رواية لاجلها الفصل الثلاثون
ضاقت بها الحياة وكل شيء، أنهكها التعب والتفكير، حتى وجدت نفسها، فور أن استيقظت من نومها صباحًا بعد ليلة طويلة من السهر والسهاد، تلمّلم أشيائها وتتخذ طريقها إلى الجهة الوحيدة التي تجد فيها راحتها: أن تتلمّس أثر الأحباب بزيارة قبور من رحلوا وتركوها في منتصف الطريق، قبل أن تشتدّ عظامها وتصبح جاهزة للمقاومة.
هو بالقرب من القبر الذي يجمع والدها ووالدتها، كما عاشا على ظهر الحياة معًا، جمعهما الموت أيضًا.
والدتها، التي فقدتها بعد زواجها من عرفان بأربع سنوات تقريبًا، في عزّ ضعفها ومرضها تركتها تصارع الحياة وحدها، طفلة في السابعة عشرة من عمرها، تحمل على يدها طفلة، ينهكها المرض، وزواج لا تحتمله، وزوج لا تطيقه.
ليتحمّل والدها بعدها الذنب وحده، فجاهد حتى وضعها على أرض مستقرة بعض الشيء، قبل أن يتبع زوجته هو الآخر ويرحل بعدها بثلاث سنوات، فتدير دفة مركبها بابنتها وحدها. متزوجة فقط بالاسم لتحمي نفسها من ألسنة البشر وأفعالهم. تكافح للوصول بها إلى مرسى آمن، ولكن طالت المسافة وطال المشوار، ونال منها الأذى النفسي والجسدي، ونفدت طاقتها، تريد الراحة ولا تجدها، وإن داعبها الأمل بشيء جميل، صدمها الواقع بعدها.
أضاء هاتفها فجأة بنغمة خافتة، لوصول رسالة ما إليه. فتحته لترى من المرسل، لتتفاجأ بهذا المتغطرس يبعث لها النص الآتي:
"لولا عارف إن الواد حازم معاكي، ما كنت هسمح أبدًا إنك تروحي القرافة من غيري."
ـ وُوه!
تمتمت بها، لتترك النظر في شاشة الهاتف وتردف بغيظ شديد:
ـ دا كانه اتجنّن، صُح؟
ـ إنتي بتكلميني يا عمتي؟
رفعت مزيونة رأسها نحو ابن شقيقها، الذي كان منشغلًا بسقي النباتات المزروعة حول القبر، فنفت له فورًا:
ـ لاه يا حبيبي، منحرمش يا رب... كمل سقيهم يا حازم، خصوصًا الصبارة، ارويها وراعيها زين، حكم دي بتتحمل كتير... كتير جوي.
---
اهتزاز مكتوم بالقرب من مسامعها، يستمر ويستمر بصورة مزعجة، حتى امتدت يدها تفعل ما اعتادت عليه، فتمر أسفل الوسادة التي تنام عليها، تتناول الهاتف وتضعه على أذنها لتجيب بصوت ناعس وبدون تركيز:
ـ ألو، مين معايا؟
لم يأتيها الرد على الفور، وقد ألجمت الدهشة الطرف الآخر، مجفِلًا بتلك النبرة الأنثوية الغريبة عنه.
ـ إنتي مين؟
سؤاله البسيط أشعل تحفزها المعروف، لترفع رأسها بوعي بدأت تستعيده:
ـ نعم؟ حضرتك بتتصل على حد مش عارفه؟
نبرتها الحادة فقط هي من جعلته يتحقق من هويتها، بعد أن غلبه الظن بأن ذاك الصوت الناعم الناعس الذي وصله عبر الأثير، لواحدة غيرها، فتبسم بتسلية يجيبها:
ـ لا خلاص يا أبلة اعتماد، عرفتك. سامحيني، شكل السواقة شتّت تركيزي.
حسنًا، لقد استعادت وعيها بالكامل الآن، لتعتدل جالسة بجذعها، وقد علمت بهوية محدثها:
ـ خليفة القناوي! نعم يا فندم، في حاجة؟
لم يصلها منه إلا الصمت، مما جعلها تردف، ملطفة بعض الشيء:
ـ حضرتك، أنا بس مستغربة اتصالك بيا، والوقت بدري جوي كده؟
شعرت بضحكة تخللت نبرته، وكأنها قالت مزحة، رغم تقريعها المباشر له:
ـ للمرة التانية، هتأسفلك يا أبلة، بس أنا فعلًا والله مضطر. حضرتك واخدة تليفوني من امبارح، ودا شغلي وحالي ومالي كله عليه...
برقت فجأة تستدرك حماقتها، حين وعت على الهاتف الغريب عنها حتى في ملمسه، تسبّ نفسها بكل الشتائم.
هذا الهاتف الذي غفلت عنه في حقيبتها اليدوية، حتى لم تكتشف وجوده إلا مساءً، حين بحثت بها ليلًا تخرج منها نوتة التذكير، التي تدون بها كل شئ مهم تود القيام به في اليوم التالي، فور أن تضع رأسها على الوسادة كي تنام، لتتفاجأ به.
كم تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها:
ـ حضرتك، أنا ما خدتش بالي إنه في الشنطة أصلًا، غير على الساعة أتنين بالليل لما فتحتها بالصدفة، ساعتها كنت عايزة أتصل، مقدرتش عشان معرفش الباسورد، دا غير إني ماكنش عندي فرصة أبعت حد يوصلهولك على البيت، والساعة كانت داخلة على اتنين الصبح.
ـ خلاص يا أبلة اعتماد، مفيش داعي للتبرير دا كله، حصل خير.
