رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الخامس والعشرون بقلم ياسمين عادل
"وسـيلة مـشروعـة"
____________________________________
كان يشعر وكأن حلقهِ گالأرض البور، مهما روى ظمأه لا يشبع، ومهما شرب الماء لا يرتوي، وتلك الحرارة الملهبة التي تنبعث من صدرهِ تشعره وكأن حريقًا يلتهم أحشائه. ظلت عيناه مفتوحة هكذا، لم يتذوق للنوم أي طعم، يجلد ذاتهِ ونفسهِ التي انصاعت من جديد لأمور الغرام الذي ظنه انقضى، وقد ظهر في حياته من جديد بين ليلة وضحاها گشبح غريب لم يتعرف عليه، وإذا به يُفاجأ بإنه سيكون درجة من سلم الوصول لهدف آخر، كأنها لم تراه، ولم تتأثر بعودتهِ في حياتها، هو فقط الذي ترك العنان لساقيه حتى قادته للمنحدر، المنحدر الذي رأى فيه نفسه يُستغل فقط.
مرت عدة ثواني على رنين جرس الباب، تجاهله عمدًا إلى أن رأى الألحاح والإصرار الشديدين من الزائر، فـ اضطر مرغمًا على ترك فراشه الذي لم يتركه منذ الأمس، وراح يفتحه بيأسٍ وإنعدام رغبة، ليرى "هاشم" أمامه وعلى وجهه معالم الإمتعاض واضحة :
- طالما صاحي سايبني على الباب ساعة ليه؟؟.
أولاه "مراد" ظهره ودخل وهو يقول بصوت مهزوم :
- مش قادر أقوم.
دخل "هاشم" وصفق الباب من خلفه :
- السكرتارية بلغتني إنك أجازة أسبوع!.. أول مرة تعلمها في حياتك في إيه؟؟.
ارتمي "مراد" على الأريكة وذراعيهِ مرفوعتان نحو مسند الظهر :
- محتاج أبعد عن الناس، وحجزت طيارة بكرة رايحة على تركيا.
لم يصدق "هاشم" الحالة التي يرى عليها ابن عمهِ، هذه المرة الأولى التي يحس فيها بضعفهِ وقلة حيلتهِ، حتى عندما هجرته حبيبة عمره لم يصل لتلك الحالة، كان مثابرًا عنيدًا حينها؛ لكنه الآن يرى شخص لا يعرفه، مستسلم للهزيمة تاركًا نفسه لمهبّ الريح يعصف به كيفما يشاء.
جلس "هاشم" بالقرب منه، وسأله بتشكك :
- هي مشيت تاني؟.
أشاح "مراد" بوجهه يمينًا وهو يقول :
- ياريتها ما ظهرت.. كنت خلاص اتعودت على الوحدة وقطعت الأمل!.
تأفف "هاشم" وقد نفذ صبره، غير مقتنع بتلك المهزلة التي صنعها وهم الحب في رجل گالجبل مثل "مراد" :
- أنا مش مصدق إن واحد زيك في دماغك وقوتك يهزمه الحب!.
لمعت عينا "مراد"، وفي قلبه وخزة تقطع في جوفه :
- بكرة تجرب وتعرف، يعني إيه يكون للإنسان نقطة ضعف والحياة تمسكه منها.
- مش عايز أجرب حاجه.. الملك هو اللي يعيش عيشتي، ولا يفرقله ست راحت ولا ست جت.
ثم نهض عن مكانه قائلًا :
- قوم معايا ورانا حاجات، أنت نسيت مؤتمر شرم الشيخ وشغلنا اللي داخلين عليه وبنجهزله؟!.
لم يحرك "مراد" ساكنًا وهو يجيبه بنفس انعدام الشغف :
- مش عايز أروح في أي حته، أنا هنزل من هنا على المطار.
ثم وقف عن جلسته ليمشي بإتجاه غرفة النوم :
- أقفل الباب وراك وانت نازل.
وأغلق الباب من خلفهِ بينما عينا "هاشم" المعترضتين عليه إلى أن اختفى، فـ انسحب هو أيضًا ومزاجه قد تلوث بالفعل، كي يواجه يومًا سيكون سئ لا محالة، فـ بداية اليوم هي التي تنبئ بنهايته -كما يعتقد-، وهو بدأ يومه بشكل غير مرضي بالمرة.
