رواية لاجلها الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم امل نصر


 رواية لاجلها الفصل التاسع والعشرون 

منذ أن قررتُ أن أحبكِ، وأن تكوني لي، أقسمتُ أن أكون الدرعَ لا السهم،
أن أكون لكِ السندَ لا الحمل،
أن أكون الرجلَ الذي، إن اختلّ بكِ العالم، ظل ثابتًا لا يميل.

أقسمتُ أن تكوني أنتِ وحدكِ… البداية والنهاية.
لن تمسّكِ يدٌ سواي، ولن يطال حزنٌ طرفَ ثوبكِ ما حييت.
سأكون لكِ درعًا إن اشتدّ الزمان، وسندًا إن خذلتكِ الحياة،
وسقفًا فوق قلبكِ إذا ما اهتزّت الأرض تحتكِ.

سامحيني إن جرحتكِ الآن،
لكني أقسو اليوم كي لا يقسو عليكِ الدهر غدًا.
أجرحكِ الآن، حتى يكون الغد خاليًا من كل وجع،
أوقظكِ بالألم، لأحميكِ من جرحٍ لا شفاء له… إن تأخرت.

لن أترككِ لنفسكِ،
ولن أترككِ لغيري.
أنا من سيحمل عنكِ أعباءكِ، ويقتسم معكِ مخاوفك،
أنا من سيقف بينكِ وبين كلّ ما يؤلمك.

ستكونين لي كما لم يكن لي أحدٌ قط،
وسأكون لكِ كما لا يليق بكِ سواي.
من الآن، لن تواجهي شيئًا بمفردكِ.
أنا هنا… وسأبقى دائمًا

الخاطرة  الروعة والمراجعة من الرائعة/سنا الفردوس 
.........................

الفصل التاسع والعشرون

توقّف بالسيارة أمام مقر الجمعية التي اشتهرت في البلدة بوظيفتها المعروفة: إقراض الناس مقابل فوائد مضاعفة تُسدَّد أقساطًا على مدار شهور. يلجأ إليها المضطر أو المديون، فهي في ظاهرها جمعية لستر الناس، وفي باطنها خراب بيوت، تمتص دماء الفقراء بمصيدة تُسمّى "قروض التيسير"، وهي في حقيقتها باب من أبواب الربا.

والربا – محرَّم شرعًا، ومن يُقْدِم عليه فلينتظر حربًا من الله ورسوله، كما جاء في قوله تعالى:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ۖ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ"
[البقرة: 278–279]

فما الذي يدفع زوج شقيتها إلي طرق هذا الباب.

تساءل داخله وهو يراها تترجل من أمامه مهرولة إلى مدخل الجمعية، دون سلام أو استئذان، وهاتفه على أذنها تتابع الحديث مع شقيقتها.

ـ "اللهم طولك يا روح"،
تمتم بسخط وهو يترجل خلفها، يغلق سيارته ثم يتبعها إلى داخل ذلك المقر.

أما هي، وحين ولجت إلى الداخل، كانت عيناها تدور باحثة في الأجواء حولها أثناء الحديث عبر الهاتف، حتى اصطدمت أبصارها بصاحب الجسد النحيف، زوج شقيقتها، بهيئته المنزعجة، يتجول بعصبية في الطرقة الفاصلة بين الغرف، وفمه لا يكف عن التدخين بشراهة تجعل السحب الدخانية تلازمه كظله.

تراجعت خطوتين قبل أن ينتبه لها، لتصدر أمرها نحو الطرف الآخر معها في الحديث:

ـ "أنا وصلت أهو ودخلت، اطلعي يلا من الحمام اللي متخبية فيه... اطلعي يا بت وسيبي الباجي عليا، أخلصي."

كادت أن تنهي المكالمة حتى انتبهت إلى المذكور، يقف أمامها متحفزًا:

ـ "مين هي اللي تطلعلك يا غالية؟ وانتي جاية هنا أصلًا ليه؟"

تصنعت الدهشة، وبحركة روتينية اعتادت عليها، وضعت الهاتف في الحقيبة لتعطي انتباهها إليه كاملًا، وهي تستقبله:

ـ "وه، محمود، جوز أختي، إزيك يا راجل؟ مش تسلم الأول؟"

تطلع إليها بملامح كارهة، وقد استنتج سريعًا سبب الاختفاء المريب لزوجته داخل مرحاض الجمعية منذ أكثر من نصف ساعة.

اعتماد تماثله في العمر تمامًا، واحد وثلاثون عامًا، لكنها تملك شخصية قوية تناطح من أمامها بندّية، بل ولا تخشى حتى غرز أظافرها في وجه من يتجرأ عليها بالكلمة، على عكسه هو، الذي يخاف حتى من أخيه الصغير ووالدته، وقد وجد ضالته في امرأة ضعيفة الشخصية يوجهها كيفما يريد ويحصل منها على قدر ما يستطيع، ولكن أحياناً لايقدر بسبب تلك اللعينة التي تقف له دائمًا بالمرصاد.

ـ "هي اللي اتصلت بيكي؟ ولا إنتي اللي اتصلتي بيها وعرفتي منها؟"

سخرت بابتسامة صغيرة بزغت بطرف ثغرها:

ـ "في الحالتين، إيه الفرق؟"

ـ "إيه الفرق؟!"

ردد بها من خلفها بنبرة غامضة، تبدلت فجأة حين أتت زوجته بعد خروجها من المرحاض، ليباغتها بالقبض على ساعدها بشراسة لا يعرفها إلا معها:

ـ "بقالك ساعة مدسية في الحمام بحجة إن بطنك وجعاكي، واتاريكي عاملاها حيلة عشان تستني المحروسة. طب حركي رجلك يلا، البت الموظفة بقالها ساعة مستنية على إمضتك!"

