُرس – بصوتٍ مكتوم
كان صباحًا ساكنًا...
لكن الهدوء ما كان إلا سكون العاصفة قبل الهبّة الكبرى.
في جناحه الخاص، وقف رائد الذهبي أمام المرآة، يُعدّل رابطة عنقه بحركات محسوبة، كمن يستعد لخطبة سياسية لا لليلة زفاف.
وجهه خالٍ من أيّ لمحة عاطفية، عيناه ساكنتان... أشبه بمرآتين سوداوتين، لا ترى فيهما سوى نفسك خائفًا.
لم يكن وحده.
نيرفانا كانت واقفة خلفه، تراقبه في صمت، يدها الصغيرة مشبوكة عند خصرها، ثم قالت بصوتٍ خافت، فيه مزيج من براءةٍ ودهشة:
– "بابا... شكلك مخيف النهاردة!"
لم يلتفت، اكتفى بنظرةٍ جانبية عبر المرآة، ثم سأل دون انفعال:
– "ليه؟ لابس بدلة سودة يعني؟"
هزّت كتفيها، ثم تمتمت:
– "مش عارفة... بس وشك مش مبسوط."
توقّف لحظة، كأن كلماتها اخترقت حائطًا داخله، ثم قال بنبرةٍ أخفض:
– "مش لازم أكون مبسوط علشان أتجوز... في ناس بتتجوز علشان تكسب."
رفعت حاجبيها بدهشة، لكنها لم تسأل.
هو لم يكن في مزاج الشرح... ولا الشفقة.
دخل شامل بعد طرقٍ سريع، وهو يصفّق يديه بتحيةٍ خفيفة:
– "صباح الفل، يا عريس!"
أدار رائد رأسه نحوه ببرود، ثم قال وهو يربت على صدر بدلته:
– "اتأخرت."
– "معلش، قابلت يقين تحت، كانت بتتخانق مع الميكب أرتيست... شكلها مش راضية عن المكياج."
قطب رائد جبينه، ثم قال:
– "مش وقته خالص."
اقترب شامل، وابتسم وهو ينظر إلى نيرفانا:
– "يلا يا أميرة، جاهزة تشوفي ماما ليلي لابسة فستان أبيض؟"
نظرت إليه نيرفانا، ثم إلى أبيها، ثم قالت بحذر:
– "ماما ليلي ما كانتش عايزة تلبسه... كانت زعلانة لما شافته."
توتر الجو فجأة.
نظر شامل إلى رائد بنظرةٍ سريعة، كأنه يقرأ وجعًا لا يريد أن يظهر.
أما رائد، فاكتفى بأن أغلق زرّ سترته بقوة، ثم قال بنبرةٍ قاطعة:
– "أنا هنزل بالعربية، نيرفانا معايا، وإنت خد يقين وتعالوا على القاعة."
– "عايز نعدي عليها؟ ولا هي هتيجي من عند الكوافير؟"
رد رائد بحدة:
– "هي في البيت... ولسه ما لبستش كمان. وصلها إنت."
أومأ شامل، ثم غمز لنيرفانا ممازحًا:
– "حافظي على بابا... شكله هيكهرب اللي حواليه النهاردة!"
ضحكت نيرفانا بخفة، لكنها حين خرجت مع أبيها، شدّت على يده دون أن تدري، وكأن شيئًا فيها يشعر أن هذا اليوم ليس كما يُقال عنه دائمًا "أسعد يوم في العمر".
أما شامل، فقد وقف في الردهة لحظة، نظر نحو السلم، ثم تمتم لنفسه:
– "مبروك يا ليلى... اتكتبلك تمشي في طريق، من أوله نار."
ثم هبط الدرج، وقلبه مائلٌ لامرأةٍ… لن تكون له أبدًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
مرآة العروس – من عند ليلى وهي بتستعد
في غرفة النوم الواسعة داخل منزل عائشة،
كان كل شيء معدًّا وكأنه مشهد من فيلم رومانسي:
فستان أبيض مُفروش على السرير،
طاولة تفيض بأدوات التجميل،
ورائحة البارفان تنساب في الهواء بهدوء.
لكن داخل ليلى...
كان المشهد أبعد ما يكون عن أي فرحة.
جلست أمام المرآة، شعرها مرفوع، وجهها قد خضع لتلك اللمسات الاحترافية من خبيرة التجميل...
ولكن عينيها؟
لم يقدر أحد أن يخبّئ توترهما.
كانت تتأمل انعكاسها بصمت،
كأنها تحاول تقرأ وشها، تفهم إيه اللي حصل...
إزاي وصلت هنا؟
همست لنفسها، كأنها تحكي لظلها:
– "هو ده؟ ده شكل البدايات الجديدة؟"
مرّت أصابعها فوق فتحة الصدر بفستانها، ببطء، وكأنها تتحسّس قرارًا لا يزال غريبًا عنها.
