رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الواحد والعشرون
بالمساء...
جلس سلطان معهم حول طاولة الطعام، لكن في داخله كانت مشاعر متفجرة كقنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة، كانت أنفاسه تتصاعد بشكل غير منتظم، وعینیه تتنقلان بين الوجوه التي تحيط به، كأن تلك الوجوه تحمل عبء المسؤولية عن مشاعره المتضاربة، بعد صمتٍ ثقيل، نظر إلى وفاء، التي كانت تجلس متوجسة، وقال بصوت غاضب وخشن:
"بقى كده يا فوفه بتجوزي ترنيم لراجل تاني غيري؟"
نظرت له وفاء بضيق، وصوتها كان مختنقًا بالقلق، وكأن الكلمات تكاد تنفجر من صدرها:
"نصيب يا ابني، وانتوا ملكمش نصيب مع بعض، كل واحد نصيبه مع حد تاني، وانت ربنا يخليلك مراتك وبنتك. هما دول اللي يستحقوا اهتمامك."
ضغط سلطان على أسنانه بغضب، وهو يشعر بضيق ينفذ إلى أعماقه، وظهره مشدودًا، بينما تحدث بصوت مختنق، كفحيح ثعبان:
"أنا مش عويل يا فوفة، وأقدر احكم بدل البيت عشرة، وانتي عارفة ترنيم بالنسبالي إيه."
فريدة، التي كانت تراقب المشهد بقلق، نظرت له بضيق وأغلقت عينيها بحزن، وكأنها تشعر بأنه ينطلق نحو انهيار غير متوقع.
تكلمت صباح بغضب، وهي تشعر بالإحباط وتتفجر كلماتها كالنار في الهشيم:
"فيه أيه يا ابني؟ أنت عايز كل حاجة ليك ومتخسرش حاجة، لما رحت اتجوزت من ورانا مكانش حد ضربك على ايدك، عملت كده من غير ما نعرف، وعيشت البت معاك في وهم، وبقت عندك عيلة في الضلمة، وحرمتنا وحرمت بنتك من أبسط حقوقنا، إننا نعرف بعض، ترنيم حرة وليها الحق إنها تعيش حياتها مع حد تاني، تعيش حياتها زي ما أنت عيشت حياتك، كفاية ظلم وأنانية يا سلطان، فكر في إحساس مراتك وبنتك دلوقتي وهما سامعين كلامك عن واحدة تانية، النصيب ما بينك وبين ترنيم انتهى لحد كده يا سلطان، ابعد عنها وخليها تدي لنفسها فرصة تحب جوزها وتقرب منه."
طرق سلطان بيده على الطاولة بغضب، وكأنما كان يوقظ شيئًا داخلهم، وجلب الانتباه إليه، ثم قال:
"أنا بحب ترنيم، وهي بتاعتي، وأنا مستحيل هسيبها تعيش مع راجل غيري، أنا لا أول ولا آخر راجل يتجوز اتنين، مدام مقتدر، أقدر أصرف على عشر بيوت في وقت واحد."
تكلمت فريدة بألم، عينيها تتلألأان بالدموع، كأنها تتوسل لفهم مشاعرها:
"وهتقدر تعدل ما بينا يا سلطان؟"
كان هذا السؤال كالسهم، جعل الجميع يصمت ويترقب ردة فعل سلطان، وكأنهم على شفا حفرة، يتطلعون إلى القرار الذي سيتخذه.
نظر إليها سلطان وتحدث بنبرة متجبرة، كالملك الذي لا يعترف بهزيمته، وكأنه يواجه كائنًا غير مرئي:
"أنا عيشت معاكي السنين دي كلها، عمري ما قصرت معاكي، وكان قلبي برضه مشغول بترنيم."
ابتسمت فريدة بحزن عميق، وجاء صوتها مختنقًا، كأن الألم يتسلل بين كلماتها:
"لا يا سلطان، كنت مقصر معايا، كنت بتبقى نايم جنبي، وقلبك وعقلك مع ترنيم، ده كمان لما كانت متعرفش لسه، إنما دلوقتي، انت قاطع علاقتك بيا من أساسه، بتنام جنب بنتك في أوضتها، كلامك معايا طول الوقت إهانة وبتقلل مني، هو ده العدل اللي بالنسبالك يا سلطان؟"
نظر إليها بعدم اهتمام، وتحدث بنبرة متهكمة، كأنه يعد أعدائه:
"بلاش تعيشي دور الضحية، وأنا وأنتي عارفين عملتي إيه علشان تأثري عليا واتجوزك وقتها، أنا بحب ترنيم، وعمري ما حبيت غيرها ولا هحب غيرها، عجبك تعيشي على كده، أهلا وسهلا، مش عجبك، الباب يفوت جمل."
أنهى كلامه واستقام بجسده بشموخ، ثم انطلق إلى الدرج، وكأنه يتحدى الجميع لتحدي قراراته، توقف للحظة، واستدار إليهم وقال:
"اه، أنا رجعت البيت اللي في الحارة. لو حابين ترجعوا ليه تاني، شوفوا نفسكم واللي انتوا عايزينه بلغوني بي."
وصعد إلى غرفته، بينما نظرت فريدة لهم بحزن، وكأنها تحمل عبء الأحمق الذي يعبث بمصائرهم، ونهضت من على مقعدها، حاملة ابنتها وصاعدة بها إلى الأعلى، كما لو كانت تبحث عن ملاذ من هذا الانهيار.
نظرت وفاء إلى صباح، وتكلمت بصوت مختنق، وكأن كلماتها تتدحرج عن لسانها:
"وبعدين يا أختي، سلطان مش ناوي يجيبها لبر، وأنا مش عايزة حياة ترنيم تخرب، ما صدقت ربنا كرمها بواحد زي ده، هو الوحيد اللي هيقدر ينسيها سلطان."