ـ "إمضة مين؟"

جذبتها اعتماد منه بحزم، قبل أن يتمكن من سحبها والذهاب، لتتصدر هي أمامه والأخرى خلف ظهرها:

ـ "تمضي على إيه بالظبط؟ أختي مش هتمضي على ضمانات ولا كلام فاضي. عايز تسحب قرض ربا، شوفلك حد غيرها يكون ضامن. دا لو محتاجه فعلًا؟"

صاح معنفًا، حتى كاد أن يتهجم عليها، وقد أصبحت المواجهة بينه وبينها مباشرة:

ـ "وإنتي إيه اللي يخصك؟ واحد ومرته، إيه دخلك؟ بعدي من وشي الله يرضى عنك، مش ناجصة هي وقف حال."

وامتدت ذراعه، ليجذب إليه امرأته المنكمشة بجبن، تحتمي بها:

ـ "تعالي يا بت، إنتي هنا بالذوق أحسنلك."

لم يصدر من روضة أي رد فعل، سوى أنها ازدادت التصاقًا بشقيقتها، باعتراض لا تقوى على التعبير عنه إلا في وجودها.

اهتاج غضبًا أمام صلف الأولى واحتماء الأخرى بها، ونظرات الخلق التي توقفت تتابعهم، ليزيد على اهتزاز شخصيته الضعيفة من الأساس، فارتفعت كفه بصورة توحي بنيته على ضربها:

ـ "طب والله لو ما بعدتي عنها، لأكون ضاربها هنا جدام الناس، وخلي حد يقدر يحوش عنها."

تحفزت اعتماد في استعداد للدفاع عنها، حتى لو اضطرت لفتح رأسه أو الدخول معه في عركة مباشرة، ولكن يدًا من المجهول قبضت على رسغه بقوة، وصاحبها الذي تذكرت أخيرًا قدومه لتوصيلها، ضغط بجسده على محمود ليبعده عن النساء، ثم خرج صوته تهديدًا ووعيدًا:

ـ "جرّب تنزل بيدك على واحدة منهم يا عديم النخوة، وأنا أفرّجك زين جزاة عملك."

كان حادًا بصورة أدخلت الرعب في قلب ذلك الذي بوغت بحضوره، فابتلع يقاوم مبررًا:

ـ "ابعد يا جدع إنت، دا أمر عائلي ملكش دعوة بيه، إنت مين أصلًا؟"

ـ "أنا خليفة ولد حماد القناوي، سمعت عن الاسم ولا أعرّفك أنا؟"

يبدو أن الاسم كان له وقع السحر، شحب وجه محمود حد الاصفرار، لترتخي يداه باستسلام مرددًا بشكوى:

ـ "وأنا مالي بيك يعني؟ البت دي هي السبب. واحد ومرته، هي إيه دخلها؟"

برز صوتها من بين الجمع الذي التف حولهم:

ـ "دخلها إني أخت اللي عايز تستغلها وتورطها ضامن ليك! عيلتك مليانة رجالة وحريم، خد أي واحد فيهم، لكن إنت مصر على أختي ليه؟ مش لاقي حد يوثق فيك؟ ولا عشان عارف إن موضوعك تافه وميجيبش تمنه؟ ولا هو مشروع ولا كلام فاضي."

كاد محمود أن يعود للشجار معها، ولكن منعه صوت إحدى عاملات الجمعية من النساء تصرخ :

ـ "إيه اللمة دي؟ لو سمحتوا، هنا مش محل خناق ولا مشاكل. أرجوكم اخرجوا برا."

❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈

ها هو للمرة الثانية يتعرض لنفس الإهانة وأمامها، من ذلك المتعجرف الذي التقط فرصة غياب عقله بفضل الكأسين اللذين شربهما قبل أن يذهب إليها. الملعون يجيد استغلال الأوقات التي يُضرب فيها، ليرفع من أسهمه أمامها على حسابه، فينال هو الخزي أمامها وأمام عائلته والجميع، ثم ينتهي به الأمر أن يصبح ضحية التقريع من مصيبة حياته، زوجته الحالية، وقد أتت فرصتها هي الأخرى:

ـ "يا خيبتك القوية يا صفا، يا سواد وشك جدام ناسك والجيران والعيلة، أوريهم وشي إزاي دلوك بس؟ بعد ما شافوك للمرة التانية داخل مسنود على الدّراعات، ومضروب من نفس الراجل على عتبتها، يا مرك، يا مرك."

صاح ينهرها من مكانه على الأريكة المستلقي عليها داخل شقة مزيونة:

ـ "اتلمي يا بت، بدل ما أجوملك، أنا على آخري أصلًا."

صدر من فمها صوت ساخر، غير آبهة:

ـ "طبعاً يا حبيبي لازم تبجى على آخرك، للمرة التانية بتلبس الخازوق والكسفة من غير مجهود من حد! إنت اللي بتروح برجليك، وإنت اللي بتضرب وتاجي مسنود وواخد الشتيمة من أقل عيل فيكي يا عيلة."

ـ "يا بت الـ…"

تمتم بها معتدلًا عن رُقاده حتى تألم رأسه، فتأوه بتوجع، يضع كفه عليها، مردفًا بتعب:

ـ "الله يلعنك يا ملعونة، لا عندك إحساس ولا عندك نظر. مش قادرة تستني علي ما أقوم، وساعتها اشمتي براحتك."

