رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والعشرون
رفعت سارة رأسها ببطء وعلت شفتيها ابتسامة مشبعة بالسخرية كأنها ترفع مرآة تحاكي عبثية الموقف لا احترامه قالت بصوت مغموس بالمرارة
يا له من سؤال عبقري ألم تكن أنت من طلب الطلاق أم أن ذاكرتك قد تجمدت كثلوج هذا اليوم
لم يجب أحمد بل تقدم منها خطوة خطوة واحدة كانت كافية ليمتد ظل التهديد فوقها سكنت المسافة لكن صوته كان سكينا يجرد السؤال من براءته
هل كنت معه في الأيام الماضية
اقترب بما يكفي لتشتم أنفاسه المختلطة بالبرد والغضب ورأت في عينيه بقايا جنون دماء تجمعت خلف بياض عينيه كأنها على وشك الانفجار وملامحه انعقدت في عبوس يشبه من يتحضر لارتكاب خطيئة
هزت رأسها بسرعة وكأنها تطرد التهمة عن جسدها قبل لسانها
لا كل ما في الأمر أنه أوصلني لم أستطع إيجاد سيارة أجرة الثلج كان الطريق موصدا
ضحك أحمد ضحكة قصيرة ساخرة من النوع الذي يربك الهواء ويخنق التبريرات قال
سارة
ألا تعلمين أنك دوما تنظرين للأعلى عندما تكذبين هذه العادة لم تتغير أبدا سنة كاملة من المماطلة من التردد وفجأة تقررين توقيع الطلاق هل كان ظهوره كافيا لقص خيوطنا هل هربت من والدك لأجله
لم تحاول الدفاع لأنها تعرف أن الدفاع في حضرة أحمد لا يبرئ بل يدين لم تقدم على اختلاق كذبة تهين بها عقلا كعقله فالتبرير هنا خيانة إضافية للمنطق
همست وهي تزيح عن قلبها آخر ذرة خضوع
لا يهم دعنا ننهي أمر الطلاق فحسب
لكن أحمد لم يسمح لها بالهرب من المشهد قبض على معصمها برفق ظاهري لكنه كان كافيا ليوقظ الألم في عظامها ارتسمت على وجهه ملامح رجل يفكر بجريمة لا يخشى ارتكابها وقال بنبرة خافتة لكنها كفيلة بأن تسكت الريح
كنت أظن أن الطلاق هو العقاب الأمثل لك لكنني غيرت رأيي
نظرت إليه بدهشة كمن لا يصدق أن السكين لا يزال في يد الجزار
ماذا قلت
اقترب منها وعيناه تضيقان بحقد قديم وقال
لا
أريد الطلاق الآن
ثم مد يده ببطء تمردت أصابعه على وجنتها كأنها تكتب سطرا في صفحة لم تنو قراءتها وهمس
سيدة أحمد هل يسعدك هذا اللقب
لو سمعته قبل نصف شهر لارتجف قلبها من فرط الشوق أما الآن فقد شعرت بالغثيان لمسته صارت كالبرد على جرح مفتوح لا تسكنه بل توقظه صرخت بانكسار لا يجامل
اتركني! أحمد أريد الطلاق الآن!
ولم يمهلها رفعها بذراعيه وكأنها لا تزن شيئا كأنها حقيبة سفر يقرر وجهتها وحده عناقه الذي كان يوما ملاذها صار زنزانة تخنقها
صرخت
دعني! أحمد هل جننت
كانت ضعيفة لا بقوة النوع بل بضعف الجسد المنهك من علاج كيميائي نخر العظم والعصب لم تكن قادرة حتى على مقاومة قيد من حرير فكيف بقبضة رجل ملأه الغضب
وضعها في المقعد الخلفي كمن يحكم قفل قفص ذهبي وهي تلهث كأنها خرجت من معركة
نظرت إليه وعيناها تمتلئان بأسئلة دامية
أحمد ماذا تريد مني ما الذي تسعى إليه
خلع ربطة عنقه
ببطء كمن يتحرر من قانون المدينة وعلت عينيه ابتسامة صفراء ساخرة
ماذا أريد
ثم أردف بصوت يشبه طرق الحديد البارد
أريدك أن تعيشي في الجحيم هل ظننت أنني أحمق كفاية لأمنحك حريتك لتذهبي إلى رجل آخر ظننتك أذكى لكنك رخيصة يا سارة أقسمت أنك لن توقعي أوراق الطلاق ثم لم تلبثي أن ارتميت في طبيب إلى هذا الحد كنت جائعة
كانت سارة تصارع ألم رأسها المتفاقم لكن كلمات أحمد كانت أكثر قسوة من أي صداع
انكفأت على نفسها وعضت شفتيها كي لا تبكي ثم رفعت عينيها وقالت بحدة
ألم تكن أنت أول من أراد الطلاق أنت من خنتني أولا! فلماذا تثير كل هذا الغضب لأنني أريد رجلا آخر! لماذا!
