رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس والعشرون
لماذا سارت الأمور بهذا الشكل المفجع
كانت سارة تحدق في السقف كمن يحدق في حياة لم تعد له وتهمس في سرها بسؤال يتكرر كنبض مؤلم
كيف انتهينا إلى هنا
أرادت بكل ما فيها من هشاشة أن تعود إلى تلك الحياة التي فقدتها منذ عامين...
أنا هنا... أنا هنا...
رددها أحمد مرارا كمن يستنجد بنفسه من نفسه كمن يحاول أن يثبت وجوده أمام مرآة على وشك أن تنكسر.
كانت كلماته بمثابة خيط حريري في عاصفة. تعلم سارة تماما أنها كلمات عابرة مؤقتة زائلة كأثر قبلة في الريح...
تعلم أن دفئه لن يدوم وأن اللحظة القادمة قد تهدم كل ما بني في هذه الليلة من وهم.
ومع ذلك رغبت... رغبت في أن تبقى هناك حيث الحنين يتنفس من جسده حيث ظل من أحمد الذي عرفته يوما يلوح لها من بعيد.
تساءلت في صمت
ماذا لو لم يتغير
كم كانت الحياة لتكون أبسط أصدق أقل تعقيدا
حين أطل الفجر بخطاه المترددة على ستائر الغرفة استيقظ أحمد قبل أن تستيقظ عيناه.
وبالرغم من كؤوس الليل المتراكمة في دمائه لم يشعر بالخطر. كان يعرف نفسه يعرف مدى تحمله ويثق في قدرته على ضبط انفعالاته حتى
في أعماق الثمالة.
لكنه تردد... لم يفتح عينيه مباشرة كأن فتحهما سيجر خلفه سيلا من الذكريات أو من الخيبات.
وحين تهيأ لذلك فتحهما أخيرا.
فرآها... سارة.
تنفست عيناه ارتياحا لحظيا لكن عقله سارع إليه بصفعة الحقيقة
هذا ليس زمنكما. ما كان قد انتهى.
سقطتا على وجهها فسكن.
متى كانت آخر مرة نظر إليها هكذا بهدوء بلا غضب ولا عتاب بلا خيانة متبادلة
كانت سارة نائمة على ذراعه جسدها ملتف كجنين يتقيأ العالم ككرة تبحث عن مأوى من صقيع داخلي.
في الماضي كانت تتشابك أطرافهما كما تتشابك الكلمات في قصيدة حب...
أما الآن فبينهما مسافة من الريبة من الجفاء من كل ما يفسد الألفة.
وجهها بلا مساحيق لكنه لم يكن بحاجة إلى زينة ليشعر بجمالها.
بشرتها البيضاء باردة كضوء القمر كانت تلمع بهشاشة واضحة.
شاحبة... لا لم تكن شاحبة فقط.
كانت تشبه الموت حين يستعير وجه العاشقين.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة...
كأن شيئا في كبريائه تمزق
فجذب ذراعه بقوة من تحتها وكأنه ينتزع نفسه من مرآة لم يعد يحتمل النظر فيها.
فتحت سارة عينيها فجأة كأنها تستيقظ من
حلم لم تعرف أكان كابوسا أم أمنية خجولة.
كان الارتباك ينسدل في نظراتها كستار رمادي فوق مرآة مشروخة.
نظرت حولها بعينين واسعتين تحملان براءة مؤقتة تشبه نظرة قطة صغيرة فصلت فجأة عن دفء أمها.
لكن تلك النظرة الذائبة تبددت ما إن التقت عيناها بعينيه.
تغير وجهها وكأن ذاكرتها عادت في ومضة.
ارتفع حاجباها ارتعد صوتها قالت بنبرة مشوبة بالخيانة
كنت ثملا... وجعلت يديك تائهتين في كل مكان حولي.
سقطت الكلمات كثقل فوق السرير.
اللحظة الجميلة التي لمعت بين عناق صامت انكسرت كزجاج هش تحت قدم غليظة.
حدق فيها أحمد وجهه جامد كصخرة عينيه خاليتان من دفء الليلة الماضية.
قال بصوت بارد أقرب إلى جليد يتكلم
أعلم.
ثم نهض فجأة كأنه يفر من شيء في داخله لا منها.
التقط ملابسه ومضى نحو الحمام بخطى تشبه انسحاب جيش مهزوم.
في تلك اللحظة جلست سارة بسرعة وبدأت تجمع خصلات شعرها المتناثرة على السرير بيدين يائستين كمن يحاول لملمة كرامة مهدورة.
أغلق أحمد باب الحمام خلفه بعنف مكتوم ثم وقف أمام المرآة وهو يزرر قميصه أصابعه ترتجف والنادم يضرب قلبه بعنف
صامت.
ما كان يجب أن أشرح لها شيئا... فكر بمرارة.
ما دمنا لا نزال زوجين على الورق كان ينبغي ألا يكون في الأمر ما يستدعي كل هذا الهجوم.
لكنه لم يكن أحمقا بما يكفي ليكذب على نفسه.
كانت المسألة أعمق من ذلك بكثير.
وبينما هم
نظر... فوجد خصلات شعر رفيعة ناعمة تتوزع كحروف مبعثرة فوق جلده.
لم تكن خصلة واحدة.
كانت أكثر... عشرون ربما ثلاثون.
تساقط متناثر كأن جسدها ينهار في صمت.
تذكر...
حين كان شعرها طويلا كانت تتذمر دائما من تساقطه تبدل الشامبو كما تبدل الأمل وتضحك في منتصف الخوف قائلة
سأصبح صلعاء يوما ما صدقني.
كان يضحك.
وكانت بكل شقاوتها تقفز على ظهره وتتهكم
لو أصبحت صلعاء... هل ستتحول إلى راهب وتعتزل النساء
ضحك وقتها. لم يكن يدرك أن الضحك أحيانا يكون تمرينا على التبلد.
الآن... لم يضحك.
تلك العينان تلك الدمعة ذلك الصوت المرتعش حين قالت
لم أكذب عليك. أنا فقط... مريضة.
ضربته الجملة في ذاكرته كما تضرب الموجة سفينة بلا شراع.
فكر ثم لم يفكر...
فتح باب الحمام بعنف وركض نحو السرير وكأن الزمن ينفلت من بين يديه.
ركض
ليصل إليها قبل أن يفوته الاعتذار قبل أن يتأخر الحب عن موعده الأخير.