رواية ترانيم في درب الهوى الفصل التاسع والعشرون
في كوخ صغير في مكان بعيد، حيث كانت الرياح تعزف ألحان الحنين عبر الأشجار، جلس إبراهيم أمام المدفأة وكأنما كان يتأمل في نارها التي تتراقص بلهيبها الدافئ، مسترجعاً ذكرياته التي تأسره، كان الجو مليئاً بالعواطف والذكريات، حيث استعاد لحظات سحرية عاشها مع زوجته، تلك اللحظات التي كان يحتضن فيها حضنها الدافئ أمام اللهيب المتألق، كان يذكر كيف كانت تهمس في أذنه بكلمات الغزل، وكل كلمة كانت كالعسل على قلبه، وعيناه تلمعان بشوق وحنين في ذلك الوقت، متلازمان مع صوتها الحنون الذي يعكس مشاعرها العميقة:
"وحشتني يا إبراهيم."
ابتسم إبراهيم بسعادة وعيونه مغمضة كأنه يستشعر حضورها، ولكنه لم يستطع أن يتطلع إليها على الفور، فبدلاً من ذلك، رد بصوت خافت يحمل في طياته مزيجًا من الفرح والألم:
"كنت متأكد انك هتيجي، لسه زي ما انتي حبي في قلبك بس متكبرة."
اقترابها منه لم يكن مجرد خطوة فعلية، بل كان خطوة نحو عودة الذكريات القوية التي ربطتهما، جلست بجواره وهي تحمل في عينيها عاصفة من المشاعر المتناقضة، ووضعت رأسها على صدره، كما لو كانت تبحث عن الأمان في ذلك المكان الذي عرفت فيه القوة والضعف، شعرت بالندم يثقل صدرها، وكأنها تعيد ترتيب أفكارها في تلك اللحظات، ثم قالت بصوت خافت مفعم بالأسف:
"كنت عيلة وقتها يا إبراهيم، مكنتش لسه قد مسؤولية جواز وتربية أطفال، ولما جه غريب كنت خايفة، حاسة أنه موضوع كبير عليا، علشان كده اخترت البعد."
شعرت وكأن تلك الكلمات كانت تعبر عن أمور أعمق في نفسها، لحظات من الشك والخوف التي عاشتها، وكم كان ابتعادها صعباً رغم أنه كان قرارها، كان إبراهيم يستمع إليها، وهو يدرك أن تلك الخيارات لم تكن سهلة على قلبها الصغير، ومن هنا، بدأ يتقارب قلباهما من جديد، في محاولتهما لاستعادة الذكريات الجميلة لبناء جديدة وتجاوز كل مخاوفهما معًا.
قبل إبراهيم رأسها بحب، ثم تحدث معاتباً بشعور من الألم يختلج في صدره:
"إنتي دمرتي حياتنا بأنانيتك دي يا سيمون، لما اختارتي تبعدي، ابنك بقى عنده عقدة من الخلفه، وأنا كنت بموت كل يوم من اشتياقي ليكي، وقصاد ده كله أيه؟ عيشتي حياتك ولا همك غياب حد فينا."
رفعت رأسها نحوه، ونظرت في عينيه بنظرات تحمل عميق الاعتذار والأسف، وكأنها تحاول أن تنقل كل ما عجزت عن قوله، اقتربت من شفتيه، وضعت قبلة خفيفة عليهما، ثم همست بصوت مغوي، لكن مؤلم في آن واحد:
"أنا كنت بنكوي في بعدك يا إبراهيم، آه، عيشت حياتي بعد منك، بس علشان أقدر أنساك وبعد السنين دي كلها مقدرتش انساك برضه، بدليل أن مدخلتش حياتي راجل بعد منك."
مال إبراهيم برأسه نحو شفتيها، وكان شوقه يشتعل بلهيب؛ إذ تلاقت شفاهما في قبلة تغمرهما دفء العواطف، وكأن الزمن توقف حولهما لحظة، وبدأ كل منهما يتخلى عن مبدأه، مبحرين في دوافع مشاعرهم الجائعة للارتواء، وكأنهما يعيدان اكتشاف بعضهما البعض من جديد، في لحظة استثنائية يحمل كل منهما فيها عبء الماضي، ومعه آمال المستقبل المتشكلة من جديد.
***************************
نامت ترنيم داخل أحضان غريب، تشير لمشاعر متضاربة تجاه هذا الرجل الذي فتح لها أبواب جديدة في حياتها، وهو الآخر أسند رأسه على رأسها في لحظة من الأمان، مستسلمًا لنوم عميق تحت نظرات سلطان الغاضبة، التي كانت تنفث غيرة تنهش قلبه كما ينخر السوس في الخشب، كانت الغيرة تطل برأسه، مثل وحش يستعد للانقضاض، وتمنى سلطان لو يستطيع تمزيق هذا الرجل الذي أصبح يشاركه محبوبته كما يتشارك طفل حلوى في العيد، نهض ببطء، تتسارع دقات قلبه مع كل خطوة يخطوها صوبهم، واقترب منهم، وحرك يد غريب بعيدًا عنها بهدوء، حتى لا يشعر به، ثم دسها برفق تحت الغطاء، وهو يشعر بالمسؤولية الثقيلة على كاهله، واستشعر حركة ترنيم، ففتحت عينيها بنعومة، وكأنها تستيقظ من حلم جميل، ونظرت بجوارها، حيث وجدت غريب غارقًا في النوم، كأنه طفل مدلل، أعدت النظر إلى سلطان، الذي كان يقف هناك كفارس متأهب للقتال، وتحدثت بصوت هامس:
"بتعمل ايه يا سلطان؟"
جلس على المقعد المقابل لها، وعلامات القلق بادية على وجهه كجبال تتراكم على الأفق، وقال بصوت منخفض وكأن حديثه مخافة أن يكسر حالة السكون:
"كنت بحط الغطا كويس عليكي علشان متبرديش."