تكلمت صباح بنبرة حنونة، معبرة عن دعمها، وكأن عواطفها تجسد وحدة أسرية:
"متقلقيش يا وفاء، أنا اللي هقف لسلطان لو فكر يقرب من ترنيم، الاتنين ولادي، والاتنين غلاوتهم عندي واحدة، وأهم حاجة عندي مصلحتهم."
ابتسمت وفاء لها بحب وامتنان، كأنها تجد في كلمات صباح الأمل الذي تبحث عنه:
"ربنا يخليكي ليا يا أختي، ولا يحرمنا منك أبدًا."
ثم نظرت إلى سميه، وسألتها باستغراب، وهي ترى الانكسار في ملامحها:
"مالك يا سمية، ساكته ليه كده؟"
نظرت لها سميه بحزن، والدموع تتجمع في عينيها، كما لو كانت تحمل عبء الذكريات:
"أنا زعلت ترنيم مني، أنا أخدت على خاطري منها لما عرفت إنها اتجوزت راجل تاني غير سلطان، وجراحتها بالكلام."
تنهدت وفاء بحزن، وقلبها متألم من أجل سميه وترنيم:
"متقلقيش يا بنتي، ترنيم بتحبك، وعمرها ما تزعل منك مهما حصل، أنتوا كتير أوي كنتوا تتخانقوا مع بعض، وقبل الليل ما يجي تكونوا بتلعبوا مع بعض."
أومأت سميه برأسها بحزن، وقالت:
"ياريت كان اتقطع لساني قبل ما أقولها كده وأزعلها."
تكلمت وفاء سريعًا، محاولًة تهدئتها، كأم تحاول استعادة طفلتها البعيدة:
"بعد الشر عليكي يا حبيبتي، قلتلك متقلقيش والله، ترنيم عمرها ما تزعل منك."
استقامت سميه بجسدها، وقالت بصوت مختنق:
"الحمدلله، شبعت، تصبحوا على خير."
وتركتهم واتجهت إلى غرفتها، كأنما تبحث عن ركن خاص بها في عتمة الليل.
وقفت وفاء وقالت بتصميم:
"وأنا كمان هطلع أوضتي اللي جهزوها ليا فوق، أطمن على ترنيم وأنام، تصبحي على خير."
تحركت نحو الدرج، لكنها توقفت على صوت صباح وهي تسألها بتساؤل حذر:
"معرفتيش حاجة عن ابنك ولا عن أبوه؟"
حركت رأسها بالرفض، ونظرت لها بحزن، قائلة:
"لا، معرفش، ومش عايزة أعرف، خلي أبوه ينفعه."
أنهت كلامها وصعدت غرفتها بفكر مشوش.
تنهدت صباح بحزن، ونهضت من على مقعدها متجهة إلى غرفتها، وكأن في قلبها عاصفة من العواطف المتضاربة.
***********************
جلست ترنيم في غرفتها، ضامة ساقيها بالقرب من صدرها، وأسندت رأسها عليهما، بينما كانت دموعها تنهمر بحرارة، كلما تذكرت كلمات سلطان ونظرته المهزومة التي تحمل في طياتها قوة وضعف في ذات الوقت، زادت بكاءً، وفي تلك اللحظة، فتح غريب الباب ودخل الغرفة، متجهاً نحوها بوجه غاضب، وقال بصوت حاد:
"بتعيطي علشانه؟ بعد اللي عمله فيكي ده، ده مد أيده عليكي قصادي يعني أهانك قصادي، ورغم كل ده لسه زعلانه علشانه؟"
أزالت عبراتها بأصابعها المرتعشة، ورفعت رأسها لتتطلع إليه بعينيها المتورمتين من البكاء، وتحدثت بصوت مختنق:
"هو مكانش قصده على فكرة، وكمان، سلطان مدام وصل للحالة دي يبقى مكسور من جوة وحزين، أنا عارفة لو هو كان هادي، كان مستحيل يزقني زي ما عمل كدة."
اقترب نحوها أكثر، وتحدث من بين أسنانه بغضب:
"بطلي تدافعي عنه، متنسيش أن أنا جوزك."
استقامة بجسدها ووقفت قبالته، ثم تكلمت بصوت مختنق:
"أنت جوزي على الورق، إنما هو اللي عايش في قلبي يا غريب."
هنا، كان قلبها يدق بسرعة، تشعر بضغط الكلمات على لسانها وكأنها محبوسة في زجاجة، تهتز بخوف من الاعتراف بما يخطر في نفسها، كان غريب ينظر إليها بعيون مشتعلة، والدنيا من حولهم تفقد معالمها، وكل ما كان يهمها هو صدق مشاعرها التي لا تستطيع إنكارها.
اقترب منها حتى ألصق جسده بها، وأحاطها بذراعيه بقوة وتحدث بصوت هامس:
"عندي استعداد أخلي جوازنا دلوقتي واقع، أَخد منك حقي، وساعتها هبقى جوزك على الورق وعلى الحقيقة، ووقتها هقطعلك لسانك لو نطق باسم اللي اسمه سلطان ده تاني."
حاولت إبعاده عنها، لكن دون جدوى، نظرت له بتوسل وقالت:
"ارجوك يا غريب، بلاش، علشان لو ده حصل هكره نفسي وحياتي ومش هبقى عليها."
الفكرة كانت تلوح في عقلها، تتصور كيف يمكن للغضب أن يحجب الشمس إلى الأبد، وكيف للحب أن ينزلق عندما يتعلق الأمر بالاختيار، لكن غريب كان لا يزال أمامها، وكأنه جدار صلب يعيق مشاعرها المتضاربة.