دخلت عائشة دون استئذان، وكانت تبتسم، لكن أول ما شافت ملامح ليلى، اتكسرت ابتسامتها على الفور.
– "ليلى... مالك؟"
رفعت ليلى عينيها، قالت بنبرة هادئة جدًا... مخيفة في هدوءها:
– "عادي... العرايس بيبقوا كده قبل الفرح، صح؟"
اقتربت منها عائشة، وضعت يدها على كتفها، وقالت:
– "ده مش توتر... دي حاجة أعمق. أنا شايفاكي، ومش هكدب عليكي... إنتِ مش مبسوطة."
ابتسمت ليلى بسخرية:
– "أنا مش فاهمة نفسي أصلًا...
مش عارفة أنا واقفة هنا ليه.
كل اللي جوايا بيصرخ إني أهرب...
بس مش قادرة. كأن في حاجة أكبر مني بتدفعني أكمل."
سكتت لحظة، ثم همست:
– "إنتي مصدقة إن فيه حب ممكن يبتدي من بعد كره؟ من بعد وجع؟"
عائشة تنهدت، وقعدت جنبها، وقالت بهدوء:
– "أنا مصدقة إن اللي بيبدأ من الرماد... بيكون إما نار تاني، أو نور.
بس محدش يقدر يعرف غير لما يخوض."
سكتت ليلى، ثم همست:
– "رائد مش بني آدم عادي يا عائشة...
كل حاجة فيه بتشد وتخوف في نفس الوقت.
أنا لما ببص في عينيه... بحس إني بتوه، وبنط في حفرة، بس قلبي مش بيوقف."
هزّت عائشة رأسها بتفهم، ثم قالت:
– "يعني بتحبيه؟"
نظرت لها ليلى نظرة طويلة، ثم قالت بصوتٍ مكسور:
– "مش عارفة...
بس أكيد مش بكرهه.
وأكتر حاجة بخاف منها...
إني أحب حد قادر يأذيني بالشكل ده."
وقفت فجأة، كأنها تحاول تهرب من أفكارها، وأمسكت بالفستان الأبيض المعلّق، قربته منها، وضمته لصدرها...
ثم قالت، وعيناها تلمعان بخوفٍ خافت:
– "ساعديني ألبسه... قبل ما أغيّر رأيي."
وقفت عائشة خلفها، وبدأت ترفع سحاب الفستان بصمت، لكن نظرتها في المرآة لم تكن خافية.
كانت ترى ليلى تُساق نحو مصيرٍ تعلم أنه لن يكون سهلًا.
لكنها لم تمنعها.
لأن في حكاية زي دي...
مفيش حد يقدر يمنع النهاية، لما تكون بدأت فعلًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
❖ عودة العروس... وخنقة الورد
عادت "ليلى" إلى منزلها بصحبة "عائشة"،
لكن خطواتها لم تكن خفيفة كما تتوقّع العرائس في مثل هذا اليوم...
بل كانت ثقيلة، تجرّ معها بقايا شك، وذيلًا من توترٍ لم تفلح ابتسامات عائشة في تبديده.
فتحت "نيفين" الباب بنفسها، وعيناها تلمعان برطوبة الفرحة،
ذلك النوع من الفرح المتوتر... الذي يخشى العين، ويخشى الفأل، ويخشى أن يكون مُعلّقًا على حبل نوايا غير مرئية.
ألقت "عائشة" حقيبتها بارتياح على أقرب مقعد، ونادت بمرحٍ مفتعل:
– "ها يا طنط نيفين! إيه رأيك في اللي حصل امبارح؟"
لكن نيفين لم تجب مباشرة.
كانت عيناها معلقتين على ابنتها، كأنها تراها لأول مرة، ترتدي هذه الملامح الجديدة... ملامح العروس، المختلطة بالحيرة.
اقتربت منها بخطواتٍ حذرة، يديها تمتدان تلقائيًا كأنها تلمس حلمًا قديمًا تحقق... أو كأنها تطمئن أن ابنتها ما زالت هنا، في البيت، قبل أن تُسلَّم لرجلٍ آخر.
لمست شعرها بحنان، وربتت على رأسها كمن يُهوّن عن نفسه قبل أن يُهوّن على غيره، ثم تمتمت بصوتٍ مبلل:
– "ما شاء الله... قمر في تمامه، يا حبيبتي."
لكن ليلى لم تكن في مزاجٍ يسمح بعواطف كبيرة...
زفرت بقوة، وقالت بجفاءٍ خفيف:
– "ماما، بليز... مش ناقصة دموع. أنا نفسيتي متلخبطة كفاية."
