رواية علاقات سامة الفصل التاسع والثلاثون
انتظر حتى خرجت من شرنقتها وبدأت تتعامل معهما بأريحية تتحرك بحريَّة رغم خجلها الذي تتلحف به؛ فشعورها باقتحامِّها لخصوصيتهما بعد زفافهما بعدة أيام يخجلها، ترسل عينيها لهما دومًا نظرات معتذرة ومحرجة، حاول حسن تأخير جلسته هذه لوقت أطول إلا أنَّ إحساسه يؤكد له ضرورة قطع هذه الهدنة ومعرفة حجم المشكلة التي وقعت بها، خرج من غرفته يبحث عنها بعينيه، ابتسم حينما وجدها مع نيِّرة تتابع التلفاز وعلى وجهها بسمة صافية، ابتسم براحة اتجه إليها يجاورها، قبل رأسها بحنان مما جعل بسمتها تزداد اتساعًا بسعادة.
- سعاد ممكن نتكلم جد شوية؟
اختفت بسمتها واحــتل مكانها القلق وعقلها يسأل: هل سيتبدل لطفه وحنانه ليحل مكانهما العُــنف والسُّبـاب، قرأ أفكارها متوقع تفكيرها فطمأنها لتفتح له أبواب قلبها:
- أنا عند وعدي وملزم به مهما حصل، لكن لازم يا حبيبتي تتكلمي بصراحة وبدون خــوف، إحساسي بيأكد وجود مشكله كبيرة وكبيرة قوي كمان ولازم نحلها عشان ما تتحولش لكارثة.
- كنت فين من زمان؟ كنت فين وأنا وحيدة بدوَّر على حد يسمعني؟! وأنا بخاف أرجع البيت وأنا بخاف اشتكي لبابا، كنت فين من سنين.
- بُعدي مش بمزاجي، سمعتي مامتك شايفاني إزاي، شوفت الرَّفض لوجودي بينكم فبعِدْت عشان حسيت إني دخيل بينكم، ومش عندكم بس لأ، عند ماما كمان، آسف لأني بعدت عنك، بس كنت مطمن عليكِ بينهم، مش عارف بابا ازاي سمح باللي سامر عمله معاكِ، لكن مش هنفضل نقول لو ويا ريت، خلينا نشوف المشكلة ونحلها ووعد عمري ما أبعد، افتحي قلبك واحكي لي.
- لقيتكم بتتكلموا جد فعملت حاجة تشربوها قبل ما أدخل جوة عشان تاخدوا راحتكم.
نظراتهما طالبتها بالبقاء وأيدتهم يد حسن التي أمسكت رسغها بحنان توجهها للجلوس معهما، وباستقرار جلوسها استرسل حسن كلماته:
- احكي يا سعاد، ما تخافيش مني!
- كنت بشوف أصحابي يتعاملوا مع بعض بحرية كبيرة ولاد وبنات، انفتاح مبالغ فيه، خروج من غير حساب، فلوس كتير سهرات وملابس متحررة قوي، حسيت أنه غلط ومش صح، حطيت لنفسي حدود ورفضت أنهم يكسروها، والنتيجة تريقة وسخرية، انتقادهم ليَّا خلاني تايهة وزي أي بنت حاولت أحكي لماما، وما كانتش فاضية، كان سامر قريب مني أو زي ما كنت فاكرة وقتها، كنَّا لسه نازلين مصر قريب، فحكيت له وما انتبهتش لبهتان ملامحه كلامه المقطع وتوهانه معظم الوقت، ضربني لأول مرة لقيت نفسي تحت رجله وأنا بصرخ من الوجع، جريت على اوضتي قفلتها بالمفتاح، فضل يخبط ويرزع على الباب شوية وبعدين سكت، اتصلت على بابا واشتكيت له.