نظر إلى عينيها بتساؤل، وقال:
"لدرجاتي بتكرهيني؟"
حركت رأسها ببطء والدموع تتلألأ في عينيها، وقالت:
"لا طبعاً، أنا مش بكرهك ولا بحبك، انت شخص دخلت حياتي وفرضت نفسك عليها من غير حتى ما تديني حرية الاختيار، دخلتها وانت عارف ان فيها راجل تاني غيرك، استغليت حبي ليه ودخلت ليا عن طريقه، مش هنكر انك كنت جدع معايا في أوقات كتير، بس مش لدرجة أن أحبك، أنا عيشت أربعة وعشرين سنة من حياتي بحب شخص واحد بس، هو سلطان، مستحيل أكرهه وأحبك بالمنطق يعني."
ضم ذراعه حولها بقوة، وتعمق في عينيها متحدثا بصوت هادئ لكنه حازم:
"وانا عيشت عمري كله رافض أدخل واحدة حياتي بأي شكل، وانتي جيتي في أقل من شهرين علقتيني بيكي، علشان كده أنا مستحيل أسيبك لغيري حتى لو حكم الأمر أن أقتل الشخص ده عشان أكون أنا اللي في قلبك وبس، وبرضاكي أو غصب عنك، هتحبيني يا ترنيم، وهبقى أنا الراجل الوحيد اللي في حياتك."
شعرت بخوف وقلق من طريقة كلامه، نظرت له بتوتر وتلعثمت في حديثها:
"الحب الحاجة الوحيدة اللي محدش يقدر يفرضه على غيره."
لكن في أعماقها، كانت تدرك أن قدر الحب معقد جدًا، وأن النقاط الحادة لن تنجح في شق جدران القلوب بمثل هذه السهولة. اقترب بوجهه نحوها حتى شعرت بأنفاسه الساخنة، وقال بنبرة تحذيرية:
"وحبك انتي اللي فرض نفسه عليا رغم رفضي ليه، وعلشان كده أنا مش هفرط فيكي يا ترنيم."
أغلق عينيه ووضع قبلة رقيقة على خدها، ثم ابتعد عنها وخرج من الغرفة، تاركًا إياها في حالة من الصدمة. وكان الصمت يسود المكان بعد رحيله، شعرت كما لو كان الجدار قد انهار، وتركها وحيدة في ظلام أفكارها المتضاربة.
وقفت ترنيم مكانها، متصنمة تشعر بحجم الخطر من وجودها مع هذا الشخص، نظرت إلى أثره بصدمة، وحركت رأسها رافضة هذه الفكرة ووجود شخص كهذا في حياتها، لكن قلبها كان يميل شيئًا فشيئًا نحو المجهول، كانت تدرك أن لعبة الحياة قد بدأت، وأن الرسائل المعقدة بين الحروف قد تكون أكثر تعقيدًا مما يمكن لروحها تحمله.
***********************
في صباح يوم جديد، استفاقت سميه على صوت رنين هاتفها، وزفرت بضيق، بينما حملت ثقل الليلة الماضية على عينيها المتعبتين، جلست على حافة السرير وفتحت عينيها بصعوبة، تتذكر آخر لحظات من نومها، وكيف كانت أفكارها تتراقص في دوامة من القلق والهموم، أجابت بصوت محشرج من النوم:
"أيوه يا حسام، فيه حاجة على الصبح؟"
رد عليها بسرعة، بصوت جاد وكأنه ينتظرها منذ الأبد:
"اديني اخوكي سلطان بسرعة، برن عليه تليفونه مقفول."
كان صوته يحمل طابعًا من الإلحاح، مما زاد من قلق سميه وفتح أمام عينيها ملامح الفزع.
انتفضت سميه في مكانها، وقلقها واضح على ملامح وجهها، حاولت جمع أفكارها بينما تتساءل عما يمكن أن يحدث لأخيها، وسألت بلهفة:
"فيه إيه يا حسام، طمني؟"
كان قلبها ينبض بسرعة، وكأن كل لحظة تمر كانت تجرها نحو الأسوأ.
فاجأها بصرخة غضب تخللها شعور من الاضطراب:
"اخلصي، اديني اخوكي بسرعة، فيه مصيبة."
الكلمات كانت كالصاعقة، جعلت شعر جسدها يقف على أطرافه، هل هناك ما هو أسوأ من هذا؟!
تحركت سريعا إلى الخارج، وضربت قدميها بالأرض بينما ركضت إلى غرفة سلطان، وطرقت على الباب بقوة وكأنها تريد أن تحطم الحواجز بينهما، فتحت لها فريدة، التي كانت قد استيقظت للتو، نظرت إليها بغضب ملتهب وقالت:
"انتي مجنونة، فيه حد يخبط على الباب كده؟"
كانت تعبيرات وجه فريدة تدل على انزعاج عميق.
ردت عليها بشغف، متجاهلة غضبها كليًا: "اخلصي، فين سلطان؟"
كان صوتها يتحشرج مع الإلحاح، كأنها تشعر بغيوم من القلق تتجمع حولها.
تجمدت فريدة في مكانها، وعقدت ذراعيها على صدرها، وتكلمت بتهكم، وكأنها لا تدرك حجم الخطر:
"في جيبي."
هذه الكلمات لم تكن تحسن من الوضع أو تساعد سميه بأي شكل.
أغلقت سميه عينيها بغضب وأطلقت صرخة تعبر عن إحباطها:
"اللهم طولك يا روح، انطقي، احسنلك فين سلطااان؟"
لم تكن قادرة على السيطرة على مشاعرها بعد الآن.
أشارت فريدة إلى غرفة ابنتها بتردد، وأجابت:
"مشرف في أوضة بنته بينام فيها، وغوري بقى من وشي."
كان صوتها مليئًا باللامبالاة، مما جعل سميه تشعر بمزيد من الاضطراب.
دفعت فريدة الباب بقوة بوجهها، غاضبة، لكن سمية انتفضت على صوت صراخ حسام وهو يقول:
"خفي نفسك يا سميه، مافيش وقت لشغل النسوان ده."
كانت كلماته كالصاعقة تضرب مسامعها، تثير فيها الدافع للتقدم.
