رواية ظل البراق الفصل الثالث 3 بقلم مريمة

 

 

رواية ظل البراق الفصل الثالث بقلم مريمة

 " قلوب تهمس "

"حين تُثقلك الحياة بالمَهمّات، لا تنسَ أن تسترق النظر للضوء المُنبعث من نوافذك الصغيرة... قد يكون فيها بعض الفرح، وربما ظلال من الطمأنينة التي تنبت فقط في قلبٍ صلبٍ لم يخن مسؤوليته."
______________________

ما قبل المغرب بقليل، كان البيت غارقًا في سكونٍ خفيف، كأن الجدران تتهيّأ لاستقبال المساء بشيء من الحنين والتعب. في الخارج، ضوء الشمس لم يعد ذهبيًا كما اعتاد، صار مائلًا للرمادي، يلامس الزجاج بأصابع مرتجفة ثم ينسحب رويدًا رويدًا.
أما الداخل، ففيه دفءٌ غير مصطنع، مزيج من رائحة الكلور بعد تنظيف الصباح، ولمسة بقايا طعام منزلي، وصوت التلفاز المفتوح على قناة أطفال، لا يشاهدها أحد.
في إحدى الغرف، جلس "سيف " على طرف الأريكة، قميصه الأبيض مفتوح الأزرار من الأعلى، شعره مبعثر بعشوائية مراهقٍ لا يُجيد ترتيب نفسه، ويداه تعبثان بهاتف دون اهتمام.
بجانبه، "هنا"، ترتدي "بيجاما بيت" وردية فاتحة، وشعرها مربوط بشكل فوضوي أعلى رأسها، تحاول إغلاق كتاب التشريح على مضض، بعدما فشلت في استيعاب فقرة كاملة.
"سيف" تنهد فجأة، والقي الهاتف على الكرسي، وقال بصوتٍ منخفض ولكن واضح:
– أنا زهقت.
رفعت "هنا" نظرها من على الكتاب ببطء، حاجباها معقودان:
– زهقت من إيه؟
"سيف" بعدم رضا وزهق:
– من كل حاجة... من المذاكرة، من البيت، من الطول والعرض اللي احنا فيه.
لم ترد "هنا" مباشرة، بل أغلقت الكتاب بهدوء، ومدّت يدها نحو الكوب البلاستيك أمامها وارتشفت القليل من الماء، ثم قالت بنبرة أقرب للنصيحة لكن دون سلطة:
– كلنا زهقانين يا سيف... بس بنكمّل.
هو التفت لها بعصبية خفيفة، كأن كلامها ساذج:
– إنتي بتقولي كده عشانك، انتي دخلتي طب... عندك هدف، أنا؟ ضايع في ثانوي مش عارف رايح فين.
"هنا"بهدوء:
– وانا دخلت طب عشان اجتهدت وربنا أكرمني ،و رقية كانت شايفاني قَدّها... لو مكنتش في ضهرنا من أول يوم، كان زماننا في حتة تانية خالص.
ابتسم "سيف"، بس ابتسامة قصيرة ومكسورة، وقال:
– أيوه... رقية عاملالنا كل حاجة، حتى نفسنا في البيت محسوب عليها.
رفعت "هنا "حاجبها،من المفاجأة وقالت بعدم تصديق:
– إنت بتهزر؟ رقية بتدينا حرية مش عند حد... عمرها ما اجبرت حد فينا علي حاجة سواء دراسة أو شغل ، ولا اتحكمت فينا . بس هي مسؤولة... ودي مش حاجة تضايق.
كانت نبرتها صارمة ،ولكنها ليست عنيفة.
سيف، سكت، رجع يتكئ على ظهر الأريكة، ونظر في السقف. لحظات، وبعدها دخلت رقية من الباب.
كانت واقفة في الضوء المنبعث من باب الشرفة، والنسيم البارد يلامس طرف حجابها ، عيناها مرهقتان، لكن بريق الحنان فيهما لم يخفت. وفي يدها كيس صغير من الصيدلية.
نظرت إلى "سيف" و"هنا" سريعًا، وقبل أن تتحدث، سبَقها سيف قائلاً:
– "اتأخرتي ليه؟"
تقدّمت إليهما بخطى هادئة، وصوتها يحمل دفء الأمومة ممزوجًا بإرهاق يومٍ طويل:
– كنت رايحة الصيدلية  لنور أجيب دواء لبطن هنا... كانت بتشتكي الصبح.
احمرّ وجه "هنا" خجلًا، وتمتمت:
– كنت هاروّح أجيبه، بس كنت بذاكر.
وضعت "رقية" الكيس على الطاولة، ونظرت إليهما واحدًا تلو الآخر، ثم جلست، ونفضت طرف عباءتها، وقالت بابتسامة خفيفة:
– "مش أنا قلت متحطوش الحاجات دي على الأرض؟ بصّوا الترابيزة عاملة إزاي."
ضحك "سيف" وهو يشير إلى الكوب الفارغ:
– دي هنا، مش أنا.
دفعت "هنا" سيف بيدها دفعة خفيفة، وقالت:
– كذّاب... إنت اللي سبتها.
لم تتدخل "رقية" في المشاحنة الصغيرة، بل فتحت الكيس وأخرجت منه علبة دواء، وقالت بهدوء:
– كفاية... خدي دي يا هنا،نور بتقولك قرص واحد بعد الأكل ، وآه هي هتتأخر شوية في شغلها إنهاردة
"هنا" بتساؤل ممزوج بقلق:
_ليه؟ في حاجة حصلت في الصيدلية؟ وكده مش هنخرج انهاردة زي ما وعدتينا؟
نفت برأسها وقالت:
_لأ يا حبيبتي مافيش بس هتأخد ساعة زيادة إنهاردة عشان بكرة إحتمال ترجع متأخر من الجامعة ومش هتقدر تروح الشغل في معادها ، ممكن تتأخر ساعة
وآه مش هنقدر نخرج انهادرة ، بأذن الله كمان كام يوم هخرجكم ، إدخلي إنتِ بس سخني الأكل ... وسيف، خليك جنبي شوية بعدين، عايزة أكلمك.
انكمش وجه "سيف" قليلًا، وسأل بتردد:
– "خير؟"
رمقته "رقية" بنظرة ثابتة، ثم قالت:
– مفيش... بس في كلمتين لازم يتقالوا.
سادت لحظة من الصمت، لم تكن تحمل خوفًا، بل احترامًا حقيقيًا.

جلست رقية على طرف الأريكة، ظهرها مستقيم كمن يتهيّب قولًا ما، وسيف ينظر إليها ، حاجباه مرفوعان بشيء من الحذر، كأنّ قلبه يُنذر بأن حديثًا ذا طابعٍ مختلف سيُقال.
رفعت عينيها إليه، كانت عيناها تمتلئان بحنانٍ ثقيل، يشبه دفءَ أمٍّ تعلم أن ولدها على وشك أن ينزلق وخصوصاً بعد أن علمت أنه تعرف علي بعض الشباب ، يُسميهم أصدقاء، ولكنهم لا يصلحون لمعني الصداقة ، لكنها لا تملك إلا النصح في الوقت الحالي.
قالت بهدوء، وصوتها ينساب ناعمًا كخيط شمس في غروبٍ هادئ:
ـ تعرف يا سيف... أكتر حاجة بتخوفني، إنك تكون شايل في قلبك وجع مش عايز تقوله، أو بتتصاحب على حاجات مش ليك، وانت مش واخد بالك إنها بتسحبك بعيد عن نفسك.