اختنقت من بكائها العنــيف وشهقاتها المتتالية؛ فصمتت تستجمع شتاتها ثم استرسلت:
- كلمه كتير وزعق حذره يكرر اللي عمله، خلاه يصالحني ويعتذر وهو معانا على التليفون، عمل كدة فعلًا واطمنت أنا وبابا، بس كل واحد في بلد وده خلاه بكل سهولة يخالف كلام بابا، بعد ما قفلنا دخلني اوضتي وقفل بالمفتاح من غير ما أنتبه، خلــع حــزامه ونزل فيا ضــرب، وأخد مني التلفون، حبسني أسبوع، واللي قهرني إن ماما كانت عارفة واتَّهمتني بحاجات كتير وحشة، أنا مش وحشة يا حسن، كنت عايزة حد يقولي احكي أنا سامعك، أنتِ اللي صح.
ربت على ظهرها بحنان طاغي يدعهما يشعر بمدى وجعها وقسوة ما عاشت:
- أنا متأكد يا حبيبتي، كملي أنا سامعك.
رمقته بامتنان ودموعها تتزايد بألم:
- بقيت أخاف ارجع البيت، بقى العادي أنه يضربني وماما تداري عليه، ولو بابا عرف وكلمه، معناها ضرب تاني، مرة منهم كان عايز يحرقني وفضلت اترجاه واحلف اني مش هكلم بابا تاني مهما عمل فيا، حسيت أني وحيدة وانزويت وقفلت على نفسي، سامر بقى مُـدمِن رسمي، فلوسك مش أول فلوس ينصب ويسرقها دخّل بابا في مشاكل كتير، بابا كان فاهم أنَّه بيخسر الفلوس في التجارة وماما كالعادة تداري عليه، الوحدة وحشة يا حسن، مع الظُّلم والقهر تعبت كان نفسي في طاقة نور، حاجة تحسسني أني عايشة.
ازداد توترها تفرك يدها بهيستريا، تزوغ عينها بكل الاتجاهات تصمت تارة وتواصل أخرى:
- زميل حاول يتقرب مني فاتخانقت وزعقت طلعت فيه كل غَضَبي، استحمل واقنعني أنه بيحبني، مع إصراره لأيام واسابيع، شهرين، تحمل مني تهزيق ونفور، بعد فترة بدأت ألين وخرجت معَاه، نقضي وقت لطيف ومرة في مرة طلب نروح بيته؛ رفضت وثورت اتهمته أنه مثِّل عليا الحب، وكل الكلام اللي يتقال في الحالة دي، اعتذر وبِعِد.
نظرت لحسن المصدوم بوجع وواصلت بصراحة:
- الرجوع للوحدة كان مميت، أصعب بكتير قوي يا حسن، فلما تبعد عنها وبعدين ترجع لها وجعها يبقي أضعاف.
اخفضت وجهها خجلة مما ستلقي عليه:
- الموت كان أهون من الرجوع للوحدة، روحت له كليته وتقريبًا اتحايلت عليه عشان نرجع لبعض من غير موضوع الشَّقة؛ فاقترح نكتب عقد عُرفي عشان أطمن ووعدني مش هلمسني غصب عني، صدقته لأني كنت عايزة أصدقه، مش قادرة أرجع لوحدي، ورجعت أقضي معاه اليوم ولما اروح اتحمل ضرب سامر، وساعات بلاقيه غايب عن الوعي من جرعة اخدها، فاقفل بابي عليا واستني تاني يوم عشان ارجع إنسانة وحد شايفني.
- اتجوزتي عُرفي!!! بابا عرف؟ وحصل امتى؟
أومأت نافية: لأ، ما يعرفش، مِن تلات شهور تقريبًا.
- وقت ما رجعت!
- يوم ما جيت لسامر ومنعته عن ضربي.
الصَّـدمة تملكته وعقله يؤنِّبه، لو زاد اهتمامه يومها لنجت مِن براثن الآخر، جال سؤال قاتل بذهنه والقاه عليها بنبرة مهتزة مختنقة:
- لمسك؟
أومأت مُنتحبة؛ فنهض يدور حول نفسه ضاق المكان عليه وأطَبَق، احتوتها نيِّرة بحنان فتشبثت بها ولم يهدأ بكاؤها، وتحدثت من بين شهقاتها:
- من فوق هدومي، ايده كانت تتحرك بحرية، والله قرفت من نفسي ومنه، تمنيت الموت، والله يا حسن اتمنيت الموت!
