رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و الرابع عشر
كانت شادية قد جمعت في حقيبتها الصغيرة كنزًا من الهدايا، ألعابٌ اختارتها بعناية تحاول الفوز بقلب زكريا كما يُشترى تمثال نادر في مزاد صامت وقد ظنت أن بريقها سيخطف انتباهه أو أن عبيرها سيتسلل إلى قلبه المتمنّع لكن الطفل على غير ما توقعت، لم يُعرها سوى نظرةٍ حيادية، ثم قال بصوت يقطر تهذيبًا ونُضجًا لا يشبه عمره:
"أشكركِ سيدتي نصران... لكن والدتي علّمتني ألا أقبل الهدايا من الغرباء."
كلماته سقطت على صدرها كحجرٍ ثقيل بينما في الجانب الآخر كانت سيرين تختبئ خلف المشهد تقاوم بعينين دامعتين رغبة جارفة في الانقضاض عليه كمن يعثر على روحه بعد غياب، لكنها كبحت نفسها... لم تكن تعلم إن كانت شادية قد علمت الحقيقة، ولم تكن مستعدة لكشف السرّ في لحظة ارتباك.
كانت شادية قد انحنت أمامه كمن يحاول النزول إلى مستوى قلبٍ صغير... قلب صدّها برِقّة وقوة معًا وتأملت ملامحه تلك العيون التي تشبه ظافر لكنها أجفلت حين ناداها بـ"الغريبة" فالكلمة صفعتها دون يد:
"غريبة؟ يا زاك نحن نعرف بعضنا منذ شهور. ألا تذكر؟ أنا معجبة بك كثيرًا يا صغيري."
كانت شادية تحاول نحت علاقةٍ في الصخر بإصبعٍ واهن وعندما نطق بكلمة "أمه" خُيّل إليها أنّه يتحدث عن كوثر... ثم عادت إلى وعيها تتدارك الأمر سريعًا وأردفت بابتسامةٍ ودودة:
"هل والدتك قلقة مني؟ لا بأس سأراها بعد انتهاء العطلة وسنتحدث… بعدها لن نكون
غرباء، أليس كذلك؟"
لكن زكريا رغم صغر سنّه لم يكن بتلك السذاجة التي ظنتها. لم ينسَ، ولم يغفر… كان قد علم كيف كانت شادية تتنمّر على سيرين، وكيف كانت نظراتها كالسكاكين تخدش ولا تُظهر الألم… وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية حاولت شادية اختراق قوقعته؛ تتحجج بمالك لتحدثه، ترسل له مع حفيد أخيها الهدايا والطعام، وتعرض عليه صحبتها ومع كل مرة كان زكريا يرفض وهي تُصر ورغم أنه طفل إلا أن ما فعله كان ناضجًا حدّ القسوة:.. إذ قال بنبرةٍ واثقة تشبه وقع المطر على سطحٍ زجاجي:
"سيدتي نصران، أنا طفل لكنني أعرف شيئًا ربما تجهلينه… إن لم تحبي أحدًا فلا تفرطي في مدحه… هذا نفاق وأنا لا أحبه."
كلماته جرّحتها بأناقة... لم تكن مجرد ملاحظة عابرة بل نسخة مكررة مما قاله لها ظافر ذات يوم، عندما كان طفلًا الكلمة ذاتها، النبرة ذاتها، حتى قسوة البراءة ذاتها.
اهتزت شادية داخليًّا كأن روحها ارتجّت في عمقها.
"هل... هل تكرهني يا زاك؟" سألت بصوتٍ خفيض يكاد يختنق بحنجرتها… لم تكن تصدق أنها تأثرت إلى هذا الحد… ولم تفهم لِمَ شعرت بذلك الفراغ الجارح في قلبها... لم تكن هذه مجرد إجابة من طفل بل لكمة من الماضي.
ابتسم زكريا كأنه فارس صغير تعلم منذ الآن كيف يكون نبيلاً، وقال بلطف:
"أنا آسف يا سيدتي نصران... لكن لديّ جدتي."
كلمته الأخيرة كانت كضربة خنجر في صدرها… فقط **سيرين** وحدها من كانت تعرف
مدى هشاشة شادية أمام هذه العلاقة.