أطرق "سيف "بعينيه، عضّ على طرف شفتيه، ثم تنحنح وقال، متصنعًا الاستغراب:
ـ أنا؟ بتصاحب على إيه يعني؟ ما أنا زي الفل.
راقبته "رقية" بصمت لحظة، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة لم تكتمل، وقالت وهي تشبك أصابعها في حجرها:
ـ أنا مش براقبك... بس بحسّك، بحسّ تقلبك. كنت زمان بتحب المذاكرة، تهتمّ، تناقشني، تسأل... دلوقتي بقت كل إجاباتك 'مش مهم' و'ماشي'.
ارتبك وجهه للحظة، ثم ارتدّت ملامحه للبرود، وقال بصوتٍ خافت:
ـ كبرت، خلاص. ما عدتش محتاج حد يقولي أعمل إيه.
رفعت "رقية "يدها بهدوء، كأنها تزيل بينهما جدارًا وهميًا من العناد، وقالت بنبرةٍ حازمة مغموسة بالحب:
ـ وانا مش جايه أقولك تعمل إيه. أنا جايه أفكّرك، إنك تستاهل حياة حلوة، ومستقبل يليق بيك. مش علشانّي، علشان نفسك.
ابتلعت غصّتها، ثم أردفت، كأنّ ما ستقوله هو أكثر ما يخيفها:
ـ سيف... أنا خايفة عليك. فيه حاجات في الدنيا بتظهر سهلة، ممتعة، وتدّي إحساس بالقوة... لكنها في الآخر بتاخد كل حاجة.
كان قد أزاح العند جانبًا، ينظر إليها الآن بعينين فيها شيء من الذنب، وشيء من الحنين.
ـ زي إيه يعني؟
سؤاله جاء رخوًا، غير متحدٍّ، بل كمن يطلب منها أن تكشف له ما خفي عنه.
قالت بصوتٍ منخفض، كأنها تخشى من أن يسمعها أحد:
ـ الصحاب اللي دايمًا فاضيين... الكلام اللي بين السطور... الفضول اللي بيجرّنا لحاجات إحنا مش قدّها... الطرق اللي بنفتكر إنها قصيرة، وهي في الحقيقة ضيّعة.
ظلّ صامتًا، وعيناه تهربان منها ومن نفسه.
فابتسمت "رقية"، ابتسامة شاحبة لكنها دافئة، وقالت:
ـ أنا مش هسدّ باب، ولا هحبسك في صورة الأخ الصغير اللي بخاف عليه... أنا بس عايزة تبص لنفسك، وتشوفها بعينيك، مش بعينين غيرك.
مرّت لحظة، ثم قال بتنهيدة خفيفة، وصوتٍ بدأ يسترخي:
ـ أنا بس زهقت، يا رقية. كل حاجة بقت تقيلة. المدرسة، والدروس، والناس... حتى البيت.

هزّت رأسها بتفهم، وقالت بنبرة عميقة:
ـ عارفة... بس الهروب عمره ما كان راحة، يا سيف. التعب اللي ليه آخر، أهون من الضياع اللي ماشي بلا طريق.
ثم قامت بهدوء، وضعت يدها على كتفه لحظة، لم تكن ضغطة، بل لمسة تودع شيئًا من حنانها هناك.
ـ أنا جنبك... حتى لما تسكت، حتى لما تغلط، أنا دايمًا جنبك.

تركته، وعيناها تغالبان الدموع، لكنّها لم تبكِ. بل مشت إلى المطبخ بصمت، وهي ترفع أكمامها استعدادًا لإعداد الغذاء... وكأنّ الحب في بيتها دائمًا ما يُقدّم مع الخبز والشاي.
الكاتبة مريمة(مريم دياب)
_____________

"الحب ليس دائمًا قصة تُروى للنهاية. أحيانًا يُولد بيننا وبين الحياة، لا بيننا وبين من نُحب. يكبر على استحياء، يُربّي نفسه في صمت، يحتمي في الزوايا، يخشى الضوء... ويظلّ هناك، في مكانٍ ما بين القلب والعقل.
هناك قلوب اختارت أن تُحب من بعيد، لا لأن البُعد أجمل، بل لأن القرب مستحيل... أو مرهق... أو لا يليق.
وليس كل حُبٍ يولد ليُقال. بعض المشاعر لا يُقصد بها أن تُصرَّح، بل أن تُكتم، أن تُحفظ في صدرٍ ضاق بها، لكنه لم يُفرّط.
الحب الذي لا يتمّ، ليس ناقصًا. أبدًا. هو مكتمل بوجعه، بشوقه، بصمته، برفضه أن يُصبح عاديًا. هو صادقٌ لدرجة أنه لم يساوم، ولم يُطالب، ولم يتشبّث. فقط... ظلّ واقفًا على باب القلب، ينظر دون أن يَطرُق.
وهناك من يُحبّون صامتين، لا خوفًا، بل احترامًا. احترامًا للمسافة، للظروف، لحرمة القلوب المتعبة التي لا تحتمل حربًا جديدة. ولأنهم يُدركون أن بعض الحكايات إن كُتبت، انكسرت.
ومن بين تلك القلوب، كان قلبه...
قلبٌ امتلأ بها، بصورتها، بحكاياتها الصغيرة، بصوتها المائل نحو الضحك حينًا، والعقل دائمًا. لم تكن ككلّ النساء. لم تكن كالهدوء الذي يشبه النسيان. بل كانت كالجُرح الهادئ... يظلُّ حاضرًا لا يؤلمك، لكنه يُغيّرك.
كان يراها... لا تتزيّن. لا تتجمّل. لا تتصنّع. تمشي بثقل مسؤولية عمرها، وتضحك بثقة امرأةٍ صلبة، لم تنتظر من أحدٍ شيئًا.
وكان يعلم... أنّها لن تفتح الباب. وأنّه لا يملك أن يطرقه.
لذا، ظلّ صامتًا.
يحبّها في الدعاء، وفي التفاصيل اليومية الصغيرة. يلاحظها ولا يتقرّب. يخاف عليها، دون أن يُعلن ذلك. يحتفظ بها في جزءٍ خفي من قلبه... الجزء الذي لا يصل إليه أحد.
هو لم يُحبّها لأنه يريدها لنفسه. بل أحبّها لأنه وجد فيها الحياة كما يجب أن تكون."
____________________