ـ ماشي، بس إنت برضو كان لازم تتصل، يوم بحاله ماتسألش على تليفونك؟
ـ ما أنا اتصلت والله ياجي سبعين مرة، وإنتي برضو ما رديتيش، حتى بصي كده على سجل الهاتف...
ضربت بكفها على جبهتها بخزي شديد، وهي ترى بالفعل صدقه، من العدد المهول للاتصالات علي الشاشة بأرقام عدة، لتغمغم بالسباب مرة أخرى، حتى وصلت إليه همهمة غير مفهومة، فسارع يخفف عنها:
ـ خلاص يا أبلة اعتماد، حصل خير زي ما بجولك، أنا كمان كان لازم أبعت حد ياخده، بس الحقيقة إني من امبارح برا البلد، كل اللي طالبه منك دلوك تبعتيلي ملف من عندك محتاجه جدًا.
توترها الشديد جعلها ترد بفظاظة وكأنها تهاجمه:
ـ ملف إيه بالظبط؟ ما سمعتش توي بجولك إيه؟ أنا معرفش كلمة السر بتاعة حضرتك عشان أفتحه.
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، يا ستي عارف والله عارف... اكتبي عندك وأنا همليكي.
أغمضت عينيها تجاهد السيطرة على تشنجها وعصبيتها، علّها تحجم قليلًا من كم الغباء الذي يتساقط منها دون حساب، فتتمالك وتردف باستجابة إلى الرجل الذي يخجلها بلطفه وصبره:
ـ تمام، اتفضل حضرتك.
حين انتهت أخيرًا من مهمتها بإنهاء المكالمة بعد إرسال الملف الذي عرفها عليه، لم تستطع منع نفسها من المرور سريعًا على صوره الشخصية...
بالجلباب، ومع أطفاله، وبين إخوته، وبملابس عصرية أنيقة لا يرتديها إلا نادرًا.
قد يكون أجمل من شقيقيه الآخرَين، ولكنه بعيد عن الأضواء، لا يظهر في الصورة مثلهم، رغم هدوئه وكرم أخلاقه.
ـ أستغفر الله العظيم يا رب، أنا إيه اللي بعمله ده؟
ألقت الهاتف من يدها بندم، وضعته جانبها على الوسادة، تعيد الاستغفار مرارًا وتكرارًا، مقررة ألا يدفعها الفضول إلى فتحه مرة أخرى.
ولكنها، وما همّت بأن تنهض من فراشها، حتى أضاءت شاشته بدوي اتصال وارد، مما جعلها تتأفف بضجر، تتناوله وتجيب بحدة:
ـ ألو، إيه تاني؟
ـ مين اللي معايا على التليفون؟
جزعت اعتماد برعب، تبعده عن أذنها بعد أن وصلها الصوت الأنثوي بالسؤال، واضعة كفها الحرة على فمها.
بماذا سترد؟ وهي الأعلم أن الإجابة ستجرّ بعدها مئات الأسئلة، فهذه هالة التي تعلمها جيدًا، وتعرفها بصلافتها وغرورها.
ـ أنا بقول مين معايا؟ ما تردي، يا اللي ماسكة التليفون...
لم تدعها تكمل، وقد أنهت المكالمة بضغطة من إصبعها، لتغلقه نهائيًا بعدها، تاركة تفسير الأمر لزوجها بعد ذلك، فهي رغم حدتها وشجارها مع الجميع، إلا أنها ليست ندًا لهالة ولا لكلماتها الجارحة.
زفرت، تترك الفراش، كي ترى شؤونها، فتذكرت فجأة، أنه في جميع الصور التي مرّت عليها، لم تجد لها على هاتفه ولو صورة واحدة فقط، ولاحتى مع أطفالها أو معه... عجبًا حقًا.
---
وفي منزلها، كانت تضغط على الهاتف بغلّ حتى تكاد أن تكسره.
أسئلة تدور في عقلها دون هوادة، الصوت الأنثوي الذي سمعته، لا يشبه نبرة أي واحدة من شقيقاته أو بناتهن حتى.
إذًا، من تكون التي تجيب عن هاتف زوجها بتلك الأريحية؟ وهي التي قررت وتنازلت اليوم كي تتصل به وتسوي أمرها معه حتى يأتي ويعيدها إلى منزلها!
لقد وصل بها التواضع أنها كانت مُقدِمة على الصلح معه، لتجد هاتفه الآن مع امرأة غيرها!
أبدًا، لن تسكت على هذا الأمر، ولا بد لها من وقفة كي تفضحه، وربما تأتي بحقها منه حتى تعود إلى المنزل مرفوعة الرأس.
أضاءت الفكرة في عقلها، مقررة الذهاب على الفور، لتنهض مغمغمة بحديث نفسها:
ـ بتلعب بديلك من ورايا يا خليفة؟ استنى عليّا، دا أنا هطين عيشتك!.
توقفت فجأة وقد ارتخت معالمها، بعد أن استقرت على الشخص الذي ستذهب إليه الآن لتُلقي إليه بالشكوى حتى يأتي بحقها. ومن غيره يصلح لتلك المهمة؟
ـ حمزة...
......................
في طريق عودتها من زيارة قبر والديها، افترقت مع ابن شقيقها، فقد ذهب هو للقاء أحد أصدقائه، واتخذت هي طريقها للعودة إلى منزلها، تمرّ بالطريق الزراعي حتى تصل إليه.
كانت منهمكة في أفكارها كالعادة، حتى ظهر لها هذا الفاسد من وسط محصول الذرة وعيدانه الكبيرة، التي تغطي بطولها أي شخص داخلها؛ فتصلح عادة كمخبأ جيد لأمثال من هم على شاكلته.
