رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والعشرون

كانت تخفي تشخيصها كما تخفى أوراق اللعبة الأخيرة تلك الورقة التي إن كشفت انتهى كل شيء. كانت سارة تراهن على الصمت على الألم المخبأ في ظلال عينيها وعلى فكرة جهنمية إن كان لا يزال يحبها فليتذوق مرارة الفقد بعد أن ترحل. فليحاصره ذنبه كطيف لا يفارقه ولتكن نهايتها هي بداية انتقامها.
أما إن كان حبه قد تآكل مثل ورقة في مهب المطر فلماذا تهين نفسها أمامه لم تمنحه لحظة ضعف يرى فيها انكسارها بل لماذا تهدي مارينا سببا للسخرية والشماتة
بهذا اليقين الهش الذي يتمايل فوق هاوية قلبها غادرت الحمام كأنها تخلع جلدا قديما ونزلت إلى الطابق السفلي حيث كانت رائحة الطعام تسبق الوجبة تملأ المكان كذكرى قديمة تعود من تلقاء نفسها.
كانت السيدة بيرجيس قد أعدت مائدة عامرة اختارت فيها أطباقا تعرفها سارة جيدا... أو ربما كانت تعرفها يوما. لكن الشهية لا تأتي دائما بدعوة دافئة خاصة حين يكون في الحلق شيء أثقل من الطعام.
نادت سارة عليها بدعوة عشاء

مقتضبة فأجابت السيدة بيرجيس بحنان متدرب ومسحت يديها بمئزرها قبل أن تضع أمامها وعاء صغيرا من الحساء ثم قالت بنبرة فيها شيء من التواطؤ
هذا حساء الفواكه... طلب مني السيد أحمد أن أعده خصيصا لك. ألم أقل لك إنه لا يزال يهتم لأمرك
تسللت كلماتها إلى سمع سارة كما يتسلل دفء الشتاء تحت جلد بارد. نظرت إلى الحساء ثم إلى السيدة ثم إلى قلبها ولم تجد في الثلاثة شيئا يشبه الطمأنينة.
كانت الأطباق أمامها تبدو أثقل مما ينبغي أكثر توابلا أكثر جرأة. سارة لا تحب الجرأة في الطعام... هي التي تعودت على النكهات الهادئة على مذاق خافت كأنه موسيقى كلاسيكية لا تتعالى.
لقد أخطأت السيدة. ربما نسيت أن ذوق سارة لم يكن يوما يشبه ذوق أحمد الذي كان يحتقر البهارات ويهاب الفلفل كأنه خصم قديم.
في الماضي كانا يحضران أطباقا منفصلة كما لو أن الطاولة لا تحتمل مزج الاختلافات. أما الآن وقد أصبح المرض يسكن جسدها كغريب لا يغادر فقد صار جسدها يرفض الأطعمة الثقيلة
كما يرفض القلب خيانة قديمة.
يا آنسة أحمد لم لا تأكلين أأنا فقدت لمستي السحرية في الطبخ أنا متأكدة أنني لم أنس وصفاتي... السيد أحمد كان دائما يطلب مني أن أضيف المزيد من التوابل.
رفعت سارة عينيها في دهشة حذرة. أحمد يطلب التوابل! كان بالكاد يحتمل مذاق الكاري!
لكن السيدة بيرجيس التقطت السؤال قبل أن يقال كما لو قرأت ارتباكها على وجهها فقالت وهي تبتسم
لهذا قلت لك إنه لا يزال يهتم لأمرك. حتى وهو غائب يهمه أن تتذوقي ما تحبين. في الماضي كنت تجبرينه على تناول الأطعمة الحارة أما الآن...
توقفت للحظة ثم أكملت بنبرة متعمدة
... فهو يأكلها من تلقاء نفسه.
كانت الجملة الأخيرة كسكين مزخرف. أنيق في شكله قاتل في مفعوله.
سارة لم تدر ما إذا كانت تلك علامة حب متجدد... أم علامة ندم يشبه خدعة الوقت حين يتحول التكيف إلى وفاء متأخر.
لكن المؤكد أن شيئا ما انهار داخلها... شيء لا صوت له ولا رجعة منه.
كان الأمر شاقا عليه في البداية أعترف بذلك.
كل
قضمة حارة كانت كجمرة تهوي في حلقه وكان يلجأ إلى الماء كما يلجأ الغريق إلى طوق النجاة... يبتلع الجالون تلو الآخر محاولا أن يطفئ حريقا لم يخلق له.
لكن شيئا ما تبدل. شيئا لا يرى ولا يفسر.
فمع مرور الوقت صار يتذوق التوابل كأن لسانه تعلم نطق النار... كأنه درب جسده على احتمال ما كانت هي تنفر منه مؤخرا.
يا للمفارقة!
أحمد الذي كان يختنق من أقل ذرة فلفل بات الآن يقتحم عالم الأطعمة الحارة تماما كما اضطرت هي إلى مغادرته بسبب هشاشة جسدها.
وكأن الكون يسخر منهما... يعيد تشكيل خطوط التقاطع ليمزقها بدل أن يوصلها ربما لهذا السبب لم يكونا يوما ثنائيا مثاليا... أو لم يكتبا ليكونا معا في توقيت لا يشتهيه أحد منهما.
أطفأت شرارة التفكير في عينيها وقاطعت شرودها بإلحاح طفولي على السيدة بيرجيس حتى أذعنت ومنحتها هاتفها على مضض.