هدأت الشمس، ومالت بضوئها الخافت على زجاج النوافذ القديمة في البيت الكبير. بيتٌ يبدو من الخارج معتادًا، عاديًا، ككلّ بيوت الحارة. لكن من الداخل... كانت الحكايات تفيض من جدرانه، متراكمة فوق عتبات السنين.
داخل غرفة الجلوس الواسعة، حيث الكنبة الكحليّة الطويلة، والسجادة العتيقة التي ترفض أن تُستبدل رغم ما علاها من آثار الزمن، جلست الجدة، على كرسيها الهزّاز، تدندن بكلمات قديمة من زمنٍ نسيه الجميع، تقلب بين يديها مسبحة من عنبر، وتغيب في عالمها.
مرّت "انتصار" زوجة الحاج عامر، بنظرة نصف مشغولة، ونصف متحفّظة. امرأة لا تبتسم كثيرًا، كأنها ترى الابتسامة ضعفًا، أو ترفًا لا يليق بمقامها. ترتدي دائمًا عبائه نظيفة، مشدودة على جسدها المنتصب كأنها في مهمّة يومية لا تقبل الخلل.
قالت بنبرة حادة دون أن تنظر للجدة:
ـ " العشا جاهز . اللي عايز ياكل، يلحق نفسه قبل ما يبرد."
ردّت" الجدة"، بصوتٍ مبحوح، يحمل أثر الزمن:
ـ "هوّ لسه حد بيستأذن في الأكل؟ أيام ما كان حماكِ بيشتغل عند المعلم عوض، كان اللقمة لها طعم... دلوقتي بقيتوا تاكلوا وتقوموا كأنكم بتسرقوا."
أجابت"انتصار" وهي تجلس:
ـ "الزمن اتغير يا حاجّة. دلوقتي كل واحد بيأكل لوحده، ما بقاش فيه لمّة زي زمان."
دخل "مازن"،بعينين نصف ناعستين، وظهر متكاسل.
ـ "فين العشا يا ماما؟ جعان مووت، وإيه ده؟ فين عمتو ؟
قالها وهو يخلع حذاءه بنعاس، ويجلس على طرف الأريكة.
أجابته" أمه" بحدة:
ـ "روح اغسل وشّك الأول، وبعدين تعال. مش كل يوم تدخل كده كأنك نازل من سريرك للمطبخ على طول، وعمتك راحت تزور واحده صاحبتها والأولاد معاها"
ضحكت "الجدة "بخفة، وقالت:
ـ "ده نايم وهو صاحي، يا دوب يفكّ الخط الصبح."
"مازن "رفع حاجبه وقال بمزاح:
ـ "الحمد لله إني بعرف أفكّ الخط. غيري سايب الورشة وبيلف حوالين المطاعم!"
تجمّدت نظرة "انتصار"، وفهمت تمامًا ما قصده، لكنها لم تعلّق. فقط شهقت شهقة خفيفة، ثم قالت:
ـ "ما تعرفش تسكُت، لازم ترمي كلمة."
وفي الزاوية الأخرى من الغرفة، جلست "نادين"، تتصفّح هاتفها دون اهتمام، شعرها مربوط لأعلى، ترتدي ملابس أنيقة بشكل مبالغ.
قالت دون أن ترفع نظرها:
ـ "إنتو لسه بتتخانقوا؟ والله زمانكم بقيتوا مسلسل صعيدي... ناقص صوت طبل في الخلفية."
ضحكت "الجدة " وقالت:
ـ "يا سلام... المرة الجاية نعملها يا ست نادين ولا تزعلي ."
دخل الحاج "عامر" من الباب، ، يسير بخطى بطيئة لكنها واثقة، ووجهه كعادته يحمل الصرامة القديمة، وحكمة الرجال الذين اعتادوا السكوت أكثر مما اعتادوا الشكوى.
نظر إليهم جميعًا بصمت، ثم قال:
ـ "فين مهاب؟"
"انتصار" ردّت دون تردّد:
ـ "في المعرض."
قال "عامر"، وهو يجلس:
ـ "بقاله كذا يوم بيصحى متضايق... في حاجة في دماغه، ومش عايز يقول."
"نادين "ردّت بلهجة ساخرة:
ـ "سِيبك منه، أكيد قصة غرام في صمت."
صمت "عامر"، لكن عينيه ظلت معلقّة بالكلام.
لم يقل شيئًا، لكنّه فكّر...

ولكنه امرهم باحضار الطعام وبالفعل تناولوا طعامهم ، وهو انسحب إلي ذلك الركن المنعزل من البيت، الذي لا يدخله أحدٌ سوى الحاج نفسه.
جلَس في مقعده الجلدي العتيق، وأمامه مكتب ضخم يعلوه بعض الأوراق المبعثرة. في يده ورقة مطويّة بعناية، حوافها صفراء من الزمن، لكنها لا تزال تحتفظ برائحة الحبر القديم.
لم تكن ورقة عادية… كانت رسالة.
خطُّها أنيق،، يحمل أنفاسًا لا تخطئها ذاكرة قلبه.
نظر إليها طويلًا، لم يقرأها مباشرة، بل تأملها، كأنّ الحروف فيها كانت تهمس له بأشياء لا تُقال.
مرت لحظة، ثم بدأ يقرأ بصوتٍ منخفض لا يكاد يُسمع، شفتيه تتحرّكان دون أن يُخرج صوتًا واضحًا، لكنه كان يبتسم… تلك الابتسامة التي لم يرها عليه أحد منذ سنوات.
دُفعة واحدة، فُتح باب المكتب ببطء.
دخلت "انتصار"، زوجته.
نظرت إليه، ثم إلى الورقة في يده، ثم عادت بنظرها إلى وجهه المتغير.
قالت بصوتٍ منخفض، لكن نبرته تحمل شيئًا من السخرية:
– من زمان مش شوفتك بتضحك كده… رسالة مهمة؟!
نظر لها قليلًا، وأخفى الورقة بين دفتي كتاب قديم، ثم أغلقه بهدوء.
ردّ بصوتٍ هادئ، وعيناه لا تلتقيان بها:
– ورقة قديمة... مالهاش لزمة دلوقتي.
اقتربت منه بخطوات بطيئة، وقفت بجواره، وهي تنظر إلى غلاف الكتاب المغلق، ثم قالت بنبرة ثقيلة:
– بس ساعات الورق القديم... بيبقى فيه كلام عمره ما مات.
صمت… لم يرد.
هي تعرف. أو على الأقل، تشك.
تأملها، لوهلة، كأنّه يحاول أن يتذكّر لماذا لم يستطع أن ينسي ويكمل حياته بالشكل الطبيعي.
همست "انتصار" :
– كنت فاكرة الزمن خلّى اللي فات يندفن... بس واضح إن في حاجات لا بتموت ولا بتتدفن.
لم يُنكر، ولم يؤكد. فقط رفع عينيه إليها وقال بجملة واحدة:
– بعض الذكريات... بتنضج جوه القلب، مش بتموت.
ثم نهض من مكانه، وسار نحو النافذة، أدار ظهره لها، كأنه يختبئ من ماضيه، أو من نفسه.
أما هي، فظلت واقفة، لا تعرف هل شعورها الآن هو الغيرة؟ أم الخذلان ، خذلان لكبرياء ذاتها؟
لكنها تعرف، رغم كل شيء، أن قلب هذا الرجل... لم يكن لها يومًا.
_____________________

في قلب الزحام، تتخفّى الأحاسيس الحقيقية خلف وجوهٍ مرهقة، وابتسامات مجاملة، وعيون تُخفي أكثر مما تُظهر.
أحيانًا، لا نحتاج إلا إلى لحظة صمت وسط الضوضاء، لنفهم أن كل هذا الركض... هروب.
كانت "نور"الشق الثاني لرقية المهدي، تركض، منذ أشهر، لا من شيءٍ محدد، بل من كلّ شيء.
من موت أمّها، من خذلان أبيها، من خوفها على إخوتها، ومن ضعفها الذي لا يراه أحد.
كلّ صباح ،تُجمّل صوتها بابتسامةٍ هادئة، كأن شيئًا لم يكن.
لكنّ قلبها… لم يهدأ يومًا.