ــ إزيك يا ست الحريم في الدنيا دي كلها؟
ارتدت قدماها للخلف بخوف غريزي، تطالع هذا الوجه الكريه مغمغمة بعدم استيعاب:
ــ عطوة! إنت اتجننت يا جزين؟ عشان تطب عليا كده وتجطع على طريجي؟
ابتلع رمقه، يطوف عليها بنظرة فاحصة أثارت القشعريرة بجسدها، قبل أن يجيبها:
ــ سامحيني لو خلعتك، أنا بس كنت معدّي بالصدفة عند جماعة معارفي هنا، واتفاجأت لما لقيتك جدامي وأنا طالع من الزرعة.
شعرت بالخوف، نعم، تشعر بالخوف، ولِمَ لا؟ فالمرأة، مهما بلغت قوتها، لا تضمن الغدر الذي قد يأتي فجأة من صنف البشر أمثال هذا الكريه، ممّن لا يعرفون العيب، ولا يراعون الحلال أو الحرام، إلا من رحم ربي.
ومع ذلك، لن تُظهر له أبدًا ما يكتسحها من الداخل:
ــ صدفة ولا مش صدفة، برضك مش حقك تخلعني ولا تكلمني أصلاً بعد عملتك السودة، ولا لحقِت الراحة والنضافة ينسوك عفانة السجن؟
اشتدت ملامحه، واختفى عنها التملق الزائف، ليرد عليها بغضب مكتوم:
ــ أنسى إزاي بجى وأنا اتحبست ظلم؟ وقبلها رجلي كانت هتروح مني بسبب طلقتك، وأنا ربي العالم، إني شلت الذنب مظلوم. هو المحامي مشرحّش جدامك حيثيات حكم المحكمة؟ دا عرفان بنفسه شهد معايا.
استقامت تواجهه بقوة، واضعة عينيها نصب عينيه:
ــ مايهمنيش أعرف إنت أقنعتُه إزاي يشهد معاك في اللعبة الماسخة دي، عن حكاية الحرامي اللي طلع على بيتي، وإنت كنت عايز تمسكه.
جايز يكون عرفان بلع القصة، مع إني أشك، بس أنا عارفة نفسي زين، ومتأكدة من كلامي، لو كل الدنيا اقتنعت ببراءتك، أنا لا يمكن أقتنع يا عطوة، عشان عارفاك زين... زين جوي. وسّع بجى من طريقي، خليني أروح على بيتي.
تركها تذهب بالفعل، لكنه أوقفها بعد خطوتين فقط، بقوله:
ــ مدام عارفاني زين، يبجى واصلك اللي جوايا يا مزيونة. ارحمي حالك، وبلاها الرجوع لعرفان الزفت، أو العشم في واد القناوي. اتجوزيني، وأنا أخليكي برنسيسة، جرّبي تفتحي جلبك وتشوفيني زين. أنا مستعد أعمل المستحيل عشانك، أنا رايدك من زمان جوي. اللي زيك حقها تتستت، مش تدفن مع عرفان الجبلة، ولا واد القناوي اللي عمره ما هيشوفك غير إنك أقل منه.
اكتفت بما سمعته، وبدون أن تلتفت إليه أو ترد، تابعت طريقها بأقدام تكاد لا تستطيع حملها. جسدها ينتفض ذعرًا وانفعالًا، تجتاحها مشاعر الغضب والخوف أيضًا.
هذا الثعبان، بكلماته، أثبت صحة ظنها، لقد فعلها وحاول التهجم على المنزل وابنتها معها. ما الذي يمنعه أن يعيدها الآن، وبحرص أكبر، دون أن يكرر أخطاء المرة الأولى؟ وربما يتمكن من إيذاء ابن شقيقها؟
ما الذي سيمنعه وهو لا يخشى العيب أو الحرام؟
كانت قد وصلت إلى خلف منزلها، تتأمل ذلك الجزء المكشوف الذي تمكن من تسلق جدرانه ليقفز إلى الداخل.
لقد كان الله رحيمًا بها حين أيقظها في تلك اللحظة الحاسمة، لتحمي ابنتها ونفسها قبل أن يتمكن من خرق الباب الفاصل والوصول إلي الجزء الذي كانت تنام فيه هي وإبنتها،
كم تمنت لو أن الرصاصة التي اطلقتها قد أستقرت في قلبه فعلاً، كي تستريح منه البشرية ومن أمثاله.
تطلعت جيدًا في الخلاء الممتد حتى الجسر الخلفي، لا يوجد سوى نباتات برّية نشأت بفعل الأمطار.
اللعنة! كيف لو أتى منه الآن، وفي وضح النهار، وابن شقيقها غير موجود؟ لربما...
ــ واجفة هنا ليه؟...
شهقت صارخة، تقطع سيل أفكارها السوداوية، خلف الصوت الرجولي الذي أتاها من حيث لا تدري، وقد اختل توازنها حتى كادت أن تقع، لولا ذراعان قويان تلقفاها، لتسقط على صدره، فتثير بقلبه الهلع:
ــ مزيونة، أنا ما عملتش حاجة عشان تتخلعي كده؟
تطلعت إليه من بين أهدابها التي كانت ترتخي، تتمتم باسمه المحبب إليها، وكأنها لا تصدق رؤيته بعد تلك اللحظات القاسية من الضغط والأفكار الوحشية.
لتجد نفسها بين يديه، فتسلّم أمرها بأمان تام، ثم تغيب عن وعيها تمامًا.
ــ حمزة...
ــ أيوه، أنا حمزة... إنتِ مالك يا مزيونة؟ مزيونة...
صار يهزها برعب، وقد ارتخى جسدها تمامًا، لا يدري ماذا يفعل، وكيف يفيقها؟ المنطقة خالية، ولا يوجد بها أحد ليستنجد به.