ابتسمت له برقة، واختلط شعورها بالحنين، وتحدثت بصوت مختنق كما لو كانت تحاول كبح مشاعر السياط التي تخدش قلبها:
"أنا كبرت خلاص يا سلطان على الحركة دي، كنت بحس بيك كل يوم وانت داخل تطمن عليا وتحط الغطا كويس عليا."
أمسك يدها بلطف، متأملًا عينيها التي تحمل عبء الحيرة، وتحدث بصوت هامس يعكس مشاعره العميقة، كأنما يسرد قصة عاطفية قديمة:
"إنتي هتفضلي على طول بنت قلبي يا ترنيم، اللي بخاف عليها من الهوا الطاير، وأحميها بعمري كله."
نظرت بتوتر إلى غريب، وكأنها تعيش في صراع داخلي، ثم أبعدت يدها برفق، وتكلمت بتلعثم، كما لو كانت تتحدث إلى نفسها:
"س سلطان، ارجع مكانك علشان لو غريب شافك قاعد هنا جنبي، مش هيحصل كويس."
نظر إليها بوجع، واستشعر قلقها العميق، وسأل بحذر كما يسأل طفل عن سر العالم:
"حبتيه؟"
أغلقت عينيها بحزن، كما لو كانت تحاول إغلاق أبواب الماضي الذي يلاحقها، وتحدثت بصوت مختنق تتحشرج فيه الكلمات:
"سلطان، كفاية، ارجوك. أنا لحد دلوقتي بدفع تمن الغلطة اللي حصلت ما بينا قبل كده، وغريب لحد دلوقتي مش بيثق فيا."
"بقيتي تخافي منه زي ما كنتي بتخافي مني، بقى فيه راجل في حياتك غيري يا ترنيم."
قالها سلطان بلهجة تحمل في طياتها مزيجاً من الغيرة والألم، كانت كلماته كأنها جرح عميق يفتح مشاعر مؤلمة سبق أن عانت منها، كان شعور الانتزاع مؤلماً، وكأنها أُخذت منه لتعطى لآخر، لحظات من الصمت سادت بينهما ثم تنهدت بحزن، وأمسكت يده بتحفظ وكأنها لا تريد أن تفقده، وتكلمت بصوت مختنق:
"أنا بحبكم أنتوا الاتنين يا سلطان، هو جوزي ويستاهل الحب لأنه حنين وطيب معايا، وأنت علشان اللي ربتني ولحد دلوقتي شايل مسؤوليتي وبتخاف عليا."
كانت كلماتها تنبع من شغاف قلبها، متأثرة بالمشاعر المتناقضة التي تجتاحها في كل لحظة.
"يعني أنا في حياتي دلوقتي، سلطان الدسوقي وغريب ضرغام، ومحظوظة بوجودكم معايا، وحاسة بالأمان معاكم."
أغلق عينيه حتى لا تخدعه دمعة هاربة، وتحدث بصوت مختنق:
"بس انتي هتفضلي بتاعتي يا ترنيم، وهرجعك تاني لحضني قريب أوي، وساعتها هتعرفي أن اللي في قلبك هو أنا وبس." كان صوته يتأرجح بين الأمل والقلق، كما لو كان يحاول رسم صورة مستقبلية بينهما لا يمكن أن تمحى، لكن الحقيقة الموجعة كانت أن كلمة 'قريب' لا تعني شيئًا في عالمهما المعقد. كلما زاد قربه منها، كلما أدرك أن الحب قد لا يكون كافياً لإيقاف الزمان أو استرجاع اللحظات المفقودة، وهل يمكن للحياة أن تعيدهم لبعض كما كانوا؟
أنهى كلامه، وقبل يدها بحب، كأنها آخر لمسة تعبر عن كل ما في داخله، ثم نهض من مقعده وخرج من الغرفة سريعاً، مصطحبًا معه فيضًا من المشاعر الجياشة.
نظرت إلى أثره بحزن، ثم نظرت إلى غريب بأسف، والدموع انهمرت منها بغزارة. كانت تعيش لحظة انكسار، تتقلب بين الحب والواجب، وبين من تحب ومن تحتاج، وبينما كانت الدموع تتدفق، كانت تدرك شيئاً واحداً: أن قلبها محاصر بأعتى الخيارات، وأن أي قرار قد تشعر بآثاره لمدى الحياة.
***************************
في صباح اليوم التالي...
استيقظ غريب من نومه واختلطت مشاعر الإرهاق الشديد في عينيه، حيث فتحهما ببطء وتوجه بنظرة قلق إلى الجانب الآخر من السرير. لم يجد ترنيم بجواره، مما أثار في قلبه نبضات الخوف والقلق، انتفض في مكانه ونهض بسرعة، يبحث بعصبية عنها، وزادت مخاوفه عندما لم يعثر على سلطان. الحيرة والشك تسللا إلى قلبه، وقبل أن يتمكن من فتح الباب، وجدها تخرج من المرحاض، تستند على الحائط وكأنها تعاني من دوار، نظرت له بدهشة وسألته بفضول:
"مالك يا غريب مفزوع كده ليه وكنت رايح فين كده؟"
اقترب منها بشكل مفعم بالقلق، وفتح باب المرحاض بسرعة، متمعنًا في الداخل وكأنه يبحث عن إجابات لم يمكنه العثور عليها في عينيها، تأمل بعمق في تفاصيل المكان، يبحث عن سر غياب سلطان، بعد ثوانٍ من الصمت المحموم، أغلق الباب مرة أخرى وكأنه قام بصد كل الشكوك المتراكمة حولهم، تحدث بصوت مشوب بالغيرة، تتردد كلماته في أرجاء الغرفة:
"هو فين؟"
فهمت ما يقصده وزفرت بضيق، قبل أن ترد بنفاذ صبر، وكأن كلماتها تعكس الجروح المستعصية داخلها:
"ما هو مش معقوله يعني أنه كان معايا في الحمام يا غريب ومعرفش سلطان راح فين خرج بليل من الأوضة ومن ساعتها مرجعش."