تخصّرت صفا تردف بغليل يحرقها:

ـ "لا، ماعنديش يا عرفان، والبركة فيك! إنت اللي موت قلبي وشلت الإحساس عني بعمايلك. يا أخي، دا أنا لو جبل برضو هتأثر وهضرّ، وممكن أقع من طولي بسببك! ماسك في اللي رمياك ومدياك بالجزمة، وأنا اللي متحملة قرفك وبلاويك الزرقا مش عجباك؟ طب تصدق بالله، أنا نفسي ما بجيتش طايقاك!
اهه فايتهالك وماشية."

ـ "في ستين داهية، يلا غوري!"

هتف بها من خلفها بغيظ يحرقه. هذه الإهانة لا بد لها من رد موجع. لا بد من إنهاء هذا العبث على الفور ودون انتظار.

تحامل على ألمه، لينهض عن أريكته، متخذًا طريقه نحو الجهة المقصودة، وقد حسم أمره.

❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈

ـ "أنا جيت يا خالة مزيونة، ممكن أدخل؟"

دلف إليها هذا الصغير بعد أن طرق على الباب طرقتين على الخشب المثقل، يطل عليها بوجهه الوسيم الذي يشبه أباه في مكره، ينتشلها من الشرود الذي يلف عقلها دون هوادة، حتى إنه أذهب عنها التركيز في الكتاب الذي تمسك به منذ ساعة ولا تفهم منه شيئًا.

ـ "ادخل يا خالة مزيونة؟"

للمرة الثانية، يستأذنها بابتسامته المتلاعبة التي تدخل البهجة في قلبها دون استئذان، فكيف لها أن ترفض؟

ـ "ادخل يا بطل، بالذمة يعني، إنت محتاج تستأذن؟"

دلف يلقي التحية على زوجة شقيقها التي تطوي كومة الملابس التي جفّت بعد غَسلها، متصنعًا الخجل أمام المرأة حتى أدخل التسلية بقلبها هي الأخرى:

ـ "العوافي عليكم."

ألقت بنظرة ذات مغزى نحو مزيونة، وهي ترد على تحيته ضاحكة:

ـ "الله يعافيك يا حلو إنت. ادخل يا جميل، هو إنت غريب؟"

لوّح بكفه فوق صدره، يزيد من إبهارها قبل أن يتخذ جلسته جوار مزيونة على الأريكة الخشبية التي تجلس عليها:

ـ "تشكري يا خالتي، ربنا يخليكي."

للمرة الثانية، تطلعت محروسة نحو مزيونة ضاحكة تردد خلف هذا الصغير بمرح،  يكتنفها:

ـ "يا حبيبي، دا إنت اللي ربنا يخليك ويبارك فيك لأبوك، يا عسل! صحيح، التعليم الغالي يا ولاد بيعمل فرق."

حدجتها مزيونة بنظرة محذّرة حتى تنتبه ولا تتمادى معه، فهي الأعلم بحجم الذكاء الذي ورثه عن والده... اللعنة، لماذا لا يترك رأسها ولو قليلًا؟

ـ "جولي يا ريان باشا، عامل إيه بجى في مدرستك؟"

وجّهت السؤال إليه حتى تندمج معه هو، لا أحد آخر، ولكن الطفل الداهية أبى أن يعطيها غرضها:

ـ "شاطر جوي، واسألي المدرسين كمان! أبويا وصلني النهاردة واتطمن بنفسه، حضر جلسة الآباء، وميس تولين فضلت تحكيله عن شطارتي ودرجاتي العالية في المادة بتاعتها، وهو فرح وقالي جدامها: أنا فخور بيك يا ريان."

تركت كل الحديث وعلقت على ملحوظة واحدة، عبرت عنها:

ـ "ميس إيه؟ تولين! ودي شكلها حلو زي اسمها كده؟ ولا إيه ظروفها؟"

بحماس أثار انزعاجها، هتف ريان يخبرها:

ـ "باه، ميس تولين دي أحلى واحدة في المدرسة كلها، وأنا أكتر واحد بتحبني من المدرسة كلها."

ـ "بتحبك ولا بتحب أبوك؟"

تمتمت بها لتستدرك سريعًا، تنفض رأسها من تلك الأفكار الحمقاء، لتردف بنزق:

ـ "ريان يا حبيبي، إنت بتحب الحلو اللي بنعلمه صح؟ محروسة، هاتي طبق بلح الشام اللي في التلاجة للباشا."

سمع منها ليهلل فرحًا بعفويته التي تعشقها، حتى أتت له محروسة بالطبق، يتناول منه القطع فيتذوق باستمتاع، حتى فتح شهيتها لمشاركته بتناول الحلو معه، ورغم ذلك، رأسها لا يهدأ عن التساؤل:

ـ "يا ترى شكلها إيه تولين دي؟"
...............................

مرتفعات وحجارة تحك في إطار السيارة، فتصدر أصواتًا مزعجة وهي تخترق تلك الطرق التي يسير فيها لأول مرة، رغم أنهم في نفس البلدة.

وذلك كي يُوصل تلك المدعوة اعتماد وشقيقتها بعد شجار حاد بينهما وبين زوج الثانية، انتهى بطردهم جميعًا من الجمعية، حتى كاد الآخر أن يتسبب لهم في فضيحة ثانية على قارعة الطريق، لولا وقوفه هو بوجهه وصرفه، ثم في الأخير اضطر أن يقلّهم معه، بعد أن تركهم وذهب كالجبان.