- ورقة العرفي فين؟
- الاتنين معاه، لما تعبت قوي طلبت منه نقطع الورقتين، ضحك ورفض، وقالي بصراحة تقربه مني عشان يطولني وياخد فلوس من بابا لأنه عارف بسفره من سنين، فلو عايزة اتطلق ادفع، ما كانش في حل غير إني أقول لماما أو سامر.
اخــتنقت كلماتها التي امتلأت بالخذلان:
- كلمت ماما استنجد بها، بهدلتني وكلمت سامر، ضربني وحبسني لحد ماما ما نزلت، فضلت في بهدلة من ايده لإيدها لحد ما جيت وأخدتني.
طوال الوقت يدعي القوة والتماسك أمامها، لكن ما علمه يفوق طاقته وقوة تحمله، كلماتها جلدات لقلبه وروحه الثَّـائرة، هي ظالمة ومظلومة، كل ما أراده خلوة صغيرة بنفسه يخرج ثورته بعيدًا عن ناظريها كي لا ترتعب منه؛ فدخل غرفته دون كلمات، فانهارت سعاد تخرج كل ما تحمله من بؤس، وجع، خذلان وضـعف، تخرج ما أثقلها وأرهقها، بئر سحيق مظلم سقطت فيه بإرادتها، لا تعلم هل سيمد حسن لها حبل النجاة أم سيغلق عليها بابه بإحكام، حاولت نيِّرة بثها الأمان بكلماتها:
- خرجي كل الجواكِ يا حبيبتي، مش هقول ما غلطتيش، لكن الكل تكاتف ضدك ما لقتيش حد تتعلقي فيه وينجدك، بس حسن مش هيسيبك هو اتصدم، لكن مش هيتخلى عنك أبدًا أنا متأكدة، حسن دايمًا بيوفي بوعده.
- مش ذنبه، هو طول عمره بعيد، هامشي مش هاحمله أكتر من طاقته، كفاية اليومين اللي فاتوا حقيقي مِن أحلى أيام حياتي.
- سعاد.
صرخت باسمها عدة مرات حين فاجأتها بتحركها السريع للمغادرة، فأسرع حسن إليهما وقبل أن تدير مقبض الباب صدح صوت حسن الحازم مناديًا:
- سعــاد، رايحة فين؟
- ماشية يا حسن وآسفة على الكلام اللي سمعته.
- أسفك مش مقبول، أنا دخلت لأني كنت محتاج أنفرد بنفسي ولو ثواني.
ظلت محلها تخفض رأسها بانكــسار تتساقط دموعها بخجل، تألم منها ولأجلها، اقترب منها وجذبها لصدره باحتواء مشددًا عليها بين ضلوعه، تعالت شهقاتها فتركها تخرج أوجاعها، ثم تحدث بانكــسار لا يقل عنها:
- غلطتي يوم ما استسلمتي لواحد زيه، كان في اختيار تاني قدامك، كلميني، كنت هاجي ولو في بلد تانية، ازاي تسمحي لحد يلمسك؟! ازاي تدنسي مشاعرك كده؟! الجواز العُرفي كذبة ضحكوا عليكم بها، تبقي متعلقة لا أنتِ زوجة حقيقية ولا أنت حرة، الزواج اشهار مش في الخفا وخايفين حد يشوفكوا.
سحب شهيق عميق: «هحلها بأمر الله، هحلها وترجعي حرة، نتيجتك امتي؟»
عاودت البكاء: «ظهرت وهعيد السنة، ما حدش أفتكر غيرك يا حسن».
- وأنا مش كفاية يا قلب حسن.
ازداد تشبثها به تردد برجاء حار اختلط بدموعها:
- ما تسيبنيش يا حسن عشان خاطري ما تسيبنيش!
- ما اقدرش يا حبيبتي ما قدرش، من النهاردة أنتِ بنتي وأختي، ما تقلقيش هحلها وعد.
- أنا آسفة والله آسفة.