**************************************
وصوله لمقر الشركة لم يستغرق سوى ثلث الساعة، صعد للطابق الذي يحتوي على مكتبهِ وعقله لدى "مراد"، حتى لحقت به السكرتيرة وهي تبلغه في عجالة:
- آ.... المدام في المكتب عند حضرتك من بدري، أنا حاولت أفهمها إن ممنوع الـ......
توقف عن السير والتفت إليها يرمقها بإنفعال، فـ ابتلعت باقي كلماتها وهي تجفل جفونها خشية بطشهِ الصباحي الذي يقدر بثلاثة أيام خصم على الأقل :
- مدام مين!؟.. ومين سمح إنها تدخل مكتبي وانتي لازمتك إيه!؟.
تماسكت بصعوبة وهو تجيب :
- المدام زوجة حضرتك، لما قالتلي إنها مراتك مقدرتش أمنعها تدخل المكتب و.....
- حسابنا بعدين.
قاطعها مشيرًا بأصبعه كي تقطع حديثها، ثم شقّ طريقهِ للمكتب وقد تلاعبت الظنون برأسه، والتخمين الأكبر كان بإتجاه "كاميليا"، لم يخطر بباله أبدًا إنه سيرى "رحيل" عندنا يفتح الباب، واقفة أمام النافذة المطلة على الشارع الرئيسي بأحد المناطق الراقية المخصصة لمباني الشركات والإدارات:
- رحـيل!!.
التفتت إليه، كانت حسناء بحق، يبدو إنها ابتاعت الملابس الجديدة واهتمت بالذهاب لمركز تجميل، بدا وجهها مشرقًا وجميلًا أكثر من كل مرة، وهي تبتسم إليه بوداعةٍ قائلة :
- صباح الخير.
تقدم منها بخطوات متأدة وهو يسألها :
- جيتي هنا إزاي؟؟.
- السواق هو اللي جابني، قولتله ميقولش حاجه عشان المفاجأة متبوظش.. عجبتك المفاجأة ؟.
أجبر نفسه على أن تشق إبتسامة باهتة محياه، وهو يلمس وجنتها المحمرة قائلًا :
- أكيد.. انتي والمفاجأة أحلى من بعض.
ثم أمسك بيدها يساعدها على الدوران في مكانها وهو يتأمل طاقمها الجديد :
- اشتريتي هدوم جديدة ؟.
أومأت رأسها وهي تتحسس حجابها الحريري الأنيق لتقول :
- هدوم وجزم وطرح.. جيبت حاجات كتير أوي.
- تتهني بيهم.
خللت أصابعها بين أصابعه وعيناها تستحي النظر إلى عينيه التي تفحصها :
- جيبتلك حاجه انت كمان.. غمض عينك.
أغمض عيناه وهو يستمع لصوت حقيبتها التي تفتحها، ثم صوت حذائها وهي تقترب منه من جديد، أمسكت بيده وكأنها تضع في أصابعهِ خاتمًا، فـ فتح عيناه ونظر بفضول إلى يسراه، فإذا به خاتم زواج فضي أنيق (دبلة) محفور عليه أسميهما بشكل عربي مزخرف، وقد كان مناسبًا تمامًا لمقاسهِ. تلألأت نظراتها بحماسة وهي تسأله :
- إيه رأيك ؟؟.. أنا لقيتك مش لابس دبلة قولت إجيبهالك بنفسي.
تحسسها بإبهامهِ وكأنها لم تعجبه كثيرًا، ليقول بمجاملة:
- حلوة، شكرًا علشان فكرتي فيا.
ثم تحرك نحو مقعده في خطوة مفاجئة لها، وهي التي ظنت إنه سيقابلها بالعناق والأحضان!. خاب ظنها، وكافحت كي لا يظهر ذلك على وجهها الرقيق الآن، ثم جلست في مقابلته وهي تسأله :
- هو احنا ينفع نتعشى برا النهاردة؟.. أنا عمري ما خرجت معاك لوحدنا من وقت ما اتجوزنا.
لحظتين وهو ينظر إليها گالذي يفكر بالأمر، حتى ظنت إنه سيرفض، ليملأ الحزن تعابيرها فجأة؛ لكنه أزال تلك التعابير بكلمة واحدة منه :
- ماشي ، جهزي نفسك انتي وليلى نروح نتعشى برا النهاردة.