ـ بَس خلاص، وجف هنا. هتفت بها اعتماد، فالتفت إليها متسائلًا: ـ بيتكم هنا؟ كادت أن تجيبه بنعم كاذبة، ولكن شقيقتها روضة سبقتها: ـ لا، مش هنا، بيتنا تحت شوية في الروض (مصلح يُطلق على الأرض المنخفضة في البلدة). ـ وه. صدرت منه بعفوية لا يقصدها، ندم بعدها حين شعر بحرجهما، فتابع موضحًا: ـ أنا قصدي يعني.... قاطعته اعتماد لتقصّر عليه وترفع عنه الحرج: ـ مش محتاج تبرر، عشان كده أنا بقولك وجف، النزلة بالعربية صعبة. رمقها بنظرة خاطفة عبر المرآة ورد برفض: ـ بسيطة إن شاء الله، بلدنا فيها طرق أوعر من كده، والسواق الصح ما يهمهوش.

قالها متخذًا قراره في القيادة بحرص أثناء النزول في ذلك المنخفض حتى يوصلهما إلى منزلهما، الأمر الذي دفعها ولأول مرة أن تعبّر عن امتنانها إلى رجل، وذلك لصنيعه الكريم معهما: ـ أنا كنت عايزة أشكرك، اللي عملته معانا النهاردة بصراحة الكل يشهد له.

تطلع إليها عبر المرآة بعدم تصديق، حتى أخجلها، فسارعت بالتوضيح: ـ أنا مش جلفة لدرجة إني أهدر حق اللي يتجمّل معايا، أنا برضو واعية وأعرف أميّز. تبسّم يزيد من خجلها الذي غطّت عليه بجمودها المصطنع، ليرد بتسلية تخللت نبرته: ـ مفيش منها شك دي يا أَبلة اعتماد، مربية أجيال زيك هي أمّ الذوق والاحترام.

اكتفت بالغيظ من طريقته، شاعرة بشيء من السخرية لا تقبله، ولكنه لم يخطئ حتى ترد. زفّرت داخليًا بارتياح نسبي مع انتهاء الطريق الصعب بالسيارة، ليظهر أمامها المنزل:

ـ خلاااص، حلوة جوي كده، إحنا وصلنا. أشار بذقنه إلى الأمام نحو أحد البيوت المبنية حديثًا بالطوب الأحمر دون دهان، موجّهًا السؤال: ـ هو ده البيت؟ ردت تلملم أشياءها: ـ أيوة هو ده البيت، تشكر جوي.

سمع منها فتوقف بالسيارة ينتظر ترجلهم، ليفاجأ بدعوتها: ـ اتفضل حضرتك تنزل معانا البيت، إحنا صحيح تلت ولايا، بس ده ما يأثرش طبعًا مع ناس زينا، إحنا ولاد ناس وبنعرف الواجب.

للمرة الثانية يستفزها بابتسامته التي تظهر وبكل وضوح لدهشته بالوجه الثاني لها، في المعاملة الطبيعية مع الأفراد دون مشاكل، حتى ودّت الرجوع عن طلبها والشجار معه كي تستريح، لولا قوله: ـ أكيد طبعًا ولاد أصول، واجبكم وصل يا أَبلة اعتماد، اعتبريني دخلت وشربت الشاي كمان، عن إذنكم بَجى.

وتحرّك بالسيارة ليصعد المنخفض حتى يصل إلى الأرض المستوية كي يعود إلى منزله، ولكن فور أن انتهى من الصعود واطمأن بخروج السيارة بخير دون إصابات تلحق بها، كاد أن يفرح بالإنجاز، حتى تذكّر هاتفه، فضرب بكفّه على عجلة القيادة مرددًا:

ـ بوو يا شجاوتك يا خليفة، هرجع تاني كيف في المرار الطافح ده؟

....................

في منزل والديها، وداخل تلك الغرفة التي تحبس نفسها بها هربًا من والدها وتحقيقاته المستمرة بعدد من الأسئلة التي لا يمل من توجيهها إليها، كانت متربعة الآن على سريرها، تلتزم الصمت المطبق وصوته في خارج الغرفة يصدح حتى يصل إليها، ووالدتها ترواغه وتماطله كي تمتص غضبه:

البت دي ساكتة ما بتتكلمش ليه؟ جاعدة من امبارح وجوزها ما سألش ولا حتى عتب وراها يمسي علينا، أجطع دراعي إن ما كانت عاملة نصيبة، دي لا حسنية ولا أي واحدة من بنتتها سألت؟ البت دي مهببة إيه بالضبط؟

يعني هتكون عاملة إيه بس يا أبو العيال؟ هي هالة صغيرة ولا لسه متجوزة امبارح؟ ده تلاجيهم بس شوية زعل صغيرين بينها وبين جوزها، وفي الآخر برضو هيتصالحوا، ده خليفة مفيش أعقل منه.

ـ أيوة يا أختي مفيش أعقل منه، بس بتّك مفيش أجنّ منها، أنا أبوها وعارفها زين، شوفيها مهببة إيه يا يامنة، يمكن نعرف نلمّ ولا نصلّح، يا إما أسحبها من يدها وأروحها على بيت جوزها تعتذر من غير ما أعرف إيه اللي حصل. ما عنديش بنتة يزمقوا ولا يبيتوا بعيد بيوتهم، فاهمة؟

بقبضتيها الاثنتين صارت تضرب على ركبتيها بحنق شديد وقهر تشعر به بسبب هذا الرجل، والدها. تعرفه جيدًا، لا يرمي كلامًا في الهواء، سوف ينفذ ولن يوقفه أحد. لن يراعي كرامتها أو يستمع إليها ويتفهم إن حدث وتكلّمت. ولكن، إن تحدّثت بالفعل، ماذا ستقول؟

لعنت داخلها خليفة وغدره بها، ذلك البحر الساكن دائمًا، يُغري الفرد بصمته، فلا أحد يعلم متى تفور أمواجه لتقلب كل ما بداخله رأسًا على عقب.

