رواية لعنة الصعيد الفصل الثاني
كان السكون يلف المكان والظلال تغمر الجدران العالية بلون الحداد.... الغرفة فسيحة وكل شيء فيها مطلي بالسواد، الستائر، الأثاث، حتى غطاء السرير الذي تمددت عليه عالية..... كان الضوء خافت يتسلل من مصباح صغير معلق في السقف، لا يكفي ليبدد ظلمة الغرفة، لكنه كافٍ ليُظهر ملامحها الشاحبة وقطرات العرق التي تلمع على جبينها.... فتحت عاليه عينيها ببطء كأنها تعود من موت مؤقت. أول ما شعرت به كان ألما حارقا في كتفها و نظرت إلى ذراعها فوجدت أنبوب المحلول مغروزا في وريدها، وساعدها ملفوف برباط أبيض تغمره بقع الدم. حاولت أن تتحرك فشهقت من الألم، إلا أنها رغم ذلك دفعت جسدها إلى الجلوس وهي تئن ونظرت حولها بخوف همست:
انا.... أنا فين.. اي ال جابني اهنيه وبيت مين دا
سحبت عاليه الإبرة من يدها بعنف ونهضت وهي تتأوه من الألم. كانت حافية، ترتدي فستانا أبيض متسخا بالدماء والغبار وتقدمت نحو الباب وبدأت تضرب عليه وهي تصرخ:
افتحولي... حد اهنيه.. عايزة أخرج... افتحوا الباب
لكن الباب انفتح بسهولة دون مقاومة كأنه لم يكن موصدا أصلا فـ نظرت بدهشة ثم خرجت ببطء تمشي في ممر طويل جدرانه مكسوة بالرخام الأسود واللوحات العتيقة و المكان فخم لكنه بارد... كئيب، كأنها تسير في مقبرة من ذهب..... كانت تسير بتوتر تتلفت يمينا ويسارا، حتى فتحت بابا عشوائيًا... وفجأة توقفت أنفاسها في الداخل... كانت هناك غرفة أخرى... أوسع مفروشة بسجادة حمراء يتوسطها سرير ضخم، عليه جسد رجل مستلقي دون حراك... كان عاري الصدر، ملامحه قوية، شعره الأسود مسرح بعناية وذراعه ترتخي على الوسادة.. فـ شهقت عالية وهمست:
مين دا... انا فين.. اي ال بيوحصل معايا بالظبط
اقتربت عاليه ببطء وبحذر حتى أصبحت على بعد خطوات منه. وقبل أن تلمس طرف السرير انفتحت عيناه فجأة وجمدت في مكانها ثم صرخ:
انت... إنت مين
ومع شهقتها سحبها فجأة من ذراعها فسقطت فوقه وصرخت بقوة:
انت عايز مني اي عاد.. سيبني. سيبني في حالي عايز اي وانت مين... سيبني ابوس يدك
أمسك شهاب بها بقوة ثم نظر إلى كتفها المصاب وعندما رأى الدم والجرح تركها فورا وأبعدها عنه وهو يقول بهدوء مفاجئ:
استني... إيدك عاملة إي دلوجتي... لسه بتوجعك
ارتجفت عالية وهي تتراجع للخلف ثم صرخت:
إنت مين؟! أنا فين
نهض شهاب من السرير بهدوء والتقط قميصه وارتداه ثم قال بصوته الواثق:
أنا شهاب الحديدي... وإنتي دلوجتي ضيفة عندي لحد ما نشوف طضية أخوي هتوصل لإي
صدمتها كلماته و ارتجف جسدها كله وفتحت فمها ببطء وهمست:
كمال...؟ كمال يبجى أخوك... يبجي انت.. انت ال ضربتنر بالرصاص صوح.. ليه طيب وازاي خدتني من اهلي واهل جوزي .. ازاي جدرت تعمل اكده... انا لازم اروح.. لازم اروح احضر دفن جوزي.. انا همشي من اهنيه دلوجتي غصب عنك وهتشوف
نظرت عاليه حولها في توتر و عيناها وقعتا على سكين موضوعة فوق منضدة خشبية... لم تفكر واندفعت نحوها وخطفتها ثم هتفت:
هجتلك.... والله ما هسيبك هخلص عليك زي ما اخوك عمل مع عادل
