رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والعشرون 27 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والعشرون

انفتح باب الحمّام فجأة، بعنفٍ فاجأ سكون الغرفة، كأن الريح اقتحمت المكان لتفضح ما كان يُخَبَّأ بين طيّات التردد.
ارتعشت سارة، وأصاب أصابعها اضطرابٌ لحظي، وهي تلتقط آخر خصلات شعرها من على السرير، كأنها تجمع أدلةً ضد جسدها المتهالك.
رفعت رأسها بحدسٍ يقظ، وتمتمت بتوتر:

– "مَهلاً...!"

لكنّ الكلمة ذابت قبل أن تُكملها.

فقد اجتاحها المشهد كعاصفة:
أحمد، بكتفيه وقميصه المفتوح على اتساعه، اقترب بخطى بطيئة لكن مشبعة بالقصد.

كانت تعرف هذا الجسد، قد حفظت تضاريسه ...
لكن بعد غيابٍ جاوز العام، لم يعد الأمر كما كان.
الذكريات القديمة ارتطمت بواقعٍ جديد، فجعلها تخفض عينيها في خجلٍ مربك، كما لو كانت تُقابل رجلاً غريبًا، لا ماضي لها معه.

دنا منها، كان ظلّه القريب كأسرار الليل حين تتسلل إلى الفجر.

وامتزج ظلّه برائحته... تلك الرائحة التي كانت يومًا موطنًا، قبل أن تصبح غصة.

 ارتجفت كردة فعل لا إرادية، كأن الخوف والحنين اشتبكا تحت جلدها.
تراجعت بنظرتها وقالت بحذرٍ مشوب بالرعدة:

– "ماذا تفعل؟"

لم يجبها بكلمة.
اقترب أكثر، بعينيه الداكنتين كقعر بئر، سابحتين في جدية نادرة ثم همس، وصوته يحمل ثقلًا لا يُشبهه:

– "قلتِ إنكِ مريضة... إلى أي حد؟"

في عينيه لم يكن هناك أثرٌ للسخرية، ولا استعلاء، ولا ذلك البرود القاتل الذي كانت تراه مؤخرًا.
بل

بدا وكأنه يبحث... يبحث عنها، عن الحقيقة، عن شيء فُقِد بينهما.
في تلك اللحظة، شعرت سارة وكأن قلبها على حافة جرف.
سؤالٌ بسيط، لكنّه خَلخل توازنها.
هل تُخبره الآن؟ هل تُريه الندبة التي خلّفها وهو لا ينظر؟
هل يشعر بالذنب لو عرف؟
مجرد ذرّة، واحدة فقط...

أحمد كان يقرأ ارتباكها، وكأنه يقرأ كتابًا كتبه بنفسه.
اقترب أكثر، كسر المسافة الآمنة، وتعلقت عيناه بعينيها كأنهما يخترقان الجدار الذي بنته بينها وبينه.

– "حسنًا؟ أنا أنتظر..."
قالها بصوته الهادئ، لكن في صمته كان هناك قلقٌ يُخرِج صوت الدم من العروق.

فتحت سارة شفتيها، لكنّ الكلمات كانت تتصارع في حلقها.
قالت بصعوبة:

– "أنا..."

لكن القدر، كالعادة، اختار لحظة أخرى للخراب.

رنّ الهاتف.

نغمة مُحددة، مألوفة... صوتٌ مزعج كجَرّ السكين على زجاج القلب.
رنّت النغمة كالصفعة، كالماء البارد يُلقى على حريقٍ كاذب.

نغمة مارينا.

النغمة ذاتها التي كانت، كلما صدحت في الماضي، يهرع أحمد إليها كما يهرع المدمن إلى جرعته...
دون أن يلتفت إلى من كانت تحترق أمامه.

سارة تجمدت.
شعرت ببردٍ يتسلّل من فروة رأسها حتى أخمص قدميها.
بردٌ لم يكن فيزيائيًا، بل روحي... كما لو أنّ الروح نفسها قررت أن ترتعش.

لم تكن بحاجة إلى النظر إليه لترى ردة فعله.
كانت تعرفه أكثر مما يعرف نفسه.