انتفضت تنتبه فجأة على دويّ صوت الهاتف بمكالمة واردة. تطلعت في الشاشة فازداد سخطها، لتغلق على صاحبة الاتصال دون انتظار، متمتمة:

ـ قبر ياخدك يا روان، ما تحلّي بقى عني، ناجصاكي أنا ولا ناجصة مياصتك؟ أوووف.

زفرت تمسح على شعرها ووجهها لتعود لصمتها والترقّب مرة أخرى، حتى يغادر والدها إلى عمله أو الحقل أو حتى النوم، حتي تتنفس بعدها جيدًا، ثم تفكر في حل يساعدها...

......................

لا تغادر سريرها إلا بحرص شديد، تلتزم بتنفيذ التوصيات وتعليمات الطبيب، والخوف مع كل حركة يعصف بها، إضافة إلى قلقها الشديد وامتحان السنة النهائية لم يتبقَ عليه سوى شهور قليلة، لا تعلم إن كانت ستذهب على أقدامها أم تبحث عن طريقة أخرى إن استمرت حالتها والجنين دون استقرار.

تنهدت تريح عقلها قليلًا من الهموم، وعيناها تراقبان الأطفال من شرفة غرفتها، وقد سمح لها معاذ بصعوبة أن تجلس بها ولو لنصف ساعة، حتى يدخل صدرها بعض الهواء الطبيعي، وعقلها يدور ويدور في عدة أشياء أخرى:

ـ يا ما شاء الله، ع القمر اللي نور البلكونة. هتفت بها منى وهي تدلف إليها، لتقابلها ليلى بابتسامة عذبة، تتقبل عناقها اللطيف وقبلاتها على وجنتيها، وكأنها ابنتها وليست شقيقة زوجها:

ـ عاملة إيه يا بت حلوة؟ تبسمت ليلى تعقب على غزلها: ـ بحبك جوي لما تدلعيني، خير والحمد لله. جلست منى تتناول من طبق الفاكهة الذي كان على الطاولة المجاورة: ـ ياختي اتجلعي على كيفك وكلي على كيفك، هو في أحلى من الاتنين؟ الا جوزك فين؟

ـ هيجابل واحد من مسؤولين الشركة، يمكن يقبل يتفاهم معاه على موضوع الإجازات، مع إني والله عايزاه يسافر، أنا زينة وأعرف أراعي نفسي.

ضحكت منى تعقيباً علي كلامها: ـ تراعي فين اتنيلي، خليه يترزع على ما يخلص حملك الجملي ده، وبعدها يشوف حل في شركة الفقر دي، مع إني أشك صراحة.

ختمت تضحك بمرح، فجعلت ليلى تشاركها حتى توقفت فجأة يعلو ملامحها الاضطراب:

ـ مالك يا بت؟ في حاجة مضايجاكي ولا حد مزعلك؟ ردًا على السؤال نفت ليلى بهزة من رأسها: ـ لا، بس حاسة نفسي مش مطمنة، أصلي من شوية كنت بتكلم مع أمي، إن خالي وصفي طالبها تروح على بيته عشان أبويا عامل جلسة وجايب معاه الشيخ خميس والرجالة اللي معاه.

غمغمت منى بقلق انتقل إليها هي الأخرى: ـ عرفان وجلسة! ربنا يستر.

.....................

جلسة أخرى وفي نفس المنزل الذي تم فيه عدة قرارات مصيرية أثناء زواجه بها أو بعد، ها هو الآن يتخذ محله بجلسة جوار الشيخ خميس وعدد من الرجال من أصدقاء والدها الذين كانوا حاضرين كل الجلسات السابقة. جلست برفقة شقيقها على مضض، تقديرًا لهم ولمكانتهم عند أبيها الراحل، فتحدثت موجهة السؤال لكبيرهم، بتجاهل تام له، وكأنها لا تراه، رغم غضبها الشديد من أنظاره المنصبة عليها بوقاحة مزعجة:

ـ اتفضل يا شيخنا، أنا جيت وجعدت أهو، إيه المطلوب مني بَجى؟

تحمحم الرجل الوقور يلطف لها، رغم صعوبة الأمر عليه هو أيضًا: ـ هنعوز منك إيه بس يا ست البنتة؟ غير كل خير إن شاء الله، ربنا العالم يا بنيتي، إحنا ما في نيتنا إلا كل خير.

كزّت على أسنانها بضيق متعاظم تردد خلفه باعتراض: ـ صلح إيه تاني يا عم الشيخ؟ هي الغنيوة دي مش فضت برضو وبوخت؟ ولا صاحبكم ده مبلغكمش بالنصيبة اللي عملها تاني ونال جزاته منها قبل ما يجمعكم ويقعد جصادكم بعين قوية؟

على صمته التام وكأن الأمر لا يعنيه، تاركًا الأمر للشيخ الذي كانت تخرج منه الكلمات بضيق هو الآخر: ـ عارفين يا بنيتي، وهو جمعنا إحنا مخصوص عشان كده، قبل كل شيء، هو جاي يعتذرلك.