أشرق وجهها من جديد، ونهضت من مكانها بحيوية گعصفور يطير من قفصهِ نحو الحرية :
- خلاص أنا هروح دلوقتي على طول يدوب أجهز نفسي وأجهز ليلى.
نظر في ساعته بفضول ظنًا أن الوقت قد أزف :
- الساعة لسه مجتش واحدة!.
- ده يدوب ألحق.
ثم دنت منه لتطبع بشفاهها على خدهِ قبل أن تقول :
- سلام.
- سلام.
نظر لوجهه عبر المرآة الصغيرة لئلا يكون أحمر الشفاه خاصتها قد ترك أثره على وجهه، فلم يجد له أي أثر، فأمسك بهاتفهِ واتصل بالسائق قبل أن تصل هي إليه :
- أيوة يا حيوان.. تاني مرة تبلغني رايح فين وجاي منين بالهانم، مش تمشي بيها على مزاجك وانا آخر من يعلم.
ثم أغلق الهاتف وألقاه على سطح مكتبه، ليحس بالإختناق وهو يرى دبلتها في أصبعه، فنزعه من يداه ووضعه في جيب بنطاله، قبل أن ينشغل بأي عمل آخر ويسهو عنه.
***************************************
كان المجلس مجتمعًا في منزل آل "الصاوي"، بعدما عزم "عدنان الصاوي" إعلان زيجة ابنته من ابن عمها "عمرو"، تنفيذًا لرغبة "منال" التي وافقت على عرض الزواج الذي قدمه "عمرو" لها، وقد كان شغوفًا بحبها منذ زمن، فتحقق حلم الطفولة وأتى اليوم الذي سيتزوج فيه من حبيبة الصبى ذات الجدائل السوداء الناعمة" منال"، ليحقق أملًا قد نسى إنه حلم به يومًا.
علت الزغاريد وبدأ الجمع يهنون ويؤيدون الزواج، بينما قاعة النساء يهللون ويمرحون، وهي بينهم ترسم على وجهها أحلى تعابير السعادة، وفي صدرها شماتة واضحة وسرورًا من إنها قد أخذت انتقامها من طليقها اللعين "حسين"، الذي مازالت تعشقه حتى النخاع، لكن الحقد غلب على مشاعر الحب التي نمت بجوفها لسنين طويلة.
خرجت "منال" من المجلس النسائي لتقابل زوجها الجديد بعدما تم عقد القران، فـ انحن "عمرو" ليُقبل يداها ثم يقول :
- مُبارك يا منال.. ياللي كنتي بعيدة المنال.
ابتسمت "منال" بإستحياءٍ وهي تجفل جفونها :
- الله يبارك فيك ويخليك ليا.
ثم رفعت بصرها إليه تسأله :
- هتقول لمراتك أمتى إني بقيت ضرتها ؟.
ابتسم "عمرو" قائلًا :
- زي ما تحبي.. أنا مرضيتش أقول حاجه لحد ما الفرحة تتم زي ما طلبتي مني ووفيت بكلامي.
ربتت على ذراعه وهي تقول بتحفزٍ عجيب :
- يبقى نقولها سوا.. النهاردة.
ضمها "عمرو" إلى صدره وهو ينظر يمينًا ويسارًا لكي لا تحقد عليهما العيون :
- من عيني يامنالة.. يخلص الفرح ونروح على بيت عم حمدي طوالي.
ربتت "منال" على صدره وهي تسمع لصوت دقات قلبه قائلة :
- يخليك ليا ياسيد الرجالة كلهم.
*************************************
ضم "حمدي" عبائتهِ لصدره، ونظر لهيئته المكتملة في المرآة، فإذا به يرى شبح الإنكسار في عينيه، وتلك الخطوط المجعدة قد برزت على وجهه أكثر من أي وقت سبق. ما حدث بالفترة الأخيرة لم يكن سهلًا على الإطلاق، يكفيه نظرات العامة والمارين بالشوارع، والتي تسببت بإنه يحبس نفسه في المنزل لأيام طويلة، منعًا لمواجهة تلك العيون الشامتة فيه، إلى أن تنتهي صيانات منزل آل طحان وينتقل لهناك من جديد.
