رواية ظل البراق الفصل الثانى بقلم مريمة
تتشابك الأقدار، وتتقاطع الخطوات، ولا أحد يعلم من سيبقى، ومن سيرحل، ومن سيقف يومًا على ناصية عمره ويسأل نفسه:
"هل كنتُ عادلًا مع قلبي؟"
"وهل كنتُ على حق حين لم أُفصح؟"
"وهل كنتُ محبوبًا حقًا، أم فقط ضروريًا؟"
____________________________
كانت الشمس قد بدأت تزحف على الجدران الخارجية لبيت آل البرّاق، البيت الواسع المكوّن من طابقين، بناؤه قديم لكنه متماسك، يحتفظ بخشوع مظهره وأصالته كأنّه يحكي تاريخ العائلة من حجر إلى حجر. واجهته مدهونة بلون سكري باهت، تعلوه نوافذ مزخرفة بالخشب المعشّق، وباب ضخم من الخشب الثقيل، محفور عليه نقش قديم للفظ الجلالة، يفتح على بهو واسع تفوح منه رائحة المسك المخلوط برائحة القهوة.
كانت عائلة البرّاق تعيش هُنا
حيث الحاج" عامر البرّاق" ، صاحب أكبر وأشهر ورشة ميكانيكا في حارة البرّاق ، وزوجته "انتصار" ، وأبناءه ،" مهاب البرّاق" ، و"نادين "و"مازن"
ويعيش معهم الجدة" مفيدة" ، كبيرة عائلة البرّاق ، كما تعيش معهم ايضاً "فريدة" الأخت الصغري للحاج عامر ، انتقلب للعيش معهم هي واولادها بعد وفاة زوجها وحدوث مشاكل مع أهل زوجها .
وبجانب منزل الحاج عامر يوجد منزل اخوه الحاج" رزق" ، يعيش بِه هو وزوجته "سعاد" ، واولاده ، "خالد البرّاق" ، و"شهد "، و"عبدالله "
..........
بداخل بيت البرّاق ، حيث الهدوء لا يخلو من توتر خفي، جلست الحاجة "مفيدة"، جدة مهاب، على أريكة خشبية لها مسند مبطن بالقماش . كانت مهيبة الحضور، ترتدي عباءة سوداء واسعة من قماش ناعم، رأسها مغطى بإيشارب قطني بسيط، وسبحتها لا تفارق يدها. عيناها غائرتان، لكن فيهما بصيرة، وفي وجهها تجاعيد كتبت أعوامًا من الحكمة.
صوت خطوات نادين، أخت مهاب" فتاة في عامها السادس والعشرون ، تخرجت من كلية التجارة ، ترفض حياة الحارة ، وتري نفسها فوق الجميع، ومتزوجة من يوسف النجار صديق مهاب ، وابن خالة رقية ، لكن الآن هي تطلب الطلاق للأسبابها التي يعارض عليها الجميع .
ارتفع صوت خطواتها وهي تنزل السلم برتابة متعالية. كانت ترتدي فستان فاخر، وحجاب ، وعيناها تحملان تلك النظرة التي لا تُخفي احتقارها لما حولها.
قالت وهي تمر بجانب الجدة دون حتى أن تنظر لها:
– البيت ده محتاج تغيير… كل حاجة فيه قديمة زي حاله.
رفعت الحاجة "مفيدة" عينيها نحوها، بنظرة صامتة، ثم حرّكت شفتيها دون صوت، تدعو لها بصبر. لم ترد. لم تعتد أن ترد على نادين. منذ أن تغيّرت ورفعت أنفها للسماء.
خرج الحاج "عامر البرّاق "من غرفة، رجل ستيني، له وقار الآباء القُدامى، صوته جهوري، يحمل أثر تعب السنين، لكن عينيه ما زالتا يقظتين.
قال بنبرة هادئه وملامحه تحمل ابتسامة:
– السلام عليكم يا ولاد.
ردّت "الجدة "بهدوء:
– وعليكم السلام يا حاج… فطّرت؟
اقترب منها وطبع قبله علي يديها وقال:
– لسه يا حاجة ، فين أمهم؟
وهنا ظهرت" انتصار"، زوجته، في منتصف الخمسينات، ترتدي عبائة زرقاء أنيقة، وعلى وجهها مسحة تعالٍ، مشيتها موزونة كأنها تسير فوق سجاد قصر.
ردّت دون أن تنظر إليه:
– كُنت في المطبخ،بشرف علي الأكل ، ورايا يا مازن شيل الصينة عشان اخوك مخلي الشغالين ياخدوا اجازة من غير ما يرجع ليا .
قالت اخر كلامها بنبرة تحمل الضيق فظهر مازن، الأخ الأصغر، شاب في العشرين، نحيف، ملامحه وسيمة لكنه مدلل بشكل واضح،لا يعرف ماذا يُريد ، ولكنه يحترم اخاه بشده ، قال وهو يضحك:
– يعني أنا الشغّال بتاع البيت؟ طب ما تدّوني مرتب بقى!
ردّت "أمه "وهي تضع يديها في خصرها:
– مرتب إيه يا ضنايا؟ هو احنا بنقعد ناكل ونشرب على حسّك؟
قالها ضاحكًا وهو يلتقط الصينية ويخرج بها:
– أهو قولنا نضحك شوية في بيت الطوب ده!
ضحك خفيف خرج من" الجدة"، وهمست لنفسها:
– ياريته يفضل يضحك كده على طول...
وفي هذا الوقت نزل" مهاب" من الطابق العلوي بهدوء، خطواته واثقة، وجهه يبدو ساكنًا لكن عينيه يقظتان. سلّم على الجدة أولًا، ثم على والده، وتوجه نحو المطبخ ليساعد مازن.
"نادين"، وهي ترتب حجابها أمام المرآة الجانبية بالصالون، قالت بنبرة تفيض مللًا:
– ما كنت اتجوزت واحد مرتّب وكملت معاه بدل ما أقعد هنا كل يوم أتخانق.
ردّت عليها "انتصار"، وهي تقطع الخبز:
– إنتِ وافقتي من الأول رغم أني قولتلك بلاش ، ماتجيش دلوقتي وتبكي .
هنا تدخّلت "الجدة" بصوت ناعم لكن واضح:
– بس الواد يوسف طيّب يا بنتي… الطيبة مبتعيبش.
هزّت" نادين" رأسها باستخفاف:
– طيّب؟ هو الطيب بيخليني اكنس واغسل ،أنا عايزة أعيش، مش أشتغل دادة على راجل معندوش عربية!
الحاج "عامر "بعدم رضا عن افعال ابنته:
_ إنتِ عايزة واحد ماعندوش كرامة يا بنت عامر الميكانيكي .
نظرت لوالدها بضيق وقاطعهم صوت خطوات علي السلم فوجدوا
"فريدة"، عمة مهاب الأرملة، امرأة في أوائل الأربعينات، ملامحها هادئة لكن فيها شيء مكسور. ولدان صبيان توأم في سن السابعة عشر " محمد وحسن"
ابتسمت "الجدة" بمجرد رؤيتها، وقالت:
– يا صباح الورد يا بنتي… تعالى هنا، وسّعي يا نادين، دي عمتك.
قالت "فريدة" "
– تعبناكم والله يا حاجة.
ردّت "الجدة" وهي تربّت على يدها:
– الدار دارك يا فريدة… ده بيت أبوكِ.
ابتسم "مهاب"، وقال بلطف:
– إزيك يا عمّة ، مش شوفتك امبارح؟
ردّت وهي تبتسم :
– ماشي الحال يا حبيبي، ربك كريم.