ركضت سريعًا إلى غرفة رنيم، وفتحت الباب لتواجه مشهدًا يشعرها بالقلق، حيث وجدت سلطان ممتدًا بجوار ابنته، وغارقًا في نوم عميق لا يبدو أنه سيستيقظ منه، اقتربت منه، وربتت على كتفه برفق، محاولة أن تكون لطيفة على الرغم من الضغط الذي تشعر به، وقالت:
"سلطان يا سلطان، اصحى."
انتفض سلطان في مكانه، وأصابعه حفرت في الهواء، وكأنه يحاول تذكر شيء مهم، ثم تكلم بلهاث:
"ترررنيم!" كان صوته محملاً بالخوف، وكأن بقية العالم قد تلاشت من حوله.
نظرت إليه بحزن عميق، ثم تحدثت بصوت مختنق يعكس الحالة الطارئة:
"كلم حسام، يا سلطان، عايزك ضروري."
كان قلبها يخفق بشدة، وكأن كل دقيقة تؤخر استجابته تعني شيئًا سيئًا.
أعطته الهاتف، ونظراتها تعكس مخاوفها التي نشأت حول تلك المكالمة، وأخذه منها بلطف، ليجيب بصوت محشرج كأنه يخرج من أعماق أعصابه:
"خير يا حسام، فيه إيه؟"
كان السؤال يتردد في مسمعها، يطلب الحقائق الصادمة التي قد تغير مجرى اليوم بأكمله.
رد عليه بصوت غاضب:
"الشركة ولعت يا معلم سلطان، روحت الصبح ولقيت الدخان طالع من كل حتة، مش قادر أصدق إن كل أحلامنا وتعب السنين راحوا في لحظة، اتصلت بالمطافي، وجات، لكن وصلوا متأخرين، والحريق انتشر بشكل رهيب، الخساير كبيرة جدا، لدرجة إننا مش عارفين نحددها دلوقتي، أما الأرواح، ف مافيش غير بتاع الأمن اللي اتصاب، وهو الوحيد اللي عارف مين اللي عمل كده، لأنه مضروب على راسه، وكان مغمي عليه، بس الدكاترة بيقولوا حالته صعبة جدا، والأمل ضعيف في إنه يعيش."
انتفض سلطان في مكانه، وتحدث بغضب: "ولاد الكلب، شغلهم معايا بقى على المكشوف، وديني، وما أعبد ما هرحمهم، اقفل وانا جاي حالا."
التوتر كان واضحًا في صوته، وكان واضحًا أن مشاعر الغضب والخيبة تتصارع فيه، كأن قلبه يشع بالحمى.
أغلق الخط، وأعطى الهاتف لسميه، ثم مسح بيده على وجهه، محاولًا تقليل الضغط عليه، كانت ملامحه مرهقة من الهموم، والتنهدات تتصاعد من صدره كالسحب الداكنة، نظرت إليه سميه بقلق، وسألته: "خير يا سلطان، فيه حاجة؟"
شعرت بخوفها يكبر، فهي تعلم أن حالة القلق هذه ليست بجديدة على سلطان، لكن تلك المرة كان الأمر يبدو مختلفًا.
تكلم بصوت مختنق:
"ولعوا في الشركة وحرقوها."
بينما كانت كلمات سلطان تتدفق، شعرت سميه وكأن وطأة العالم كله قد سقطت على كاهلها، اتسعت عيناها بصدمة وعدم تصديق، وقالت:
"يا نهار مش فايت، هي الحكاية كانت ناقصة، طيب، وهتعمل ايه دلوقتي؟"
تساءلت بقلق عن الطريقة التي سيواجه بها هذه الكارثة، في حين كانت تتخيل المشهد المرعب للإحتراق.
استقام بجسده، وتحدث بصوت مكتوم: "هروح أشوف حجم الخسارة قد إيه، وكل واحد كان ليه يد في اللي حصل ده، هوصله، وهشرب من دمه."
كانت نبرته تحمل دلالات الانتقام، وكانت لهجة التحدي تظهر عزمًا لا يلين، رغم الفوضى، شعر بأن عليه واجب استعادة ما يمكن استعادته، والقتال من أجل من تبقى على قيد الحياة.
أنهى كلامه، واتجه إلى المرحاض، كانت خطواته مثقلة بالأفكار الثقيلة، لكن عينيه كانت تحمل لهبًا من التصميم، نظرت سميه إلى أثره، وتنهدت بحزن، وعادت مرة أخرى إلى غرفتها، حيث كانت تتساءل عن مصيرهم جميعًا، عما سيحدث في الأيام القادمة، وكيف ستتغير حياتهم بفعل أفعال غير محسوبة لأناس لا يعرفون معنى المسؤولية.
*************************
استيقظت ترنيم من نومها فجأة، كأن قلبها قد انفجر من الخوف، كانت تتنفس بشدة، وكأنها كانت تركض بعيدًا عن كابوس مخيف ترك أثره على روحها، بصوت مفعم بالفزع، صرخت باسم واحد فقط، "سلطان"، وكأن هذا الاسم وحده هو السبب في إحساسها بالقلق المتزايد، بدأت تنظر حولها بعينين مدمعتين، بعدما انتزع النوم من عينيها وعجز عقلها عن إدراك ما يحدث. وضعت يدها على قلبها، فشعرت بشيء غير طبيعي يثقل على صدرها، وكأنها محاصرة في مأزق عميق لا مفر منه.
اعتدلت على فراشها، وأرجعت شعرها المتناثر بحركة سريعة تعكس انزعاجها، وزفرت بضيقٍ، عينيها تتجولان بتوتر حول الغرفة وكأنها تبحث عن دليل على وجود سلطان، ترددت لحظة، ثم حركت يدها ببطء والتقطت الهاتف، متأملة الشاشة وكأن بها إجابة على كل مخاوفها، كان هذا الجهاز البسيط يمثل لها طوق النجاة من عاصفة انفعالاتها.