أيلقيها بجوار الحائط ويذهب إلى الجسر كي يستجلب إحدى النساء من السيارات المارة؟!
لا والله، لن ينتظر مساعدة من أحد.
عزم أمره على عجالة، ليدنو بذراعه إلى أسفل ركبتيها، ويحملها بين يديه، ثم سار بها من الخلف حتى وصل إلى شجرة التين في الجزء المقابل لمنزله.
وضعها على المصطبة الطينية، بجلسة مائلة، وقد أراح رأسها إلى الحائط، وجلس بجوارها يسندها بذراع، والأخرى يحاول بها إفاقتها، يربّت على وجنتها وكفها:
ــ مزيونة، مزيونة، فوجي يا مزيونة...
حين استجابت أخيرًا، ترفرف بأهدابها، شعر بالأكسجين يدخل إلى رئتيه، بعد لحظات من الانقباض والترقّب، حتى ارتفع ستار أجفانها ليكشف عن عينيها الجميلتين التي اصطدمت بوجهه أمامها، وكأنها أصبحت عادة.
تحمحم هو ليُبعد ذراعيه عنها، بعد الارتياح الذي غمره برؤيتها:
ــ إيه اللي حصل؟
عاد إليها الإدراك، تعي جيدًا وضعها وقربه منها، الأمر الذي أطلق شرارات الإنذار برأسها، فتتحامل كي تسيطر على ترنحها قليلًا، مغمغمة:
ــ مفيش حاجة حصلت، أنا بس عايزة أدخل بيتي وأرتاح.
تطوع يهمّ بمساعدتها:
ــ طب أُسندك لحد ما توصلي لباب بيتك؟
ــ لااا...
اعترضت، تتخذ طريقها إلى منزلها، بخطوات تجعلها متزنة بصعوبة، وظل هو يتابعها بقلب غير مطمئن حتى اختفت من أمامه داخل مخبئها.
شعر بحاجته إلى الاتصال بأحد ما، قبل أن يذهب لمتابعة شؤونه ويغادر:
ــ أيوه يا وصفي، كنت عايز أبلغك بكلمتين.
كان قد وصل إلى سيارته، يدلف داخلها، ويُكمل الحديث أثناء ذهابه، غافلًا عن نفس حاقدة اعتادت أن تحيك الشرّ من وراء ستار، وكان هاتفها سلاحها الأقذر."
كانت مختبئة خلف الأشجار الآن، وقد التقطت بهاتفها ما يجعل منه في نظرها كنزًا.
وقد ساعدها الحظّ والصدفة أن تأتي في هذا الوقت وكأن الشيطان بنفسه ساقها إلى هذا المكان، في تلك اللحظة، لتلتقط بعينيها ما سيتحوّل لاحقًا إلى أداة ابتزاز دنيئة."
، لترى بعينيها المشهد "الحميمي الغرامي"... كما صوّر لها عقلها الخبيث، الذي لا يرى إلا الفضائح حتى في أنقى المواقف."
.................................
أول مرة يزورها بعد تعبها الأخير، وتعليمات الأطباء لها بالالتزام بالفراش حتى يثبت حملها. أول مرة تكون المسافة بينه وبينها بهذا الشكل في شقتها الزوجية، والتي يزورها للمرة الأولى هو أيضًا. جلس بالقرب من سريرها، يتحدث محاولًا إقناعها:
ــ خليكِ ناصحة وافهمي أنا بوعيّك على إيه؟ البنت، مهما كانت غلاوتها عند جوزها برضك، لازم يكون في ضهرها سند تتّكل عليه، ويعمل له هو ألف حساب، عشان ما يفكرش في يوم يتعدّى عليها ولا يبهدلها. الكلام اللي داير في البلد يضرك قبل ما يضرها. أمّك باصة تحت رجليها ومش شايفة، لكن أنا مفتح لجدام، وعايز ألمّ الشمل ما بينّا، عشان محدّش بعد كده يجيب سيرتها. الكلام لو اتوسّع هيجي عليكي وعلى جوازتك... ولا إنتِ مش واخدة بالك؟
تركته يتكلم كما يشاء، ثم صدمته بردها المرتب:
ــ بس أنا أمي مش عليها حاجة... مزيونة الحرة الكل يعرفها، وجوزي وناس جوزي أول ناس يشهدوا على كده. بوز الأخص اللي طلّعت الكلام ده، اديتها على وشّها، ولو زوّدت أكتر، كنت خلّصت عليها كمان.
تهكم، غير آبه بألمها:
ــ وكانت النتيجة إيه يا جلوعة؟ أديكي اتسطّحتي على سريرك، لا جادرة تروحي مدرستك ولا تكمّلي تعليمك... عشان تجيبي الشهادة اللي أمك اتطلقت بسببها!
ردّت بضعف وقد ترقْرقت عيناها بالدموع:
ــ كل اللي حصل كان غصب عني... أنا برضك لسه على العهد، ولا عمري هخذلها، ولا أضيّع تعبها معايا على الفاضي.
زفر بخفوت، يزيح بصره عنها قليلًا حتى يستجمع أفكاره مع بنت أمها، والتي قد يأتي منها الفرج؛ فهي مفتاحها في الأول والآخر:
ــ وأنا ما جصديش أعايرك ولا أعايرها... افهمي بجى. أنا عارف إني غلطت كتير في حجكم، بس دلوك عقلت وعايز أصلّح. هعمل لها كل اللي هي عايزاه، حتى لو هتكمل لحد الجامعة زيّك. وانتي كمان، متشيليش هم.
لو – لا قدّر الله – جوزك رجع في كلامه بعد كده، ولا حصل ما بينكم انف...
ــ بعد الشر!