وقفَت نور خلف الكاونتر الزجاجي، مرتدية المعطف الأبيض،تتحرك بخفّة بين الرفوف، تبحث عن دواء، بينما يدها الأخرى تمسك بالروشتة التي أعطاها لها أحد الزبائن المسنّين.
قال الرجل بصوتٍ مبحوح:
– هو الدوا ده لازم آخده بعد الأكل ولا قبله يا دكتورة؟
رفعت عينيها إليه بابتسامة دافئة، وقالت بصوتٍ ناعم فيه حنان تلقائي:
– بعد الأكل يا حاج، وهيكون مرتين في اليوم… الصبح وبالليل.
– يعني بعد الفطار والعشا؟
– بالضبط كده، وماتنساش تشرب ميّة كتير.
هزّ رأسه شاكرًا، وأخذ الدواء.
راقبته وهو يخرج، يسير ببطء، ويده ترتجف قليلاً، فشعرت بانقباض خفيف في صدرها.
في هذه اللحظة، دخلت زميلتها في الصيدلية – "بسمة"، فتاة في أوائل العشرينات، بشوشة لكنها ثرثارة بعض الشيء.
قالت وهي تخلع الحجاب بسرعة وتضبطه قدام المراية الصغيرة:
– يا بنتي أنا جاية من مشوار… اتخنقت. البلد زحمة بشكل يخنق!
"نور "ابتسمت بخفة، وهي تعيد ترتيب الأدوية في أحد الرفوف:
– الدنيا كلها زحمة… مش البلد بس.
اقتربت"بسمة" منها، وقالت بصوت واطي وهي بتلمح ملامح نور:
– مالك؟ باين عليكي مش على بعضك.
"نور" حاولت تغيّر الموضوع، لكن عيونها كانت فيها لمعة كأنها نامت قليلًا وبالها مش مستقر.
قالت وهي تتظاهر بالانشغال:
– عادي… شوية صداع.
"بسمة" مطّت شفايفها، وقالت بإصرار:
– لأ بجد، انتِ من يومين كده مقلّبة، حتى صوتك بقى واطي، بتردّي على الزباين كأنك نايمة.
هنا تنهدت" نور"، ورمت نظرة على الباب الزجاجي، وقالت بهدوء:
– لما بيبقى عندك مشاكل من جوه
قالتها وهي تشير علي ذاتها واكملت 
_ كل حاجة بتبوظ... حتى طريقتك في الشغل.
أنا تعبت يا بسمة… بجد.
اقترتب"بسمة"أكثر ، ووضعت يديها علي كتف نور، وقالت بصوت به تعاطف:
– طيب كلمي حد، إحنا مش لازم نتحمّل لوحدنا.
"نور" ابتسمت ابتسامة شبه حزينة، وقالت:
– أنا مش متحملة حاجة مقارنة بيها ، بس بحس إن تعبي ضعفين ، بتعب ليها وليا.
ثم لحظة صمت ،ودخول زبون جديد، فاستعدت نور للرد كالمعتاد، كأنّ الحوار لم يكن.
لكن في قلبها… كان كل شيء لا يزال حيًّا، يؤلمها بصمت.
...................
"في كلّ رجلٍ غُموضٌ لا يراه الناس، ولا يفهمه أحد،
سِوى تلك التي حَفرت أثرها بصمتٍ في قلبه، ثمّ رحلت دون وداع... أو بقيت دون أن تقترب."
"هو لم يكن يجيد التعبير، ولا البوح، لكنّه كان يشعر...
والشعور حين يُكتم، يكبر...
يكبر حتى يُتعب صاحبه، ويثقل صدره."
....................

ثمّة ليالٍ لا تشبه سواها، تمضي ببطءٍ مربكٍ كأنّ الزمن نفسه يتثاءب. الليل، بصمته، لا يمنح مهاب عزاءً، بل يدفعه أكثر نحو ذاته التي ما عادت تشبهه.
قد يعود الإنسان إلى بيته حاملًا يومَهُ بين يديه، فلا ينتظر منه أحدٌ أن يتكلّم، ولا يتوقّع هو أن يُفهم.
لكن داخل العائلة، حتى الصمت يُراقَب... حتى السلام العابر لا يمرّ دون ملاحظة...
وهكذا دخل مهاب بيته تلك الليلة.

فتح مهاب باب البيت برفق، كأنّه يخشى أن يوقظ شيئًا نائمًا داخله، أو أن يُثير سكونًا هشًّا في المكان. خطواته كانت بطيئة، متروّية، ورأسه منكّس قليلًا كمن يحمل فوقه حملًا لا يُرى.
كان الضوء الخافت المنبعث من الصالة يكشف عن وجود البعض مستيقظين. لمح أبوه جالسًا في مكانه المعتاد على الكنبة الكبيرة، نظارته على عينيه وجريدة نصف مطوية على حجره. نادين كانت على هاتفها، مستلقية على طرف الكنبة المقابلة، ومازن،يتصفّح شيئًا على اللاب توب وبيضحك لنفسه.
رفع الحاج "عامر" رأسه عندما رأي مهاب، وقال بنبرة هادئة لكن فيها تساؤل:
ــ "جيت؟"
رد "مهاب "بنبرة صوته منخفضة:
ــ "أيوه يا حاج، كنت في المعرض شوية."
هزّ الحاج "عامر "رأسه،وقال:
ــ "عمّك كان بيسأل عليك. اتّصل بيا النهارده كذا مرة."
 استدار مهاب برأسه نحو أبيه من على بُعد، وأجاب وهو يُعدّل ياقة قميصه بهدوء:
 مهاب (بنبرة هادئة): 
_"آه... عارف، شُفته وهو معدّي. اعتذرت له، وقلتله أعدّي عليه بكرة."
أومأ الحاج عامر برأسه دون أن يُبدي تعليقًا، تاركًا الحديث يمرّ بهدوء دون تعقيب.
مرت لحظة قصيرة من الصمت، قبل ما يمد" مهاب" نظره لنادين، ويلمح ابتسامة جانبية منها لم يفهم  معناها 
"مازن" قال وهو يضحك:
ــ "إنت داخل كأنك راجع من جنازة مش من شغل!"
اكتفى "مهاب" بهزّة بسيطة من رأسه، وابتسامة باهتة، قبل ما يقول:
ــ " تعالي اشتغل معايا وإنتَ تعرف ،تصبحوا على خير."
"مازن" بهدوء واحترام لأخيه:
ــ "وانت من أهله يا حبيبي."
مرّ مهاب بجوار والدته التي كانت تجلس على الأريكة، تقلب صفحات مجلة دون اكتراث. توقّف لحظة، ونظر إليها باحترام وقال بهدوء:
– مهاب (بنبرة خفيفة): "عاملة إيه يا أمي؟"
ردّت دون أن ترفع عينيها عن المجلة، وكأن السؤال عابر لا يستحق التوقف:
– أمه (ببرود): "كويسة."