"الحاج عامر " بنبرة هادئة:
_ يلا الأكل هيبرد ، نأكل وبعدها اتكملوا براحتكم .
وبعد دقايق كانوا انهوا فطارهم وجلسوا مع بعضهم البعض فظهر
صوت خشن جهوري خرج من الشارع، صوت عم مهاب، "رزق"، أخو الحاج عامر، وهو ينادي من تحت البيت:
– يا حاج عامر، طالع لك شوية… معايا العيال.
همس "مازن" ضاحكًا:
– أهو جاب الكتيبة.
نزل مهاب يفتح الباب الخارجي، فدخل عمّه، رجل خمسيني متجهم الوجه، عريض المنكبين، يتبعه ابنه "خالد"، شاب في أواخر العشرين، طويل وسيم لكن نظرته مريبة، دايمًا ينظر حول البيت كأنه يقيس المكان بعينيه. خلفه أمه "سعاد"، امرأة ممتلئة، كلامها دايمًا بصوت عالي،، ومعها ابنتها "شهد" فتاة في عامها الرابع والعشرون، و"عبدالله" في عامه الاول من الجامعة
دخلوا المجلس، وكل واحد فيهم بدأ بالكلام والسلام
"خالد" عندما دخل ، عينه لقطت مهاب، ثم تحرّكت بثبات نحو الجدة، ثم بسرعة خاطفة سقطت على نادين، وانتهت على مازن، قبل ما يسند ضهره في الكنبة وينطق:
– بيت البرّاق دايمًا منور.
جلس عم مهاب، "رزق"، على الكرسي الجانبي ببطء كأنّه بيعلن حضوره، وبدأ يرفع صوته قبل حتى ما يسأله حد:
– إييييه! البيت دا دايمًا عمار، من ساعة ما كنتو لسه عيال بنلعب فوق السطوح!
قالها بصوت أجش، ونبرة فيها استعراض، وهو يطالع الجدة بنظرة نصفها حنية ونصفها محبة مش صافية.
همس "مازن" لمهاب :
_ ولما هو عمار خد نصيبه من البيت والورشة وعمل بيت تاني وشغل تاني ليه؟
"مهاب" نظر لها بتحذير ، فصمت
ردّت "الجدة" ببساطة وهي تمسح على سبحتها:
– ربنا يديم المعروف يا رزق… الواحد بيفرح لما بيشوف ولاد الحاج عبدالجواد مجتمعين.
ضحكت "سعاد"، مراته، بصوتها العالي، وهي تخلع شالها وتجلس بجواره:
– ده رزق قلبه أبيض يا حاجة… بس هو طبعُه كده، صوته بيطلع غصب عنه!
همس "مازن" وهو يضحك لمهاب:
– هو صوتُه ولا صوت ميكرفون الجمعة؟
ضحك "مهاب "ضحكة صغيرة، لكنه كتمها بسرعة عندما لمح أباه يرفع حاجبه.
أما "خالد"، فكان يمسح بنظره المكان من جديد، ثبت نظراته علي مهاب وقال بتعمد:
– إزيك يا مهاب؟ اخبار شغلك إيه ، اسمع إن في مشاكل .
نظر له "مهاب" بنظرة واثقة وقال :
– أنا بخير يا ابن عمي ، والشغل بخير ، اللي سمعت منه كان غلطان.
قالها بأسلوب مختصر.
تدخلت" جدته" في الحوار وقالت وهي تنظر لعبدالله إبن رزق:
_ اخبارك إيه يا حبيب جدتك ؟
"عبدالله" بابتسامة واحترام وهو يقول:
_ بخير يا تيتا طول ما أنتِ بخير .
نظر له "خالد " نظرة بها استخفاف وهمس بينه وبين نفسه
_نحنوح
"مهاب" بنبرة هادئة ل "عبدالله" فهو يعتبره مثل اخاه ويعرف نيته الصافية :
_ مش ناوي تنزل تدريب يا هندسه ولا إيه ؟
قال "عبدالله " بحماس :
_ والله نفسي بس فين المكان ده اللي يقبل واحد لسه في اولي ؟
" الحاج عامر " بتساؤل :
_ إنتَ مش هتكمل ميكانيكا ولا إيه؟
"عبدالله" بسرعة:
_ لا لا هكمل بأذن الله .
فقال" مهاب " ببساطة :
_ يبقي تنزل تتدرب في الورشة .
قبل أن يقول " عبدالله " رأيه ، كان صوت أمه " سعاد " يخرج باستهجان وتكبر :
_ بقي إبن رزق البرّاق ، ينزل يشتغل في ورشة وسط العمال كده ؟
لا ده أقل حاجة يشتغل في شركة كده تليق بيه.
ردت عليها "الجدة" وقالت بسخرية :
_ اهدي علي نفسك يا سعاد ، الورشة دي يا اختي هي اللي مخلياكي مش قادرة ترفعي إيدك من الدهب اللي لابساه.
ملامح"سعاد " تغيرت ونظرت لزوجها وقالت بتوتر:
_ مش قصدي يا حاجة ، أنا بس مش عايزة ابني يتبهدل.
قال " عبدالله" سريعاً لفض الحوار:
_ مفيهاش بهدله خالص ، هو أنا كُنت أطول اتدرب في ورشة عمي .
نظر له "الحاج عامر " بحنان:
_ تسلم يا ابني والله ، ابقي ظبط مواعيدك بقي عشان تلاحق علي الشغل في الورشة وجامعتك .
قال باحترام :
_ حاضر يا عمي
صمتوا لثواني فقالت زوجة رزق " سعاد " بمكر وهي تنظر لمهاب :
_ ألا مش ناوي تفرحنا كده وتتجوز يا مهاب ؟
قال " مهاب " بهدوء يعتاد عليه الجميع :
_ شوفيلك مصدر للفرح غيري يا مرات عمي ، مهاب مابيفرحش حد .
تعالت ضحكات "مازن وعبدالله" عالياً
وقال "مازن" بغمز لزوجة عمه :
' عندك عروسة للكبير بتاعنا ولا إيه يا مرات عمي؟ .
فنظرت لهم بضيق وقالت بمكر وهي تنظر لابنتها ثم تنظر لهم:
_ العرايس كتير ومننا وعلينا ، ويليقوا بعيلة البراق كمان .
"مهاب" بهدوء وهو يفهم قصدها:
_ المهم يليقوا بالقلب مش العيلة.
تنحنح "رزق " وهو يقول للحاج عامر :
_ بقول نمشي احنا بقي عشان مش ندوشكم اكتر .
"الحاج عامر " باعتراض :
_ ماتقولش كده يا رزق إحنا عيلة وأهل .
رمقته انتصار بنظرة جانبية، وقالت وهي تضبط طرف طرحتها:
– "المهم النوايا يا حاج عامر.
دخل صوت الهاتف الأرضي يرنّ فجأة في البهو، قام" مازن" يرد، وصوته ارتفع:
– "أيوه… أيوه يا يوسف!… لأ لسه مهاب هنا، تحب تكلمه؟"
أشار له "مهاب":
– قوله هجيلك عند الورشة لما اخلص شغل
أنهى المكالمة" مازن"، وقال:
– بيقول هيستناك بقي.
قال "الحاج عامر" وهو يقوم:
– خلاص، كفاية قعدة… خلّونا نروح نشوف الورشة والشغل، والبيت كبير واللي عايز يقعد يقعد.