هتفت بها بحدة تقاطعه قبل أن يكمل، تنفضّ عن رأسها الفكرة من الأساس، فاستغلّ هو يوجه تلك النقطة لصالحه:
ــ جدعة يا قلب أبوكي... المرة الأصلية هي اللي تخاف على عمار بيتها مع جوزها.
بس أنا حابب أنبّهك على حاجة انتي مش واخدة بالك منها، ويمكن فرحانة بيها كمان.
أخو جوزك اللي انتي مسمّياه عمّك "حمزة"، لو حصل وحب يأكد الإشاعات وعرَض إنه يتجوز أمك... اعملي حسابك إن انتي أول واحدة هتتضرّ مع جوزها.
أنا مش بتكلم كلام في الهوا... عشان كده بقولك اقنعيها. نلمّ الشمل، وتعيشي إنتي هنا ما بينهم وراسِك مرفوع.
فاهماني؟
..........................
دخل إليها "معاذ" بعد أن انتهت أخيرًا من تلك الزيارة الثقيلة، بمغادرة ذلك الرجل. وقد تكفّل هو بتوصيله حتى الباب الخارجي.
مهما كانت العداوة والكره المتبادل مع هذا الرجل، إلا أنهم مضطرون للترحيب به من أجلها، كي لا تشعر باليُتم بينهم ووالدها لا يزال على قيد الحياة، حتى وإن كان كريهًا أو بغيضًا.
جلس بجوارها على الفراش، يضمّها مداعبًا بعد أن لاحظ شرودها:
ــ الجميل سرحان في إيه؟
قبّلته على وجنته بابتسامة ضعيفة، ذهب عنها صفاؤها وعفويتها، وهو ما انتبه له سريعًا "معاذ"، فاعتدل بجلسته، يقابل عينيها المتهربتين منه:
ــ الراجل ده بخ في ودنك وقالك إيه بالضبط؟
ارتفع كتفاها وهبطا سريعًا، قائلة:
ــ عادي يعني... حديت زي أي حديت.
لم يكن لديه صبر لمراوغتها، وهي ككتاب مفتوح، يحفظها أكثر من نفسه، ليهتف بها حازمًا:
ــ ليلى، حطّي عينك في عيني وجولي... نفخ في ودنك وجالك إيه بالضبط؟
إذعانًا لأمره، اضطرت أن تجيبه:
ــ عايزني أقنع أمي إنها ترجعله، وبيحذرني إن الكلام عن أمّي وعمّ حمزة هيوسع أكتر وأكتر كل ما رجليها عتبت هنا...
زفر "معاذ" بغضب متعاظم... ذلك الرجل المتلوّن، يلوي كل الأحداث لصالحه، حتى لو اضطر لجرح أقرب ما لديه:
ــ كنتي شكرتيه على شهامته!
إحنا عارفين كل حاجة، وهي مسألة وجت إن شاء الله... وكلّه يتحل.
ــ يعني إيه؟ وضّح أكتر.
لم ينتبه لنبرة الارتياب في حديثها، وقد أخذه الحماس في الرد عليها:
ــ بقولك مسألة وجت يا ليلى، حمزة أخويا كلم أمي امبارح، وبلغها إنه اتقدّم لخالك وصفي، وخد موافقته كمان، واللي ناقص دلوك بس... موافقتها. ربنا يهديها بجى وتردّ بسرعة. حُكم إني عارف أخوي زين، مش هيسيبها غير لما تقول "آمين... آمين".
أومأت تُدعي تفهمًا، ولكن عقلها الذي زُرع فيه الشك، بدأ من الآن تعصف به الأفكار والهواجس.
...............................
عاد مساءً إلى منزله، بعد يوم مرهق قضاه في تسوية أعماله والتفكير في المعضلة التي تقسم رأسه، تلك العنيدة التي احتلّت قلبه وعقله، ولا يدري منها نجاة إلا بالزواج. مهما هربت منه وتحدّته، لن تهزمه.
زفر، وهو يُلقي بمفاتيح سيارته على الطاولة الزجاجية التي تتوسط الغرفة، ثم ذهب نحو الشرفة، يخطف نظرة أخيرة نحو منزلها في الخارج على أمل أن يراها ولو صدفة، لكن لم يحدث. هكذا كلما حدثت مواجهة بينهما، تعاقبه بالاختفاء داخل منزلها.
اللعنة... سوف يكسر كل باب يمنعه عنها إن حدث وفعلتها بعد الزواج.
لكن لا بأس الآن، إن كانت هي متخفية عنه حاليًا، فهو أيضًا لا يُغلَب. تحرك خطوتين ليقوم بتشغيل الشاشة المتصلة بالكاميرات التي زرعها في زوايا المنزل الهامة بالخارج، حتى لا يغفل عنه ولو أثر قطة، إن كانت قد مرّت بالقرب من منزله أو منزلها.
سقط بجسده على الأريكة الوَثيرة، يُشغّل التلفاز بالمتحكم، ليعود باللقطات إلى بداية اليوم، منذ خروجها صباحًا بصحبة ابن شقيقها، ثم عودتها والتفافها عند مدخل المنزل لتتسمّر بالنظر نحو الجدار الخلفي... لسبب غير معروف. ثم انتبه هو لطيفها وقت خروجه من منزله، فتحركت قدماه لا إراديًا إليها، وحدث ما حدث حين فقدت الوعي بين يديه.
كان منتبهًا بشدة لكل تفاصيل المشهد الواقعي الذي سجلته الكاميرا أمامه، حتى لم ينتبه إلا مؤخرًا إلى تلك المرأة التي كانت متخفية خلف إحدى الشجيرات، رافعة هاتفها نحوهم... وتُصوّرهم!