أرجع يده نحو شعره بضيق، مشيرا إلى حيرته وقلقه الذي بدأ يعصر قلبه:
"أنا مش عارف أصلاً بيعمل معانا إيه؟"
تحركت باتجاه السرير وتحدثت بألم وحزن يتجلى في صوتها، وكأنها تحاول إقناعه بأن مشاعرها أعمق مما تبدو:
"غريب، مش اللي هنعيده هنزيده، سلطان ابن خالتي واللي مربيني، ووجوده هنا لأنه خايف عليا زيك بالظبط، رضيت أو لا، هو من أهلي ووجوده شيء مهم في حياتنا."
زفر بضيق، وقد ارتفعت نبرة الغضب في صوته كما تتصاعد الأمواج في البحر:
"المشكلة أن الكلام ده قولتيه قبل كده يا ترنيم، وفي الآخر..."
قاطعته مباشرة بحزم، وكأنها تتخذ موقفًا حازمًا في وجه مشاعر الخوف:
"مكناش أنا وأنت قربنا من بعض يا غريب، من الآخر كنت مغصوبة عليك ومش متقبلة وجودك في حياتي، إنما دلوقتي كل حاجة اختلفت وبقيت حاجة مهمة عندي يا غريب، تفكيري في سلطان بقى بعقلانية أكتر."
تفتح قلبه بسعادة، كانت كلماتها بمثابة اعتراف بحبها له، اقترب منها وجلس بجوارها على السرير، مشدودًا يدها بحب، وتحدث بعشق خالص، كأن الحياة عادت إلى عينيه:
"بجد يا ترنيم، يعني انتي بتحبيني دلوقتي؟"
كوبت وجهها بكفيها، ونظرت له بعينيها اللامعتين، ثم همست بصوت منخفض، يدفعه إليها بادئًا رحلة جديدة بينهما:
"انت شايف إيه يا غريب، أنا دلوقتي معاك زي الأول؟ هل نظرت عيوني ليك نفس النظرة اللي أول ما عرفتك؟ طيب موضوع أني عايزة يبقى ليا طفل منك ده مش بيأكد حبي ليك؟"
اقترب منها أكثر وهمس بجوار شفتيها، تملأه رغبة عارمة للسمع:
"قوليها ليا على طول يا ترنيم، قوليلي انك بتعشقيني، اعترفي بمشاعرك ليا طول الوقت."
حاوطته بذراعيها وتحدثت بصوت مغوي، وكأن سحر الكلمات يفيض منهم:
"بحبك يا غريب."
اقترب من شفتيها والتهمهما بشوق، وكأنهما أصبحا في عالم خاص بهما، بعيدًا عن كل ما يحدث حولهم، لكن استيقظت عواطفهم على صوت دخول سلطان، الذي صدم عندما رأى ذلك المشهد، احمرت عينيه بغضب وكانت نار الغيرة تحرق قلبه، في مشهد أشبه بالروايات الدرامية، ابتعدت ترنيم بسرعة عن غريب، توترت يديها مع رؤية نظرة سلطان الجارحة لهم، أغمضت عينيها وتحدثت بتلعثم وكأنها تحاول العثور على الكلمات المناسبة وسط عاصفة من المشاعر:
"س سلطان انت كنت فين من إمبارح؟"
لم يجيب عليها، وظل ينظر إليهم بدهشة وغضب، كأنه وجد نفسه في مشهد خيانة لم يتوقعه، تكلم غريب بغضب شديد، وكأن كل مشاعره المكبوتة قد انفجرت:
"هو انت متعرفش حاجة اسمها خصوصية؟ مش المفروض تخبط على الباب قبل ما تدخل؟"
أغلق يده بغضب حتى لا ينقض عليه، لكن ضغط على أعصابه وتحدث بهدوء حذر، وكأنه يحاول السيطرة على ثورته:
"معرفش أن الحاجة دي بتتعمل في المستشفى عادي؟"
ابتسم له بتهكم وأجاب بنبرة غاضبة، وكأن الكلمات تنبعث من قلبه:
"مع أنها حصلت منك قبل كده في المستشفى وكنت ناوي أقتلك، بس طلعت شبه القطط بسبع ارواح."
اقترب منه سلطان بغضب وكاد أن يشتبك معه بمعركة أخرى، لكن تدخلت ترنيم سريعًا، عازمة على إنهاء الموقف قبل أن يتصاعد أكثر من ذلك:
"والله العظيم لو مسكتوا في بعض تاني همشي وهسيب المستشفى ومش هرجع مع حد فيكم، كفاية بقى شغل العيال ده، مش كل شوية هتتخنقوا وتمسكوا في بعض."
ضغط غريب على أسنانه بغضب، ولمعت عيناه بتحدي:
"أنت عارف لو مبعدش عن حياتنا همحيك من الدنيا خالص."
ابتسم له بتهكم وأجاب، وكأنه يتحدى:
"طول ما انت معاك حتة من قلبي، مش هحل عنك إلا لو رجعتها تاني مكانها، وده هيحصل قريب أوي."
أغلقت ترنيم عينيها بنفاذ صبر، وقد تفجرت فيها مشاعر الإحباط:
"بس بقى، كفاية، حرام عليكم، انتوا كده بتضغطوا علي أعصابي، أنا تعبت وزهقت."
احتضنها غريب برفق وتحدث بنبرة حنونة، وكأن الكلمات تكون درعًا يحميها:
"خلاص يا حبيبتي، إهدي خلاص."
وضع سلطان يده على وجهه بنفاذ صبر وخرج من الغرفة بسرعة قبل أن يرتكب جريمة مع هذا العدو اللدود، تاركًا خلفه أجواء مشحونة بالتوتر.
ابتعدت ترنيم عن حضن غريب وبحثت عن سلطان، وجدته قد خرج من الغرفة، زفرت بضيق وتمدت على السرير، وكأن الألم يتسلل إلى جسدها من جديد، وقالت بألم:
"أنا هريح شويه، الجرح وجعني أوي."