حسمت أمرها، وضغطت على اسم "سلطان" لتجري اتصالاً، لكن قلبها انقبض عندما وجدت الهاتف مغلقًا، كأن كل شيء من حولها تجمد في تلك اللحظة، ضغطت على زر الإنهاء دون تفكير، وكأن القيام بذلك سيعيد لها الشعور بالتحكم، بدلاً منه، اتصلت بوالدتها بتردد، ولم يكن أمامها خيار آخر، بعد ثوانٍ من الانتظار القلق، سمعت صوتها الهادئ يجيب بنبرة قلقة:
"صباح الخير يا حبيبتي."
تكلمت ترنيم سريعًا وأنفاسها تتسارع:
"ماما، هو سلطان فيه حاجة؟ يعني حصلت ليه حاجة؟"
بدت هذه الكلمات كصرخة استغاثة تعبر عن قلقها المتزايد.
لكن والدتها ردت بغضب، وكأن كلماتها كانت قاصمة لظهر تعبير ترنيم عن الضعف:
"انتي مش ناوية تجبيها لبر يا ترنيم، يا بنتي انسي سلطان واهتمي بجوزك وحياتك."
تجمعت الدموع في عينيها، ثم أضافت بحزن:
"يا ماما، غصب عني والله قلبي بيحس بي، وأنا صحيت من النوم و قلبي بيقولي أنه فيه حاجة، بترجاكي يا ماما طمنيني عليه."
زفرت والدتها بضيق، ونفاد صبرها كان واضحًا في صوتها كما لو كانت تكافح لمحاربة شعور الخوف الذي كانت تشعر به ابنتها:
"كويس يا ترنيم، سلطان كويس."
في تلك اللحظة، خيم الصمت لثوانٍ قصيرة، كأن الزمن توقف لإعطائها الفرصة لتجميع قوتها، لكن قبل أن تتاح لها الفرصة للتفكير، سمع صوت ضجيج شديد، وكأن الفوضى قد انطلقت من مكان بعيد لتخترق سكون الغرفة، نهضت وفاء بسرعة، غير قادرة على تجاهل الصوت، وخرجت من غرفتها وهي تنصت لغضب سلطان الذي كان يتحدث بصوت مرتفع، وكأن كلمات الغضب التي تخرج من حلقه هي صيحات استغاثة تحذر من كارثة:
"وديني وما أعبد ما هرحمهم كلهم."
نظرت وفاء إلى سمية وتحدثت بتساؤل، وكانت عيناها تفيض بالقلق:
"فيه أيه يا سميه، سلطان ماله؟"
من بعيد، سمعت ترنيم، تهمس بقلق شديد، "اديني سمية يا ماما."
شعرت وفاء بضغط غير معتاد في صدرها وذعر يتسرب إليها، أعطت وفاء الهاتف لسمية ببطء وكأنها تحمل هموم العالم، وقالت:
"خدي كلمي ترنيم."
وضعت سمية الهاتف على أذنها، تملؤها مشاعر الحزن والاضطراب، وعندما قالت بحزن:
"ايوه يا ترنيم."
كانت كلماتها تحمل عبء الأحداث المؤلمة. ردت ترنيم بصوت مرتعش يملؤه القلق: "سلطان ماله يا سميه، قوليلي الحقيقة، بترجاكي."
تنهدت سمية بحزن عميق وأجابت بصوت مكتوم:
"للأسف، الشركة بتاعة سلطان ولعت، وشكل الحريق بفعل فاعل مقصودة يعني، وبيقولوا أن الخساير كبيرة أوي."
شعرت ترنيم وكأن صاعقة أصابتها، وضعت يدها على فمها لتكتم شهقاتها، بينما تخيلت مشاعر سلطان المتخبطة وسط الفوضى والمأساة، قالت بلهجة متحشرجة:
"ط طيب، هو عامل إيه دلوقتي؟ طمنيني عليه."
أجابت سمية بصوت مختنق، وكأنها تشعر بعبء الأخبار:
"تتوقعي يعني هتكون حالته ازاي؟! متعصب على الآخر، ربنا يستر."
أغلقت ترنيم الخط بسرعة، وكأنها تفصل نفسها عن واقع مؤلم، وضعت يدها على وجهها، وبدأت تبكي بحرقة، وكأن دموعها كانت وسيلة للتعبير عن الاضطراب الذي يغلي داخلها، لا تعلم ماذا تفعل، وكأنها مقيدة اليدين، غير قادرة على التحرك في دائرة من القلق.
وبسرعة، تذكرت غريب، نهضت باندفاع وركضت نحو غرفة غريب، فتحت الباب بحذر، كأنها تخشى إيقاظ الهموم المجنونة، وتحركت نحوه حيث كان غارقًا في النوم، يغط في أحلام غير مستيقظة، ابتلعت خوفها وتوجهت إليه، ربتت على كتفه بلطف، وتحدثت بصوت مرتعش كأنما محتاجة ليد تمتد في ظلام حالتها:
"غ غريب، غريب، اصحى ارجوك."
انتفض غريب من مكانه، نظر لها باستغراب، فهذه المرة الأولى التي تدخل فيها غرفته منذ أن انتقلت للفيلا، تحدث بتساؤل عميق يحمل خلفه قلقًا لا يتجاهل:
"خير يا ترنيم، فيكي حاجة؟"
حركت رأسها بالرفض، لكنها لم تستطع إخفاء قلقها، وتحدثت بصوت مرتعش، وأصابعها تفرك بعضها في توتر:
"ل لا، أنا ك كويسة، بس كنت عايزة أسألك سؤال."
كان العبء الذي تحمله أكبر مما يمكن تحمله بمفردها، نظر غريب إلى اصابعها ثم إلى وجهها المنزعج، فأحس بضرورة توسيع دائرة الدعم؛ ابتعد قليلاً وأخذ نفسًا عميقًا، وقال:
"اقعدي طيب وقولي فيه أيه."