دلفت "سعاد" وهي تحمل بيدها الفحم المشتعل في القدر الفخاري، ثم نثرت عليه حبات البخور والمسكتة لطرد الطاقة السلبية من المنزل، وبدأت في نشر الرائحة بالغرفة وهي تقول :
- أعوذ بالله من الشيطان الرچيم، يارب أبعد عننا الشر يارب، يارب ردلي بيتي وابني يارب.
سحب "حمدي" عكازه وكاد يخرج من الغرفة، لولا إنها استوقفته قائلة :
- بقولك إيه يا حج.. أوعى تحكي لحسين عن اللي جرى!.. لو سمع بس اللي عمله الـ×××× هيطلع وكل همه ينتقم، وأنا مش عايزة أخسر ابني التاني.
رمقها "حمدي" بإحتقار شديد، فهي أحد الأسباب الرئيسية فيما وقع عليهم، وكانت فكرة التخلص من "رحيل" فكرتها هي بالأساس. طالعها بتلك النظرات لبضعة لحظات حتى خجلت، فأنزلت عيناها عنه وهي تقول :
- ما خلاص ياحج!.. من وقت ما حصل اللي حصل وانت بتلومني ومش طايقني.. ماانا فيا اللي فيك ويمكن أكتر.
رفع "حمدي" سبابته في وجهها محذرًا :
- مش عايز أسمع حسك ياسعاد ولا بالخير ولا بالشر.. وعيالي أنا اللي هتصرف معاهم وانتي اطلعي منها خالص.. كفاية اللي حصل من تحت شورتك المهببة.
كادت تدافع عن نفسها من جديد :
- أنا ياحاج؟؟ ده انا آ......
هدر بصوته في وجهها حتى ارتعدت وعادت للخلف خطوات :
- قولـت أخـرسي.. واخـفـي من وشـي.
خرج من الغرفة وهي في أعقابه، تعتذر وتستجدي رضاه عليها، بينما كان الباب بالأسفل يقرع بقرعات عالية، فعادت "سعاد" إدراجها لتستر رأسها أولًا ثم عادت تلاحقه.
فتح "حمدي" الباب ليرى زوج ابنته الكبرى "تيسير" وبجواره "منال"، وجهها مشرقًا ويبدو عليها الزينة، لم يفهم "حمدي" تحديدًا ماذا يحدث؛ لكنه فتح الباب على مصرعيه ليقول :
- أهلًا ياولدي.. تعالى .
ثم نظر نحوها معاتبًا :
- طب كنتي جيبتي العيال نطلّ عليهم يامنال، ولا فاكراهم هيتقطعوا مننا عشان أبوهم مش فاضيلك؟؟.
ابتسمت "منال" ملئ شدقيها وهي تنظر للحماة نظرة متشفية :
- والله البيت معروف ياعمي، تنورونا في أي وقت.
تدخلت "سعاد" غير قادرة على تحمل المزيد :
- أمال جاية ليه لو مش معاكي ولاد ابني!.
فتدخل "عمرو" لإعلان القنبلة الحقيقية، والحفاظ على كرامة زوجته قبل أن تهدرها "سعاد" بلسانها السليط ونظراتها الحادة :
- جاية معايا أنا يا حماتي.
ثم نظر لـ "حمدي" وقد بدأت علامات الإستفهام تنتشر على وجوههم :
- أنا جاي أقولك إني أتجوزت منال يا عمي.. تيسير برضو حقها تعرف.
صرخة مصحوبة بعويل أتت من الداخل، إنه صوتها، يعرفه جيدًا، وإذا بها تهرول وما زالت الصرخات تخرج من فمها ركضًا، حينئذٍ كانت عينا "حمدي" قد دقت بإحمرارٍ منذر بغضب على وشك الإنفجار :
- إنت بتقول إيه ؟؟ بتتجـوز على بنتـي أنا ياعمرو!؟.
قطب "عمرو" حاجبيه مدهوشًا من ذلك التعبير الذي خرج من رجل گ "حمدي" :
- شرع ربنا يا عمي.. وانت كنت هتنفذه من قبل على منال بت عمي، يبقى إيه المشكلة ؟؟.