دس غريب الغطاء عليها، مقبلاً رأسها بحب، عازمًا على أن يكون لها السند الذي تحتاجه:
"ماشي يا حبيبتي، ريحي شويه."
وجلس على المقعد المقابل لها، وظل يحرك يده على شعرها بحنو، وكأن لمساته تزرع بعض السكينة في قلبها المنهك.
****************************
داخل الكوخ...
كانت سيمون نائمة على صدر إبراهيم العاري، تستمتع بلحظة الحميمة التي لطالما حلمت بها، كان إحساس دفء جسده يعيد إليها ذكريات السعادة والحب التي عاشت في قلبها لسنوات، عينيها تغتسل بنور الحنين، تراقب أمامها بصمت تام، وكأن الزمن توقف حولها، اشتاقت لدقات قلبه، التي كانت بالنسبة لها ترانيم الحب، ولرائحته التي تعشقها لحد الجنون، رائحة تعيد إليها شريط الذكريات الجميلة في كل لحظة، شعرت بيد إبراهيم تتحرك على ظهرها العاري، برفق كما لو كان يحاول أن يمحو كل أوجاع البعد، وصوته المحبب لقلبها يقول:
"ساكته ليه يا سيمون، ندمانه على اللي حصل ما بينا ده؟"
رفعت رأسها إلى الأعلى، نظرت في عينيه اللتين تملؤهما الشوق، وحركت رأسها بالرفض كأنها تنفي كل ما كان قد ألم بها. ردت بحب:
"لا طبعا، كان وحشني كل حاجه فيك، لسه دقات قلبك بدق بحروف اسمي زي زمان، ريحتك زي ما هي، مافيش حاجه اتغيرت فيك غير حاجه واحده بس."
نظر لها باستغراب، عينيه تسأل عن تلك الشيء الغامض، وقال بتساءل:
"ايه هي الحاجه دي؟"
قبلت صدره بحب، ولمست قلبه برفق، ثم أجابت عليه قائلة:
"نفسك بقى أسرع من الأول، معرفش ده بحكم السن ولا لأنك كنت مشتاق ليا."
ابتسم على كلماتها، تلك الابتسامة التي كانت تحمل في طياتها وعود جديدة للحب والأمل، ثم قال:
"لا متقلقيش، أنا لسه شباب زي ما أنا، لكن اشتياقي ليكي فاق الحدود، وحشتيني لدرجة الجنون يا سيمون."
ارتسمت ابتسامة على ثغرها، ونظرت إليه بعينيها الدافئتين، ثم قالت:
"عارف، أنا اتقدم ليا رجاله كتير أوي بعد منك، لكن ما فيش واحد فيهم ملا عيني زيك، محدش قدر ياخد مكانك في قلبي، حتى في اللحظات اللي كنت بحاول أنسى فيها، كنت بكتشف أن ذكرياتنا اللي عشناها مع بعض لسه عايشه جوايا، فضلت طول السنين دي كلها عايشة على أمل لحظة زي دي."
قبل رأسها بحب، فقال بصوت همس مليء بالشوق:
"تعالي نرجع لبعض يا سيمون، نعيش الباقي من عمرنا سوا."
اعتدلت سريعًا في جلستها، وأشعلت سيجارة بأصابع مرتعشة، فاستنشقت دخانها ببطء وكأنها تتأمل عواقب كلامه، ثم قالت بحزن واضح:
"للاسف مش هينفع، يا إبراهيم."
اعتدل في جلسته ونظر لها بأستغراب وقال بتساءل:
"ليه مش هينفع يا سيمون؟"
نفثت الدخان بالهواء وقالت بصوت مختنق:
"بابا مش هيرضى. متنساش إنه مكانش موافق عليك من الأول خالص، ولما أطلقت منك كان هو أول المؤيدين للخطوة دي، كان بيقول إنك مش الشخص المناسب ليا، ولو طلبت أننا نرجع تاني لبعض بعد السنين دي كلها، استحالة يوافق."
رد عليها باستغراب، وقال:
"بس احنا مش صغيرين يا سيمون، احنا ابننا كبير ومتجوز، واحتمال في أي وقت نبقى أجداد، يعني القرار في أيدينا احنا، مش في أيد أبوكي، لازم نفكر في الأمور بعقلانية."
وضعت غطاء السرير حول جسدها العاري، واستقامت بجسدها، وقفت أمام النافذة وزفرت دخان السيجارة بحزن يثقل كاهلها. ثم قالت بصوت ضعيف:
"أنا لو وافقت على طلبك ده، ابقى بنهي حياتك يا إبراهيم، ارجوك، بلاش تقرب مني بأي طريقة، أنا عارفة المكان اللي هنتقابل فيه، وقت ما تشتاق ليا، هحس بيك وهتلاقيني قصادك، أنا لازم أمشي، الوقت اتأخر."
مالت بجسدها، وأخذت ملابسها المبعثرة على الأرض، ودلفت المرحاض بحركة سريعة، كما لو كانت تحاول الهروب من القرار الذي فرضته على نفسها، نظر إبراهيم إلى أثرها بحزن عميق، ثم أغلق عينيه بندم وشعور بالأسف الكبير لأنه طاوعها وقتها وتركها طوال هذه السنين، تمنى لو يمكنه أن يغير الماضي، لكن الندم لم يكن كافياً لفتح أبواب جديدة.
****************************
بعد مرور عدة أيام...
بدأت ترنيم في تجهيز نفسها للخروج من المشفى، حيث كانت قد أمضت وقتًا طويلاً تتلقى العناية، في تلك الأيام القليلة، شعرت بأن الحياة كانت تمر من أمامها وكأنها مجرد حلم بعيد، بعد مضي بعض الوقت، هبطت إلى الأسفل ببطء، كأن كل خطوة تأخذ منها جهدًا كبيرًا، وصعدت على المقعد الخلفي للسيارة، حيث كانت تخبئ داخلها مشاعر مختلطة بين الارتياح والخوف من مواجهة الواقع الخارج، وقبل أن يصعد غريب بجوارها، تحدث سلطان بصوت غاضب، يملؤه التوتر الذي كان يسود الأجواء:
"أنا مش سواق أبوك أنا، اقفل الباب وتعالى اركب هنا جنبي."