ابتسم لها ابتسامة باهتة، ثم أطلق تنهيدة طويلة خرجت كأنها محمّلة بسنين من الصمت. بعدها، صعد السُّلم بخطًى هادئة، ثقيلة، كأن كل درجة فيه تحمل وجعًا لا يُرى.
دخل غرفته، وما إن أغلق الباب خلفه حتى انتزع ملابسه وألقاها بإهمال فوق السرير. وقف أمام المرآة لبرهة طويلة. ملامحه كانت ساكنة، لكنها لم تخفِ ما في عينيه من غيمٍ مُبهم... كأنما يحاول قراءة شيءٍ ما داخل نفسه، ولا يستطيع الوصول إلى نهاية السطر.
بعد لحظات، فتح النافذة، ورفع رأسه نحو السطح، ثم صعد إليه.
كان الهواء لطيفًا، يمرُّ على وجهه بهدوء، كأنّه يواسيه دون كلام. وقف عند سور السطح، وألقى بنظره نحو الحارة التي بدأت تغرق في نومها. نور خافت يتسلل من نوافذ بيتين أو ثلاثة، وكل شيء بدا ساكنًا... ساكنًا أكثر مما يجب.
ظلّ واقفًا هناك لبعض الوقت، ثم اتكأ بكوعه على السور، وترك لعقله أن يسرح...

كم من مرة وقف في هذا المكان، بين السماء والأرض، محاولًا أن يفسّر ما لا يُقال؟
هناك شيء بداخله لا يُروى... لا يُشفى.
لم يكن يعرف متى بدأ الأمر، لكنه يعرف تمامًا أنه لا يستطيع الهرب منه.
هي لم تكن عابرة في حياته.
منذ جاءت إلى الحارة، وهي ليست كغيرها.
كانت صغيرة يومها... في الخامسة عشرة، وجهٌ شاحب بملامح هادئة، وعينان تحاولان التماسك وسط الزلازل.
جاءت مع إخوتها، واستقروا في بيت جدّهم. كان هو وقتها في العشرين، في الورشة، يشتغل بيديه ويتطلع إلى ما بعد السماء.
ومنذ ذلك اليوم... تغيّر كل شيء.
تنهد بعمق، مسح على وجهه بكفه، وتراجع للخلف. جلس على كرسي، وشبك اصابعه ببعضها، واسند كوعه على ركبته.

هي لا تعلم... وربما لا تريد أن تعلم.
لكن هناك أشياء، لا يمكن دفنها، حتى وإن لم تُقال.
يكفي أنه حين يراها، يشعر بأن قلبه... يعود للنبض من جديد.
............

رغم أنّ الليل قد أرخى سدوله على الحارة، إلا أنّ بيت رزق المهدي لم يعرف سكونًا. الطابق الأرضي المُعتم أغلق أبوابه، بينما ينبعث من الطابق الثاني ضوءٌ خافت، يتراقص فوق جدران مطلية بألوان باهتة، تكاد تختنق من زحام الأثاث المتراكم بلا تنسيق. البيت نفسه يشبه أهله... لا فقر ظاهر، ولا غنى مُعلن، بل خليط مُربك من محاولات التجميل المستهلكة، ونوايا مغلفة بطبقات من السكر.
في إحدى الزوايا، جلس" رزق" على الأريكة، يرتشف الشاي الثقيل في بطء، بينما سعاد، زوجته، تتحرك في الصالة في عصبية واضحة. صوت التلفاز ينبعث من الخلفية، لكنه لا يُسمع، كأنّ البيت يعرف أنّ الحديث الليلة أهم من أي مسلسل أو برنامج.
قالت "سعاد "بصوتٍ خفيض، فيه شيء من الضيق المكتوم:
– "شوفت؟... مجاش، ولا كأنك عمه!"
أدار "رزق" وجهه نحوها ببطء، وقال بحقد:
– "ابن عامر بقي؟ ده من يوم ما فتح المعرض، ومابقاش يقعد في الحارة كتير ، آه الشغل نازل عليه زي الرز.
ضحكت "سعاد" ضحكة قصيرة، لكن لم تخلو من السخرية:
– الله يرحم !
سكتت لحظة، ثم أضافت وهي تعود للجلوس بجواره:
– بس عارفة أنا؟... العيال دي مش بتاخد خطوة من غير ما تكون مرسومة. ومهاب ده مش غشيم. طول عمره ساكت، بس بيلم في سكته. عارف بيعمل إيه، وبيخطط من بدري.
رفع" رزق" حاجبًا، وقد راق له التحليل:
– يعني بتقولي بيتدلّع علينا؟"
– لأ... أنا بقول إنه بيبعد عننا. بيقصي نفسه. وهو مش عايز يشركنا في حاجة جاية. حتى لما شهد تكلمت قدامه، حسّيت إنه صدّها بعيونه قبل لسانه.
رمش "رزق" ببطء، وبدا عليه التفكير العميق، قبل أن يقول:
– شهد بنت حلال، وعلى وشّها نور. لو كان في نية، كان وافق من بدري. لكن شكله مايل في حتة تانية... حتة إحنا مش عاجبانا من زمان.
ضاقت عينا "سعاد"، وظهر في صوتها شجنٌ محموم:
– مش ناقص غير يقولوا إنه بيفكر في... لا لا، مستحيل، إحنا مش هنسمح بده. إحنا اللي من دمه، ومن لحمه. مش حد غريب.
أطرق "رزق" رأسه قليلًا، ثم تمتم:
– ده لو سابنا نلحقه أصلاً... ما هو بيبني عالهادي. يختار، ويمشي، ويسيب الكل وراه يتفرج.
أجابت "سعاد "بنبرة جازمة:
– لا، مش هنسكت. لو هو مش شايف شهد، يبقى هنخليه يشوف. ووقتها، يا يقبل، يا يشيل همّ رفضه.
امتدت اللحظة بينهما في صمتٍ ثقيل، قبل أن يرتفع صوت التلفاز قليلًا كأنّه يعيد البيت إلى طبيعته. لكنّ النوايا ظلت على الطاولة، ساخنة مثل أكواب الشاي، تنتظر لحظة الغليان.

"لم يكن بيت رزق المهدي يعجّ بالحُب، ولا يُشبه تلك البيوت التي تنام على نياتٍ طيبة. بل هو بيت يضجّ بالحسابات، تُملى فيه الأمنيات من طرفٍ واحد، وتُزرع الطموحات في تربة الطمع. في صمتهم، مكيدة. وفي كلامهم، لفٌّ ودوران. أما مهاب، فهو الغائب الحاضر في كل جملة... ومَن غاب عن عيونهم، لن يغيب عن خُططهم."

في غرفة شهد...
لم تكن الغرفة واسعة، لكنها تحاول أن تكون شيئًا آخر. جدران فاتحة اللون، مرآة كبيرة محاطة بإضاءة صفراء خافتة، ستائر منقوشة بورود صغيرة، وسرير تكتظّ جوانبه بالوسائد. المكان كله كُتب بلغة واحدة: أنثى تحاول أن تكون حُلمًا ناعمًا.
كانت "شهد" مستلقية على جانبها، رأسها مائل نحو حافة السرير، وشعرها البني الطويل منسدل في فوضى مرتبة. عيناها مفتوحتان، تنظران إلى لا شيء، لكن عقلها كان في مكان آخر... أبعد بكثير.
مرّت أصابعها على الهاتف الموضوع بجوارها، ثم توقفت دون أن تفتحه. لم تكن تنتظر رسالة، هي فقط تتمنى واحدة.
الهدوء مشبعٌ بثقل الانتظار.