- اللي حصل حصل، اهدي وما تقلقيش، ربنا إن شاء الله هيلهمني للتصرف السليم، عايزك تحكي لي كل حاجة بالتفصيل عن الولد ده، كل حاجة وأي حاجة تعرفيها، افتحي لي قلبك، وقت ما تحتاجيني هتلاقيني ووقت ما تحبي تتكلمي هتلاقيني بردو.
انسحبت نيرة للداخل بعدما أعدت لهما مشروب يهدِّئ أعصابهما، ترفع الحرج عن سعاد لتبوح بكل شيء دون خجل، شغلت نفسها بإعداد الطَّعام، مر الوقت وجلسوا على المائدة يدَّعون تناول الطعام وبالحقيقة هم شاردون، لم يكن شرود حسن فيما يخص سعاد فقط، فما حدث معها جعل عقله يطرح مزيد من التَّساؤلات عن اختفاء والده المُريب، شعور بداخله يخبره بوجود كارثة مستترة، أمَّا سعاد فلم يكن شرودها امتنان لحسن لمؤازرته لها فقط، لكن لأنها تخشى القادم تخشى انهياره إن علم ما تخفيه والدتها عنه أو أنْ يلفظها، تشعر أنَّ الخوف صديقها الوفي، لن يغادر قلبها إلا بمغادرة روحها.
استقرت حياة شيماء لا ينغص عليها صفوها سوى بُعد أختها عنها وجفائها، دائمة الشرود بها تتمنى وصلها، لا تعلم بمحاولات رامي وتواصله مع نادر زوج نادية في محاولة منهما لاستمالة قلب نادية وانهاء شتاتهما، انتشلها مِن شرود تفكيرها عودة رامي -بعد إجراء إحدى العمليات الجراحية- مرهق ومتعب:
- حمد الله على السلامة يا حبيبي.
ابتسم لها بشكر فهي باتت قلب دافئ يحتويه بحب، ضمها بحنان واشتياق:
- وحشتيني.
- أنت أكتر، على ما تغير أكون جهزت السفرة وتحكي لي عن يومك وجو العملية.
- عنيا، جدو كان دايمًا يقول نفس الكلام بعد كل عملية.
- يلا بسرعة يا ولد اسمع كلام جدو.
- مال جدو أحلو كده ليه.
انعزلت عن الدنيا لأعوام، فأراد أنْ تجوب معه بعضها، بكل يوم يأخذها لمكان، بدت كطفلة صغيرة تخشى العالم فتمسك يده تلتمس منه الدَّعم والأمان؛ فيحلِّق بالسماء وتطيب جراحه هو أمانها في مقابل العالم وحاميها، انبهارها بكل مكان يجوباه يسعد مهجته، عاملها كطفلته الصغيرة يوضح لها تاريخ المكان، اسم المنطقة أو المطعم يشتري لها قطع تذكارية وكل ما يشعر برغبتها فيه، نظرات الإعجاب وإن كانت على استحياء والفرحة التي ملأت عينها تسعده وتغمره بالفرح والرَّاحة، وعلى النقيض بعودتهما يجاورهما الخوف ويرافقهما، ترتجف لقربه رغم محاولاتها العديدة لإخفاء رهبتها منه.