كاد أن يرد عليه غريب، لكن نظرة ترنيم له كانت مليئة بالرجاء، التي تحمل بين طياتها عبء الضغط النفسي الذي عاشته في المستشفى، تطلب منه أن يفعل كما يريد سلطان، كانت قد اكتفت من مشاغباتهما المستمرة، التي كانت وكأنها تصرفات أطفال في روضة، تلك الديناميكية التي بدت لها طفولية، لكنها في ذات الوقت كانت كفيلة بجعلها تضحك في ظل محنتها، زفر غريب بغضب، غير متقبلًا أن يظهر تفاهة على تلك اللحظة، دفع الباب بقوة، ثم تحرك للأمام وصعد إلى المقعد الأمامي، وقال من بين أسنانه:
"نروح من هنا مش عايز أشوف وشك تااني، فاااهم."
أدار سلطان السيارة وتحدث بتهكم، مما زاد من احتقان الموقف:
"بتحلم، على قلبك لحد ما ترجع بنت قلبي ليا."
وضغط بقوة على البنزين، وتحرك بسرعة جنونية، مما جعل ترنيم تشعر أن قلبها سيقفز من مكانه، وبعد فترة، وصل سلطان بالسيارة إلى الفيلا الخاصة بغريب، عندما ترجل من السيارة وفتح الباب لترنيم، قبل أن يمسك يدها، دفعه غريب بعيدًا ومال بجسده ليحملها بين ذراعيه، وكأنها كنز ثمين خشي من فقدانه، ثم تحرك بها إلى داخل الفيلا، حيث كانت الأجواء مشحونة توترًا.
دفع سلطان باب السيارة بغضب شديد، وتحرك خلفهم إلى الداخل، يغلي من الانفعال، وضع غريب ترنيم على الأريكة وجلس بجوارها، ممسكًا يدها بحب، كأن هذا الارتباط هو ما يجعل العالم يستحق العيش فيه، وقال:
"عامله إيه دلوقتي يا قلبي؟"
ابتسمت له وصوتها كان يحمل لمسة من الشكوى:
"كويسة يا غريب، مكانش فيه داعي أنك تشلني، أنا كنت أقدر أمشي على رجلي."
فأجابها سلطان بصوت مليء بالغضب، كأنه لم يستطع كبح جماح غيرته:
"أصله بيحب يعمل نفسه جدع وكده."
رد غريب بدوره بغضب، وكأن الكلمات كانت تسري في عروقه:
"أنا ممكن أفهم، أنت إيه دخلك ورانا؟ ما تتفضل بقى ارجع الحارة وشوف شغلك بدل ما أنت لازق لينا كده."
استقامت ترنيم بجسدها، محملة بعبء الهزيمة التي بدأت تطغى على مشاعرها، وتحدثت بنفاذ صبر تحاول إخفاءه عن الآخرين:
"أنا طالعه أريح في أوضتي، علشان مش هخلص من نقيركم اللي بقى حاجة أوفر بصراحة."
أدركت أنها بحاجة للابتعاد عن هذا الصراع الذي يستنزفها نفسياً وعاطفياً، لذا تحركت بسرعة باتجاه الدرج وصعدت إلى الأعلى، وكأنها تهرب من واقعها المرير، دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها بإحكام، حيث كانت تلك الغرفة ملاذها الوحيد من الفوضى التي تحيط بها، جلست على السرير، تراقب الفراغ أمامها، وكأنها تبحث عن إجابات لا تأتي، ثم تحدثت بصوت مختنق، مملوء بالشجن:
"وأخرت اللي أنتي عايشة ده إيه يا ترنيم؟ لا قادرة تنسي حب سلطان وتشليه من قلبك، ولا قادرة تحبي غريب وتدي قلبك فرصة يحبه، كل اللي قاعدة تعمليه هو الكدب وبس، تقولي لسلطان إنه بقى مجرد راجل عابر في حياتك وتكدبي على غريب وتوهميه بحبك ليه، أنا حاسة أني في دوامة مش هخرج منها إلا لو انتهت حياتي."
في لحظة من اللحظات، استشعرت أن الكلمات التي تخرج منها ليست سوى صدى لما تعانيه داخلياً، أنها مجرد أقنعة ترتديها لتخفي ما في داخلها من فوضى، أنهت كلامها بتنهيدة عميقة، محملة بكل آلامها وخيباتها، واستقامت بجسدها، وهي تنوي ذو العزيمة، وتوجهت إلى المرحاض كخطوة رمزية للتخلص من كل ما يحمل قلبها من مشاعر متناقضة.
*****************************
في المساء، عاد سلطان إلى منزله كعادته، لكن هذا المساء كان مختلفًا، صعد إلى شقته ببطء، وكأن ثقل العالم بأسره يثقل كاهله، ودلف إلى الداخل حيث كان ينقض عليه الصمت كالعاصفة، ولأول مرة منذ زمن طويل، لم تركض إليه ابنته رنيم كعادتها مرحبة به بوجهها البشوش وضحكتها الملائكية، جلس على الأريكة، زفر بضيق من الأعماق وكأن كل آلامه تخنقه، وقال بلهجة محبطة:
"تعالي يا رنيم."
حركت رنيم رأسها بالرفض، ولأمر غير معتاد، ركضت بعيدًا عنه وكأنها تجتاز حاجزًا لا يمكن تخطيه نحو غرفة والدتها، كان قلب سلطان يتمزق وهو يشاهدها تتجاهله، وكأن الفجوة بينهما اتسعت بشكل مأساوي، وبعد فترة قصيرة، خرجت فريدة من الغرفة، عابسة الوجه وكأنها تحمل هموم العالم بين كفيها، ولم تتكلم معه على الإطلاق، بل فقط توجهت إلى المطبخ وكأنها تجنبت مواجهته، وبعد عدة دقائق، عادت حاملة كوب عصير بيديها الباردتين، وضعت الكوب أمامه بلطف وتكلمت بنبرة حانية لكنها جادة:
"اتفضل أشرب ده."