تحرك" مهاب" للخروج، لكن قبل ما يصل للباب، سمع صوت عمّه "رزق "ينادي عليه:
– يا مهاب، لو خلّصت بدري، تعالى اشرب الشاي عندنا، في كلام حابب أقولهولك.
ردّ "مهاب "وهو يبتسم باحترام:
– "حاضر يا عمّ رزق، إن شاء الله.
لكن نظرة خفيفة عدّت من عين مهاب على وجه" أمه"، وكانت كافية تفهّمه:
مفيش داعي تروّح النهاردة بيت عمّك.
ما إن خرج "مهاب" من باب البيت حتى تسللت نسمة حارة، محمّلة برائحة العطن والرطوبة، لا تخلو من لمحة وقود متسربة من السيارات. مدّ إيده لجيب بنطلونه، طلع المفاتيح، وسحب الباب الخارجي بسيارته، وانطلق.
كان طريقه للمعرض شبه يومي، مألوف لأقصى حد، لكنه النهارده كان سايق بصمت أكتر من المعتاد. عينه على الطريق، لكن عقله مشغول. مشهد نادين وهي تتخانق، صوت جدته وهي تدافع عنه، نظرة أمه المتعالية، وكلام أبوه اللي بيختصر كل حاجة في كلمتين: "اعمل اللي شايفه صح".
المعرض كان يبعد عن الحارة بقليل واجهته الزجاجية بتلمع تحت شمس الظهر، واليفط الكبيرة مكتوب عليها:
"البرّاق أوتو لتجارة السيارات – بيع وشراء واستبدال"
بإدارة: المهندس مهاب عامر البرّاق
ما إن وقف مهاب عربيتُه، وفتح باب المعرض، حتى انطلقت نسمة باردة من التكييف اصطدمت بوشه، كأنها بتقول له: "أهو هنا الدنيا غير".
المعرض فسيح، مقسوم لنصين:
نص فيه عربيات جديدة بتلمع، مصفوفة بنظام،
والنص التاني فيه عربيات مستعملة بتتوضّب أو معروضة للبيع بأسعار أقل.
وبين النُصين، مكتب كبير من الزجاج، عليه ورق كتير وكمبيوتر وكرسي دوّار.
وعلى الشمال، ترابيزة استقبال فيها شابين شغالين معاه.
وعندما دخل، وقف "حمادة"، شاب طويل يرتدي قميص نص كم، عينيه دائما بها حركة، وقال:
– صباح الفل يا باشمهندس، العربية الباجيرو خلصنا تلميعها، والتويوتا كمان اتغسلت… مستني بس أمرك.
"مهاب " نظر له وهو يخلع نضارته الشمس وعلّقها على فتحة القميص:
– "عرض التويوتا بكام دلوقتي؟"
قال "حمادة" بعملية:
– كنا حاطينها ب ٤٠٠، بس ممكن نطلع منها ب ٣٩٥ لو في زبون جاد.
هزّ "مهاب" راسه ببطء:
– نزل السعر على السيستم، ٣٨٥، وخلّي علي يحطها على الصفحة بالفيديو الجديد اللي صوّره امبارح.
ظهر "علي "من ورا الترابيزة، شاب في أوائل التلاتينات، يرتدي سترة خفيفة، ووجهه دائمًا بِه علامات الإرهاق رغم إنه يضحك سريعاً:
– على عيني، بس باشمهندس… محمود جالي من شوية، بيقول في واحد عايز يعاين الكيا السبورتاج النهاردة الضهر، وطلب نتأكد من ورقها.
"مهاب" تحرك تجاههم بخطوات بطيئة، وهو بيعدّل ساعته، وقال بأمر:
– كل العربيات تبقى ورقها جاهز طول الوقت، دي مش أول مرة نقع في نفس الغلطة.
سكت لحظة، ونظر تجاههم بنظرة حازمة:
– مش عايز أقول الجملة دي تاني… كل حاجة جاهزة قبل ما الزبون يفكر يسأل.
"حمادة" نظر لأسفل وقال:
– حاضر يا باشمهندس… حصل خير.
" مهاب " بجدية وهو يقول له :
_ ارفع رأسك دي ، ومتنزلهاش كده تاني
ابتسم الشاب وهو يرفع رأسه مرة أخري
"مهاب" لفّ واتجه ناحية العربيات الجديدة، لمس سقف واحدة منهم بحنان غريب، وقال بصوت منخفض:
_اللي بيتعامل مع العربية كأنها جماد… عمره ما هيبيع واحدة صح.
"علي" نظر "لحمادة "وضحك بخفوت:
_بيقول الكلام ده من أول يوم شغل… بس كل مرة بنصدقه.
"مهاب" وقف فجأة قدام عربية BMW فئة X6، كانت لسه واصلة من أسبوع، ولسه محدش لمسها تقريبًا.
عيونه كانت سابحة في السقف، كأنه شايف فيها شئ مش شايفينها هما.
دخل عليهم شخص لابس بدلة رمادية، شيك بزيادة، وشكله متوتر .
ده كان زبون قديم، اسمه ياسر ، قال بسرعة:
– إزيك يا باشمهندس… أنا آسف جيت من غير ميعاد بس العربية اللي كلّمتك عنها… لسه موجودة؟
"مهاب" نظر له بلُطف بدون ما يبتسم قوي:
– موجودة يا أستاذ ياسر… بس لازم نعمل اختبار قيادة قبل أي حاجة، لأني ما ببيعش على العمياني.
قال " ياسر "
– أكيد أكيد، بس قلت أطمن بس .
أشار مهاب بعينه لحمادة:
– خد الأستاذ ياسر وورّيه العربية، وخدوا لفة بيها… لكن بالراحة.
خرجوا، وتركوا مهاب ويقف بمفرده أمام السيارة ، وبعدها دخل مكتبه وسحب الكرسي وجلس ، التقط هاتف، فتح شاشة الرسائل، ونظر على آخر رقم اتصل بيه…
كان اسم يوسف ظاهر.
هز راسه، ومسح الشاشة، ووضع الموبايل على المكتب، وتمتم:
– هنعدي يوم النهارده من غير أي مفاجآت… يا رب.
ظل يعمل لوقت طويل حتي تعدت الساعة الثانية ظهراً
وقف، وارتدي النظارة،وقال بصوت عالي:
– أنا خارج شوية، أي حد يسأل عليّ، هرد عليه بعد العصر.
.............
قبل ذلك الوقت بكثير كانت الشمس لم تظهر في السماء ، ولكن الحارة كانت فوق صفيح سخُن من ساعات.
صوت المكنسة اللي بتحتك بالبلاط طالع من عند بيت أم سميحة، الست اللي دايمًا سابقة الكل في الشقا، بتكنس قدام بيتها ، وكفوف إيديها مشققة من كتر الغسيل.
رفعت وشها لما سمعت صوت رجالة بيت الحاج سيد بيفتحوا البوابة
"عم سيد" بضحكة رخوة :
_أنت يا واد يا جابر، مش قولنا البوابات دي عايزة شحم؟ صوتها فظيع!
"جابر" ابنه وهو بيهزر:
_ ما أنا سايبها تعيط، يمكن تصحّي العيال للمدرسة بدالك!
ضحكوا، وضحكت" أم سميحة"، وقالت بصوتها الخشن:
– "ياريت تفضل كده ، يمكن تخلّي الحارة تفوق من النوم!"
من ناحية تانية، كانت الست "فضيلة"، الأرملة اللي شعرها أبيض من زمان، ماشية بالبطيء وهي شايلة قُفّة فيها جرجير وعيش بلدي. وقفت تريح على العتبة اللي قدام بقالة عم عمران.