نيفين ابتسمت رغم كل شيء، كأنها تُصر على الفرحة حتى لو جاءت فوق الرماد:
– "غصب عني يا بنتي... ده اليوم اللي بستناه من سنين."
وقبل أن يزداد الجو عاطفة، تسللت "شكران"، خالة ليلى، بتهنئة مقتضبة، باردة كأنها تُؤدّي فرضًا:
– "مبروك يا ليلى."
ردّت ليلى بنفس البرود:
– "الله يبارك فيكي يا خالتو."
كانت الكلمات تُلقى في الهواء، لا أحد يُمسك بها، ولا أحد يطلب لها دفئًا.
أعادت "عائشة" السؤال على "نيفين"، بإلحاح يشبه الأطفال:
– "ما قولتيش، رأيك في اللي عملته امبارح؟"
هزت نيفين رأسها، وابتسمت بهدوء:
– "جميل يا شوشو... طلعتي أختها فعلًا، حسيت إني شايفة بنتين من بطني، مش بنت وصاحبتها."
ضحكت عائشة بسعادة، وقالت بنبرة حماس:
– "خلاص، نجهز بقى... يلا يا عروسة!
يا طنط نيفين، ١٥ دقيقة بس، نلبّسها الفستان ونرجع."
أومأت نيفين، ثم التفتت نحو شكران:
– "تعالي معايا نشوف الضيوف... البلد مليانة ناس النهارده."
وانسحبتا، بينما بقيت ليلى واقفة في منتصف الغرفة،
تنظر إلى الفستان الأبيض المعلّق، كأنه حبلٌ مشدود بين مستقبلين...
واحد تعرفه جيدًا وتخافه،
وآخر... لا تعرف عنه شيئًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
المرآة التي لا تقول الحقيقة
غادرت نيفين وشكران الغرفة، تاركتين عائشة وحدها مع ليلى...
ذلك الهدوء المؤقت لم يكن سلامًا، بل هدنة مشحونة بالتوتر.
وقفت ليلى أمام مرآة الخزانة الطويلة،
تنظر إلى انعكاسها، لا بعين فخرٍ، بل بعين غريبة لا تكاد تعرف نفسها.
كأنّ المرآة تُعيد إليها فتاة أخرى...
أخرى أضعف، أقل صمودًا،
فتاة وافقت على مصيرٍ لم تختَره بكامل إرادتها، لكنها لم تعرف كيف ترفضه!
اقتربت عائشة منها بهدوءٍ ناعم، كأنها تتحرك داخل حقل ألغام،
ثم شرعت تخلع عنها المئزر الأبيض، وترفع الفستان الثاني – الفيروزي الهادئ – فوق رأسها برفق.
كان الفستان ضيقًا من الأعلى، ينسدل بانسيابية على جسدها،
راقَ لعائشة... لكنه لم يرق لقلب ليلى.
نظرت ليلى إلى كميّ الفستان المزركشين، تتأمل البريق الصغير،
لكنها تعمّدت ألا تنظر إلى وجهها...
كأنّ انعكاس عينيها قد يفضحها، أو قد يواجهها بما تحاول دفنه.
لم يكن الفستان يُشعرها بأنها عروس...
بل أسيرة بحُلةٍ جميلة، تتهيأ لمصيرٍ لا تستطيع تغييره.
"ليه قبلت؟
فين قوتي اللي كنت بفتخر بيها؟
فين كرامتي اللي كنت بحارب علشانها؟
كل ده... راح؟"
كان صوتها الداخلي يُلحّ بأسئلة لا تريد لها إجابة،
أسئلة تعلم جيدًا أن الرد عليها سيُوجع أكثر مما يُشفي.
لكن قبل أن تغرق أكثر،
قطع صوت عائشة أفكارها المرتبكة:
– "يالهوي على جمالك يا ليلى! مش ممكن…"
لم ترد، فقط التفتت إليها، تتساءل بعينين باهتتين:
– "هو شكلي حلو فعلًا؟"
أومأت عائشة بحماسةٍ لا تكاد تُصدّق أن صديقتها أصبحت العروسة:
– "حلو؟ إيه السؤال ده؟
إنتي فتنة يا شيخة!
الفستان لابقلك جدًا… عارفة؟ نيرفانا لما اختارته ليكي كانت شايفاكي بعنيين أبوها!"
لكن الجملة الأخيرة، سقطت ثقيلة على قلب ليلى.
كأن ذِكر نيرفانا، واختيارها للفستان، أعادها إلى حقيقةٍ كانت تحاول تناسيها…
أن كل شيء – حتى ملابسها – تم اختياره بمعرفة "رائد"،
كأنها ضيفة في حفلٍ أعدّه هو بكل تفاصيله.