حرك رأسه بالرفض، واستقام في جلسته وكأن رغبة النوم تختفي من عينيه. قال بوضوح:
"لا، مش عايز، أنا داخل أنام."
لكن فريدة سارعت بالكلام، وصوتها مختنق بالعواطف:
"سلطان، حتى لو مش هنقدر نكون زوجين كويسين، على الأقل خلينا أب وأم محترمين وجودهم قصاد بنتهم، أنا بقوم بواجباتي معاك، مليش دعوة بقى أنت هتقوم بواجباتك ولا لا، ده عصير، مش هيحصل حاجة لو شربته وقلت تسلم إيدك، على الأقل بنتك تحس بالمودة ما بينا، لأن نفسيتها بدأت تتأثر بعلاقتنا دي."
كانت كلماتها تتناغم مع الشوق والحنين لماضي جميل، حيث كان بيتهم مليئًا بالحب والضحك، ولكن الوضع الحالي كان يجرهم نحو الهاوية.
أغلق عينيه بضيق، وكأنه يحاول أن يهرب من كل ما حوله، وأخذ كوب العصير من الطاولة، ارتشفه دفعة واحدة وكأنما يحاول الهروب من الواقع الذي يعيشه، ثم قال بصوت خافت:
"شكرا على العصير."
بعدها تحرك نحو غرفة ابنته، بدل ملابسه، وتمدد على السرير، بينما كان قلبه في حالة من الفوضى، ظل نظره معلقًا إلى الأعلى حيث كان السقف يعكس خيبات آماله، وبعد فترة شعر بحرارة جسده ترتفع وكأن الغضب والقلق يشتعلان في داخله، اعتدل في جلسته، وبدأ العرق يتناثر على جبينه، محاولًا أن يسيطر على مشاعر القلق التي كانت تهاجمه بصورة غير متوقعة، تعالت أنفاسه كالأمواج العاتية، وتدهورت حالته بشكل ملحوظ، لم يعد يشعر بقدرته على التحمل، فتح الباب واتجه نحو غرفة فريدة، دفع الباب وعينه تتقدان بالبؤس، وتحدث بصوت مخيف:
"روحي ودي البت أوضتها."
نظرت له بابتسامة لئيمة، حاولت بها أن تخفي قلقها، وسألته باستغراب:
"ليه؟"
صاح بصراخ، مشاعر الغضب والألم تتجلى في صوته:
"ودي البت، بقوولك أوضتها."
أومأت برأسها ببطء، وكأنها تدرك عمق الأزمة التي يمر بها، وقالت بخوف مصطنع:
"حاضر، حاضر."
أحست برغبة في إرضائه، حتى لو كان ذلك على حساب كرامتها، فالعلاقة بينهما كانت معقدة كخيوط العنكبوت، حملت فريدة ابنتها بين ذراعيها، وأخذتها إلى غرفتها الصغيرة، حيث كانت الغرفة مزينة بألوان زاهية وصور طفولية، وضعتها على سريرها،
ثم عادت مرة أخرى إلى عنده في الغرفة، حيث كان في حالة من الفوضى العاطفية، أمسك يدها ودفعها نحو الباب، وكأنها قطعة شطرنج في لعبة يتحكم فيها بشغف، انهال عليها بالقبلات، حتى أن حرارة جسده جعلتها تشعر بالاختناق، مال بجسده وحملها من الأرض، وضعها على السرير وكأنها فتاة في احتفالية وليمة لعشقه المجنون.
اقترب منها وتعامل معها بعنف وقوة، حركاته كانت غير متناسبة مع مشاعره الحقيقية، وكأنها دعوة إلى مواجهة لا تنتهي، بعد فترة، جلس على السرير بأنفاس متقطعة، أشعل السيجارة، أخذ منها نفساً عميقاً وزفر الدخان في الهواء كما لو كان يحاول إذابة مشاعر الندم في سحابة تلك الرائحة المنفرة، محاولًا فهم ما حدث له وأوصله إلى هذه الحالة، كان كل نفس يأخذه يعود به إلى هدوء عقله، لكنه سرعان ما يطلقه نحو الفوضى التي سكن فيها.
في تلك اللحظة، شعر بيد فريدة تلتف حول خصره، وقبلاتها الحارة تتدفق على ظهره العاري، وكأنها تحاول إحياء شي فقد جانبه. زفر بضيق، واستقام بجسده، ولم ينظر إليها، كان يحاول إبعاد نفسه عن تلك الفوضى، اتجه إلى المرحاض، وقف أسفل الماء، وأسند ذراعه على الحائط، يشعر بالاختناق، وكأن سيل من المشاعر المتضاربة يغمره، زفرة قوية خرجت منه، وفيما بعد خرج وارتدى ملابسه، عاد إلى غرفة ابنته وتمدد بجوارها، ظل نظره معلقًا إلى الأعلى، مشاعر الاشمئزاز تسيطر عليه وهو يرى نفسه بمظهر ضعيف أمام شهواته، وكأن تلك اللحظات كانت مرآة تعكس تناقضات روحه، تذكر ترنيم وحالها الآن، أغلق عينيه بندم، وتمنى لو عاد به الزمن لتصحيح تلك الأخطاء، لتبقى محبوبته معه وداخل أحضانه للأبد، لكنه علم في أعماقه أن ذلك كان حلمًا بعيد المنال، فالحياة لا تعيد نفسها، وإنما تسحب ما تبقى من روح الشخص في تقاطع الطرق الذي اختاره.
***************************
بعد عدة أسابيع...