انتفض مستقيمًا، يُعيد المشهد من بدايته حتى تبين له، وبكل وضوح، هوية المرأة التي كان قد شَكّ فيها من البداية، لكنه كان يريد التأكد:
ــ هالة...
...............................
وقفت تُقابله بدهشة، بعد مجيئه فجأة في هذا الوقت المتأخر من الليل. استُقبل بترحاب شديد من والديها، وقد أخذهما العشم في مغزى الزيارة المفاجئة، حتى إنه حين طلب الانفراد بالجلسة معها، هرول الاثنان يتركان له المجال كاملًا، من أجل صُلح ابنتهما على زوجها.
طال صمته في التحديق بها، الأمر الذي جعلها تبادره الهجوم:
ــ اتكلم يا واض عمي... جُول اللي إنت جاي تِجُوله. بس خد بالك، عشان أخوك اللي كان عامل نفسه معاه الحق، دلوك أنا اللي مش عايزاه. خليه يلعب ويِمشي مع الحريم على كيفه... شكله كان في جرّة وطلع لبرا!
وكأنه لم يسمع شيئًا، تجاهل كل حديثها، ووجّه إليها الأمر المباشر:
ــ هاتي التليفون بتاعك يا هالة.
ردّت بدهشة:
ــ تليفون مين؟ تليفوني أنا؟ مالك بتليفوني؟
امتدت كف يده نحوها مفتوحة، يُكرر أمره بحزم:
ــ بجولك هاتي التليفون حالًا، يا إمّا مش هيحصل طيّب، وانتي اللي هتندمي ندم عمرك بعدها.
سمعت الكلمة الأخيرة، لتفور الدماء في رأسها، تاركة العنان للسانها الطويل:
ــ أندم ندم عمري؟ ليه إن شاء الله يا واض عمي؟ راكباني العِيبة ولا بعمل الغلط؟ إنت جاي النهارده على إيه بالضبط؟
زفر وهو يُحاول التحكم في غضبه من تلك المستفزة، ودون أن يتفوه بحرف، رفع شاشة هاتفه أمامها، لتُشاهد تسجيل الكاميرا لها عند منزله.
فابتلعت ريقها بقلق اكتسح ملامحها، لكن سرعان ما استعادت شراستها، ترد بتبجح:
ــ آه... قول كده بجى! جاي تتنفض وعايز تاخد الصور من تليفوني لتوصل لحد غريب وينشرها؟ وتتأكد الفضيحة والكلام اللي عليكم؟ فعلاً... حاجة تِكسِف وتجيب العار. ده قليل إن ما خدتْلها طَلجة تغور فيها!
كم ودّ أن يتناول لسانها ويقطعه، أو أن يُنظفه بماء نار حتى يُطهّره من نجاسة ما تتلفظ به. لكن لا بأس... هو ليس بقليل الحيلة أمام شخصية مثلها، ولا أمام كل نفس خبيثة تتجرأ على ما يخصه.
ــ مش هرد على كل الهَلْفَطة اللي هَلْفَطتي بيها، ولا على الزفارة اللي بتنقط من لسانك... بس هرد بحاجة واحدة:
لو عندك الجُرأة يا هالة إنك تحتفظي بواحدة من الصور دي على تليفونك بعد ما أنا كشفتك... اعمليها.
اللي على تليفونك دلوك دليل إدانة كامل عليكي، بكل النصايب اللي عملتيها... من أول "روان" اللي سَلّطتيها ومليتي دماغها عشان تعمل فضيحة!
تخيلي رد فعل جوزك لما يمسك الدليل ده في يده، بصور الكاميرا ليكي بالكامل... وهو أصلًا على شعرة عشان يطلّقك، بعد ما فاض بيه منك ومن عمايلك. ولا أبوكي يا هالة؟ أكيد إنتي عارفة زين جوي اللي مستنيكي منه لو حصلت واطلقتي بسبب عمايلك اللي تِكسِف!
شحبت ملامحها فجأة، وهي تستوعب مغزى تهديده.
دار رأسها وقد طرق بمطرقته على أكبر مخاوفها... كيف لشيء مخزي كهذا سجلته كاميرا تليفونها أن يُصبح دليلاً ضدها، لا عليه هو وتلك "المزيونة"!
وهي التي كانت تُمنّي نفسها بالحصول على أكبر استفادة، حتى شطح خيالها لابتزاز "مزيونة" وطردها من المنزل!
وكأنه كان يقرأ ما يدور في رأسها، فأردف ليزيد من هزائمها:
ــ عيبك إنك فاكرة الناس مش فاهماكي، مع إنك مكشوفة جدام الكل...
هاتِ التليفون عشان نفسي جفلت منك... هاتي التليفون قبل ما أتهوّر وأنادي على أبوكي وأشهده... أنا مش بعمل حاجة غلط عشان أخاف منها!
.........................
صباح اليوم التالي
وقد استيقظ أبكر من اي يوم مضى، وبنشاط فاق عادته، بعدما اكتفى بسويعات قليلة أراح فيها جسده المنهك، وهدّأ بها رأسه المثقل بالتفكير.
ورغم صعوبة ما مرّ به مساءً، فإن النهاية كانت مُرضية له، ولو قليلًا.
تخفّى خلف ستار النافذة منذ أكثر من ساعة، يرقبها في انتظار أن تطلّ، حتى ظهرت أخيرًا، تحمل أغطية السرير لتقوم بنشرها في الشمس، كعادتها اليومية.
لم ينتظر لحظة أخرى، وهرول سريعًا نحو الخارج، عازمًا على اللحاق بها قبل أن تختفي من أمامه كما تفعل دائمًا.
هذه المرة، أقسم أن يوقع "قتيلًا" إن حدث وفعلتها!