بيومهما الثالث وبعد عودتهما من الخارج، جلسا على الأريكة يشاهدان التلفاز وكلاهما شارد، يشعر بالحيرة لا يعلم كيف يقربها منه ويزيل رهبتها! لمَ تخافه؟ لمَ لا يشعر قلبها به كالسَّابق؟ فبحثها بالماضي عنه كلَّما اقترب أسر قلبه وكـبَّلَه بقيــود الوَلَه وزاد هيامه بها، لمَ تجلس بعيدة عنه؟ يُريد الشُّعور بها قربه، أن تموج به أنفاسها بمحيطه وحوله، تنَـهَّد بإرهاق ولم ينتبه لمقلتيها التي رمقته بطرفها على استحياء، تلوم نفسها وتؤنبها، تدرك إنها تؤذيه بصمتها، بوسط الناس تجده ملاذها، حمايتها وأمانها، كلَّما اقتربت منه ارتاحت، كما كانت ترتاح بالماضي لذلك الضَّابط، انتبهت لما حدَّثت به نفسها، أتقارن زوجها بأخر مال له قلبها بالسَّابق؟!! أهي خائنة كما نعتها شهاب؟!! استغفرت مرارًا، يردد عقلها وإن كنت كذلك فلا تأذي مَنْ أحسن إليك ورفع عنك الظلم، مَنْ يقتل نفسه مِن أجلك، قطع صوته الحنون استرسال أفكارها:
- ليه بعيدة؟
نظرت بصمت وتوتر فاسترسل ببسمة:
- أنا وعدتك مش هاقرب غير بموافقتك، صح؟
أومأت له فصدح صوته من جديد بحنان حازم:
- يبقي قربي دايمًا خليكِ جنبي وما تخافيش مني.
طوال حديثه معها يتظاهر بمتابعة التلفاز وبالواقع يسترق النظر لها خلسة ليرى وقع كلماته عليها ومع آخر جملة ثبت نظره عليها مبتسمًا مخفيًا وجعه، على استحياء ازاحت جَسَــدها ببطء ناحيته، يدعوها بمقلتيه لمزيد من القرب وبسمته تتسع كلَّما اقتربت ويقل وجعه، حين استقرت مد ذراعه يحتويها ويلصقها بضلوعه داخل حضنه، التقت نظراتهما في نظرة طويلة أفضت إليها بما يحمله لها من حُب وأشواق، اقشعر قلبها بمشاعر تجهلها واحمر وجهها خجلا فأخفضته بحياء، سبحت يده الحرة على رأسها بحنان تمسد خصلاتها بنعومة تقص لها مكنون مهجته، جال كفه على وجهها يداعب وجنتها بحنان مُشتاق، ثم أحتوى جانب وجهها بكفه يحثها على الميل على صدره، تاهت في أفعاله برهبة زالت بفيض حنانه، اغمضت عينها لا تدري من أين أتت كل تلك الراحة، فقبل رأسها وعاد يتابع التلفاز بابتسامة ملأت قلبه قبل وجهه وتنفس براحة، بعد فترة وجدت نفسها ترفع يدها تحاوطه وتتشبث به؛ فرقص قلبه طربًا، فقد عبرت خط خوفها منه.
- النهاردة آخر يوم بإجازتي، تحبي تروحي النهاردة ولا بكرة بدري قبل ما اروح شغلي.
- مش عارفة.
رفع وجهها إليه قليلًا ونظر داخل مقلتيها بابتسامة هادئة وكلمات تحثها على التفكير واتخاذ قرار ولو بسيط كهذا:
- فكري وشوفي الأفضل لك أيه؟ تصحي بدري قوي الصبح ولا تمشي والنهاردة، فكري واللي تقوليه هعمله.
حاولت الاعتدال فأعادها لوضعها: «كده برتاح اكتر».
ابتسمت بخجل واردفت بتوتر:
- ممكن النهارد، عشان.. عشان ما تتعبش بكرة كفاية الشغل.
اهتمامها أسعده فأخذ كفها يقبله ونظر بها بوله، سحب شهيق عميق سعيد ليملأ صــدره ويمحي أثر الوجع منه:
- طيب نقوم نجهز حاجتنا عشان نتحرك.
أومأت موافقة؛ فنهض واحتوى كفها براحته يساعدها للوقوف، سلطت عينيها عليه تخبره نظراتها بما لا تستطيع البوح به، فعانقها بحب لعل شوقه إليها يهدأ ولو قليلا! وحين ارتجفت بين يديه همس لها بنبرة حوت كل معني الحب والرجاء:
- ما تخافيش، والله عند وعدي!
رفقت بمعاناته التي يخوضها من أجلها؛ فطوقته بيدها، لعلها تقدم له شيء يسعده ويريحه! فتأوه بين بيدها:
- آاااه آاااااااااه يا طيف، وحشتيني، وحشتنيني قوي.