ظهر "عم عمران" وقال:
– صباح الخير يا ست فضيلة، ما تبقيش تشتري من السوق بدري كده، الدنيا لسه نايمة!
" فضيلة"وهي بتنفخ
_والله لو استنيت شوية العيال هيلمّوا على الحاجة زي النمل، ما نلحقش نلاقي حتى عود جرجير.
ضحك وقال:
– الله يوسع رزقك .
أمنت ورائه وذهبت
وفي اللحظة دي، خرجت" أم محمد "من بيتها، ، وهي بتزعق:
– هو فين البطيخ؟! أنا سايباه قدام البيت يا سالم!
اتي صوت "زوجها سالم "من الداخل وهو يقول:
_ ماعرفش راح فيه ، روحت جبت مانجا بدله!
قالت بضيق:
– مانجا؟ طب ليه؟! إحنا في حارة ولا في الزمالك؟!
ضحك الاطفال الجالسون على الرصيف، وبين الضحك، والشاي اللي بيغلي على الكانون قدام البيت، وريحة اللبن المغلي طالعة من نافذة فوق، كانت الحارة بتتنفّس، بتتمطى زي واحدة صاحية من نوم عميق.
وصوت القرأن يخرج من البيوت، وبجانب الحائط يجلس عم صبحي، "مِبيِّض محارة"، يدندن بصوت منخفض وهو بيبرّد سكينة المعجون، ينتظر زبون:
– يا صباح الورد يا دنيا... فتّحي حضنك للي معاه رزق، وسيبي اللي بيعدّي ساكت.
وفي الأعلي في منزل رقية
صوت مَيّة بتتصفى في الحوض كان يملأ المطبخ الصغير، ورقية تقف أمامه ، ترفع أكمامها ، ووجها عليه ملامح إنسانة صحيت بدري، طبخت، ونضّفت، ولسه فاضل كتير.
قالت بصوت عالي وهي تُنادي:
– يا نور! مش كنتِ هتنظمي دولابك ، ولا هتسيبي الدنيا تضرب تقلب كده.
خرجت" نور" من غرفة النوم،وعينيها نصف نائمة، قالت بغلب:
– يا بنتي استهدي بالله، دي لسه الساعة سته ونص! إنتِ صحيتينا ليه أصلاً؟!
"رقية " بضيق مصطنع :
– "عشان كفاية نوم! نايمين كلكم من امبارح المغرب كأنكم في غيبوبة!
دخلت" هنا" ، وهي تحمل في يديها أكل وقالت بضحك:
– أنا صحيت قبلهم يا رقية ، وسبقتكم على المطبخ كمان.
(قالتها وهي تقضم لقمة كبيرة وتبتسم)
"رقية" نظرت لها بعيون ضيّقة وقالت:
– أكلتي إيه؟
ردت ببساطة:
– عيش بالشطة!
"رقية "بضيق وخوف عليها:
– "يا لهوي يا بنتي على معدتك كده ؛ هتموتي نفسك بالاكل الغريب اللي بتحبيه ده ، مش فاهمة إيه حبك في أكل العيش بالشطة ؟ كده غلط يا دكتورة.
ضحكت "هنا"، وقالت وهي تجلس على الاريكة :
– ده ميكس جامد جمدان يا روقة ، إيش فهمكم إنتوا في الأكل ، المهم المهم جهزولي فطار عقبال ما اجهز عندي محاضرات.
" نور" وهي تلقي عليها الحذاء وتقول بصوت شبه مرتفع:
_خدامين الهانم ولا إيه؟ ماتجهزي لنفسك يا حلوة .
"هنا" بردح وهي تضع يديها في خصرها:
_ جرا يا نور يا مضاد حيوي ، مانا امبارح عملتك اكل ، اعمليلي انهاردة يا اما.
"نور" بشهقة:
_أنا مضاد حيوي ، يا مشرط يا اوزعة يا أم شعر منكوش .
كانت "هنا سترد" ، ولكن قاطعهم صوت " رقية " وهي تقول بعصبية:
_ بس بس! إيه هتردحوا لبعض وقدامي كمان .
نظرت "نور" ل"هنا" بضيق ثم نظرت لرقية باحترم وقالت:
_ أسفه يا روقا ، هعمل للبت دي الأكل حاضر ، بس إنتِ قولتي هتخرجينا إنهاردة
"رقية"بكسوف مصطنع:
_قولت نتمشى سوا، بس ده كان لما تساعدوني الأول ...
"هنا " بذكاء:
_آه طب خلاص… تَطّمني، هقوم أساعدك فورًا وهترتب الدولاب … بس بعد ما أخلص سندويتشي ده، وارجع من الجامعة
"نور" وهي تضحك:
_ متساعديش خالص أحسن، إنتِ عبء.
ضحكوا ثلاثتهم وبعد وقت كانوا تناولون طعام الإفطار
ضحكت "رقية " وقالت:
– "عارفين؟ ساعات بحس إننا عايشين في سفينة صغيرة، بس ماشية بالعافية…"
"نور"بصوت هادئ بِه حب:
_بس ما بتغرقش… لأنك الكابتن يا رقية.
سكتوا لحظة، والضحك خَف، وبصّت لهم رقية، عينيها لمعت شوية، لكن بسرعة حاولت تخفّف الجو:
– أنا الكابتن؟ طب والله ما هسوق غير لما تشيلوا الغسيل اللي منشور بقاله يومين ده.
" هنا "بمزاح :
_ طب مفيش سفينة ببطارية يا كابتن؟.
"سيف" وهو يفتح الباب بعدما انتهي من درسه :
_ لأ في غدر وأخوات بيفطروا من غير أخوهم .
رنّت الضحكة في البيت، وقالت "رقية " بحنان :
_ تعالي يا قلب أختك ، عامله حسابك والله وعارفة إنك هتيجي دلوقتي.
وضع كتبه علي الأريكه بجوارهم وجلس بجانبهم وبدأ يتناول طعامه وهو يقول :
– أنا من إمبارح قايل ليكوا نخرج نأكل آيس كريم، محدّش سمعني!
"رقية" بهزار "
"يا عم بتفطر دلوقتي ولا بتطالب بحقوقك في الآيس كريم؟
" سيف"بجدية مصطنعة:
_أنا طالب حقوق من الأساس!
" نور" بضحك:
_حقوق إيه يا ثانوية عامة؟ حقوق الشوكولاتة؟
" سيف" ببكاء مصطنع:
_حقوق الطالب المهمَل في بيت مليان بنات بيزعقوا طول الوقت! وبيرفضوا يخرجوني ، عالم ظالمة واد قمور زيي .
ضحكوا كلهم، وحتى رقية، اللي نادرًا ما بتضحك من قلبها، كانت دمعتها قريبة من فرحتها.
قامت "رقية "وقالت وهي ترتب علي شعره:
_ هخرجك بالليل يا سيف، هطلع انا دلوقتي عشان المطعم واخواتك هيجهزوا ويروحوا الجامعة ، خلي بالك إنتَ من نفسك وذاكر ماشي؟
وقال وهو ينظر لها نظرة امتنان:
_ حاضر يا رقية ، ربنا يعينك...
اكمل بمرح وهو ينظر ل"هنا ونور "
_ ربنا يعينك علي العيال دي ، آه والله ماحدش تاعبك غيرهم عشان أنا نسمه هادئه تعيش معكم في هذا المنزل .
نظروا له برفعة حاجب فاكمل بتوتر:
_ أو عاصفة رمليه ، لسه مش متأكد أوي.