ـ يعتذرلي! تمتمت موجّهة إليه نظرة نارية تقبلها ببرود تام قائلًا: ـ أيوة يا مزيونة، أنا جاي ومجمع الرجالة عشان أعتذرلك جدامهم، ولو عايزاني أبوس على راسك كمان أجوم وا...

ـ اقعد مكانك، لا عايزين منك بوس راس ولا بوس كفوف، انتي بس تحلّ عنينا وما نشوفش خلقتك، هو ده بس اللي عايزينه.

صاح بها وصفي بغضب عاصف يوقفه عن التحرك، في رد فعل غير متوقع لعرفان، ليتابع وكأنه قد تكفّل اليوم بالرد عنها:

ـ عاملي فيها محترم دلوك وبتوقر الكبير، وانت رايح تتهجم على البت في بيتها وانت سكران، وكأن ما ليها ناس يدافعوا عنها، ده جليل عليك الضرب، انت كان حقك طلجة واحدة بس من الفرد بتاعي، ولا ليك عندي دية عشان راكبك العار، حتى ناسك اتبروا منك.

أجفل وصفي وقد باغته بالكلمات القاسية، متسببًا له في حرج لم يحسب له حساب أمام الرجال الذين بدا عليهم تأييده رغم صمتهم، لينزع عنه لباس الأدب والاحترام، كاشفًا عن وجهه الحقيقي.

ـ باه باه يا وصفي، عينك جويت وجاي تحط عليا، طب أنا يا سيدي غلطان ومش هنكر، روحت على بيتها وأنا شارب ومتعصب بعد الكلام اللي وصلني، جيب أي حد مكاني يسمع الإشاعات اللي دايرة عليها هي والنسيب المحترم حمزة القناوي ويجبلها على كرامته ويجعد ساكت.

صرخت هي به بقهر: ـ جطع لسانك يا عرفان، وأي حد يجيب سيرتي بكلمة بطالة.

توترت الأجواء وحاول الرجال التهدئة بين الطرفين، ولكن الحرب بين وصفي وعرفان من كانت على أشدها:

ـ يعني انت بتأكد للرجالة ديلك النجس؟ مجرد ما سمعت كلام عليها من شوية حريم غيرانة ولا رجالة مفيهاش ريحة النخوة، قومت جريت على بيتها؟ دا بدل ما تتأكد وتجطع لسان اللي يتجرأ على أم بنتك، اللي انضرت أكتر واحدة في الحكيوة دي.

كلمات وصفي التي كانت كالسياط على ظهر عرفان تلسعه، فتساهم في صب الخزي عليه، ليزداد هياجًا وجنونا:

ـ مين اللي أوجفه عند حده يا وصفي؟ إذا كانت هي نفسها بتديله الفرصة عشان يثبت الكلام عليهم؟ ضاجت عليه الدنيا عشان يبني جمبها؟ دا قالك اللي طلّع الكلام دا كله طليقته بعد ما شافت بعينها، يا ترى شافت إيه يا مزيونة؟

صرخت به ظلمًا وقهرًا، وشقيقها يضمها إليه بالضغط على ساعديها، يحاول تهدئتها والسيطرة عليها أيضًا حتى لا تضر نفسها بالهجوم عليه:

ـ حرام عليك يا شيخ، بتردد بالكلام البطال وانت أكتر واحد عارف مين هي مزيونة، مش عايزاك تدافع عني بس أقله متزودش بكلام هتتسأل عليه، دا غير إن عندك ولايا غيري خاف عليهم.

أضاف عليها وصفي مخاطبًا إياه: ـ واللي يسمع كلام الحريم ويردد وراهم يبجى زيهم.

لم يكترث عرفان بل زاد من الضغط عليها: ـ تمام جوي يا وصفي، جدام الرجالة أها، أنا هجفل خشمي خالص ومش هجيب سيرة، بس وريني بقى هتوجف ألسنة الناس إزاي؟ وهو جارها في منطجة مفهاش غير بيته وبيتها؟ ولا بنتها اللي متجوزة أخوه، هتزورها إزاي؟ ولا تخطي بيتهم، والعيون من كل جهة مرقباها؟ يعني الكلام هيزيد هيزيد.

ـ الله يخرب بيتك، يعني نطلّج بتها من جوزها؟ ولا نطفّش الراجل من بيته اللي بناه جديد عشان تستريح؟ ما تحضرونا يا إخوانا؟

خرجت من وصفي كصرخة اعتراض يوجهها نحو الحاضرين، فما يحدث قد تعدى غرض الجلسة من البداية كصلح عادي، فجاء الرد من عرفان يطرق على الحديد وهو ساخن:

ـ لا دي ولا دي يا عم وصفي، قال شيل دا من دا، يرتاح دا عن دا، الحل الوحيد لمنع الرط والكلام والحديت، وعشان تثبت للناس إن الكلام ده كله كدب، هو إنها ترجعلي وأردها على زمتي، وخلي واحد بعد كده يستجرى يجيب سيرتها......... ها إيه رأيكم بجى؟

وهل تبقى لها رأي بعد أن نصب شباكه وحوّل الشجار والخطأ الذي ارتكبه، وما يُخاض في سمعتها من بهتان بريئة منه، لصالحه؟

الشيء الوحيد الذي فعلته هو أنها استندت برأسها على صدر أخيها الذي كان يضمها إليه، تغمض عينيها بتعب، ويا ليت كان الموت يُحضر بالرغبة، لكانت استراحت منذ سنوات طويلة، حتى قبل مولد ابنتها ليلى.

❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈

ـ هي فين؟ خليها تطلعلي؟

همس وصفي يسحبه إلى داخل غرفة الضيافة بعد أن قدم إليه الآن في تلك الساعة المتأخرة من الليل من أجلها، ومن أجل الاطمئنان عليها، ولكنها ليست في حالة تسمح لها بالحديث أو الأخذ أو الرد:

ـ أنا مصدجت إنها نامت يا حمزة، وطي صوتك، مضمنش إنها تصحى وتسمعنا.

اندفع بغضب يسقط جالسًا على أقرب المقاعد التي وجدها أمامه، هاتفا بصوت خفيض: ـ بس أنا عايز أطمن عليها يا وصفي، دا غير إن عتبي عليك أكبر من عرفان نفسه، ليه محدش فيكم بلغني؟ وأنا كنت جيت وحطيت صوابعي في عنيه، الخسيس أبو عين جوية، دا بدل ما يتكسف على دمه، هو كمان اللي بيبجح وبيشهد الناس علينا بالزور.

زفر وصفي يمسح بكفه على وجهه وشعره بغصة صدئه مررت حلقه:
ـ عرفان بيستغل الفرصة يا حمزة، ما صدق لقى حجة عشان يشبط فيها، عارف إن أختي أهم حاجة عندها سمعتها وبتها، وهو ربط الاتنين في بعض عشان يضغط وما يسبش فرصة للرفض، داهية وعرف يلعبها الله يجازيه بعمله، المسكينة زقت الأرض بدموعها النهاردة بعد ما غار.

صاح حمزة محاولًا كتم صوته عن الصراخ بصعوبة:

وتضعف ليه ولا تديله فرصة أصلاً؟ ما ترفض بقلب جامد واعلى ما في خيله يركبه؟

رد وصفي بأسى:
ـ ويعني هي مكانتش تقدر تنطقها؟ لا والله، تقدر تديله بالبلغة كمان، بس هو كلامه كان واضح، الرفض معناه كلام يزيد ونار تولع كمان، دا غير عمار بتها، اللي مش بعيد يخلي الفتنة تطولها ويطلّجها من جوزها.

تمتم حمزة بسبة وقحة، ليردف وصفي:

ـ ساعة ما اتصلت بيا تسألني، والله ما كنت عارف أرد عليك بإيه، بس في الآخر حسمت إني أرد عليك بصدج. أختي تعبت من كتر المجاوحة، وأنا نفسي تعبت عليها، شكلها ما يطمنش، وأنا احترت أعمل إيه معاها لو... لو وافقت ترجع لعرفان عشان تتقي شره.

ـ والله ما هيحصل، ولو على جطع رجبتي.

هتف بها حمزة، ناهضًا من أمامه بحزم وصرامة، يؤكد عليه قبل أن يغادر:

ـ تاني بقولها لك يا وصفي، والله ما هيحصل، ولو على جطع رجبتي.

..............................

مرت عليه الليلة القاسية دون أن يرف له جفن. لا نوم يطوله، ولا راحة تأتي في البعد عنها. ظل على حاله في تفكير مضنٍ حتى أشرق نور الصباح، فعاود الاتصال بوصفي الذي لم يتوقف عن إزعاجه منذ الأمس، يطمئن ويسأل، حتى أخبره الآخر بمغادرتها منزله، في طريقها للعودة إلى منزلها.

فوقف خلف نافذة غرفته يراقب ويراقب، حتى جاءت اللحظة ووصلت، وترجلت من سيارة الأجرة.

حينها لم ينتظر إذنًا. ركض خارجًا من منزله قاصدًا منزلها، ليدلف إليه بعد دفع الباب دون استئذان، بوجه متجهم يثير الارتياب في قلب من يراه، فاجفلت هي، ناظرة إليه لحظات بعدم استيعاب، حتى استعادت بأسها وهتفت به:

ـ فيه إيه؟ ف حد يدخل بيوت الناس كده هجم؟ ولا حد جالك إن البيت ده من ورثة أبوك؟

تقدَّم غير آبه بثورتها، واضعًا بصره نصب عينيها، وقال بنبرة يفوح منها الغضب:

ـ عايز أعرف إيه اللي جرى في جلسة الغبرة مع عرفان الزفت؟ إيه اللي خلاكي تطلعي وتحضري أصلًا؟

ـ وإنت مالك؟

وكأنه فقد عقله، زاد من تقدمه نحوها مرددًا:

ـ لا، أنا مالي ونص يا مزيونة! الواطي ده بعد اللي عمله ماكانش له التعبير من أساسه، مش تروحي وتجعدي جباله وتسمعي منه!

صرخ في الأخيرة بأنفاس متصاعدة، ينتفض من فرط غضبه واستنكاره:

ـ مرفضتيش عرضه ليه وخلصتي، يا مزيونة؟ بتديله فرصة عشان يتعشم تاني لييييه، يا مزيونة؟!

يصرخ، وكأن الأمر هين عليها، ولا يدري أن قلبها، الذي ذبل من الحزن، لم تعد به إرادة على المقاومة والرفض بقوة كما تريد، أو السماح للضوء الوليد أن يتسلل إليها كي يعيد فيها الحياة من جديد، فيزهر فيها ما يوشك على الموت...

ـ هرجع وأقولهالك من تاني برضه... ده شيء ما يخصكش. عرفان في الأول وفي الآخر يبقى والد بنتي، ودي جلسة كبار، قدم اعتذاره ليا جدامهم، وبعدها ساب في يدي الأمر، ما عرضش عرض.