كانت تعابير وجهه تتجه نحوها بعناية، وكأن كلماته كانت تعطيها الأمل في أن تجد في حضوره بعض من السكينة التي تبحث عنها.
جلست بجواره على السرير وما زالت أصابعها ترتجف، شعرت بكلماتها تتخبط في حنجرتها، وعندما بدأت تقول:
"س سلطان."، ارتجف قلبها من خوف رد فعله، عند سماع اسمه، تغيرت ملامح وجهه بشكل مفاجئ وتجمدت عضلاته، كأنما أصابته صدمة كهربائية، تحدث بغضب من بين أسنانه، ونبرة صوته تتعالى:
"يعني انتي مصحياني على الصبح علشان تقوليلي اسمه؟"
حاولت أن توضح ما يجول في خاطرها، حركت رأسها بالرفض وتحدثت بنبرة متلعثمة، تجمع بين الخوف والإصرار:
"ل لا، مش علشان كده، بس هو الشركه بتاعته اتحرقت وبفعل فاعل، هو انت ليك يد في الموضوع ده؟"
نظرت إليه نظرة عميقة، تأمل في عينيه لفترة طويلة، وأدركت أن الغضب الذي يظهر على وجهه يعكس شيئاً عميقاً في داخله، تحدث بهدوء شديد لكنه يحمل الكثير من المعاني، كالسيف المعلق على حافة كومة من القش:
"أنا لو عايز أضرب حد، مش بضرب تحت الحزام، أنا بعمل ده بوضوح وقصاد الكل، مش محتاج أعمل شغل العيال الهبل ده، سلاحي في أيدي وبخلص على طول."
ابتلعت ريقها بتوتر، رياح الريبة تهب حولها، وفكرت أن تشرح:
"ط طيب، ما انت قبل كده اتسببت في حبسه علشان تضغط عليا وتجبرني أتجوزك."
في تلك اللحظة، ظهرت الابتسامة الهادئة على وجهه كغيمة تبتسم للشمس، مما جعل قلبها يقفز في صدرها، وجعلها تعتقد للحظة أنه قد يعيد التفكير. لكن، سرعان ما نهض والتقط سيجارة من الطاولة، كنوع من التسلية، ليعود إلى شخصيته القاسية: "ومين قالك إن أنا اللي عملت كده؟"
كانت كلماته كالأشواك، مؤلمة ومحرجة.
نهضت بسرعة، تقدمت نحوه، تتحدى تحذير قلبها الذي كان ينبهها بالبقاء بعيدة عنه، وقفت أمامه بتحدٍ ثابت:
"تقصد إيه، مش انت اللي ساعد رجب يعمل كده؟"
اقترب منها، وقد تلاشت المسافات بينهما، نظر في عينيها مباشرة وكأنما يحاول أن يقرأ ما في قلبها:
"قلتلك مليش في شغل العيال ده، أنا بخلص على طول، إنما بقى، مين اللي ساعد رجب يعمل كده فيه، دي ليله كبيرة ومحاط بشوية تعابين لدغتهم تودي القبر."
كان كلامه يحمل نوعاً من التحذير، وكأنما يستعد لتوجيه ضربة قاضية.
نظرت له بدموع، تأثرت بفكرة الخطر الذي يحيط بشخص تحبه، نسيت خوفها وغيرت مجرى حديثها، وتحدثت بصوت ضعيف:
"أنا عارفة أن اللي بطلبه منك جنان، ويمكن شيء مش واقعي، بس ممكن تحميه؟ لأنه مهما كانت قوته، مش هيقدر يصد عليهم كلهم لوحده."
كانت تنظر إليه بعيون ملأى بالأمل، تسعى لإيجاد طريقة لإنقاذه، وكأن زهر البرية ينمو في مكان جاف، على أمل البقاء.
اقترب منها أكثر حتى كاد يلتصق بها، وتحدث بصوت هامس تكاد تشعر به في روحها:
"والمقابل إيه قصاد حمايتي ليه؟"
ابتلعت ريقها بصعوبة، وكأن الكلمات عالقة في حلقها، وسألت بقلق:
"ها...ت تقصد إيه بالمقابل؟"
كان يسألها بجدية، كما لو كان يحاول أن يقرن بين اهتمامه واحتياجه لها، أحاطها بذراعه بقوة، وكأنما كان يحاول أن يمنحها شعور الأمان الذي تحتاجه، ونقلت عيناه إليها، متشبثاً بنظرتها التي تنم عن الخوف والقلق، وأكد:
"لكل شيء في الدنيا مقابل، وأنا هساعدك في حمايته، ايه بقى مقابل الحماية دي؟"
فهمت مقصده، تلك الطريقة التي جعلته يبدو وكأنه يشترط حبها مقابل الأمان الذي يمكن أن يقدمه، حررت يدها المرتعشة فوق صدره، وجعلتها تتحرك برفق كما لو كانت تحاول أن تسقط عبء القلق عن كتفيهما، وتحدثت بحزن:
"اي حاجة هتطلبها مني، هنفذها ليك على طول، حتى لو كان جسمي."
نظر لها طويلاً، كأنه يقرأ عميق أعماق قلبها ويكتشف أسرارًا لم تكن قد عبرت عنها بعد، وضع أصابعه أسفل ذقنها، ومال برأسه حتى تلامست شفتيهما، لكن في لحظة من لحظات الضعف، تراجع دون أن يقبلها لكنه ظل محتفظ بهذا القرب يستمتع برحيق نفسها وملمس شفتيها الجافة، وتحدث بنبرة همس تمتزج مع الهواء:
"المقابل هو أنك تحبيني."
ظل على تلك الوضعية عدة ثوانٍ، وكأن الزمن توقف من حولهم، ثم ابتعد دون تقبيل، مضيفًا بحزن غامض:
"هو ده المقابل يا ترنيم، ومش مجرد كلمة تقوليها ليا، لا، أنا عايز أحسها في كل حركة وكل كلمة وكل شعور وكل نظرة منك ليا."