تعالت أصوات ضحكهم وبعد ثواني كانت تتجه للمطعم وتركت البيت
"البيت مش واسع… ولا غني… بس فيه حاجة أكبر من ده كله.
فيه صوت ضحكة نور…
وزنّ خناقة هنا…
وصوت طقطقة سيف وهو بيفك أي حاجة في طريقه…
وفي وسط ده كله، هي...
واقفة، شايلة، سكتة، وبتحبهم أكتر من نفسها"
....
الساعة العاشرة صباحاً بداخل مطعهم "رقية"
كانت المروحة المعلقة في سقف المطعم تدور ببطء، ويختلط صوتها بصوت الزيت المغلي، في حين أن الرائحة الشهية للفلافل وهي تتحمّر كانت كفيلة بجذب أي معدةٍ فارغة من أول الشارع إلى آخره.
وقفت رُقيّة خلف الكاونتر، ترتدي مريلةً قطنية مزركشة باللونين الرمادي والأخضر، ووجهها مبتلّ قليلًا من البخار، لكنها كانت واقفة بثبات لا يشوبه تردد.
تقلب أقراص الطعمية فوق نارٍ متوسطة، وتلقي نظرةً بين الحين والآخر على الطلبات المُعلّقة بخيطٍ مشدود بين المطبخ والكاونتر الأمامي.
وكانت مدام ناهد، شريكتها في المطعم، تقف إلى جوارها، تمسك بورقة طلبٍ في يدها، وقد ارتفع صوتها قليلًا كعادتها:
– رقية! الطلب اللي جاي كله فول من غير زيت؟ هو الناس بقت تاكل أكل من غير طعم؟!"
"رقية"بابتسامة وهدوء:
_اللي بيطلب كده يبقى بيحاول يعيش… نعمل له اللي هو عاوزه وخلاص، إحنا مش بندي دروس تغذية هنا يا مدام ناهد.
"مدام ناهد"وهي تضحك
_وأنا اللي كنت فاكرة نفسي شريكة عقلانية، طب ما يمكن عاملين رجيم يا بت يا رقية.
نظرت لها" رقية" بقلة حيلة وصمتت
اقترب "محمود"، الفتى الذي يساعدهما، وعلى وجهه ملامح حماسٍ واضحة، وكان يحمل صينيةً وعليها عدة أطباقٍ جاهزة.
– أبله رقية… الطلب بتاع الأستاذ اللي كان واقف برّه… الفول خلص، أقول له يستنى؟ ولا أطلعه طعمية؟
نظرت له "رقية " بنظرة فيها حزم وحنان في نفس الوقت:
"أنت لازم تراجع الحاجات قبل ما تطلع يا محمود… ماينفعش الزبون يطلب حاجة ونقوله خلصت بعد نص ساعة.
" محمود"بكسوف
_ حقك عليا… نسيت.
"رقية" بصوت هادئ
_مش عايزة ألومك، بس لازم تتعلم. كل مرة بنغلط فيها قدام الزباين، بنخسر اسمنا مش بس الأكلة. خُد له طعمية سخنة، ومعاها بطاطس على حساب المحل. وقوله آسفين.
" محمود"ابتسم بامتنان وقال:
_حاضر يا أبلة… شكراً.
عاد يركض نحو الباب، وقد بدا على وجهه أنه تعلّم شيئًا جديدًا.
وظهرت وقتها فتاة تسمي " نادية " تعمل معهم منذ عامان ، قالت بتسرع:
_ أبلة رقية ، عندنا نقص في العيش والأنابيب كُلها خلصانه ومش عارفة أخبز.
"رقية " بصوت هادئ كعادتها:
_ العيش اللي هنا هيكفي ساعة ونص كده ، وكلمي مصطفي بتاع الأنابيب قوليله يبعت اللي طلبتهم منه أمبارح أو هنفض التعامل معاه ، ومتقلقيش هجيب الأنابيب وهو ساكت ، وفي خلال الوقت جهزي العجينه ، وأنا اللي هخبز إنهاردة .
قالت " نادية " وهي تلتقط الهاتف لتفعل ما قالته "رقية"
_ حاضر ، هعمل ده .
"مدام ناهد" بصوت بِه إعجاب حقيقي:
_أنا عمري ما شفت واحدة بتعرف تلمّ الناس كده من غير ما تعلي صوتها.
"رقية" وهي بترمي قرص فلافل الزيت:
_ اللي بيزعق وهو شغال، بيشوّش على الأكل وعلى الناس. بس اللي يشتغل من قلبه… يوصل لكل اللي حوالَيه من غير صوت.
صمتت لثواني وقالت بغمز وهي تنظر ل"ناهد ":
_ وممكن نعلي صوتنا ونقل من اللي محتاج يتقل منه يا ناهدوه ، بس اللي شغالين معايا؟ لا أنا ولا حد يقدر يقل منهم.
تعالت ضحكات "ناهد " التي تفهم رقية جيداً، التفت " رقية " ثانياً لتعمل وهي تراقب الزبائن من خلف الزجاج، تتابع حركتهم، وترتب الطلبات في ذهنها، تُدقّق بعينيها في كل تفصيلة:
الرجل الواقف يزمجر وهو يوجّه ملاحظاته إلى سندويتش ابنه، السيدة العجوز التي طلبت كوبًا من الشاي ومعه قليلٌ من الطعمية، وصبيّان يتشاجران حول من منهما سيختار السندويتش أولًا.
المكان صغير، ليس أفخم ما يكون، لكنه نظيف، منظم، ومفعم بالحياة.
دخلت سيدةٌ محجبة، يعلوها شيء من الغرابة عن طابع الحارة، يبدو أنها تزور المكان للمرة الأولى.
السيدة:
_ معلش… إنتي رقية صاحبة المكان؟
"رقية" بابتسامة بشوشة:
_ أيوه… تحت أمرك.
السيدة بهدوء وهي تنظر في المكان:
– أنا واحدة جارتي رشحت لي المكان… قالت لي إنك بتعملي فول مخصوص من غير زيت كتير، وكمان طعميك وأكلك حلو أوي، فأنا عايزة الحاجات اللي في الورقة دي .
" رقية" وهي تلتقط الورقة وتنظر بها وتقول بثقة:
_طبعًا نعمله، وإنتِ تؤمري. تقعدي ، ولا تاخديه تيك أواي؟
السيدة بابتسامه:
– لا هاخده معايا… بس بصراحة، أول مرة ألاقي حد بيهتم بأدق التفاصيل كده، وأسعاركم حلوة أوي ، ده أنتِ ساتره الناس ،ربنا يبارك لك.
"رقية" ابتسامة خفيفة:
_ ربنا اللي بيستر وبعدين الستر مش بس في الرزق… الستر إن الناس تخرج من هنا وهي راضية. ربنا يرضى عنا كلنا.
الست ابتسمت، وانتظرت طلبها حتي أخذته وذهبت، ورقية استمرت في عملها بنفس الروح الهادئة
اقترب منها" محمود" مرةً أخرى، وهو يمسح عرقه ويقول :
– أنا لما أكبر، عايز أفتح محل زي ده.
"رقية" وهي تمنحه طَبطبةً سريعة على كتفه:
_بس تكون أشطر مني، وتذاكر كمان وتكمل تعليمك، الأكل بيعلم الصبر… والمذاكرة والتعليم بيعلّمك تطور اللي بتعمله.
قال لها بهدوء :
_ بس إنتِ صبورة وبتطوري كمان يا أبله!