بين لحظة وأخرى كانت "تيسير" قد قطعت الطريق إليهم، وأول ما أرادت فعله هو التهجم على "منال"؛ ولكن كان "عمرو" في مواجهتها، حيث أحكم قبضتيه عليها ومنعها من الإشتباك معها، وصوت "منال" المتغنج بالخلف تحتمي في زوجها :
- ألحقني ياعمرو.. مراتك قال إيه عايزة تضربني!.
دفعها "عمرو" للداخل وهو يصيح فيها :
- أدخلي جوا وانا كلامي مع أبوكي.
صرخت "تيسير" في وجهه بإنفعال، والدموع تسيل گالنهر من عينيها :
- إنت فاكرني هفضل على ذمتك بعد عملتك السودا دي!!.
تدخل "حمدي" وهو يأمرها بالدخول :
- أدخلي ياتيسير جوا دلوقتي.. وانا ليا كلام تاني مع عمرو.
رفض "عمرو" أي مجال للمفاوضات، وكأنه ينتظر الطلاق على أحر من الجمر :
- مفيش كلام تاني ولا تالت ياعمي.. لو تيسير هترضي تعيش معايا في بيتي يبقى هتعيش هي ومنال تحت سقف واحد.. غير كده معنديش كلام، وياريت تقولي رأيها دلوقتي.
رأى "حمدي" في كلماته تحديًا سافرًا لشخصهِ، حيث إنه كان مصرًا على تزويج ولده من "رحيل"، وكان سببًا في هدم بيت بالسابق، فلم يتحمل هذا وقالها في وجهه :
- يبقى شيل ده من ده يرتاح ده عن ده.. أنا معنديش بنات يعيشوا مع ضرر.
لم ينتظر "عمرو" ثانية أخرى، وكان يرمي باليمين في نفس اللحظة :
- يبقى تيسير طالق مني يا عمي.. و حقوقها وورقتها هييجوا لحديها، وعيالي هيفضلوا عيالي ومسؤوليتي.
والتفت ليصطحب زوجته :
- يلا يامنال.
وزعت "منال" نظرات الشماتة عليهم واحدًا تلو الأخرى، قبل أن توليهم ظهرها وتنصرف منتصرة، الآن فقط قد رُد إليها حقها، ولا ينقص سوى علم "حسين" بما حدث، كي يعيش ندمًا على فراقها، وندم آخر لأنها في ذمة رجل آخر غيره، إنها أكثر الأشياء إيلامًا للرجال، وأقواهم تأثيرًا على مشاعر الرجولة، لقد اختارت له أفضل عقاب، وهو حرمانه من أول حب وأول زواج عاشه في حياته، مقابل أفعاله الكثيرة التي ارتكبها في حق زوجة أرادت العيش تحت أقدامهِ؛ لكنه دعسها عمدًا، وقد ظن أنها ضد الجروح والندوب، وأن عقد الزواج هو عقد عبوديـة مفتوح للأبـد.
***************************************
قد حلّ المساء بظلامهِ، وهي في انتظار نزهة الليلة. ابتاعت عُلبة مخملية رقيقة، تناسب هدية ثمينة گهديتها، ووضعت بداخلها الهدية قبل أن تتركها على مكتبهِ، وعيناها الشغوفة تنظر للعلبة في تشوقٍ وحماس، ترغب في معرفة ردّ فعلهِ على هديتها.
نظرت "رحيل" في ساعة يدها الفضية لتجدها السابعة والنصف مساءًا، فـ تحركت لتخرج من غرفة مكتبه سريعًا قبيل أن يراها أحد، ثم صعدت لغرفتهم متأملة إنه مازال بدورة المياه، ينعم بالحمام الدافئ الذي جهزته له، حيث وضعت أوراق الياسمين والفل في الماء الدافئ، وسكبت فيه زيوت طبيعية فوّاحة لتشعره بالإسترخاء.
وقفت "رحيل" أمام المرآة تتأمل هيئتها المنمقة، ثم تناولت زجاجة عطرها الجديد ونثرت منه بغزارة من أجل لفت انتباههِ، ثم ضبطت حجابها استعدادًا للخروج برفقتهِ لأول مرة. خرج "هاشم" والمنشفة على خصرهِ، وقطرات الندى منتشرة فوق جسدهِ بعشوائية مثيرة، نفض شعره بأصابعهِ وهو يتأمل هيئتها جيدًا، قبل أن تتعلق عيناه بشفاها المطلية بلون بني محمرّ مثير وملفت، ليقول تعليقهِ الجاد :
- الروچ ده فاقع أوي كده ليه!.