وصل بخطوات متعجلة، ليجدها على وشك الانتهاء من نشر المفرش الأخير.
تقدّم نحوها بخفة، متعمدًا ألّا يلفت انتباهها، حتى إذا التفتت... فوجئت به واقفًا أمامها، يبتسم.
ابتسامة أشرقت على ملامحه الخشنة، بوسامة تميّزه عن الجميع.
ــ صباح الفل.
ظهرت علي وجهها الجميل مظاهر التعب وقلة النوم بوضوح، وفي ردّها الفاتر، وقبل أن تهمّ بالهروب كعادتها:
ــ صباح النور.
تفوهت بها ثم همت بالانصراف من أمامه دون استئذان، فكادت أن تمر، ولكنه اعترض طريقها، يوقفها:
ــ ما تمشيش قبل ما نتكلم.
رفعت بصرها إليه بضجر، تجيبه برفض:
ــ وأنا مش عايزة يا حمزة، عشان عارفة اللي هتتكلم فيه. سيبني أروّح أريح جسمي الله يرضى عنك، تعبانة ومفياش حيل للتّ والعجن.
وكأنه لم يسمع شيئًا، ظلّ واقفًا كحائط يمنعها من المرور، يتأملها بصمت، مستمتعًا بمشاكستها.
وحين نفذ صبرها، عزمت على الإفلات منه بأي طريقة،
تحركت قدمها خطوة يمينًا، ولكنها وجدته يقلدها من جهته،
رمقته بغيظٍ كامن لتغير هذه المرة يسارًا، فتبعها أيضًا، مانعًا عنها أي فرصة لتخطيه،
لتزفر وتحدّجه بضجر، تنفخ من فمها كالأطفال، هادرة به:
ــ ابعد من جدامي يا حمزة، وبلاها عمايل العيال دي! لا أنا صغيرة ولا إنت صغير على الكلام ده.
ضحك بتسلية يزيد عليها:
ــ والله عايزة تكبّري نفسك؟ إنتي حرّة، إنما أنا راجل بعقل صغير، وهعيش طول عمري صغير.
ازدادت عيناها اتساعًا، تطالعه بغضب اختلط بدهشتها.
لا تصدق تلك الأفعال الصبيانية التي يقوم بها، هذا الرجل الذي تُرفع له هامات الرجال احترامًا، يشاكسها وكأنه طفل في السابعة!
ــ ممكن أفهم إنت عايز إيه في الآخر؟ جُول كلمتينك وخلّصني!
أومأ بانتصار وقد وصل لمبتغاه، ليخرج من بنطاله الهاتف، يرفعه أمام عينيها، موجّهًا بصرها نحو الشاشة، قائلًا:
ــ من غير رغي ولا رَط كتير، أنا عايزك بس تبصي هنا، عشان تعرفي إن موضوعنا كده خلصان، ومن غير تفكير.
ــ هو إيه اللي خلصان؟...
لم تنهِ جملتها بعد، حتى انتفضت بجزع نحو ما تراه أمامها، هاتفه بما يشبه الصرخة:
ــ يا مري... دي صورتي؟ ولا... ولا صورة واحدة غيري إنت شايلها؟
وكأنها كانت تنتظر منه نفيًا، ولو بالكذب، علّه يخفف عنها وطأة ما تشعر به.
ولكنه أبى إلا أن يصارحها:
ــ إنتي عايزاني أكدب عليكي يا مزيونة؟ دي صورتك طبعًا، وأنا شايلك وإنتي مغميّ عليكي،
ناس وِلاد حلال شافوني وشافوكي، ما رضيوش يعدّوا الأمر كده من غير ما ياخدوا اللقطة،
بس الحمد لله، أنا دريت بسرعة وعرفت أتصرف معاهم وأخرسهم، بعد ما خدت الصور.
هكذا، وبدون أدنى مراعاة لحيائها، أخبرها بما جعل الدماء تفور برأسها.
الوغد يتحدث ببساطة، وكأنه يُدلي بأخبار الطقس، وليس عن أمر جلل كهذا!
لتنفض عنها الذهول، ويحلّ عليها غضب متفاقم، جعلها تدفعه بقبضتها على صدره، صائحة به:
ــ إنت السبب! إنت السبب في كل اللي حاصل! عاجبك كده منظري؟ ولا منظرك جدامهم اللي بتجول عليهم دول؟
كنت بتشيلني ليه؟ بتشيلني ليه بس وتجيبلي الكلام والحديت؟
أجفل من رد فعلها العنيف، والذيذ أيضًا، حتى كاد أن يضحك لشراستها التي يشهدها لأول مرة.
ففاجأها هو بالقبض على رسغها يمنعها من الاستمرار في ضربه، متحدثًا:
ــ عيب عليكي يا مزيونة، أنا راجل كبير ناسي، وعمايلك دي أنا مش صغير عليها.
ده غير إن لما شيلتك كان ليّا سبب قوي، وهو إني أفوّجك بعد ما غِميتي وفقدتي وعيك.
كنتي عايزاني أسيبك لحد ما تروحي عن الدنيا خالص يعني؟ ما تميّزي بجى يا ست إنتي، وقدّري إن نيتي كانت سليمة.
نزعت يدها منه، صارخة به:
ــ ياريتــك كنت سيبتني! أموت ولا أغور في داهية حتى!
مش أحسن من الكلام والحديت دلوك؟ ولا هي الدنيا صفصفت يعني، ومبقاش فيها غيرك تفوقني؟
ما كنت اتصلت بالدكتور، ولا جيبت أي مرّة معدية من على الجسر اللي ورانا!
لازم تعمل فيها عم الشهم؟... إنت إيه اللي كان سكنك جنبي بس؟ إيه اللي كان سكنك جنبي؟!