تجمعت العائلة في الفيلا الخاصة بسلطان للاحتفال بخطبة سميه وحسام، كانت سميه تشبه الأميرات، إذ بدت كالشمس المشرقة في يوم مشمس، حيث كانت السعادة تضغط على وجهها رغم شعورها بفقدان خالتها وفاء، كانت شاردة في أفكارها، تسترجع ذكرياتها مع خالتها التي لطالما كانت سنداً لها في أوقات الشدة، حتى سمعت صوت ترنيم بمزاح وخفة ظل:
"من أولها كده بتسرحي فيه، طيب دي لسه خطوبه، أمال في الفرح هتعملي أيه؟!"
ركضت سميه سريعاً وارتمت في أحضانها، تتحدث بصوت مختنق، رغم ابتسامتها المشرقة:
"فوفة وحشتني أوي يا ترنيم، كان نفسي تكون معايا دلوقتي."
شعرت بتلك الدموع تختلج في عينيها لكنها حاولت أن تتمالك نفسها، معتقدة أن تلك اللحظة تنتمي إلى الفرح الذي لم يكتمل، فالأجواء كانت مليئة بالضوء والبهجة، لكن غياب وفاء كان يظلل تلك الفرحة.
أغلقت عينيها بحزن وتكلمت بصوت محشرج:
"فوفة وحشتنا كلنا، ربنا يرحمها ويصبر قلوبنا على فراقها."
شعرت أن حضن ترنيم هو أكثر الأمور التي تهون من وطأة الفراق، وكأنها تشعر بوجود وفاء في تلك اللحظة، ترعاها وتدعمها كما كانت تفعل دائماً.
ثم أبعدت سميه عن حضنها وقالت:
"بلاش تنكدي على نفسك وعلينا في يوم زي ده، أخيراً هتتخطبي لحب عمرك، وهتترحمي من مراقبة الشباك."
ابتسمت لها بخجل وقالت:
"أنا مش عارفه هتعامل معاه إزاي بعد الخطوبه والوضع الجديد ده، حاسه نفسي مكسوفة أوي."
رفعت عينيها بملل وتحدثت بنفاذ صبر:
"يا بنتي، دي خطوبة والله العظيم، يعني هتتعاملي معاه عادي جداً، بلاش كسوفك الأوفر ده، بالله عليكي مش ناقصه فقع مرارة."
نظرت لها بضيق، وعلامات الخجل ظاهرة على وجهها، وقالت:
"أعمل إيه، أنا كده خجولة، مش بجحة زيك."
دفعتها بقوة وقالت:
"بقى أنا بجحة يا صفرا، ماشي يا سمية، يارب حسام يطلع عينك، ما هو متخافيش غير من السهون ده، تلاقيه جريء زيادة عن اللزوم بعد ما يتمكن."
ضحكت سميه وقد شعر قلبها بالثقة المتزايدة، وكأن الأمور بدأت تأخذ مجراها الطبيعي.
"بركاتك يا خبرة."
كانت ضحكاتها تملأ المكان، كأنها تخفف عنها حمل الخجل، وتحضر نفسها لليوم المنتظر.
في تلك الأثناء، سمعوا صوت طرقات على الباب، توجهت ترنيم لفتحه، ووجدت سلطان يقف أمامها مبتسماً، كأن نجم جديد قد أطل عليهم، قالت له:
"خير يا سلطان؟"
كانت لهجتها مفعمة بالفضول والترقب.
نظر لها بإعجاب، وقال:
"طالعة زي القمر."
كان عذوبة الكلمات في صوته تجذب الانتباه، وكأنه يعكس سحر اللحظة التي يعيشونها.
تنحنحت بتوتر وقالت:
"ش شكرا، خير، كنت عايز حاجة؟"
حاولت تخبئة توترها خلف ابتسامة بسيطة.
أغلق عينه حتى يهدأ قليلاً ثم قال بصوت مختنق:
"جاي أخد سميه علشان حسام يلبسها الشبكة."
أومأت برأسها وأفسحت له الطريق للدخول، ورغم عدم استحضارها لأي كلمات، كانت القلوب تتحدث بلغة الفرح والمشاعر المكتومة.
تحرك سلطان من أمامها لكنه توقف بالقرب منها، وتحدث بصوت هامس بجوار أذنيها:
"عقبال ما نخلص من اللي اسمه غريب ويكون فرحنا أنا وإنتي هنا في نفس المكان."
كان صوته قريباً جداً وناعماً، مما جعلها تشعر بالتوتر يتصاعد.
تراجعت إلى الخلف بتوتر، وابتعدت عنه وقالت:
"س سلطان، مينفعش كده، وبعدين مين قالك إن أنا ناوية أسيب غريب؟ ريح نفسك، عمر ما ده هيحصل."
نظر لها بضيق، وقبل أن يتحدث، وصل غريب واقترب منهما، وأحاط خصر ترنيم بذراعه مقبلاً خدها بحب، قائلاً:
"معلش يا روحي اتأخرت عليكي، كان عندي شغل مهم بخلصه."
تلك الكلمات كانت كفيلة بإضفاء شعور الراحة، لكن ظل القلق مشتعلاً.
ابتسمت له وتحدثت بنبرة هادئة:
"ولا يهمك، المهم إنك جيت، يلا بينا ننزل تحت، كده كده سلطان جاي ياخد سميه ونازلين."
كانت عيناها تعكسان كل الأمل والقلق في آن واحد، كما لو كانت تعيش لحظة فاصلة تعيد تشكيل مستقبلها.
نظر غريب إلى سلطان بضيق، وأمسك يد ترنيم برفق، ثم خرجوا من الغرفة معًا، بدا على وجه سلطان علامات الغضب العميق، حيث أغلق قبضة يده بقوة، كأنه يحمل في داخله عاصفة من المشاعر المختلطة، سحب نفسه نحو سميه بحزم، ومع تردد خطواتهم هبطوا إلى الأسفل، جلست سميه بجوار حسام، وعلى وجهها ابتسامة مشرقة، بينما بدأ حسام يلبسها شبكتها وسط تصفيق حار من الجميع، اجتاحت الأجواء لدقائق اللحظات السعيدة، وبدأت الأغاني الشعبية تشغل، حيث كان الحضور ينضم للرقص ويمتلئ المكان بالبهجة والسرور، في حين كانت ترنيم عاجزة عن الانغماس في هذه الأجواء.
