رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و الخامس عشر
بعد عودتهما إلى القصر جلست شادية كملكة فقدت تاجها لكن كبرياءها ظل مشدودا كوتر لا ينكسر ومن ثم التفتت نحو سيرين ونبرة الصوت في حنجرتها كانت أشبه بنصل مصقول يخفي الحنان خلف قسوته
فكري مليا قبل أن ترفضي لا تتسرعي. ففي نهاية الأمر أنت وأنا نعلم أن عائلة تهامي تمضي نحو الزوال كشمعة تتلاشى في مهب الريح. أخبريني أين تجد امرأة مطلقة مثلك دخلا ثابتا ينقذها من هاوية الحاجة
لم تجب سيرين بل انسحبت بهدوء وصعدت إلى غرفة ظافر تقف على شرفة تتدلى منها الذكريات كانت عيناها متعلقتين بالفراغ تبحثان فيه عن إجابة لأسئلة لم تطرح أمامها كان المشهد واسعا لكنه بدا ضيقا كقلب يتألم بصمت.
تساءلت في سرها بأي منطق يحكم على المطلقة أن تعيش كظل باهت لحياة لم تخترها لماذا يفترض بها دوما أن تكون في حاجة إلى سند بينما قد تكون هي السند ذاته
أرادت يوما أن تري شادية والعالم أجمع أنها تستطيع أن تعيش وتربي وتحب دون أن تلوذ بأحد.
زفرت ببطئ تضع كوب الماء الذي بيدها جانبا ورفعت الهاتف تطلب كوثر وقالت بصوت خافت ينضح بالشوق
كوكي أريد التحدث إلى زاك.
ردت كوثر بحيوية
بكل سرور انتظري لحظة.
ثم وجهت الكاميرا نحو زكريا الذي بدا كأمير صغير يجلس إلى مكتبه يرتدي بذلته الصغيرة وكأنه في اجتماع بالغ الأهميةومن ثم قال بصوت يعبق بحنين لا يشي بعمره
أهلا أمي افتقدك كثيرآ
ابتسمت سيرين وذابت الكلمات على
شفتيها قبل أن تتشكل.
مرحبا يا صغيري...
ترددت وهي لا تعلم كيف تسأله عن شادية لكن زكريا فاجأها
لقد رأيتك اليوم.
تجمدت للحظة كأن قلبها توقف عن الخفقان.
لماذا لم تنادني إذا سألت بصوت متردد تخشى الجواب.
أجابها بنضج يسبق سنه
لأنك لم تبادري لذا ظننتك مشغولة ولم أرغب بإزعاجك.
خنقتها العبرة لكنها لم تذرف دمعة فقط التزمت بالصمت حتى تابع
أمي هل رأيت امرأة عجوزا اليوم منذ أن رأتني في الروضة وهي تبحث عني كثيرا.
ضحكت سيرين بخفوت تسرب من بين ضلوعها كنسيم خفيف عند سماعها لكلمة عجوز التي أطلقها زكريا على شادية كان زكريا كجرعة عسل على جرح غائر فأجابته
أجل يا صغيري إنها تحبك كثيرا لأن زاك حبيبنا مميز ولا أحد يقاوم روعته.
ابتسم زكريا وعيناه تتلألآن ببراءة النجوم
أمي غدا عطلة وقد أرسلت تحياتك مسبقا إلى جدتي فاطمة.
ردت سيرين بنبرة تفيض بالشوق
رائع شكرا لك يا حبي.
في تلك اللحظة كان قلبها يتضخم لهفة كغيمة محملة بالمطر تتوق لأن تحتضنه أن تشتم رائحته أن تلمس وجهه البريء لكن القصر بجدرانه المذهبة وأسراره المكتومة لم يكن مكانا للبوح ولا للحب فأغلقت الهاتف على مضض وكأنها تغلق بابا نحو الحياة.
لم تكن سيرين تدري أين اختفى ظافر كأنما ذاب فجأة في فراغات القصر الشاسع وتركها وحيدة في غرفة النوم محاطة بجدران صامتة وأثاث فاخر يخلو من الروح فقررت الوحدة أن تحتضنها بأذرعها الباردة.