فكّرت، بصوتٍ لم تسمعه إلا هي:
"هو عمره فكر؟ ولو حتى لحظة؟
ولا أنا اللي حبيت زيادة؟
ولا يمكن... يمكن هو بس مش واخد باله؟"
رفعت رأسها قليلًا، ثم جلست متكئة على ظهر السرير. عينان واسعتان تملأهما حيرة مشتعلة، وخدّان يحمرّان لأقل فكرة تمر.
كأنها تُحدّث نفسها منذ الطفولة:
"هو دايمًا ساكت، عمره ما قال.
طب ليه قلبه بعيد كده؟
مستحيل ما يكونش حاسس بيا، أنا حتى نفسي ببطل، بس ما بعرفش."
امتدت يدها إلى درجٍ صغير بجوار السرير، وأخرجت منه قطعة قماش صغيرة مطوية بعناية. رفعتها إلى وجهها واستنشقتها بحنان خجول. قميص قديم، له رائحة مميزة، لا تزال عالقة كذكرى لا تموت.
ابتسمت ابتسامة واهنة، ثم تلاشت، وكأنها لم تكن.
قطع الشرود صوت طرقات خفيفة على الباب، تبعها دخول "سعاد" برأسها فقط، ثم بكامل جسدها.
– سهرانه ليه كده؟
ردّت" شهد "وهي تحاول تبدو عادية:
– مش جاي ليّ نوم.
"سعاد "دخلت وجلست على طرف السرير، وضعت يدها على ركبة بنتها، بصوت خفيض فيه دفء متكلّف:
– عارفة يا حبيبتي، ساعات اللي بنحبهم مش بياخدوا بالهم، بس ده ما يمنعش إنّ نصيبنا ممكن يكون فيهم... لو سعينا، لو عرفنا نكسبهم بطريقتنا.
نظرت إليها "شهد "ببطء، تفهم، ولا تفهم.
– يعني؟
ضحكت "سعاد"، وقالت وهي تميل نحوها:
– "يعني البنت الحلوة، الذكية، ما تسيبش اللي عايزاه لغيرها. الحياة منافسة يا حبيبتي... واللي يستنى كتير، يلاقي اللي كان عايزه راح.
لم تردّ "شهد"، فقط ظلت تنظر لأمها، وكأنّ الكلمات وجدت لها مكانًا عميقًا في داخلها. لم تكن هذه أول مرة تسمع فيها هذا الكلام... لكنه هذه الليلة، غرس جذورًا أبعد من أي وقتٍ مضى.
"سعاد" نهضت، قبل أن تقول وهي على الباب:
– فكّري يا بنتي... الدنيا ما بتديش غير اللي بيجروا وراها.
خرجت، وأُغلِق الباب بهدوء، لتبقى شهد وحدها... لكنّ رأسها لم يكن هادئًا على الإطلاق.
رفعت بصرها للسقف، وداخلها صوت صغير، بدأ يتضخّم شيئًا فشيئًا:
"هو ليه ما بيشوفنيش؟
طب لو شافني مع غيره...؟
ولا يمكن أخلّيه يشوفني غصب؟"
لم تُكمِل الفكرة. اكتفت بأن تغمض عينيها، وتمد يدها نحو الضوء لتُطفئه. لكن الظلمة التي غمرت الغرفة، لم تُطفئ الحيرة، بل جعلتها أعمق.

"في داخلها، لم تكن تُحب مهاب فقط... بل أحبّت الفكرة التي زرعتها أمّها في عقلها: أن الحب يُؤخذ، أن القلب يُنتزع، أن الانتظار ليس ضعفًا بل استراتيجية. لكنها نسيت أن بعض الانتظارات لا تنتهي بوصول... بل بفقدان ما كنّا ننتظره."
...................

الجو ثقيلٌ على غير عادة المساء.
رائحة البقالة مختلطةٌ برطوبةٍ خفيفة علقت في الهواء، كأن الغبار ذاته بات مُجهدًا. كانت "رقية "تقف خلف الكاونتر في البقالة، جسدها مستند على الطاولة الخشبية التي حفظت حرارة يديها، وذهنها يكاد يتداعى من كثرة ما احتمله طوال الشهر.
عيناها ذابلتان، كأن النعاس يعبث بجفنيها رغم الضجيج. تتنقل بين رفٍ وآخر بخطًى بطيئة، تحفظ ترتيب الأشياء أكثر مما تحفظ خطوط وجهها في المرآة، تصبّر نفسها بدقائق معدودة وتنتهي "الوردية"، لكنّ التعب يمدّ يده الثقيلة كلّما همّت بالثبات.
_"كيلو سكر، وكيسين شاي، وأربعة مكرونة أبو كيس أصفر!"
قالتها الزبونة القصيرة بجسدها الممتلئ، ثم وقفت تُحدّق في رقية كأنّها تنتظر منها ما هو أكثر من كيس المكرونة.
_عينيَّ، حالاً.
مدّت" رقية "يدها، التقطت الأغراض واحدة تلو الأخرى، تحاشَت النظر مباشرةً إلى الزبونة، فقد كانت هذه السيدة تحديدًا تملك لسانًا لا يهدأ، وعينين فضوليتين لا تعرفان حياءً.
_انتي بسم الله ما شاء الله، زي القمر يا رقية!
قالتها الزبونة وهي تقلب في كيس النقود وتضحك ضحكة تفتقر للبراءة.
"بس باين عليكي مش مخطوبة، مش كده؟"
أجابت" رقية" بابتسامةٍ خفيفة كأنّها تُرضي طفلاً:
_ولا متجوّزة.
_الله!
قالت السيدة، تضحك مجددًا، ثم أضافت:
_أنا عندي عريس بيدور على بنت مؤدّبة زيك، ابن خالي، شغال في شركة، ومربرب زي الفرخة البلدية، وبيحب البنات الساكتة… أقول له ييجي؟.
ابتسمت "رقية" مرة أخرى، حاولت إخفاء الضيق، ثم ردّت:
"ربنا يكرمك يا طنط، وربنا يفرحك بولادك."
حملت الزبونة كيسها بعد أن التقطت رسالتها المبطّنة، وانصرفت.
ثوانٍ فقط، ثم دخل" خالد" ابن عم مهاب ذاك هو الشاب الذي تكرهه كثيرًا، وتكرهه زياراته المتكررة وتلميحاته السيئة.
دخل كما يدخل دوماً… دون إذن، دون احترام للمساحة.
قميصه مفكوك الزر العلوي، وسلسلة تتدلّى من رقبته، وشعره مبلول كأنّه أغتسل للتوّ فقط ليُظهر وسامته المزعومة.
ألقى بجسده على الطاولة الطويلة، وسحب زجاجة مياه غازية دون أن ينظر حتى في وجه رقية.
"انتي لسه بتقفّي في المحل ده؟"
قالها بصوتٍ عالٍ، كأنّه يُعلن وجوده، أو يلفت انتباه من بالشارع.
أجابت دون أن ترفع رأسها:
_شُغل.. مش وقفة.
_ما أنا شايف الوقفة زي العسل!
ضحك لنفسه، ثم أضاف وهو يقترب خطوة:
_أنا قلت بلاش ألف ودوران… أنا شايفك من زمان، ومفيش واحدة تستاهل تتشارَك الحياة زيك. مش حرام تبقي لوحدك؟
رفعت "رقية "عينيها ببطء، دون انفعال. حدّقت فيه، صمتت.
لكنه ظنّ صمتها موافقة، فقال بخفّة مصطنعة:
_يعني نفكر بقى في الموضوع؟ أنا قلبي طيّب، ونيتي صافية… وأنا مش زي الناس اللي حواليكي، أنا راجل!
قالت أخيرًا بصوت هادئ لكنه قاطع:
_لو كل راجل جاي يقول كلمتين واتحسب ليه فضل، كانت الناس كلها اتجوزت من شوية كلام .
تغيّرت نبرة وجهه، ابتسم بتوتر، لكنه استمر.
_إنتي ليه دايمًا متحفّظة كده؟ مش لازم نعيشها، نفرح، نخرج، نحب حتى؟
نظرت له نظرة حادة هذه المرة، ثم قالت بهدوء:
_أنا مش بتاعة خروج، ولا بتاعة هزار، ولا بتاعة كدب. اللي بيحب بيخاف، مش بيتسلّى. وأنت من زمانك ما بتعرفش إلا تتسلّى.
كأنّ ضربة خفيفة سقطت على وجهه، سحب الزجاجة من على الطاولة، وهمّ بالخروج، لكنه قبل أن يخطو…
دخل الحاج "عمران " صاحب البقالة
وقف عند الباب، نظر إلى رقية، ثم إلى خالد الخارج، ثم عاد بعينيه إلى رقية وقال بصوتٍ عميق:
_في مشاكل يا رقية؟
هزّت رأسها بسرعة:
_لا يا حاج، خلصنا الشغل وهقفل دلوقتي.
تقدّم داخل المحل، وقال وهو يقترب منها:
_وشّك مش مرتاح. في إيه؟
ابتسمت له، ابتسامة صغيرة، ثم قالت:
_مفيش والله، يمكن تعب شوية… بس كله تمام.
لم يُطِل الوقوف، تركها تغلق المحل، وهو يخرج يتمتم:
_ربنا يسهّلك يا بنتي… الدنيا دي محتاجة صبر.
أغلقت الباب الحديدي، وقلبها لا يزال مفتوحًا على اتساعه.
صعدت الدرج ببطء، قدماها تخونانها من فرط التعب ، جلست علي درجة من درجات الدرج ، وأغمضت عينيها.