في تلك الأثناء، اقتربت فريدة من سلطان، وأمسكت بذراعه بطريقة حميمية تمزج بين الفخر والإثارة، مما زاد الأمور حدة أمام ترنيم وغريب، وكأنها كانت تحاول استعراض انتصارها في لعبة صامتة، أغلق سلطان عينيه بضيق، وتحول نظره نحو ترنيم بحزن عميق، حيث أدرك في تلك اللحظة كم أن الأوقات تتغير وأن الحياة تعطي البعض ما لا يمكنهم الحصول عليه، ولكن ما جعل الجميع يتوقف أنفاسهم هو عندما قالت فريدة بوضوح وسخرية:
"مش تقوليلي مبروك يا ترنيم، مش أنا حامل في العيل التاني من سلطان."
كان صمت الغرفة ثقيلًا، وكأن كل الأنفاس توقفت، وأصبح الوقت وكأنه تجمد في تلك اللحظة المحملة بالتوتر.
أغلقت ترنيم عينيها، وتجمعت الدموع في عينيها وكأنها تمثل بحارًا من الآلام التي تغلغلت في أعماقها، حركت يدها تلقائيًا على بطنها، كل آمالها وأحلامها بتحقيق الأمومة تراودها في تلك اللقطة المؤلمة، كانت تتمنى بصدق أن يأتي يوم وتملك طفلاً من سلطان، إلا أن الحياة لم تكن لتكون عادلة، ودائمًا ما تأتي الرياح عكس التيار، لقد أصبحت تحمل في داخلها مشاعر الإحباط والحرمان، حيث أنجبت فريدة طفلين من حبيبها، بينما كانت هي محرومه من هذه النعمة التي تتمنى أن تمتلكها أي امرأة على وجه الأرض.
شعرت بيد غريب تتحرك على ظهرها برفق كأنه يحاول تخفيف آلامها، وتهدئتها، في تلك اللحظة الحرجة، تحدثت بصوت محشرج، كأن الكلمات تأبى الخروج من حنجرتها:
"عن إذنكم، أنا داخلة الحمام."
كان صوتها ضعيفًا وصدى كلماتها يحمل كل ثقل الحزن الذي في صدرها.
أنهت كلامها، وركضت سريعًا من أمامهم، دلفت إلى المرحاض، ووضعت ظهرها على الباب وكأنها تبحث عن طريق للهروب من واقعٍ لم تعد قادرة على مواجهته، هناك، في عزلتها، بدأت تسقط الدموع بحرية، وتحتضن الحزن الخام الذي شعرت به، وظلت تبكي بحسرة وألم، وكأنها تفجر كل ما كان في داخلها، حركت يدها على بطنها، وتحدثت بصراخ مكتوم، يعبر عن كل الجروح التي لم تلتئم:
"ليه أنا لا؟ ليه أتحرم أكون أم، وأتحرم من الشخص اللي بحبه، وأتمنيت يكون عندي أطفال كتير منه، ليييه؟"
كانت أسئلتها تدور في فكرها، بلا إجابات، كالسهم الذي يطعن في صميم روحها، بينما كانت تخشى أن تنفصل عن حلمها إلى الأبد،
ظلت تنتحب بمرارة ووجع، تتخبط بين مشاعر الفقد والخذلان، كان صوت بكائها يملأ المكان، وكأنها تجسد كل الأحزان التي تحملتها منذ فترة، وبعد فترة من الزمن، قررت أن تخرج من المرحاض، لكن المفاجأة كانت في انتظارها، كانت هناك فتاة غريبة الشكل تقف أمامها، تبدي ملامح غير مألوفة، لم تستطع ترنيم تحديد عمرها، ولكن كان هناك شيء غامض في عينيها. قبل أن تتمكن من التفكير في كلمتين لتبدأ حديثًا، وجدت الفتاة تقترب منها بخطوات سريعة ونظرات حادة، مما جعل قلبها يهتز خوفًا.
تقدمت الفتاة منها، وفجأة أمسكَت بشعرها بقوة، مما جعل ترنيم تتألم وتتراجع، لم تتوقع هذا الاعتداء؛ فقد سددت لها عدة لكمات في بطنها، كأنها تريد أخذ كل ما تبقى من قوتها، دفعتها بقوة، وابتعدت عنها، وقالت بصوتٍ مليء بالخوف والدهشة: "إنتي مين وعايزة مني إيه؟"
كانت الكلمات تخرج من فمها بصعوبة، وكأنها تحاول أن تنقذ نفسها من هذا الموقف العنيف.
في لحظة من تجميد الزمن، أخرجت هذه الفتاة سكينًا من شنطة يدها، وعادت لتقترب ببطء من ترنيم، محفوظة بابتسامة شريرة على ثغرها، كل خطوة كانت كسهم، وكل لحظة كانت كالسكاكين التي تغوص في قلب ترنيم، ظلت ترنيم تتراجع إلى الوراء، حتى اصطدم ظهرها بالحائط، ولم يكن لديها أي ملاذ، نظرت إلى السكين اللامعة التي تقترب من بطنها، وكانت الدموع تتسابق على خديها، تشكل بحيرات من الألم والخوف، كانت تفكر في كل شيء، وعن الأمل الذي تحطم والنفس التي تذوي أمامها، وفي داخلها كان صراخ الحيرة والذعر يكاد يكون مسموعًا، في تلك اللحظة، اكتشفت ترنيم أنها ليست فقط في مواجهة عدوتها، بل كانت في مواجهة كل مخاوفها وظلمات حياتها، ولحظة اقتربت منها و...