تسلل إليها الضجر قطرة قطرة حتى غمرها تماما. فخرجت تشت بعينيها في المكان فلم تجد أثرا ل لين تلك الخادمة التي تبدو كمراقبة أكثر منها خادمة وتساءلت في سرها إن كانت قد ذهبت سابقا تشكو أمرها إلى عدنان.
في الجانب الآخر من القصر حيث الزمن يبدو أكثر تباطؤا كان عدنان جالسا على أريكة جلدية ذات طراز عتيق في جناح شرقي تنبعث منه رائحة الكتب القديمة والشاي بالنعناع أمامه طاولة صغيرة من الخشب المعتق تتوسط المجلس الفخم وعلى يمينه جلس ظافر متكئا ببرود ظاهر كأنما لا يعنيه شيء بينما وقف حسن في صمت يشبه صمت الحراس الذين يتقنون الاستماع أكثر من الكلام.
في المقابل جلس زيدن نصران وزوجته مارلين تصاحبهما نظرات مفرطة من الثقة وبينهما ابنهما مالك الذي لم يتجاوز الخمس سنوات بعد.
تحدث زيدن مباشرة بلا مقدمات وكأن لسانه سبق عقله
جدي ما إن انتهينا من اجتماعنا حتى أسرعنا بالعودة وقد سمعنا أن ظافر عين مديرا عاما من خارج العائلة أليس الأولى أن يتولى أحد أبناء نصران هذا المنصب إن كان مشغولا فأنا ومارلين مستعدان للمساعدة.
كلماته كانت كالسكاكين المغلفة بالحرير إذ يعلم الجميع من هو باعث نهضة هذه الإمبراطورية إنه ظافر ولا أحد سواه لكن زيدن الذي اعتاد طلب الشركات الآمنة من عدنان لنفسه ولزوجته بدا وكأنه يطمح الآن بما هو أكبر. بل ربما بما ليس له.
أصغى ظافر إلى الحديث دون أن يعلق فقط رسم ابتسامة باردة على وجهه
كمن يراقب فئرانا صغيرة تتخبط في زاوية لا يهمه سوى كم سيستغرق الأمر حتى ينهاروا لاذ إلى الصمت كونه أراد أن يرى كم يبلغ طمعهم. وإلى متى يستطيعون التظاهر دون أن تنهار الأقنعة.
وعلى نحو آخر كان عدنان يرقب المشهد بنظرته الثاقبة التي اعتادت أن ترى ما بين الكلمات ثم رد بنبرة متأنية لا تخلو من مكر لاذع
ما دمتما راغبين في مساعدة ظافر فمن الأفضل أن تطلبا رأيه فالرأي عنده لا عندي.
سقطت كلمات عدنان على رأس زيدن كما يسقط الطين الرطب على ثوب نظيف فقد ارتبك الأخير واحمر وجهه وشعر للحظة أنه عار تماما تحت أنظار الجميع.
أما مارلين فقد تبادلت مع ابنها مالك نظرة تحمل ألف معنى. وللعجب قد فهم الإبن فورا وبدون أن ينتظر توجيها نظر إلى عدنان بعينيه الواسعتين البريئتين وقال برجاء يذيب الحجر
جدي الكبير أرجوك ساعد أبي وأمي العم ظافر يصغي إليك أكثر من أي أحد.
لم يكن عدنان من السهل كسره لكن توسلات مالك حفرت في قلبه المتصلب تجويفا من الحنين. إنه الوريث الوحيد وقطعة من الدم الذي سيواصل الاسم بعدهم.
كان على وشك أن يتكلم أن يتدخل لكن ظافر باغتهم بصوته الذي خرج كصفعة باردا ثابتا قاتلا
المدير العام الذي وظفته خبير دولي جاء من شركة أجنبية وكفاءته تتجاوز ما نعرفه مجتمعين أما شركتكما التي تتشبثان بها فهي على حد علمي تترنح على حافة الإفلاس.
ثم أكمل متعمدا أن يبدو قاسيا كالرخام
فلو سمحت لكما
بالمساعدة لما نمت مطمئنا ليلة واحدة بعد ذلك.