تتحدث وهي تتهرب بعينيها عنه، لا تجرؤ حتى على مواجهته. يبدو أن اليأس مما يحدث من مؤامرات حولها قد أضعف عزيمتها هذه المرة، ويوشك على هزيمتها... وهو أبدًا لن يسمح بذلك، حتى لو اضطر لإجبارها...

ـ ماشي يا مزيونة، اللي خلاكي توقّري الكبار وتسمعي للمحروس رغم عيبته... يبجى تسمعيلي أنا كمان وتفهمي كويس اللي هقوله، عشان أنا هجيب الناهية واللي مفيش منها رجوع.

ـ هو إيه اللي مفيش منه رجوع؟

ـ إنك تتجوزيني يا مزيونة.

ـ نعم؟!

ـ نعم الله عليكي، زي ما سمعتي كده، أنا طالبك تتجوزيني أنا. إيه؟ جولت حاجة عيب مثلًا؟ ولا المحروس اللي طالب يردك عايز يحطك عنده أباجورة تنوري البيت؟

وكأنها لم تعِ مطلبه إلا مؤخرًا، برقت عيناها باتساع، تبصره بتساؤل يعصف بها: هل ما وصل لأسماعها كان حقيقة؟ أم هو سوء فهم حلّ بعقلها المشتت بكثرة المصائب التي تحاوطها من كل جانب؟ لكن الإجابة كانت واضحة، وليس بها أي لبس، بتلك النظرة التي يرمقها بها الآن.

ـ إنت اتجننت؟! عايزني أنا أتجوز؟ ومين؟! أتجوزك إنت؟! كييييف؟!

كانت تلك صرخة الاعتراض التي صدرت منها كردّ على ما تفوه به من "تخريف" كما تصنفه، لتواجه بشرار عينيه التي اشتعلت كجمرة من قعر الجحيم:

ـ ومالك بتجوليها كده واكني بكلمك عن حاجة متصحش ولا غريبة؟ ده شرع ربنا يعني، يا ست مزيونة، لا حاجة عيب ولا حرام!

ـ يا مَرِي! وكمان بتأكدها؟!

تمتمت بها، لاطمة بكفيها وجنتيها، تواصل رفضها علّها تردع هذا الرجل عن جنونه:

ـ إنت واعي لنفسك؟ عايزني أتجوزك وأنا بتي حبلى، وعلى مولاد مين يعجلها دي؟! طب عرفان لو ردني، أهو برضه في الآخر يبجى أبو بتي، ومحدش هيجيب عليّا لومة، إنما جواز تاني وراجل تاني... كيف؟!

ضاقت عيناه، وبنظرة فهمت مغزاها جيدًا، تحدث يصعقها بجرأته:

ـ الكلام ده خليه لواحدة غيرك، يا مزيونة. واحدة ما عليهاش طمع، وعيون الرجالة مرجباها منين ما تروح، ولا ألسنة الحريم اللي بتألف عنها قصص وحكايات في أي خطوة تخطيها برّا بيتها. ثم كمان، لا أنا كبرت ولا إنتي. أنا راجل ما جفلتش الأربعين، وإنتي حتى التلاتة وتلاتين ماكمّلتيهاش، يبقى إيه اللي يمنع؟

ـ اللي يمنع أناااا! لا ليا نية في جواز، ولا عندي نفس تتحمّل أي راجل، وحتى لو حصل... مش هيبقى إنت!

صرخت بها هذه المرة لتقطع الطريق نحو أي جدال آخر، لتفاجأ بفعله: ضاربًا بقبضته القفص الخشبي المعلّق بجوارها على الحائط الطيني، فيتحطم أسفله، يجفلها وهو يقول بحزم:

ـ طب اسمعي بقى يا مزيونة... آخر الحديت، ملكيش طريق ولا سكة تانية عشان تدخلي البيت عندنا غير بجوازك مني. يا إما بقى هتتحرمي من شوفة بتك، ولا تنتظري لما تقدر وتجيلك برجليها تزورك في البيت الحلو ده. ودي فيها على الأجل سنة! يعني ما ترجعيش تشتكي بعد كده إننا عطّلناها عن تعليمها ولا مرعيناهاش زين في حملها...

أنا كده عملت اللي عليّا.

قال الأخيرة، وتحركت أقدامه مغادرًا ببساطة كما دلف ببساطة، لتسقط هي بجسدها على الأرض القاسية، تحدث نفسها بانهيار:

ـ يا مرك يا مزيونة... عالنصيبة اللي وجعتي نفسك فيها إنتي وبتك! هلاجيها منين ولا منين بس يا ربي؟! هلاقيها منين؟

يعني ما خلصتش لسه من عرفان، عشان تطلعلي إنت يا حمزة؟! ليه بس؟ ليه بس...

.......................

لم يغادر لأقصي من عتبتها. ظل واقفًا خارج المنزل، يستمع لنحيبها بقلب يتمزق، لكنها لم تترك له فرصة.

عقلها المشتت بما يحدث من مؤامرات حولها، والمنغلق على عقدها القديمة، يمنعها من كل تفكير سليم. فحين يُقدِم الإنسان على الانتحار، إن لم يجد يدًا قوية تمنعه، سوف يفعل، ويلقى موته... ولا عزاء للندم بعد ذلك.

فلتكرهه كما تشاء الآن، لقد حسم أمره.

لن يتركها. ولن يتنازل عنها أبدًا.

ولو اضطر للمواجهة والتحدي مع الجميع... حتى معها هي.

والنصر حليفه في النهاية.

وهو واثق من ذلك.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1