ولحسن الحظ كانت ذاكرتها قد حفظت رقم باسل كما يحفظ القلب اسم من أسدى إليه معروفا.
بأصابع مرتجفة من فرط التوتر أدخلت
الرقم وانتظرت...
وحين جاءها صوته رقيقا متعبا كما لو خرج من قاع جرح قديم اجتاحها شعور هائل بالراحة.
لو كان أصابه مكروه لكانت هي الجانية دون محاكمة.
كان الصمت سيد اللحظة ثم جاء صوته مترددا ممزوجا بالخوف والرجاء
سارة
كأن اسمه نطق للمرة الأولى. كأن الصدمة التي تعرض لها قد بعثرت ذاكرته لكنه نجح أخيرا في تجميع أشلاء المشهد.
حادث السيارة لم يكن محض مصادفة. كان لغزا أراد أن يفكه.
وكانت هي الحل... واللغز معا.
أنا... باسل أنا آسفة. لم أقصد أن أضعك في هذا الموقف.
صمت قصير... ثم ومضة من الحماس تسللت إلى نبرة صوته كأن الأمل بدأ يرفع رأسه من تحت الأنقاض
هل كنت قاسية معي في مبنى البلدية... فقط لأنك لم تريدي توريطي
ترددت سارة للحظة. لم تكن تفهم ما الذي يعنيه...
لكنها التقطت الخيط وأجابت بنبرة ناعمة مثقلة بالأسى
لم أستطع التواصل معك... هاتفي تمت مصادرته. لكن كيف حالك إصابتك
رد
عليها بصوته المطمئن
لا تقلقي. الوسادة الهوائية أنقذتني من الأسوأ. لكن قولي لي... هل يحتجزك هل أبلغ الشرطة
تنهدت سارة بعمق كأنها تنفث ألما لا يحتمل
نحن متزوجان قانونيا يا باسل. لا يمكنني الإبلاغ عنه حتى لو كانت حياتي سجنا دون قضبان.
لكن أقدر كل ما فعلته من أجلي. حقا لقد كنت كريما فوق ما أستحق... فلا تشغل بالك بي بعد الآن.
كانت جملتها أشبه بجدار من البلور شفاف لكنه لا يسمح بالمرور.
فهم باسل أو تظاهر بذلك وأجاب بنبرة تتماوج بين الاستسلام والامتنان
حادث اليوم لم يكن عبثا. كان تحذيرا... رسالة موقعة باسمه.
أنا أعلم أنك تظهرين لي اللطف لكنني لا أستحق هذا الكرم.
كل ما أردته أن أتأكد من أنك بخير. الآن وقد تحقق ذلك... وداعا سارة.
وأنهى المكالمة.
لكن سارة لم تمهله. كانت قد ضغطت زر الإغلاق قبل أن ينتهي من نطق اسمها.
في الطرف الآخر ظل باسل يحدق
في شاشة الهاتف ثم ابتسم... ابتسامة ساذجة صادقة كمن قذف خارج المعركة لكنه فخور لأنه خسر من أجل من يحب.
كان يعلم الآن أن كلماتها الجارحة لم تكن إلا درعا لحمايته لا سياطا لمعاقبته.
وأن قلبها رغم تشققاته لم يعد ملكا لأحمد.
بعد أن أعادت سارة الهاتف إلى السيدة بيرجيس شعرت أن جسدها لم يعد قادرا على حمل تفاصيل يوم ملغوم بالتوتر والتناقض. تسللت إلى غرفة النوم كما تتسلل قطرة ماء دافئة إلى شرخ في جدار قديم ترجو منه أن يتسع لها.
ألقت بجسدها على الفراش وكأنها تسقط من ارتفاع عاطفي شاهق فأغمضت عينيها واحتضنها النوم على استحياء كما لو أنه يعلم أن السلام في هذا البيت ليس دائما ضيفا مرحبا به.
لكن السكون لم يدم طويلا...
أيقظها صوت خافت كأن الهواء تخلى فجأة عن حياده.
طرقة الباب لم تكن عنيفة بل هادئة إلى حد مخيف... هدوء الذئب حين يتسلل بين الأشجار.
تبعته
رائحة نفاذة تسللت إلى أنفها بلا استئذان فاستيقظت معدتها أولا ثم ارتجف وعيها كما لو أن الروح استشعرت خطرا قبل أن يراه الجسد.
لم يكن عليها أن تفتح عينيها لتعرف أنه هو.
وقبل أن تستطيع لملمة جمل واحدة جاء صوته كأنه خمر فاسد سكب فوق جراح مفتوحة.
رمى سترته على الأرض بإهمال مدروس ثم زحف بثقله إلى السرير حتى شعرت بوزنه يغرق أحد أطرافه كما لو أن السرير نفسه يئن تحته.
اقترب منها وهمس... بصوت مكسور كخيط دخان يتلوى من جمر قديم
عزيزتي... لقد عدت إلى المنزل.
كانت كلماته مثل ورقة مبتلة تسقط على صدرها فتبقي أثرها دون أن تحدث صوتا.
ذلك الصوت الذي كان يوما ملاذا بات الآن يشبه صدى الغياب.
وذلك المنزل الذي نطقه لم يكن سوى جدران مسكونة بالماضي لا دفء فيها ولا مأوى.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1