عاد بها الزمن فجأة.
إلى غرفة المطبخ القديمة.
إلى صرخة مكتومة، وبكاء صامت.
إلى أمّها، تجلس على البلاط، ظهرها للجدار، ودمعة تسقط على خدها دون أن تمسحها.
ورقية الصغيرة تقف خلف الباب، تضع يدها على فمها كي لا تصدر صوتًا.
كانت تسمع صوت أبيها وهو يصرخ، يلوم، يُهدّد… وأمّها لا ترد.
ثم تهمس بصوت مخنوق:
_أنا مش قليلة، بس ما بقيتش قادرة...
حينها شعرت رقية، لأول مرة، أنّ الهدوء نعمة، وأنّ الكلام أحيانًا خيانة.
ومن يومها، لم تُحب الجلبة، ولا المواجهة، ولا الرجال الذين يرفعون أصواتهم دون داعٍ.
عادت إلى الحاضر، تنهدت وقامت تُكمل صعودها ...
حين فتحت باب الشقة، كانت الأنوار خافتة، والهدوء يخيّم على المكان كأنما أهل البيت قد غرقوا في نوم عميق. لكن ما إن وضعت المفتاح على المنضدة الصغيرة قرب الباب، حتى انبعثت ضحكة مكتومة من جهة غرفة الجلوس، تبعها همسات متداخلة وضحك آخر أخفّ، وكأن الأرواح الصغيرة بالداخل تتآمر في سكينة.
ابتسمت وهي تخلع حجابها، كانت قد أنهت يوماً ثقيلاً، مُثقلاً برائحة الزيت، وملوحة الكلمات التي تركها خالد خلفه، كغصةٍ لم تنزل، ولم تُنسَ.
اتجهت ناحية مصدر الصوت، فإذا بنور وهنا وسيف جالسين على الأرض، وسط أكياس فشار وعصير، ويتابعون فيلماً قديماً .
وقفت "رقية" في المدخل، وذراعاها معقودتان على صدرها، نظرتها تحمل دهشة مصحوبة بابتسامة ساخرة، وقالت:
– يعني أنا اللي كنت تحت باكل كلام مُرّ، وإنتم قاعدين هنا عاملين سهرة؟
رفعت "هنا" رأسها فجأة، وجهها مكسو بآثار ضحك، وقالت بنغمة مداعبة:
– إحنا قلنا نعمل فيلم لحد ما تطلعي.
انقلب وجه "نور" بجديّة مُصطنعة، وهي تمسك كوب العصير:
– بس والله يا رقيّة، كنا لسه هنبعت سيف يناديكي.
قال "سيف"، وهو يمد يده بكيس فشار ناحيتها:
– بس أنا قلت أستنى لما تنزلي شوية غضبك تحت قبل ما نجيبك.
رفعت حاجبها بدهشة:
– وأنت عرفت إني غضبانة؟
غمز بعينه:
– من صوت خطواتك وإنت طالعة... كأنك بتطلعِي جبل مش سُلَّم!
قهقهت "هنا" وهي تضرب سيف بكيس مخدّة:
– أنت مجنون رسمي!
انفرج وجه "رقية "أخيراً، تنفّست بعمق ثم جلست وسطهم، كأن همّ النهار ذاب شيئاً فشيئاً في دفء حضورهم.
لحظة هدوء، قطعها صوت الفيلم، ومشهد قديم يضحك فيه البطل من قلبه...
قالت نور، وهي تميل على رقية:
– "هو خالد تاني؟"
نظرت لها "رقية "نظرة مختصرة، ولم ترد.
لكن" هنا" قالت بهدوء:
– رقية... بلاش تسكتي كتير... مش أي سكوت بيعدّي، ساعات بيفضل جُوه يكوي!
هزّت "رقية" رأسها ببطء، ثم همست:
– عارفة... بس مفيش طاقة للمشاكل دلوقتي. كل حاجة بتيجي بوقتها.
مدّت "نور" يدها تمسح على ظهر رقية:
– بس خلي بالك من نفسك، وإحنا جنبك.
غمغمت رقية، وهي تميل برأسها على كتف أختها:
– عارفة يا نور... وإنتوا اللي مخلييني أكمّل.
ثم اتسعت ابتسامتها من جديد، ونظرت لسيف الذي كان يحاول عمل كُرة من ورقة مناديل:
– الواد دماغه باظت من الدروس  !.
ضحك سيف:
– آه والله يا روقا ، علي آخر السنة هتلاقوني في الخانكة.
انفجروا ضحكاً معاً، وربّتت رقية على رأسه:
– ربنا يعدّي الثانوية العامة على خير.
..................

كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً في يوم الخميس، ولا تزال رائحة الطعام عالقة في أركان البيت، دافئة كأنها تحرس طمأنينة المساء. شقة عائلة يوسف تقع في الطابق الثالث، رحبة ومنسّقة، تشطيبها بلون سكري هادئ يبعث على السكون، وأثاثها بسيط لكنه يحمل راحة معتادة. في الصالون، رغم تقادم الأثاث، ظلّت الكنبة الكبيرة تحتفظ بهيبتها، وبجانبها أباجورة تنثر ضوءًا خافتًا على الكرسي المتحرّك الذي يجلس عليه عم إبراهيم، الأب الطيب الذي نالت منه الحياة، وسحبته من ورشة النجارة التي أفنى فيها عمره، لتقيّده على كرسي لا يُزاح.
كان يوسف يجلس قرب المائدة، يمازح أمه "سمية"، المرأة التي يظل وجهها باسِمًا، حتى حين يتعب كلّ شيء.
"سمية "وهي تملأ الأطباق:
– "قوم يا يوسف نادي لأبوك، الأكل هيبرد."
"يوسف" ضاحكًا وهو يلوّح بيد:
– "يا ماما الراجل لسه من شوية بيزعّقلي، هقوم أكله بإيدي كمان؟"
"سمية "جدية خفيفة لا تخلو من حنان:
– "ما هو لو مزعقش يبقى مش إبراهيم... قوم يا خويا."
نهض "يوسف" بخفّة، واتجه إلى والده الجالس في الصالة، يقلب القنوات بلا اهتمام ظاهر.
"يوسف"بصوت خفيض وهو يقترب منه:
– "يا عم إبراهيم... السفرة نورت، ناقصك إنت بس."
"إبراهيم" نظر إليه نظرة سريعة، ثم قال ببطء:
– "قول لأمك تقلل الملح... وابقى اقعد بعيد عن السلطة، أنا عارفك بتحب تزوّد اللمون وتقول دي طريقتي."
ضحك "يوسف"، وبدأ يدفع الكرسي المتحرّك نحو المائدة. اجتمعوا حولها، الطعام بسيط: مسقعة، أرز أبيض، بعض قطع الدجاج المشوي وسلطة بلدية.
"سمية "وهي تضع قطعة دجاج في طبق إبراهيم:
– "يوسف... أنا مش هتهنى غير لما أشوفك راجع مراتك."
"يوسف"رافعًا حاجبه ساخرًا:
– " هو أنا اللي مشيتها! يا ماما بلاش تفتحي المواضيع دي وإحنا بناكل... نفسي تهضموا معايا يوم كده."
"إبراهيم" بهدوء يحمل في طيّاته مرارة قديمة:
– "الست اللي تحب راجلها ما تسيبوش... واللي تسيبك تبقى كانت بتدور على حاجة مش فيك."
سكت "يوسف". شيء ما انعقد بداخله، لكنه دفنه تحت قشرة خفيفة من المزاح.
"يوسف "وهو يرفع معلقته :
– "أهو كلام حلو، بس خلونا ناكل قبل ما السلطة بتاعتي أم لمون كتير "
ضحك الجميع، لكن يوسف وحده... لم تكن ضحكته خارجة من قلبه.

بعد العشاء، صعد يوسف درجات الطابق الرابع بخطى بطيئة، حتى بلغ باب شقّته، تلك التي تشبه القصور من الداخل. كانت الشقة في الأصل وحدتين جرى دمجهما، مصممة على الطراز العصري الفخم، بأرضية من الباركيه بلونه البني الداكن، وجدران مطلية بلون البيج الناعم، وكأن كل زاوية فيها خُطّطت بذوق راقٍ ومزاج هادئ.
أضاءت السبوتات المعلّقة بالسقف إضاءة خافتة، بينما كانت الأريكة الرمادية الواسعة لا تزال محافظة على مظهرها، كأن أحدًا لم يجلس عليها من قبل. في الركن الأيمن، وُضِعت مكتبة مُفصّلة خصيصًا، تحمل كتبًا ، وساعة زجاجية صغيرة، بجانب صورة تجمعه بنادين في رحلة قديمة. وجهها بدا باردًا حتى في الصورة.
توقف "يوسف "أمام الصورة برهة، كأنها تفتح أبواب وجعٍ كان بالكاد قد أغلقها.
قال هامساً:
"كل تفصيلة هنا كانت نادين... كل لون، كل اختيار، حتى الديكورات اللي في السقف هي اللي اختارتها،كانت بتقول:
– "أنا بحب أحس بالمكان كإنه هو اللي عايزني، مش أنا اللي بجري عليه."
بس الحقيقة... عمرها ما حست إن الشقة دي بيتها، ولا حتى أنا."

اقترب من الأريكة في الزاوية، وجلس عليها. سحب نفسًا عميقًا، ثم رفع رأسه إلى السقف كأنه يبحث فيه عن شتاته المتناثر،ثم هبّت عليه الذكرى كنسمة ساخنة، تحمل معها لسعة الماضي.
فلاش باك – أول خناقة:
كان الوقت مساءً. لم يمضِ على زواجهما أكثر من اربعة اشعر. عاد من عمله متعبًا، يبتسم في باله متخيّلًا عشاءً دافئًا وضحكة منها تطفئ تعبه. فتح الباب، فوجدها جالسة على الأريكة، ترتدي ملابس أنيقة، هاتفها في يدها، وعينيها على شاشة تُعرض فيها إحدى عروض الأزياء.
قال برقة وهو يخلع سترته:
– جيت… ريحة الأكل حلوة، إنتِ عاملة إيه؟
لم ترفع عينيها عنه، فقط قالت بنبرة رتيبة:
– الأكل؟ أنا طلبت دليفري، كنت مشغولة أوي النهاردة، شغل أونلاين بخلصه.
اقترب منها قليلًا، وقال مبتسمًا:
– ماشي يا ستي، بس ما تبقيش تتعبي نفسك أوي في الشغل… وأنا كنت بفكر ناكل مع بعض ونحكي شوية.»
هنا رفعت "نادين"رأسها، نظرت له بنظرة اختلط فيها الاستغراب بالاستخفاف، ثم قالت:
– يوسف، ما ينفعش كل يوم تبقى عايزني أطبخلك، إحنا مش في مسلسل تسعيناتي. أنا ليّا شغلي وطموحي، مش فاضية ألعب دور الست اللي بتستنّى جوزها على السفرة.
تجمّد مكانه، لم يكن يتوقّع تلك النبرة، ولا تلك الكلمات. قال بحذر:
– أنا ما طلبتش أكتر من لحظة دفا، لحظة عادية… مش بقولك اسيبي كل حاجة واشتغلي طباخة.
أغمضت عينيها ببطء، ثم قالت:
– أنا مش شبه ستات حارتكم، ولا شبهي بيتك اللي تحت، فاهم؟
كانت تلك الكلمة... الطلقة الأولى التي جرحت، ولم تندمل.
قال وقتها بصوت منخفض، لكنه مكسو بالخذلان:
– ما حدش قالك تتجوزيني لو شايفة إني أقل…
سادت لحظة صمت، ثم استدار وغادر إلى الشرفة، أخرج سيجارة، أشعلها رغم أنه وعد أمه أنه سيقلع عن التدخين.
ومن تلك الليلة، بدأ الشرخ.

"أقسى فُراق؟
ليس ذاك الذي يأتي بغتة، ولا الذي تصحبه صرخات وغضبٌ معلن.
أقسى الفُراق هو ما يتسلّل خفية، بعد صبرٍ طويل ومحاولاتٍ مُنهكة،
حين تهب روحك كلّها لإنسان،
ثم يُغلق الباب في وجهك وأنت ما زلت تطرقه.
يوسف...
لم يكن يحتاج أكثر من حضنٍ صغير،
كلمةٍ تطمئنه،
نظرةٍ واحدةٍ فقط تُخبره: (أنا أراك... وأنا هنا بجوارك).
لكن نادين؟
كانت دومًا تقف أمامه، وليس بجواره."

تعليقات