رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والعشرون

لحسن حظها لم تبتلعها الأرض كما توقعت ولم يخذلها الجسد تماما...
ففي اللحظة التي كانت ساقاها توشكان على الانهيار امتدت يد كيلفن وانتشلتها من فم السقوط كمن يلتقط وردة على وشك أن تذبل أمام عينيه.
وهي متشبثة بذراعه رفعت رأسها قليلا فرأته...
أحمد.
واقفا بالقرب لا يحرك ساكنا كتمثال من رخام بارد يتأمل المشهد كأنما يشاهده على شاشة لا تخصه.
لم يبد عليه القلق ولا حتى الفضول.
عيناه خاليتان من الشفقة كما لو أن سقوطها كان مشهدا متكررا ومملا وملطخا بالخداع.
ربما ظن أنها تمثل كما كانت تفعل في أيامها الأخيرة معه. وربما كرهها بما يكفي ليجعلها تموت واقفة دون أن يمد لها إصبعا واحدا.
لكن كيلفن تمتم بصوت منخفض وبعينين فيهما ذعر خافت
السيدة أحمد... هل أنت بخير
رسمت سارة على وجهها نصف ابتسامة منطفئة كأنها ترتدي قناعا فوق القناع
أنا بخير... ربما مجرد انخفاض في السكر.
كذبة صغيرة لتخفي انهيارا كبيرا.
ثم شدت نفسها بصعوبة وسارت خلف أحمد كمن يتبع جلاده إلى الهاوية لا بدافع الطاعة بل بدافع اللامفر.
كانت الحديقة التي مرت بها مكسوة

بثوب أبيض سميك ثلج لم يمس كأن العالم تجمد عن عمد ليشهد هذه الليلة الباردة.
لا عمال لا صوت... فقط أنفاسها المتقطعة وارتجاف خطواتها وهي تجر قدميها تتوسل لباب يفتح لمدفأة تشتعل لشيء... لا يصفعها بالبرد.
وعند العتبة وقف أحمد ينتظرها وفي عينيه لمعة ساخرة كأنها خنجر.
قال بصوت مبلل بالتهكم
ينبغي أن أعترف... أداءك تحسن كثيرا.
توقفت سارة لحظة وهي تتنفس كمن صعد جبلا.
تذكرت أياما كانت فيها تبكي لتكسب بضع لحظات من اهتمامه تتوسل تهدد تبتكر مشاهد هزلية من أجل البقاء... فقط لتظل زوجته.
ابتسمت بسخرية وقالت
شكرا.
ثم تجاوزته بخطوات هادئة ودخلت المنزل.
وفور أن ابتلعها دفء المكان شعرت بجزء من روحها يعود للحياة.
خلعت سترتها الثقيلة كمن يتخلص من قيد رطب وسكبت لنفسها كوبا من الماء ثم انحنت بهدوء على الأريكة تستجمع ما تبقى من إرادتها.
رفعت بصرها إليه وسألته بنبرة لا تخلو من وضوح
فهل ستحصل على الطلاق... أم لا
جلس على المقعد المقابل وكأن السؤال لا يعنيه وقال ببساطة مريبة
سأخبرك حين يحدث. حتى ذلك الحين... ستعيشين هنا.
لم تهتز بل كانت
نظرتها ساكنة هادئة كأنها تطفو فوق بحر هائج.
كانت تعبث بهدوء بكريات صغيرة معلقة على قبعتها ثم همست بصوت أقرب إلى البوح منه إلى الحديث
أحمد... لقد طلبت الطلاق في اليوم السابع بعد ولادتي المبكرة.
توقفت لوهلة تلتقط أنفاس الذاكرة ثم تابعت بصوت متهدج
ظل إلحاحك يحيرني... إلى أن رأيت الطفل... الطفل الذي يشبهك.
نظرت في عينيه لا تتوقع إنكارا بل اعترافا صامتا.
كنت على عجل... تريد الخلاص مني لا لتعيش بمفردك بل لتصنع عائلة جديدة مع مارينا.