أغلقت عينيها وبكت بحرقة، وكأن كل تلك المشاعر المتناقضة تتجلى في عينيها، وقالت باختناق:
"طيب، أفرض مقدرتش أعمل ده، وده بنسبة كبيرة مش هقدر أعمله، ايه البديل لكده، قلوبنا مش بأيدينا يا غريب."
حرك كتفيه ببطء، كأنما يعبر عن الافتقار للحلول، وتحدث بنبرة عاشقة تحمل شغفًا وحنينًا:
"هو ده اللي عندي يا ترنيم، زي ما انتي قلبك مش بأيدك، أنا كمان قلبي مش بأيدي، واختارك انتي بالذات."
ابتلعت ريقها بصعوبة وهزت رأسها موافقة، موقنة أنها لا تملك خيارًا سواها:
"م موافقة، بس توعدني أنك تحميه بجد ومتأذهوش، أرجوك."
ابتسم لها بهدوء، عارمًا في عينيه الوعد بالإخلاص:
"أوعدك." ثم تركها، كأنما كان يحمل هموم العالم على عاتقه، وذهب إلى المرحاض، بينما كانت أفكارها تتقافز بين الخوف والرجاء.
نظرت إلى أثره، بينما انهمرت دموعها بغزارة وكأنها سيل من المشاعر، وركضت إلى غرفتها، حيث جنون القلب يجد ملاذًا، ارتمت على السرير وبدأت تبكي بمرارة، شاعرة وكأنها تفقد شيئًا ثمينًا في خضم هذه المعركة المشتعلة بين الحب والقلق.
*************************
وصل سلطان إلى الشركة ليجدها رماداً، لا أثر لمعالم المكان المحبوب الذي حلم ببنائه منذ سنوات طويلة، أصبحت مجرد ذكرى الآن، ورماد الأحلام يتعثر في الهواء كغبار يذكره بما كان، كانت عيناه تبحثان في الأفق، وقلبه مفعم بالحزن والألم، متسللاً إليه شعور أن كل شيء كان ينهار من حوله: حبيبته التي تركته دون تفسير، شركته التي كانت ثمرة جهوده المضنية، وقلبه الذي لم يعد يحتمل المزيد من الفقد، الذكريات كانت تنبض في ذهنه، كل لحظة من الفرح والخسارة تتلاشى أمام عينيه، كأنها فيلم سينمائي يتكرر مشهده الأخير، لكن هذه المرة لا توجد نهاية سعيدة، فجأة، انتبه لصوت حسام، الذي كان يتحدث بصوت مختنق، كأن الكلمات تقاوم الخروج من حنجرته، يعلن خبر الكارثة التي أسقطت ثقلاً على قلبه:
"الشرطة لسه ماشيه وبعد المعاينة اتأكدت أن كان فيه مادة سريعة الاشتعال في المكان وأن اللي حصل ده بفعل فاعل."
تنهد سلطان بحزن عميق، وكأنه كان يتنفس أنفاس الخسارة، وأومأ برأسه ببطء، وقال بنبرة مشحونة بالتحدي، وهو يغلي غضباً من الظلم الذي ألحق به:
"وديني وما أعبد هوصلهم وساعتها بس هخليهم يندموا على اليوم اللي جم فيه الدنيا."
ثم ربت حسام على كتفه، محاولة منه لتشجيعه، وتحدث بنبرة هادئة، محاولاً تهدئته في هذه اللحظة العصيبة التي قد تؤدي بهما إلى الهاوية:
"إن شاءالله هنوصلهم وندفعهم التمن، بس مش عايزين الانتقام يشغل بالنا اكتر من اللازم، لازم نفكر في الخطوة الجايه صح، نرجع الشركة أحسن من الأول وفي أسرع وقت علشان نقدر نعوض الخسارة، عندي اقتراح، نكمل شغلنا في الشركة التانية اللي محدش يعرفها، وخلينا نستغلها كواجهة لينا في الفترة الجاية، أنا عندي نسخ لكل الملفات اللي اتحرقت، شايلهم في مكان آمن، يعني إن شاء الله مش هنقف على حاجه."
نظر سلطان إلى حسام بشكر وامتنان، فقد كان هو السند الذي يحتاجه في هذه اللحظة الحرجة، ابتسم له بمزيج من الأمل والإصرار، وكأنما يستمد من عينيه القوة للتقدم في ظل هذا الظلام:
"شكرا يا حسام على كل حاجه. من أول يوم اشتغلت فيه في الشركة وانت قد المسؤولية، ربنا يباركك فيك، كان عندك نظرة مستقبلية لما اقترحت عليا نعمل شركة تانية احتياطي باسم مزيف، ومحدش يعرف أنها بتاعتي، خلينا نبدأ على طول في الشغل زي ما احنا في الشركة التانية الاحتياطية، وخلينا نرجع الشركة دي أحسن من الأول."
أومأ حسام برأسه موافقًا، مشاعر الحماس والالتزام تتراقص في عينيه كما لو كانت لهبًا مضيئًا، ثم قال ولاءً بحماس واضح:
"اللي تأمرني بي يا معلم سلطان، أنا رجلك وفي ضهرك في أي وقت."
ربت سلطان على كتفه برقة، وكأنما يحاول تشجيعه على الاستمرار في التفكير في المستقبل الذي بنوه معًا، تحرك من أمامه تاركًا له مساحة للتفكير، بينما قد تعالت في ذهن حسام أفكار جديدة، لكنه أيضًا كان يشعر بثقل المسؤولية التي على عاتقه، كانت الفرصة التي أمامهم مثل سيف ذي حدين، فعليهم أن يحسنوا استخدامها كي لا تفلت منهم.