لم يجب بل أمسك بذقنها بيده كمن ينذر قبل الذبح وقال بجمود
كل البشر يستحقون السعادة إلا أنت
ثم اقترب منها وهمس كما لو كان يملي على القدر تعليماته
أنا صاحب الكلمة الأخيرة في طلاقنا تذكري هذا
تدلت ربطة عنقه الحريرية
فوق وجهها ولمست خديها المتوترين كان معطفه الصوفي الفاخر ناعما للغاية ناعما لدرجة مؤلمة وكان تصرفه أشبه بملك اعتلى عرشه على أنقاض الآخرين
لم تكن تعلم أن ذروة غروره لم تبدأ بعد
بينما كانت السيارة تشق طريقها عبر الحواجز الأمنية كأنها تشق صدر المدينة الباردة لمحت سارة في الجهة المقابلة طابورا طويلا من السيارات المتوقفة كأن الزمن نفسه قد توقف هناك أو أصيب بالذهول
وفي مقدمة الزحام كانت هناك بورش كايين تحطمت مقدمتها على حاجز معدني كما لو كانت قد اصطدمت بالحقيقة فجأة
انكمش وجه سارة شحب اللون من خديها وتشنج صدرها حين تعرفت على السيارة
أليست هذه سيارة باسل!
صوتها خرج مخنوقا بالذعر ثم انفجرت فجأة تصرخ من أعماقها
قف! أرجوك قف!
لكن كيلفن كان أذكى من أن يطيع أو ربما أجبن من أن يخالف أوامر سيده تجاهل توسلاتها واستمر في القيادة كأن الطريق لديه أهم من الدماء
تشبثت سارة بمقبض الباب تحاول فتحه لكنها لم تمهل يد قوية جذبتها من معصمها وفي لحظة سقطت بجسدها المنهك
نظر إليها
بنصف عين وصوته خرج باردا كسكين فسر على مهل
أحقا تشعرين بالأسف عليه
عيناه كانتا متسعتين بالسخرية ولكن في عمقهما جمرة غيرة لم تنطفئ لا بالمنطق ولا بالطلاق
صرخت فيه بقوة
هل جننت باسل لا يهتم بوالدي في المستشفى إلا لأننا خريجان من الجامعة ذاتها ولا شيء بيننا
همس كمن يسكب السم في كأس من العتاب
إذا كان كذلك لماذا ارتجف صوتك حين رأيت سيارته لماذا اقشعر جسدك وكأنك فقدت أحد أطرافك
ثم اقترب ووضع يده على خدها بلين خادع وقال بصوت يشبه غناء الغراب
أتعلمين لماذا أفعل هذا لأنك كلما شعرت بالذعر شعرت أنا بالسعادة
في لحظة ضعف غريزية تشبثت سارة بقميصه كمن يمسك بسكين جرحه وقالت بتوتر مشتعل
أحمد أبي هو من تكفل بدراسة جودي لا أقصد ليا حتى لو حتى لو كان بينهما شيء لا أصدق أن والدي كان سيؤذيها
وما إن خرج اسم ليا من فمها حتى تغير وجه أحمد
الابتسامة الساخرة تحولت إلى عاصفة من الغضب
ودون إنذار دفعها عنه بلا رحمة كأنها تفوهت باسم شيطان محظور
ليس
من حقك أن تنطقي باسمها! قالها بأسنانه لا بشفتيه
اصطدم جسدها بباب السيارة وهي أصلا كومة من الضعف شعرت بعمودها الفقري يصرخ وبالأنين يتصاعد داخل صدرها كغيمة تخنقها
انهارت في زاوية المقعد ضامة نفسها إلى صدرها كجنين يبحث عن رحم يحميه أغمضت عينيها لا لتنام بل لتنجو الألم الآن له أكثر من وجه في الجسد في القلب وفي الكرامة التي تركت على قارعة الطريق
وبينما كانت تتوارى في صمتها فكرت لحظة الحمد لله أنني وضعت القليل من أحمر الخدود قبل الخروج
الزيف هو ما تبقى لها زيف المظهر وزيف القوة
أحمد من جانبه فسر صمتها على طريقته
ظن أنها غاضبة أو تلعب لعبتها القديمة
ابتعد عنها أخيرا ولكن وجهه لا يزال مشتعلا حين وصلا إلى منزله كانت أضعف من أن تتحرك الجسد صار ساحة حرب والروح صارت رمادا
وحين ترجل أحمد تقدم كيلفن وفتح الباب الخلفي هامسا بلطف نادر
سيدة أحمد هل تشعرين بتوعك
لكن قبل أن تنبس بحرف جاءه الرد من أحمد كحد السيف
لا تصدقها إنها
مجرد حيلة قديمة تعتقد أنها لو تصرفت كمريضة سأشفق عليها
كان يقصد العام الماضي حين حاولت استمالة عطفه بالضعف فخسرت حتى الشفقة
والآن لم يعد يملك صبرا للتمثيل
قال بصوت مشحون
إن لم تخرجي الآن سأبدأ بتمزيق عائلة باسل
في يدها كان الهاتف لا يزال ساخنا من رسالتها إلى باسل ولم يأت الرد
لا تعلم إن كان بخير أو إن كانت الرسالة الأخيرة حقا الأخيرة
ضغطت على أسنانها وخرجت من السيارة
ليس لأنها قويت بل لأنها لم تملك رفاهية الضعف بعد الآن
ما إن لامست قدماها الأرض حتى انقض عليها البرد كذئب جائع خرج للتو من سبات شتوي
لفحها الهواء الجليدي كصفعة غادرة تغلغلت في نخاع عظامها قبل أن تدرك حتى أين تقف
تسللت الرعشة إلى أوتار قدميها لم تعد تشعر بثبات الأرض تحتها وكأن الأرض لفظتها أو
أنها تخلت فجأة عن قانون الجاذبية تهاوت لا سقوطا مفاجئا بل انكسارا بطيئا كزهرة مجففة تسقط بتؤدة من كتاب قديم
انهارت ركبتيها على الإسفلت البارد
ولم تعرف
هل كان ما يتكسر داخلها هو العظم أم الكرامة