قالت بغرور مصطنع وهي تجلس علي المقعد:
_ أنا مفيش مني يا ابني ، روح روح شوف الراجل اللي لسه قاعد ده.
ابتسم وذهب من أمامها
ظلّ المطعم يعمل كأن كلّ شيء يسير على وترٍ واحد،
وترٌ تعزفه رُقيّة...
من دون نشاز، من دون ضجيج، من دون تباطؤ...
لكن بدقّة، وبحب، وبقلبٍ كبير
......
كانت الشمس قد أشرقت مبكرًا، والجو حار، لكن " هنا "كانت تسير بخطى ثابتة وسط الزحام، حقيبتها على كتفها،
وصلت إلى باب المدرج الكبير، تنفّست بعمق، ثم دخلت.
ومن آخر الصف، نادت سارة بصوتٍ منخفض:
_هناااا… تعالي جنبي، لسه الدكتور ما دخلش.
سارت "هنا" بهدوء وجلست إلى جوارها، وعيناها تعلّقتا بالسبورة الفارغة، غير أن ملامحها بدت هادئة، متزنة، كما هي دائمًا.
"سارة "وهي تفرك إيديها :
_يا بنتي أنا نفسي أزوغ المحاضرة دي ونروح الكافيه اللي جنب الجامعة… عمر قالي إنه قاعد هناك مع صحابه.
"هنا" باستغراب :
_ عمر؟ .
"سارة"بضحكة خفيفة:
_أيوه، عمر… صاحب شادي اللي هو أدمن الدفعة ده، … عايز يعرفك.
"هنا" بنبرة هادئة لكن حاسمة:
_ يعرفني؟ ليه؟
"سارة":
_يعني نتعرف، نخرج، نتكلم… هو شاب محترم على فكرة!
"هنا" بهدوء يشبه برودة عقلها:
"بصّي يا سارة، أنا متعوّدة أفكر قبل ما أقرر، وأنا شايفة إن مفيش حاجة اسمها صداقة بين ولد وبنت… ولا من ناحية الدين ولا من ناحية تربيتي .
"سارة":
_ليه بس؟ يعني مش لازم تبقى علاقة غلط، ممكن تبقى بريئة.
"هنا"بصوت ثابت وابتسامة فيها حنان أكتر من اللوم:
_ أنا متربية إن القرب اللي ملوش ضوابط، دايمًا بينتهي بحاجة تجرّح.
ورقية علمتنا إن اللي بيحب يحافظ، مش يجرّب…
وإن مفيش حاجة اسمها بريئة لو هتخليني أستخبى، أو أبرر، أو أبعد عن ربنا."
"سارة" بابتسامة محرجة:
_ انتِ عارفة إنك شبه رقية قوي لما تتكلمي كده؟
"هنا" بفخر ناعم:
_يارب أطلع حتى نصّها.
دخل الدكتور في تلك اللحظة، مرتديًا بدلته الرمادية، فوقف الطلاب تلقائيًا.
بدأت المحاضرة، وفتحت "هنا" كشكولها، كتبت التاريخ، ثم ركّزت بعينيها وسمعها، كمن لا يرغب في تفويت لحظة واحدة.
في الاستراحة، عادت "سارة" لتحدثها وهي تمسك بكيسٍ من الشيبسي:
– أنا عارفة إنك عندك حق… بس مش سهل.
"هنا" بهدوء:
_ولا حاجة سهلة، بس الغالي بيتعب علشانه ، ورضا ربنا غالي .
ثم سحبت كرسيًا، وجلست بهدوء عند طرف السلم، فتحت الكتاب وبدأت تُراجع، وفي ذهنها صوت "رُقيّة" كما كانت تقول لها قديمًا:
_ دوري علي اللي يرضي ربنا واجري وراه ، اللي بيرضي ربنا يا بنتي ، مايتخفش عليه ،ولا يخاف أبدًا.
ضحكت هنا لنفسها، ورفعت راسها للسماء لحظة،
همست:
– اللهم ثبّتني.
.............
كان صوت المنشار الكهربائي يمزّق سكون الحارة كما تفعل السكين، وكانت الرائحة مزيجًا غريبًا من خشبٍ مقطوع، وغراءٍ شعبي، وبنزينٍ قديم.
وهنا في ورشة " يوسف النجار " شاب في الواحد والثلاثون من عمره ، إبن خالة رقية وصديق مهاب ، تخرج من الهندسة مثله ولكن لم يعمل في الهندسه ، واستمر في عمله بورشة والده ، وخصوصاً أن والده تعرض لأزمه صحية ولم يعد قادرًا علي العمل
لم تكن ورشة يوسف مجرّد مكان للعمل، بل كانت بالنسبة له بيتًا آخر… بيتًا تفوح منه رائحة الرجال الذين يعملون، وسنينٍ مضت مبلّلة بالعرق، والإخفاقات، والمسامير المصنوعة على قدر اليد.
في أقصى الورشة، كان" يوسف" واقفًا أمام طاولةٍ كبيرة، يعمل على تفصيل ضلفة دولاب.
يرتدي شورت جينز باهت وفانلةً بيضاء تشبّعت بالغبار، والعرق ينهمر من جبينه، بينما يضبط زاوية القياس بيده اليمنى مستخدمًا متر النجار.
إلى جوار الحائط، كان الفتى الصغير "حسن" — ويبدو في العشرون من عمره — يمسك بمفكّ، يحاول تثبيت مسمارٍ في ظهر الضلفة.
"يوسف" نظر له بضيق:
– حسن! قلتلك كام مرة ما تشدش كده… هتبوّظ الخشب!
"حسن" اتلبك:
– أنا آسف، أصلّي كنت فاكر لازم أربط جامد علشان يمسك...
"يوسف" بصوت منخفض لكن حاد:
– الخشب يا ابني زي الناس… لو شدّيت عليه أكتر من اللازم، بيكسر!
في تلك اللحظة، سمعا صوت خطواتٍ ثقيلة، وصوت كيس يتحرّك في الهواء.
دخل مهاب من الباب
ممسكًا بعلبة عصير مانجو بينما يقترب بخطواتٍ بطيئة.
قال "يوسف"، من بعيد، وضحكة خرجت منه رغمًا عنه:
– "يا هلا بالهندسة! مشّينا بنحلم بيك تيجي تشتغل معانا يوم."
"مهاب"وهو يقترب، بنبرة هادية فيها وِدّ:
– ما أنا كنت ناوي… بس بصراحة، انت شغال بالحَسّ أكتر من العقل. خفت على نفسي.
"يوسف" ضحك بصوت عالي، وقال وهو بيمسح جبينه بإيده:
– آه والله… دا الحَسّ دلوقتي بقى أغلى من العقل، ع الأقل بيوصل أسرع.
"مهاب" جلس على حافة ترابيزة ، وفتَح علبة العصير:
– إزيّك بجد؟ وشّك تعبان.
"يوسف" نظر له بنظرة فيها صدق وتعب:
– ما هو التعب بقى عامل زي الخشب الأبلكاش… شكله قوي، بس مفرّغ من جواه.
"مهاب" بعد لحظة صمت"
– نادين تاعباك ؟
"يوسف" وقف لحظة، وبعدين رجع يعدّل في خشبة صغيرة بإيده، كأنه بيهرب من الحوار:
– آه… وأنا مطنش، أصل تعبت .
"مهاب"بهدوء:
– قالت إنك بقيت ما بتردش خالص.
طرق يوسف بمسمارٍ لا ضرورة له في الحقيقة، لكنه على ما يبدو كان بحاجة إلى تفريغ ما بداخله.