************************
اجتمع ثلاثي الشر حول طاولة دائرية في زاوية مظلمة، حيث كانت ابتسامة النصر تتلألأ في عيونهم كنجوم مضيئة في سماء حالكة، تكلم رجب، وعلت ضحكاته بسعادة لا توصف، تتسلل كصوت زقزوقة الطيور في فجر صبح جديد:
"بس أيه، طلعت ضربة معلم وجات في مقتل، تسلم أفكارك يا مريومة!"
تراجعت مريم بظهرها إلى الوراء، مشتهية لمزيد من الثناء، وتحدثت بثقة مبتسمة لكنها كانت تخفي في أعماقها طموحًا لا يرحم:
"هو لسه شاف مني حاجة؟ ده أنا لسه عندي شوية أفكار في دماغي. إنما أيه، عنب!"
تكلم تامر بسعادة لكن بنبرة حذرة، كمن يتأمل شعلة نار تهدد بالاشتعال:
"أعملي فيه اللي انتي عايزاه حتى لو هتقتلي وتخلصينا منه، لكن اختي يا مريم لو قربتي منها، مش هيحصلك كويس، فاااهمه."
استقامت مريم بجسدها، كالنمرة الهائجة، واقتربت منه بابتسامة تخفي خلفها الكثير من المشاعر المتناقضة، ربتت على كتفه بيدها الناعمة وقالت:
"ما قلنا متخافش عليها يا سيد المعلمين، واحنا بنعمل ده كله ليه؟ مش علشان تبقى مكانه وتمشي شغلنا زي ما أحنا عايزين!"
أبعد تامر يدها عنه، وأجاب بنبرة غاضبة:
"الشغل ده مش هينفع معايا يا حلوة، ده انتي كرهك ليها بينط من عيونك، علشان هي أحسن منك مليون مرة، وكان نفسك تبقى زيها."
ضغطت مريم بغضب على أسنانها، كأنها تحملت عبئًا ثقيلاً، ونظرت إلى رجب بنظرة مليئة بالغضب، وقالت:
"عجبك كلام ابنك يا رجب؟ عقله شويه علشان أنا لو حطيته في دماغي، انت عارف أنا ممكن أعمل فيه إيه؟"
أنهت كلامها وصعدت بغضب إلى غرفتها في الأعلى، حيث أغلقت الباب بقوة وكأنها تحتفظ بأسرار العالم المظلم الذي يحيط بهم.
نظر رجب إلى تامر بغضب، كما لو كان يبحث عن إجابات لضبابية الأمور، وقال:
"انت فيه أيه يا يالا؟ ايه الحنية اللي نزلت في قلبك ليها فجأة دي؟"
كان الصوت يخرج من بين أسنانه كالرصاص المتفجر، مليئًا بالتحدي.
نظر له تامر بضيق، بعقل مضطرب، وتحدث بصوت مختنق، كأنه يعترف بآثامه:
"مش قادر أسامح نفسي يا أبا، أنا ضربتها وأذيتها، وهي اللي حمتني من شر غريب وما زالت بتحميني، وبتطلب منه حمايتي، أنا حاسس اني كنت فاهمها غلط، ومحاولتش أقرب منها كفاية، كنت راسم صورة تانية ليها خالص، وده اللي خلاني أعمل كده."
حاول رجب أن يهدأ حتى يستطيع فرض سيطرته على ابنه مرة أخرى، ولكن في داخله كانت مشاعر القلق تتغلب على عقله. صرخ بحرارة،
"يا عبيط، بلاش يغرك الشويتين اللي هي عملتهم دول، دي تربية سلطان الدسوقي يعني شبه في كل حاجة، وبتعرف تتلون شبه السحلية زيه بالضبط، هي بتعمل كده علشان تأثر فيك، وتخليك تقع، وبعد كده تسلمك للحكومة، خليك عارف أن اللي بتتربى وسط الأفاعي مش بتطلع فراشة، لا دي بتطلع ألعن منهم."
كان صوت رجب حادًا، وعيناه تتقدان بالتحذيرات الغامضة التي استشعرها على مر السنين بتعاملاته في هذا المجال، ومع الذين يلعبون بالأدوار قبل أن يقعوا فريسة للغدر.
نظر تامر أمامه بتفكير، وتحولت النظرة الحانية إلى نظرة كلها حقد وكره، وقد أدرك الآن عمق كلمات والده.
"عندك حق يا أبا، كلهم أفاعي ولازم نخلص منهم، وأكون أنا الكل في الكل، ومسيطر على الحارة مكانه."
كان نبرته مليئة بالإصرار، وكأنه قد وجد هدفه أخيرًا، وقد أدرك أنه ليس بحاجة إلى الخوف بعد الآن، بل إلى التسلح بالقوة اللازمة للسيطرة على مجريات الأمور.
ابتسامة شر ارتسمت على جانب ثغره، فقد وصل لمبتغاه، كانت سعادته مختلطة بالفخر، فتلاشى كل شعور بالندم. ثم قال:
"أيوه كده، هو ده ابني، سيد المعلمين أبو الرجولة كلها! اطلع بقى حايل البت بكلمتين، مش عايزين نخسرها، دي عندها دماغ ألماظ وهتنفعنا كتير أوي الفترة الجاية."
ثم غمز له بعينيه، في عملية تعبير غامضة. "البت حلوة وتستاهل."
ابتسم تامر على كلمات والده، وفهم معنى كلامه بشكل عميق، كأنما الضوء قد انكسر في عقله وأظهر له ممرات جديدة من الفهم. استقام بجسده، واندفعت كلماته واثقة إلى قلبه، وقال:
"وأنا تحت أمر الجمال."
وتحرك إلى الأعلى متجها نحو غرفة مريم وكأن الثقة التي اكتسبها حديثًا تعطيه دفعة لمواجهة أي شيء قد يعترض طريقه، عازمًا على استغلال كل ما تعلمه ليحقق انتصاره المفضل.