لكن شهاب كان أسرع و أمسك بمعصمها قبل أن تهوي عليه و ضغط بشدة حتى تأوهت من الألم، وانزلقت السكين من يدها وسقطت على الأرض، بينما أصابه جرح صغير من حافة النصل، وسال الدم فـ ترك شهاب يدها بهدوء وقال:
أنا مش ناوي أذيكي... آسف إني ضربتك بالرصاص... بس مكنش ينفع أسيب أخوي يتحبس أو يتعدم. كان لازم أوجفك... حتى لو بالطريجة دي
صرخت عالية بغضب وعيناها تكادان تشتعلان مردده :
انا مش هسكت... والله ما هسكت... هجتلكم كلكم... أولكم أخوك! وهخرج من اهنيه مهما حوصل... وشوفوا بجا مين فينا ال هينتجم للتاني
تأملها شهاب بصمت لحظة ثم ضاق حاجباه بضيق شديد وامسك ذراعها المصابة بحذر رغم غضبه وجرها خلفه نحو غرفة مجاورة وفتح الباب ودفعها للداخل ثم أغلق الباب خلفها وأدار المفتاح فـ سمعت صوته من الخارج وهو يهتف :
خليكي اهنيه .. فَترة... وبلاش تفكري تعملي اي حاجه غبيه... لأن المرة الجاية، مش هضربك في كتفك بالرصاص.. الرصاصه هتبجي في جلبك
ثم ساد الصمت.أما عالية فوقفت في منتصف الغرفة تنظر حولها كأنها سجنت في تابوت من الحرير... مزيج من الحقد والألم كان يغلي داخلها همست لنفسها:
مش هجعد اهنيه ... مش هنسى... والله ما هنسى يا شهاب الحديدي وهجتلك اخوك ال انت فرحان بيه وبنحميه دا وهتشوف
ثم جلست على الأرض تحتضن نفسها والدموع تنحدر على وجنتيها... لا من ضعف بل من نار لا تنطفئ.
وبعد فتره كان المساء قد أرخى سدوله على القرية والبيوت غارقة في سكون مشوبٍ بالترقب لكن ساحة بيت حسنية جده عاليه لم تكن تعرف الهدوء. فبعد أيام من الحداد والبحث حضر أهل عادل متشحين بالغضب والمرارة ووقفوا في صمتٍ مشحون أمام باب البيت القديم فـ خرجت حسنية ببطء يعلو ملامحها الكبرياء لكن عينيها تحملان وجعا دفينا و تقدم الحج سالم والد عادل وبجواره ابنه الأوسط علاء وعدد من الرجال. حتي قال سالم بنبرة خشنة:
كنا ساكتين احتراما للميت بس دلوجتي جينا نطلب حقنا... حفيدتك يا حسنية هي السبب في موت ابننا. جوازه منها كان يوم نهايته
رفعت الجدة رأسها بثبات ورددت :
عيب الكلام دا يا حج سالم... متتتجنىش على البنت.... البنت ملهاش ذنب
قهقه علاء بسخرية مرددا:
شوفي... هي هربت ومحضرتش لا دفنه ولا عزاه تبجى مش خايفة؟ مش مدانة؟ لع هي خايفه وخاينه وهي السبب في موت اخوي اللخ يرحمه
ردت حسنية وقد ارتجف صوتها من الانفعال:
حفيدتي كانت بين الحياة والموت.... حد ضربها بالرصاص جدام المستشفى وكاميرات الطوارئ مسجلة دا كله... وفي شهود شافوا ناس شالوها وغطوا وشوشهم ومشيوا بيها
هتف علاء بازدراء:
كاميرات؟ تسحيلات؟ احنا دورنا... ومحصلناش حاجه. الكاميرات اختفت! يعني واضح إنكوا بتضحكوا علينا.. باينه جوي اهي
ثم تنحنح سالم وقال ببطء:
بصي يا حجه حسنية... احنا مبنحبش نطول في الكلام.... لو عايزة الموضوع يخلص بالستر، احنا مستعدين نسامح، بس بشرط واضح... تتجوز حفيدتك أخو المرحوم. جواز يلم الوجع ويطفي النار ال في جلوبنا يا اكده يا هنجتلها ونخلص منها ومن عارها هاا جولتي اي
عم الصمت لوهلة و نظرت الجدة إليهم بذهول كأنهم نزعوا عن قلبها آخر ذرة رحمة. رفعت يدها للسماء ثم هتفت بقهر:
حسبي الله ونعم الوكيل... البنت كانت بتحبه واتحرق جلبها عليه... وانتو بدل ما تجيبوا حقها عايزين تطفو الدم بالذل؟ حفيدتي بريئة.. وأنا هرجعها، وهتشوفوا يوم ما ترجع مين فينا ال على حق... وال ظلم التاني
ثم أدارت ظهرها والدمع يكاد يفلت من عينيها لكن خطواتها كانت ثابتة وبعد فتره في الليل . كان شهاب يقف كالعاصفة يواجه أمه سعاد وزوجة عمه، وأخته ناريمان وزوجها أمين والغضب يتفجّر في صوته مرددا :
إنتو اتجننتوا؟! إزاي تفكروا إني أجتل البنت؟! كفاية ال عملناه فيها... كفاية الرصاصة ال ضربتها بيها وكفاية ال الاستاذ عمله ليلة الفرح.... البنت دي في حمايتي دلوجتي وأنا وعدت نفسي ان محدش هيمسها ولا حتى بكلمة
صرخت سعاد بعينين تشتعلان نارا:
حمايتك؟! البنت دي بسببها أخوك هيتعدم يا شهاب.... جتلها حلال! ولو انت مش هتعملها... أنا ال هعملها هجتلها بإيدي
رفع امين حاجبيها من الصدمة وهتف:
يعني خلاص؟ بجينا جتالين جتلة... إي دا بجينا بنقرر مين يعيش ومين يموت
تدخلت ناريمان بصوت خافت:
محدش جال نجتلها... بس لازم نشوف حل... وجودها خطر على كمال وعلى البيت كله
لكن امين هتف بها حادا:
اسكتي انتي.... كفاية سكوتك من البداية... أخوكي أصلا لازم يتحاسب وال عمله ميتغفرش.... احنا بنغطي عليه بس.... لكن الحقيقة واضحه والكل عارف الماس بس خايفه مننا فمش بيتكلموا
اقترب شهاب خطوة للأمام وضرب بقدمه الأرض وهو يقول بقوة:
انا جولت كلمتي... محدش هيلمس عالية ومش عايز أسمع الكلمة دي تاني. انتهينا
ساد الصمت للحظات... لكنهم لم ينتبهوا أن هناك ظلا خلف الباب الموارب...كان كمال يقف في الظل يتسمر في مكانه وعيناه تلمعان ببريق غريب...همس لنفسه وهو يبتسم ابتسامة باهتة:
يعني عالية... اهنيه في البيت... ولسه ليا فيها نصيب
ثم تراجع ببطء دون أن يشعر به أحد... وبعد دقائق بسيطه كانت عالية تجلس على حافة السرير... ملامحها منهكة.... عيناها متورمتان من كثرة البكاء وكتفها لا يزال يؤلمها....و الطعام البارد موضوع أمامها على الطاولة الصغيرة، لكنها لم تلمسه. كانت تهمس بصوت مرتجف وهي ترفع يديها للسماء:
يارب... يارب خرجني من اهنيه... خليني أهرب... مش جادرة أعيش في الرعب دا و
لم تكمل دعاءها إذ انفتح الباب فجأة ببطء ووقع خطوات ثقيلة تسللت إلى الغرفة فـ رفعت رأسها ببطء وما إن التقت عيناها بعينيه حتى شهقت وارتجف جسدها كله. فـ تجمدت في مكانها وكأن الزمن عاد بها للحظة إطلاق النار... لحظة موت عادل... لحظة النهاية..... ونهضت من مكانها كأن طاقة مجهولة اجتاحت جسدها واقتربت منه بخطوات متوترة ثم صفعت وجهه بقوة جعلت رأسه ينحرف للجانب وصرخت بحدة:
والله ما هسيبك... يا جاتل.... يا جبان! أنا لازم أجتلك بإيديا زي ما جتلت جوزي
ضحك كمال بخفة وهو يمسك وجنته ثم اقترب منها فجأة وأمسك ذراعيها بقوة جعلتها تتأوه مرددا:
اعملي فيا ال انتي عايزاه... اضربيني... اجرحيني.... اجتليني حتى... بس خلينا مع بعض انتي واحشتيني... واحشتيني موت يا عالية ومستعد أستحمل منك كل حاجة
دفعته عالية بقوة وهي تصرخ:
ابعد عني.... إنت زبالة....وخاين .. خنت الرجولة نفسها أنا مش هرتاح إلا لما أخد حقي منك... وهجتلك... والله هجتلك
ابتسم كمال بنظرة خبيثة وهو يقترب وعيناه تلمعان بشهوة مريضة:
سيبيك من الموت دلوجتي... الجتل ممكن يستنى... إنما الحلاوة دي... مينفعش تتساب كدا. أنتي مش شايفة نفسك؟ إيه الجمال دا؟ إي الجمر ال جدامي دا
مد كمال يده ليلمس وجهها، لكنها تراجعت برعب، جسدها التصق بالحائط، وأنفاسها صارت ثقيلة، بينما ملامحها تُظهر الصدمة والاشمئزاز.... وكانت عالية تقف في منتصف الغرفة.. ظهرها ملتصق بالحائط وصدرها يعلو ويهبط من شدة الخوف والألم في كتفها لم يكن شيئا يذكر أمام الرعب في عينيها. نظرت له بحدة وصرخت بصوت مرتجف:
لو لمستني تاني والله لـ هجتلك...انا اصلا مش فارقة معايا اي حاجه
اقترب كمال منها بخطوات ثابتة وعيناه تقدحان بجنون وهمس بسخرية:
مش هتجدري... زي ما مجدرتيش تعملي حاجة لما جتلت جوزك يوم الفرح...اخوي معايا وهيحميني وطول ما هو جمبي محدش يجدر يلمس شعره واحده مني
صمت كمال لحظة ثم قال بصوتٍ أبطأ اقرب للهمس:
إنتي ليا... وهتفضلي ليا... مستحيل حد ياخدك مني مهما كان مين وهتشوفي داوجتي هعمل فيكي اي عاد علشان تعرفي انك في النهايه برده هتبجي ليا
مد كمال يده نحوها وجسدها تجمد وعيناها تلتمعان بالخوف والحقد... حتى لمحت السكين الصغيرة الموضوعة على المنضدة خلفها وبحركة خاطفة سحبتها وقبل أن تلامس يده كتفها غرست السكين في جانبه بكل ما تبقى فيها من قوة وصرخ بصوتٍ مبحوح وسقط أرضا يئن ويتلوى، بينما هي تتراجع للوراء وهي ترتجف وفي اللحظة التالية، فتح باب الغرفة بعنف ودخل شهاب ووقف على العتبة عيناه تنتقلان بين الدم، والجسد المطعون وعالية تقف والسكين في يدها ترتجف... والدماء تسيل من حواف النصل واندفع شهاب نحو جسد كمال.... وهو يهتف بجنون:
كمال.... كماال
مد يده المرتجفة نحو الجرح النازف في جنب أخيه وهو يضغط عليه بيده العارية ثم التفت خلفه وصرخ بكل ما تبقى فيه من صوت:
اطلبوا الحكيم... بسرعة
هرولت الخادمة من خارج الغرفة وهي تصرخ وتبكي:
حكيم....حد يتصل بالحكيم بسرعه يا ناس...البيه بيموت
أما عالية فكانت تقف بجسدها المرتجف في الزاوية وعيناها لا ترمش والدماء في يدها ما زالت تقطر... ما كانت تصدق إنها فعلت هذا ومع ذلك... ما ندمت.فـ التقت عيناها بعيني شهاب لوهلة... لحظة صامتة مشحونة ثم فجأة... استدارت وهربت و ركضت خارج الغرفة إلى الممر فإلى الدرج... واختفت فـ صرخ شهاب من مكانه:
عالية.... ارجعي اهنيه
لكنه لم يلحق بها إذ إن أنين كمال كان يعلو ونزيفه يشتد. وبعد دقائق كان أهل البيت قد تجمعوا جميعا في الخارج ينتظرون ما سيقوله الطبيب الذي وصل ركضا ومعه مساعدوه.... الكل كان واقفا... الأم سعاد وناريمان وأمين حتى شهاب نفسه كان ينهار جالسا على طرف السرير ويده مغطاة بدم شقيقه..... الطبيب كان يحاول إنقاذه و يضغط ويحقن ويهتف بكلمات لا تفهم وسط التوتر والخوف ثم فجأة...رفع الطبيب رأسه وتنهد ببطء ثم مد يده وسحب الغطاء الأبيض وغطى وجه كمال بهدوء والتفت إلى الجميع وصوته خرج كالصاعقة:
البقاء لله