– "عارف لما تحس إنك متجوز واحدة، بس مش شارياك رغم إنك اشتريتها كتير.
لم يَجب" مهاب"، بل انتظر بصمت، حتى أكمل "يوسف" حديثه.
– "هي شايفة إني مش طموح… مش كفاية… مش كأنها كانت عارفة أنا ابن مين وشغال فين قبل ما تتجوزني؟
"مهاب"نبرة عقلانية لكن مش باردة:
– هي شايفة إن الحياة أكبر من ورشة خشب… وانت شايف إن الكرامة أهم من طموحاتها.
"يوسف" نظر له بنظرة طويلة
– "هي مش شايفة إني بني آدم… ولا حتى راجل. كل اللي شايفاه إني سلمة، تطلع بيها، وبعد كده تكسرها.
"مهاب"نظره رايح للخشب اللي قدامه:
– "بس يا يوسف… الراجل الحقيقي مش اللي ما ينكسرش، الراجل هو اللي يعرف إمتى يكسّر، وإمتى يصبُر.
بس أنا مش راضي عن تصرفاتها ، ومعاك في أي حاجة.
"يوسف" جلس بجوار " مهاب " وقال :
– "أنا تعبت، يا مهاب. تعبت من الجهد اللي بيتاكل، من الست اللي شايفة نفسها أعلى، من البيت اللي بقى ساحة معركة
"مهاب" صمت لحظة، وقال بحكمة بدون تنظير:
– اللي بيتجوز وهو فاكر إنه هيغيّر اللي قدامه، بيبقى عامل زي اللي بيحاول يعوّج خشبة زان… هتتكسر في إيده.
نظر له " يوسف "، وقال بنبرة هادئة:
– ما كنتش عايز أكسرها… كنت فاكرني كفاية. بس هي عايزة عيشة أعلى من سقف الورشة، وانا كل اللي أعرفه سقف بيتنا.
"مهاب "فجأة قام، وقال :
– أقولك؟ نروح في حتة تهوّي فيها قلبك؟
"يوسف" نظر له بنص ابتسامة:
– أقولك أنا… ما تيجي نروح لمطعم رقية؟ نأكل لقمة سخنة، ووش يسرّ القلب.
"مهاب وقف مكانه، ونظر له نظرة طويلة:
– رقية؟
"يوسف"بضحكة خفيفة:
– يا عم ما تبصليش كده، أنا جعان بس… والمطعم قدام ورشتي وريحته فلافلهم طالعة لحد هنا!
"مهاب" بنبرة ضيق مصطنع:
– "ماشي… بس متقعدش ترغّي معاها كتير .
"يوسف" ضاحكاً بغيظ :
– بنت خالتي وارغي معاها براحتي يا هندسه، تقدر إنتَ ترغي معاها زيي؟
قال اخر كلامه بغمزه ؛ فتلقي ضربه شبه قوية علي كتفه من " مهاب " وهو يقول :
_ اتلم هاااا ، اتلم .
" يوسف " وهو يُسرع من أمامه ويقول بضحك:
– طب يلا … قبل ما المطعم يعزّبنا بريحة الطعمية .
وقف " يوسف " لثواني وقال وهو ينظر ل"مهاب " بضيق :
_ بس بص ، لو صادفت ابن عمك هناك وقال كلام مش جاي علي هوايا ، متزعلش من اللي هعمله فيه .
" مهاب " تنهد وقال بغيظ مختبئ :
_ إن شاء مانقبلهوش ، اصلك ماتعرفش هو بالنسبالي إيه .
"يوسف" نظر له من فوق لتحت وقال ببساطه وهو يذهب من أمامه:
_ بس عارف رقية بالنسبالك إيه .
وذهب وترك "مهاب " يقف صامتٍ لثواني ثم اتجه للمطعم مثلما فعل وشف
ذهب ولكنه ترك موضع قدمه اثار للصمت الدائم
وصلوا إلى أمام المطعم، كان المكان بسيطًا لكنه نظيف، تفوح منه رائحة الطعمية الخارجة لتوّها من الزيت، تتداخل مع وجوه الزبائن الواقفين في طابور صغير، وصوت رجل ينادي من الخارج:
– محمود، الطلبيّتين جاهزين؟!
ضحك" يوسف" وهو يتوقف عند الباب، ثم قال بنغمة يملؤها الدفء:
– ريحة الطفولة… نفس الطعم من وإحنا عيال بنجري في الشارع دا، بس محدش كان يعرف إن هيبقي بتاع رقية ويتغير ويتلمي بروح مليانه نشاط كده .
لم يردّ" مهاب"، وإنما وقف صامتًا، ناظراً إلى اليفطة المعلّقة:
"مطعم روقا "
ابتسم بخفة، مدّ يده إلى الباب الزجاجي، فتحه بهدوء، ودخل.
كان المكان من الداخل مرتبًا، فيه طاولات صغيرة، وركن مخصص ككاونتر يقف خلفه "رقية" كانت تراجع مع مدام ناهد بعض الحسابات على دفتر ورقي قديم، كان صوتهما خافتًا، لكن التناغم بينهما واضح.
قالت " مدام ناهد " برضا:
– النهاردة الحمد لله، مافيش ولا شكوى من الزباين، والشغل والحسابات كويسة .
أجابت" رقية" بهدوء وتركيز:
– لأننا عاملين شغلنا من غير رخامة، ومحمود شاطر ونادية مفيش منها.
كان " محمود " ونادية" يستمعون لكلماتها بابتسامة وامتنان لتشجيعها الدائم.
دخل يوسف وهو يمزح:
– ومفيش شكوى عشان الطعمية دي متتخيرش .
رفعت "رقية عينيها"، وعندما رأت "يوسف"، ابتسمت بهدوء، ثم نظرت إلى "مهاب" الواقف بصمت وملامح وجهه غامضة لا تحمل عنوانًا واضحًا.
قالت بإبتسامة هادئة:
– أهلا… نورتوا المكان.
قال يوسف ضاحكاً:
– إحنا جايين نفك زنقة… جعانين ومخنوقين.
قالت " مدام ناهد " بمرح:
_ طب جعان دي مش جديدة إنتَ علطول جعان يا واد ، لكن مخنوق ليه يا قلب أمك؟
نظر لها " يوسف " بغمزة وقال وهو يقترب من مكانها :
_ مخنوق عشان عيوني مش لمحتك من الصبح يا جميل .
ابتمست وقالت وهي تبعده من أمامها:
_ بكاش من صغرك يا حيوان ، وسع من وشي لما اشوف حبيبي اللي واقف وراك ده .
ابتعد " يوسف " وظهر أمامها " مهاب " وهو يبتسم ؛ فقالت :
_ إيه يا هندسه مبقناش بنشوفك ، سايبني بس اشوف المفجوع ده كل يوم .
قالت أخر كلامها وهي تشير إلي "يوسف" فتعالت ضحكة مهاب وهو يقول بإعتذار لها ، فهي ليست مجرد شخص عابر في حياة عائلة البرّاق:
_ حقك عليا يا ست الكل ، مشاغل والله .
قالت بضيق مصطنع :
_ ماطول عمرك مشغول بس كنت بتجي تشوفني كل يوم برضوا ، شاطر بس تفضل تقولي أنتِ أمي يا ناهد ...
قاطعهم " يوسف " وهو يقول بغيظ:
_ أم مين يا ناهد يا أما ، ده إنتِ كلك علي بعضك خمسه واربعين سنه ، هتخلفي الطول ده كله إمتي ؟
القت في وجهه زجاجة مياه وقالت بضيق :
_ هتقعد تاكل وإنتَ ساكت ولا تمشي من هنا.