زفرت أنفاسها كمن يلفظ غصة قديمة ثم أردفت
طوال عام كامل كنت أعاند الحقيقة. تجاهلت برودك . كنت أقول لنفسي إنك كنت طيبا في السابق وإنها مجرد مرحلة. ظننت أن كل رجل يضعف أحيانا... وأنني سأبقى زوجتك مهما حدث.
ثم ضحكت بخفوت ضحكة لا تحمل بهجة بل احتقارا للذات
بل ظننت أنك أحببتها... لأنني لست جيدة بما يكفي. وهكذا... حاولت أن أتغير. أردت أن أصلح نفسي من أجلك أردت أن أكون نسختك المفضلة. لكنك كنت في مكان آخر تماما... كنت تضحك أطفالها بينما أبكي وحدي في منزلنا أعد الثواني في انتظارك.
ثم توقفت تنهيدة
طويلة أخرجت ما تبقى من الرماد.
استغرقني الأمر عاما لأفهم... كم كنت غبية. الآن قررت أن أتركك. ابحث عن سعادتك كون عائلتك الجديدة... الأمر لم يعد يخصني.
قالت جملتها كمن يخلع قلبه من صدره.
ثم نهضت من على الأريكة وتعثرت قليلا في طريقها إليه.
دموعها انسابت على وجنتيها لا لتستدر عطفه بل لتعلن وداعها.
وقفت أمامه تتأمله في صمته...
رجل هادئ... أكثر مما ينبغي.
كان جالسا بكامل صلابته كجدار بارد من الخرسانة لا يبتسم ولا يعبس... فقط ينظر.
حوله هالة من الهيبة المفرطة كأنما هو أستاذ قديم في مدرسة الحياة لا يحتاج إلى أن يرفع صوته ليبث الرهبة في الأرواح.
في زمن مضى كان ينظر إليها بذلك المزيج الغريب من البرود الممزوج بالعطف... نظرة رجل يرى امرأة لا تنتمي إلى عالمه ولكنها تستحق مكانا على أطرافه.
أما الآن فقد أصبحت بالنسبة له دخيلة على مملكته... ظل لا يعكس ضوءه.
خفضت سارة رأسها كأنها تتهرب من اعتراف موجع ثم همست بصوت مهزوم يقطعه اليأس
أظن... أن علينا أن نتخلى عن بعضنا البعض. ما رأيك
كلماتها لم تكن سؤالا بل شظايا روح سقطت أخيرا
بعد طول صراع.
تجمد أحمد لحظة كأن شيئا في داخله تكسر دون
أن يعلن عن ذلك. لم يكن يعلم إلى أي حد بلغ التعب على وجهها... التعب العتيق الذي لا يظهر في قسمات الوجه بقدر ما يتجلى في انطفاء العين في ارتخاء الكتفين في تلك اللمعة المنطفئة التي كانت تشبه الأمل.
بدت أمامه كجدار ظل واقفا لسنوات بوجه الريح ثم انهار دفعة واحدة.
الاستسلام لا يحتاج إلى قوة... فقط إلى تراكم الصمت.
وكانت محقة.
أراد أحمد الطلاق انتقاما أراده ورقة شرعية يغطي بها أبناءه الذين أنجبهم من أخرى خارج العقد وخارج الندم.
لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في طلاقها... بل في شعوره الفارغ بعده.
توقع الراحة الحرية حتى النشوة.
لكن كل ما تلقاه كان... فراغا يشبه حجرة مظلمة في بيت كبير.
رفع عينيه نحوها وفجر صوته بعناد طفولي
تتخلين عني استمري في الحلم! لن تخرجي من هنا. تذكري هذا... أنت لي. إلى الأبد!
شهقت سارة فتحت فمها لترد لكن دموعها سبقتها.
سقطت على وجهه كأنها أمطار الصيف المفاجئة لا تبرد... بل تحرق.
حاول أن يخفي التأثر أن
يخضع نفسه لأوامر الغضب.
لكن شعورا بالتورط غمر صدره.
أخرج هاتفه كمن يستدعي سيفا صدئا من غمد قديم ثم مده أمام عينيها...
صورة باسل ممددا في سيارة إسعاف محاطا بالأنوار الحمراء كجنازة مؤقتة.