هي من ارتكبت الخطأ، حين صدّقت أن اللحظة

ممكن أن تُغيّر الماضي.
استحقّت هذا الألم المتكرر، لأنها نسيت الدرس، ووقفت مجددًا في طريق النغمة التي كانت دومًا تسبقها في قلبه.
عندما عاد أحمد إلى الغرفة، بعد أن التهمته مكالمةٌ لم يكن يرغب بسماعها ولا الردّ عليها، بدا وكأن شيئًا في سارة قد انطفأ.
لم تعد نظراتها متوترة، ولا متمردة، ولا حتى مجروحة...
كانت ساكنة.
ساكنة كهدوءٍ يسبق العاصفة، أو ربما كخواءٍ يسبق الموت.

قالت بصوتٍ هادئ، بارد، خالٍ من الانفعال:
– "لا شيء يستحق الذكر... كنت أعاني من نزلة برد، فأقمت في المستشفى لبضعة أيام."

نزلة برد.
كرّرت الجملة في رأسه كما يكرّر العقل الباطن كذبة يعرف أنها لا تنطلي.
لكنّه لم يعترض. لم يقاطع. فقط... فكّر.

تذكّر باقة الزهور الذابلة التي وجدها حين عاد ذات مساء إلى شقتهما الخاوية.
كان قد ظن وقتها أنها غاضبة، أو ربما تتدلّل، كعادتها.
لكنه لم يتخيّل، ولا للحظة، أنها كانت طريحة الفراش... وحدها.

مرّت ثلاثة أشهر منذ آخر مرة تبادلا فيها الكلام، ثلاثون يومًا من الغياب، وثلاثون أخرى من الجفاء، وثلاثون ثالثة من الكتمان.

ورغم الجدار الذي رفعه بينهما، شعر بشيءٍ يشبه الذنب.
لم يكن حبًا، بل كان شعورًا غامضًا... كالتيه بعد العاصفة.
لاحظ كم أصبحت نحيلة. جسدها صار ظلًا لنفسه.

فتح فمه، أراد أن يقول شيئًا، أي شيء...
لكنه لم يعرف كيف.
العداء، الذي بناه

لبنةً فوق لبنة، خنق لسانه.
القلق الذي تسلل إليه كدخانٍ من نافذة مغلقة، تاه في طريقه إلى الكلمات.
قالت سارة، بهدوءٍ مفزع، لا يشبه الانفعال بل أقرب إلى استسلامٍ:

– "انتهى كل شيء يا أحمد.
لم نعد نحتمل رؤية بعضنا البعض.
إلى متى نظل نتشبث بشيءٍ يحتضر؟
دعنا ننفصل.
أنا مرهقة... حد الانهيار."

كانت كلمتها كصفعة على وجه ماء راكد.
لكنّها، رغم قوتها، لم تكن مفاجِئة.
بل مؤجلة.

في لحظة، أُعيد تشغيل مشهدٍ قديم في رأس أحمد:
ابتسامتها لباسل في مبنى البلدية.
ابتسامة عادية، عابرة... لكن في عينيه كانت خيانة.
شرارة الغيرة اشتعلت داخله فجأة، وامتدّت كالنار في هشيم قلبه المعطوب.

لطالما ظن أن طلبها المتكرر للطلاق ليس سوى محاولة للتحرر من قيده... لتندفع إلى ذراعي باسل.

رفع يده، أمسك بذقنها بشيءٍ من القسوة، ونظر إليها بنظرةٍ جامدة، تتقطر منها السخرية:

– "أنا... من يُقرّر إن كنّا سننفصل.
ما دمتِ لم تصلي بعد إلى مرحلةٍ تُصبح فيها الحياة أسوأ من الموت...
فكيف تتوهمين أنني سأدعكِ تذهبين؟"

كلماته خرجت كالسمّ، تنساب بنعومة قاتلة.
ثم انتزع يده منها، كأنها لوّثته.
اتجه إلى الحمام مجددًا، عيناه تلمعان بكراهية مختلطة بالحيرة.

وفي طريقه، ألقى نظرة سريعة على السرير.
لا أثر لتلك الخصلات.
لا أثر للذعر.
فأقنع نفسه، للمرة الألف، أن قلقه كان لا طائل منه.
أنها فقط.

..
ترغب بالهرب منه، لا أكثر.
وهكذا... عاد إلى وحدته، ظنًا منه أنه قد استعاد السيطرة،
بينما الحقيقة كانت تتسلل من بين أصابعه كالرمل.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1