ضحك" مهاب " يقول :
_ خلاص يا ناهوده هناكل بصمت .
"يوسف " بتسرع:
_ طب بسرعة عشان جعان والله.
ردّت "رقية" بنبرة دافئة، وهي تخلع القفازات وتتحرك خلف الكاونتر:
– اقعدوا، محمود هيجيب لكم أحلى أكل.
"محمود"، كان واقفًا قرب المقلاة. سمع اسمه فابتسم ابتسامة عريضة وقال:
– أعملهم طعمية، فول مشطشط؟ ولا تحبوا نزوّد البيض؟ وبطاطس ؟.
"يوسف" ضاحكاً:
هات كل اللي عندك…
"مهاب" قال بهدوء:
_زي ما تشوفوا.
نظرت "رقية" إليه لحظة، وكأنها تقرأ ملامحه، ثم قالت بهدوء:
_خدوا الترابيزة اللي ورا، أريح.
جلسا، وبدأ "محمود" يجهّز الطلب وهو يحكّ رأسه ويسأل رقية:
– الزيت نظيف، بس أحط طعمية جديدة؟
نظرت "رقية" إلى المقلاة، ثم قالت بنبرة تعليمية لطيفة:
– آه، لأن دي بقالها نص ساعة والطعمية اللي بتقعد كتير بتبقى ناشفة. ودا مش من شغلنا.
ابتسمت "مدام ناهد" وقالت:
– رقية مخها زي الموازين… ما ترضاش بنص درجة زيادة.
ردّ "يوسف" وهو ينظر إليها من بعيد:
– هي كده من زمان… ما ترضاش بالدلع، لا في كلامها ولا في شغلها.
كان "مهاب" صامتًا، لكن عينيه لم تكونا كذلك. كان يتابع كل حركة منها، كيف تمر بين الطاولات والكاونتر، كيف تتحدث إلى محمود بلا تعالٍ ولا تودّدٍ زائد.
قال " يوسف " ل"رقية ":
– رقية ، البنات وسيف اخبارهم إيه؟
قالت وهي مازالت تدون شئ ما:
_ بخير الحمد لله يا يوسف ، تسلم علي سؤالك.
قال بضيق منها:
_ تسلم آآه ، ماشي يااختي ابقي هاتيهم وتعالي عشان خالتك عايزة تشوفكم.
تركت ما تفعله ونظرت له وقالت بموافقة:
_ حاضر يا سيدي ، يومين كده وهاجي .
كان " مهاب " يتابع حديثهم بصمت ، حتي أتي "محمود " وهو يحمل الأطباق ، ووضعها أمامهم وقال:
_ محتاجين حاجة تانية ؟.
"مهاب " بإبتسامة:
_ تسلم يا حوده.
بدأوا في تناول طعاهم وهم يتحدثون تارة مع بعضهم البعض وتارة مع " ناهد "
وبعدما انتهوا ، قال "يوسف " ل"رقية " في محاوله لغيظ من يجلس بجواره:
_ بقولك إيه يا رقية ، ماتعمليلي كوباية شاي من إيدك كده.
تلقي ضربة خفيفة من قدم "مهاب " فنظر له"يوسف" وهو يغمز ، رفعت رقية نظرها له وقالت بضيق من إبن خالتها :
_ وإنتَ جاي تطفح ولا تشرب شاي ؛ وبعدين حد قالك إني شغالة في قهوة ؟
كتم " مهاب " ضحكته ، فقال " يوسف " بصدمة:
_ اطفح؟ يخرابي علي الغدر لما يجي من العيله يا جدع.
نظرت له " رقية " برفعة حاجب ؛ فتعالت ضحكات " ناهد " وهي تقول:
_ تصدق صعبت عليا يا واد ! ، عايز تشرب شاي قوم اعمل لنفسك ، أو روح القهوه يا عينيا.
قال " يوسف " بهدوء مزيف :
_ : كده ؟ ماشي مش عايز حاجة منك إنتِ وهي .
صمت ثواني وقال بغيظ :
_ بس والله لجيلكم بدل المرة مرتين في اليوم .
تعالت ضحكات " مهاب " وهو يقول :
_ ده أسوء عقاب ليهم والله.
رنت الضحكة في المطعم وبعد دقايق من الضحك والكلام خرجوا من المطعم، و"مهاب" ما يزال صامتًا، يمسك مفاتيحه في يده، يمشي بخطى هادئة.
أما "يوسف"، فقد كان يسير إلى جواره، ويده في جيبه، يداعب أحد الأطفال الذين مروا أمامهم:
– إيه يا فارس، فاضللك قد إيه وتخش المطعم تبقى مدير؟
ضحك الطفل وهو يركض مبتعدًا وقال بصوت عالٍ:
– لما أبقى قدّك يا عم يوسف!
ضحك "يوسف"، ثم عاد بنبرة أكثر هدوءًا وهو ينظر إلى مهاب:
– لسه بتسكت كده بعد كل مرة تقعد قدامها؟
لم ينظر له "مهاب"، لكن صوته خرج منخفضًا، مشحونًا بصدق ثقيل:
– أحسن لي أتكلم؟ أقول إيه يعني؟ إن كل مرة بشوفها ببقى عايز أحلف إن مفيش زيها؟
نظر له "يوسف "وسكت لحظة، ثم اقترب منه قليلًا وقال:
– يعني لحد إمتى ناوي تفضل سايب الساحة فاضية لابن عمك يرغي؟
توقف "مهاب"، استدار نحوه، وحدّق فيه بنظرة حادة، لكنها لم تكن غاضبة، بل نظرة صريحة:
_أنا ما بسيبش الساحة، أنا بس مش حابب أخلّيها معركة…
تنهد "يوسف" تنهدة طويلة:
– بس هو شايفها كده… شايف إن اللي يوصل الأول هو اللي يكسب. ورقية مش واحدة بتتجرجر بالكلام يا مهاب. دي محتاجة حد يفهمها ويصبر عليها.
قال "مهاب":
– عارف… وعلشان كده ساكت. ساكت لحد ما الظروف تمشي صح. لحد ما تبقى قادرة تبص حواليها وتشوفني، مش تشوف بس إخوتها وهمومهم ومسؤوليتها.
ابتسم "يوسف "ابتسامة فيها احترام: –
إنت أكتر واحد فاهمها، وده اللي مخليها قريبة رغم بعد المسافة. بس خليك فاكر… الفرص مش بتستنى كتير.
حرّك "مهاب "المفاتيح في يده، وابتسم ابتسامة صغيرة:
_أنا مش مستني فرصة… أنا مستنيها.
سكتا لحظة، قبل أن يقول يوسف وهما يواصلان السير:
– هو دا الكلام اللي يتقال. بس أوعى تكون مستنيها لدرجة تسيبها تتاخد.
ردّ "مهاب "بهدوء، دون أي نبرة تهديد:
– هي مش بتتاخد، هي تختار… وهي مش بتغلط في الاختيار.
كانت الحارة تمتلئ بأصوات مختلفة وصوت الطرقة الخفيفة لأقدامهم على الأرضية المبللة ، وفي قلب الزحام العادي، كانت مشاعر غير عادية تتحرّك بصمت.
هو لا يريد معركة، وهي لا تعرف أنها في قلب واحد
لكن الأكيد... أن بين صمته ونظرتها، وعد لا يُقال، ووَجه لا يُنسى.