لم يكن بإمكان أحد سوى ظافر وحفيدها الذي لا زالت تستكشفه بجهل أن يُشعلا هشيم قلبها بهذا الشكل، وأن يُريها في مرآة الطفولة أخطاءها القديمة كما هي بلا مساحيق ولا تزييف.
كانت شادية قد أغدقت على زكريا بمئات الهدايا، كمن يلقي ورودًا في صحراء قاحلة لا ترتوي لكن الطفل رغم صِغر سنّه ظل يرفضها جميعًا بثبات يُشبه صمت الجبال أمام الرياح.
وفي تلك اللحظة كان مالك يقف بجانبها يشدّ على كفّ ماندي بقبضة صغيرة مشحونة بغيرة خام لم تُهذّبها السنوات… فهمس بصوت متذمّر دون صوت وقد لاحت بين حاجبيه عقدة غيرة طفولية:
"لماذا تُحب الجدة شادية زاك إلى هذا الحد؟ إنه... ليس حتى حفيدها الحقيقي."
ماندي بعينيها الواسعتين كمرآتين تعكسان الجهل بهذه المشاعر المتناقضة لم تكن تدري ما الذي يدور فعلًا… كل ما كانت تعرفه أن شادية منذ أن رأت زكريا أول مرة أصبحت تتصرف وكأن الدم الذي يجري في عروقه من دمها.
أما سيرين كانت تتابع المشهد من بعيد متوارية خلف جدار من الصمت والحنين. لم تكن تدري هي الأخرى لِمَ تُمعن شادية في تقديم الهدايا لزكريا ولماذا تختار هذا الطفل بالتحديد لتغمره باهتمامٍ يشبه الحنين إلى ذكرى مفقودة؟!
وما لم تكن تعلمه سيرين أيضاً أن زكريا نفسه قد لمحها في زحمة الموقف… رأى عينيها، وشعر بارتباكها، لكنه فهم — كالكبار — أنها لا تريده أن يقربها الآن فتماهى مع
رغبتها وتظاهر أنه لم ير شيئًا.
وما إن توقفت سيارة كوثر أمام باب الروضة وأقبل السائق ليناديه، حتى التفت الطفل الصغير إلى شادية وقال بجملة عفوية كخنجر مغلف بالبراءة:
"كل الأطفال يحبون الطيبين، أليس كذلك؟"
لم تكن تتوقع أن تكون تلك الكلمات هي سهم الغدر الذي يُصيب قلبها دون مقدمات. صمتت، وقد انعكس ظل السؤال على وجهها المتجهم:
هل يراها طفلٌ أحبّته أنها ليست طيبة بما يكفي؟ لم تكن قديسة، هذا صحيح، لكنها لم تتخيل يومًا أن تُوصَف بأنها ليست طيبة.
عادت شادية إلى السيارة وقد استرجعت جليدها المعتاد… جليدًا يحبس النار لا يخمدها.
جلست في المقعد الأمامي كملكة خذلها عرشها ثم التفتت نحو سيرين قائلةً بفتور:
"هل ترين ذلك؟ هذا الطفل... يشبه ظافر، أليس كذلك؟"
نظرت إليها سيرين، ثم تنهدت ببطء كأنها تنفث غيوماً مكبوتة في صدرها:
"أجل... بينهما بعض الشبه."
لكن شادية، بابتسامة يائسة تكسوها مرارة لم تتقن إخفاءها، همست:
"بل لا... لا يشبهه فقط. بل عندما رأيته أول مرة خُيّل إليّ أنه حفيدي. لو كان كذلك فعلاً لأهديته العالم على طبقٍ من ذهب."
تجمّدت الكلمات على لسان سيرين وارتعش قلبها تحت وطأة الذنب إذ بدا لها أن هذه المرأة رغم قسوتها كانت ستغدو جدةً عظيمة... ربما كانت لتصبح الذي يستحقه زكريا.
لكنها هي، سيرين من أخفت الحقيقة. هي من كذبت، لا لأنّها أرادت، بل لأنّ عائلة نصران لن
تسمح لها بتربية أبنائها ولولا ذلك لما اضطرت إلى الفرار... ولا إلى الكذب.