قال بصوت خافت تتمازج فيه اللؤم بالوعيد
إذا واصلت التواصل معه... ستلقى عائلته نفس المصير. سارة... انسي الحرية. هذه أوهام لا تليق بك.
ارتجفت أناملها وكأنها تود أن تصفعه أن تشوه تلك الملامح التي كانت تحبها يوما.
هتفت من أعماق جرحها
أحمق! لماذا لم تؤذني أنا لماذا صببت كل هذا الحقد على باسل!
رفع حاجبيه ساخرا ثم قبض على معصمها فجأة. كانت قبضته باردة... لكنها تلسع.
يبدو أنك تهتمين به كثيرا... لا تنسي يا سارة ما دمت لم توقعي بعد فأنت ما تزالين السيدة أحمد.
تلعثمت أرادت أن تنطق أن ترد أن تصرخ...
لكن أحمد لم يمنحها فرصة.
كانت هي من طلبت تصميمه خصيصا منذ أعوام حين تعود إليه متعبة من الحياة.
ولكن الآن... لم يكن دفء السرير عزاء.
ارتطم جسدها بقوة
وشعرت بالنجوم تتراقص أمام عينيها كأن السماء أسقطت فوق رأسها.
أصابها دوار مفاجئ وسقطت مستسلمة للغثيان.
استلقت في مكانها... تنظر إليه بخوف صاف خوف نقي كدمعة أولى في مأتم قديم.
كان يخلع ربطة عنقه بتوتر بالغ كمن يحاول نزع جلده هربا من شيطان ينهش روحه من الداخل.
لم يكن أحمد ذلك الرجل الذي عرفته يوما بل أصبح كائنا متحولا تشبه ملامحه الإنسان لكن نظرته... نظرة مخلوق خرج للتو من جحيم مشاعره.
اقترب منها بخطى ثابتة وصوته يقطر حدة كالسكاكين
سارة... كنت معه لبضعة أيام أليس كذلك هل كان بينكما شيء
جفل جسدها ليس من الكلمات فقط بل من الطريقة التي نطق بها اسمها... الاسم الذي لم يلفظه منذ شهور وكأن بين الحروف ألف جرح قديم.
شعرت بقشعريرة تتسلل تحت جلدها كما لو أن الهواء نفسه تحول إلى سم يتخلل عظامها.
بدا كوحش محبوس في قفص ضيق قفص اسمه الغيرة وكان الآن على وشك أن يتحطم.
هزت رأسها بسرعة بصوت حاولت أن تبقيه ثابتا
نحن أصدقاء فقط لا شيء
كما تتخيل. لم تكن علاقتنا... كما تزعم.
ضحك.
ضحكة قصيرة باهتة لكنها كافية لتشعل فتيل الذعر داخلها.
وفجأة دون إنذار مد يده وسحبها من قدميها.
الجسد المرهق قاوم القلب المرتبك حاول أن يصيح لكنها كانت أضعف من أن تدفع أضعف من أن تهرب.
كان هو داوود الغاضب وهي جسد يتهاوى بين كفي غول لا يعرف الرحمة.
لم تكن تعلم أن أحمد ذلك الرجل الذي كان يوما ملاذها قد قضى لياليه الأخيرة هائما في طرقات الندم يبحث عنها كمن يبحث عن وطن ضاع منه لا حبا... بل استردادا لما اعتبره ملكا لا يجوز لأحد أن يلمسه.
كان مدفوعا بالكراهية نعم لكنه كان أيضا مدفوعا بالضعف...
بالضعف الذي لا يعترف به الرجال.
وهي تراه يقترب رأت تلك النظرة في عينيه... نظرة رجل ضائع يحاول أن يتشبث بأي شيء قبل أن يغرق في سواد نفسه.
فهمست بصوت مرتجف أقرب إلى الرجاء منه إلى القوة
أحمد... لا تفعل هذا. أنت لا تملك الحق... لا بعد كل شيء.
صمت لحظة وكأنها ضربته بكلماتها في مقتل.
لكن عينيه
بقيتا مغلقتين عن الحقيقة وفتحتي أنفه تتنفسان الغضب.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1