نظرت لشفاها بالمرآة قبل أن تردف :
- حاضر هخففه.
كانت يداه أسرع إليها، حيث خطف ذراعها مجتذبًا إياها نحو صدرهِ، هامسًا بصوتهِ الرخيم الذي تحبه :
- أنا هخففهولك بنفسي.
كانت كلماته الأخيرة قبل أن يلتهم شفتيها بفمهِ، غارسًا في أعماقها ألذ المشاعر الأنثوية التي تحسها الأنثى بين ذراعي زوجها، لتسبح في عالم آخر سرعان ما تندمج معه وهي بين أحضانهِ. طالت قُبلتهِ، كأنه مشتاقًا ملتاعًا إليها، أحست ذلك في حرارة أنفاسهِ التي أختلطت بأنفاسها، وأصابعه التي كادت تحررها من ملابسها من أجل الغوص في أعماقها أكثر وأكثر، وهي في كامل استسلامها لرغباته گعادتها التي أحبها هو، حتى قطع عليهم لحظتهم صوت الصغيرة "ليلى" وهي تطرق على الباب :
- دادي أنا خلصت لبس من بدري.. يـلا بـقى!.
حمحمت "رحيل" وهي تواري وجهها المحمر عنه، فـ تجاوزها "هاشم" ليفتح الباب فتحة صغيرة كي لا يرد صغيرتهِ :
- حالًا ياروحي هخلص لبس وأجيلك.
قطبت "ليلى" جبينها وهي تتفحص وجه أبيها قبل أن تسأله :
- دادي انت حاطط روش "روچ" ؟!.
انتبه "هاشم" لشفاه التي تلطخت بأحمر الشفاه، فـ وضع أصابعه على شفتيه تلقائيًا كي يبرر لها :
- لأ ياحببتي ده من القهوة.. حالًا همسحه، استنينا انتي تحت.
وثبت "ليلى" وهي تبتعد عن الغرفة حينما أغلق "هاشم" بابها، بينما عاد الأخير ينظر لوجهه الذي تلطخ في المرآة وكأنه سائل شيكولاتة، ثم نظر حيالها ليجدها قد مسحت شفاهها بالفعل وعيناها تتهرب من النظر إليه :
- أنا جهزتلك الطقم اللي هتنزل بيه.
نظر إليه فإذا به نفس ألوان طاقمها، أومأ رأسه بتفهم حينما كانت هي تستعد للمغادرة :
- أنا هروح أشوف ليلى لحد ما تخلص.
انسحبت من الغرفة لتتركه على حريتهِ، ثم بدأت تهبط الدرج لتكتشف إنها تناست إعداد حقيبتها، فعادت مرة أخرى كي لا تتسبب في تأخير عن النزهه القصيرة التي سيصطحبها فيها.
لم يكن مقصودًا منها التلصص عليه، لكن صوته كان واضحًا ظاهرًا لها، لتستمع إليه وهو يتحدث عبر هاتفه :
- لأ يامتر مش هتنازل عن القضية، خليه كده محبوس زي الكلب.. أيوة خدت الأرض وهاخد المحلات كمان، ويبقى حمدي وابنه يوروني هيعملوا إيه.
بدأ جسمها يسخن تدريجيًا، وكأنها تخشى تصديق حدسها، ومازالت تستمع إليه وهو يتحدث بعفوية، غير مدرك إنها خلف الباب الذي يعتقد إنه يتستر عليه :
- مالها رحيل، أهي وسيلة زي أي وسيلة مشروعة الواحد بياخد بيها اللي هو عايزه.. هي بنت الطحان كانت تحلم تتجوز من هاشم العزيزي!!..
وقد صدق حدسـها بالفـعل.. إذًا هي الوسيلة - المشروعة - التي حصل بها على مطامعه، الوسيلة السهلة التي لم تكلفه عناء ولا مجهود، وسيلة أتته على طبق من ذهب، وهو لم يغفل عن استغلالها الإستغلال الأسـوأ على الإطـلاق.