تركها تفرغ غضبها في الصياح والصراخ عليه، ليردّد بنبرة ماكرة:
ــ النصيب... النصيب هو اللي سكني جنبك يا مزيونة.
ــ نصيب؟ نصيب مين بالظبط؟!
صاحت بها، وقد بلغ منها التعب مبلغه، لتسقط جالسة على المصطبة الطينية من خلفها، مردفة بألم يعتري قلبها:
ــ ليه يا حمزة بتعمل معايا كده؟ ضاقت عليك الدنيا؟ ملجتش غيري؟
الحريم مالية الدنيا كلها!
لو بِتّ سبعتاشر هترضى بيك، لو ملكة جمال هترضى بيك،
لو حتى دكتورة ف الجامعة برضه هترضى بيك، عشان إنت كامل من كله!
إنما أنا؟ تبصلي ليه؟ لا أنا واخدة التعليم العالي زيك، ولا عندي الأصل والمال اللي يليق بيك...
توقفت برهة، ثم أكملت بما شطر قلبه لنصفين، تشير بسبابتها على وجهها، ودموع القهر تغرق وجنتيها:
ــ لتكون اتغرّيت بشوية الحلاوة اللي شايفهم جدامك؟
أنا صورة بس، لكن من جوا... فاضية!
أقل مرّة في الحريم أحسن مني!
لا أعرف أسعد راجل، ولا أقدر أخلّف عيل تاني، بعد ليلى، اللي جيبتها بطلوع الروح!
النصيب اللي بتتكلم عنه ده؟
أنا جربته... ودوقت المرار فيه!
معدتش فيا حيل أعيد سنين المرار من تاني يا حمزة!
ولو ليا خاطر عندك... ابعد عني، وشوف غيري، الله يخليك!
سقط هو على الأرض، جاثيًا على ركبتيه عند قدميها، بقلب تمزق حزنًا عليها، حتى سقطت دمعة من عينيه تضامنًا معها:
ــ إنتي ملكة على كل الحريم، مش على قلب حمزة وبس!
مين اللي حط في مخك النقص وانتي كاملة من كله؟
تلزمني في إيه بِتّ سبعتاشر عشان أفضلها عليكي؟
ولا دكتورة الجامعة؟
جيبيلي واحدة في الدنيا... عقلها يساوي عقلك!
ولو ع الجمال... فدي آخر حاجة يختار على أساسها القلب!
أصله أعمى... عايش بالإحساس بس!
أنا قلبي اختارك يا مزيونة، سواء كنتي حلوة أو وحشة... سواء هتخلّفي أو متخلّفيش.
ولو ع السعادة؟
فدي لقيتها من ساعة ما شوفتك!
أنا بحبك يا مزيونة...
ولو كنتي ناقصة من كله، برضه... راضي بيكي!
من المفترض أن ترطّب كلماته قلبها الملتاع، لكن عقلها ما زال يرفض... أو بالأصح: هو يحتاج مزيدًا من التأكيد.
ـ إنت عبيط يا حمزة؟ بجولك منفعش، منفعش! أجيبها بالمفتشر عشان تفهم؟
لو حصل واتجوزتك، انسَ إنك تتهنّى زي باقي الرجالة.
اللي جربته في جوازتك الأولى من هنا ولا فرح!
انسَ خالص إنك تلاقيه معايا!
تنهد بعمق، يؤكد لها بإصرار واستماتة:
ـ رااضي يا مزيونة... اعتبريني عبيط، اعتبريني أي حاجة، برضو راضي.
ـ إنت حر...
استغرق لحظة، لحظتين، حتى استوعب... يتساءل بعدم تصديق:
ـ معنى كده إنك وافجتي يا مزيونة؟
صمتت، تطالعه بخجل وتردد، لا تعلم كيف صدرت منها أصلًا...
ليتيقن أكثر من صمتها، فيردف بصوت أكثر لهفة:
ـ مزيونة! ردي عليّا، الله يرضى عنك... انتي وافقتي صح؟ انتي وافقتي؟
لم تصمد أكثر من ذلك، لتدفعه بيدها ناهضة عن جلستها أمامه، قائلة:
ـ واحد غاوي شقى! أعملك إيه؟ اللي بيشيل قربة مخرومة بتخرّ عليه!
جُلتلك إني منفعش! يعني اعتبر نفسك متجوز واحد صاحبك، ولا مش متجوز من أساسه... بلا وجع قلب!
صرخ يوقفها قبل أن تختفي:
ـ يعني جَبَلتي بجوازي منك؟
صاحت بحدّة، تناقض تمامًا هيبة الموقف والرومانسية اللي كانت تلوح في الأفق من دقائق:
ـ جَبَلْت، جَبَلْت! واتحمّل بجى، عشان إنت اللي جيبته لنفسك!
تعلّقت أبصاره تتبعها بذهول، وقد انثنت أقدامه أسفله...
يخشى أن يكون حلمًا. يريد أن يرقص، يريد أن يصرخ بها أمام العالم:
لقد نطقتها ووافقت!
نطقتها... تروي عطش قلبه.
نطقتها المجنونة... تضيف عليها لمستها، تقصد تعكّير مزاجه، أو أن تجعله يتراجع،
لكن والله... لن يحدث!
بعد ما سمع منها الإجابة، أصبح الأمر تأكيد ومؤكّد به... بل وكل التأكيدات!
يحاول السيطرة على رجفة قلبه، يعيد كلماتها بذهنه حتى وصل إلى تلك الجملة الطريفة...
يغمغم معقّبًا عليها بمكر ضاحكا:
ـ وااحد صاحبي يا مزيونة؟ والله إنك غلبانة جو