هزّت رأسها ببطء، وقالت بجفاف:
– "مش عارفة أحس بحاجة..."
لم تفهم عائشة ما تعنيه، فابتسمت لتخفف الأجواء، وقالت بمزاحٍ ناعم:
– "إحساس إيه اللي مش جاي؟
يمكن تحسي لما تشوفي العريس نفسه…
ده حيلبس بدلة سودا يا بنتي... هيأكلك بعينيه!"
لكن ليلى قطّبت جبينها، وقالت بحدةٍ هادئة:
– "عائشة، بلاش الكلام ده، بالله عليكي… مش طايقة الهزار ده دلوقتي."
سكتت عائشة لحظة، ثم أومأت بحرجٍ خفيف:
– "حاضر... أنا بس كنت بحاول أفكّك شوية، سامحيني."
ساد الصمت بينهما قليلًا،
قبل أن تعود ليلى إلى المرآة، تُصلح خصلات شعرها بصمت،
بينما وجهها لا يزال متيبّسًا، كأن الفرحة أُغلقت عنه…
ولا شيء فيه يعكس سعادة العرائس.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
وصول الذهبي...
وفي تلك اللحظة، ارتفع ضجيج في الخارج، تلاه صمتٌ مشحون بالترقب، قبل أن تدوي ضحكاتٌ خفيفة وهمساتٌ متقطعة من بعض النسوة، كأن الهواء نفسه تهيّب القادمين.
نظرت "عائشة" إلى "ليلى"، التي كانت تقف شاحبة أمام المرآة، وقالت بصوتٍ خافت، أشبه بالهمس:
– شكله وصل...
لم تنطق ليلى، فقط شهقت بصمت، كأن الهواء انقبض في صدرها.
في الخارج، وقف "رائد الذهبي" عند بوابة المنزل، كمن يدلف إلى مملكته الخاصة.
كانت خطواته واثقة، بطيئة، محسوبة، تشي برجلٍ يعرف قدر نفسه ويقصد كل حركة.
ارتدى بدلة سوداء فاخرة، دون ربطة عنق، كما يُحب، مما زاد من وقاره المتعجرف.
وفي ذراعه، كانت "نيرفانا" تتعلّق برشاقة، ترتدي فستانًا أبيض قصيرًا بكمٍّ دانتيل، أشبه بإكسسوارٍ بشري يُكمّل المشهد.
حين رأته النسوة، خُطفت أنفاسهن، لكن الانبهار سرعان ما تحوّل إلى وشوشاتٍ لاذعة.
قالت إحدى القريبات، بصوتٍ لا يخلو من الطمع:
– إيه ده ياختي؟ إيه العريس ده؟ عارف قيمته قوي!
لترد أخرى، وهي تزمّ شفتيها:
– وداخل ماسك في بنته كأنها توب ماركة! هي الناس دي بتتجوز ليه أصلًا؟ ما شكلهم مش ناقص حاجة.
أما شكران، فابتلعت كلماتها، قبل أن تنطق بخبثٍ متعمد:
– ما هو غني أوي... والبت "ليلى" شكلها دخلت اللعبة الكبيرة فجأة!
ضحكت الأخرى بتواطؤ:
– بنت مدرسة؟ وجابت ده؟ طب واحنا بنتعب ليه بقى؟!
كانت نيفين واقفة تراقب المشهد من بعيد، تقاوم توترها بابتسامة مصطنعة، قبل أن تتقدّم نحوه بخطوات بطيئة.
وحين وقفت أمامه، هزّت رأسها وقالت بأدب محسوب:
– أهلًا وسهلًا يا رائد بيه... البيت نوّر.
أومأ رائد لها بهدوء، وقال بصوته الذي لا يعلو، لكن لا يُعارَض:
– الله يبارك فيكِ... وشكرًا على كرم الضيافة.
صافحها بأدب، دون مبالغة، ثم التفت دون أن يُطيل النظر، كأن الزيارة بالنسبة له واجب يُؤدى، لا لقاء عائلي دافئ.
فيما كانت أعين النسوة تُتابع المشهد بشهقة مكتومة،
تقدّمت "نيرفانا" قليلًا للصف الأمامي، وهمّت أن تسأل عن "ليلى"،
لكن رائد أمسك يدها بلطفٍ ضاغط، وقال بنبرة قاطعة:
– خليكِ جنبي دلوقتي، يا نيرفانا.
أومأت برأسها مطيعة، وهي تدرك نبرة أبيها التي لا تحتمل الجدل.
في هذه الأثناء، كانت ليلى خلف الجدار، تسمع وقع الأقدام والهمسات، لكن لم تجرؤ على النظر من خلف الباب.
كان قلبها يدقّ كأنه يُحذّرها من شيء قادم... شيء أكبر من قدرتها على التحمل.