زُلزِل قلبها واهتز من فيض أحاسيسه، شعور راودها بالماضي البعيد، تخبط وزحام نما داخلها، ودت لو تستطيع الابتعاد وأمام كل ما يفعله من أجلها قررت البقاء حتى يدنها عنه.
استعاد طاقته وجددها، يستقبل منها مشاعر بكر رغم كل ما مرت به، قطفة أولى من ثمرة مشاعرها التي لم يغــزوها غيره، قبّل وجنتيها بحنان، وهمس جانب أذنها: «شكرًا يا طيف»
بعثرها بفعلته، سرت داخلها مشاعر لم تجربها يومًا، ارتعش جَسَــدها من كم المشاعر التي تجهل هويتها، وتحركت معه تجمع اغراضهما.
مع خطوتها الأولى داخل شقتهما ثبتت محلها باندهاش، تطوف عينيها بالمكان بمشاعر متداخلة وفرحة طرقت أبواب قلبها ولم تغادر منذ اقتــحــامه لحياتها، حملت نظراتها أسئلة لم تنطقها؛ فدنى إليها مبتسمًا وحاوط وجهها بكفيه الحانيتين:
- حقك يا طيف، عروسة لازم فرشك يكون جديد وكامل، كملت على اللي كان موجود عشان ما حدش استخدمه غيرك، حبيت أعمل لك مفاجأة، أيه رأيك؟ عجبك ذوقي.
أومأت ببسمة وسعادة مرتسمتان على وجهها، يأسرها بلطفه ويبعثرها وَهَـج مشاعره وفيض حنانه، تعيش معه كل ما تمنته يومًا وافتقدته، لم تقل سعادته عنها شيئًا وقد أعطته السبيل الذي سيتخذه دربًا لها، سيداهم مشاعرها ليحررها مِن أسر الماضي، المناورات البسيطة تستنزف قواه دون نتيجة واضحة، ابتهج براحة يتمنى أن تستمر بمرافقته فنظرتها تخبره بإصابة هدفه، يأمل ألا تصمد كثيرًا.
- تعالي أفرجك على باقي الشقة، أنا غيرت المطبخ بالكامل وحاجات تانية كتير، وسمحت لنفسي أختار لك هدوم على ذوقي ولو ما عجبتكيش ننزل نشتري كل اللي تحتاجيه.
بالرغم من صمتها إلا أنَّه يشعر بالحبور الشديد فهيئتها المبتهجة المسرورة تنعش قلبه وحواسه، للمرة الأولى يضمهما بيته، تعلَّقت عيناه بها وهي تجاوره فراشه حقيقة لا خيال، ضمها إليه بتأوُّه يدعو الله أن تكتمل سعادته.
يوم مشمس الهّبت حرارته الأجواء، اتصل نادر برامي الذي ظهرت على معالمه علامات القلق وهو يسأله:
- يعني هي هنا في القاهرة، لا متقلقش وبلاش تسوق المسافة الطويلة دي وأنت متوتر كده، أكيد هنروح لها المستشفى، شيماء لازم تعرف.
أنهى الإجراءات ليغادرا وذهب لشيماء بمكتبها، استقبلته بابتسامة سرعان ما تبددت برؤية معالمه، نظرت له بترقب تشعر بوقوع خطب سيئ.
- حبيبتي، عايزك في موضوع.
من رهبتها وشعورها السيئ التزمت الصَّمت تحركت معه توزع نظراتها بينه وبين خطواتها، وبمكتبه جاورها على الأريكة يقابلها لا يعلم كيف يبدأ الحوار:
- شيماء، أنتِ طيبة وبتسامحي وعارف أنك بتتمني تشوفي نادية وزعلانة من بُعدها وعدم اهتمامها، لكن هى محتاجاكِ معاها.
صمت طويل ساد بينهما، تخشى السؤال فيثبت لها ما يرهبها، فاسترسل بهدوء وضمها إليه مع انهيارها:
- نادية عملت حادثة.. بلاش تبكى، إن شاء الله تكون بخير.
تهدجت أنفاسها ببكاء حار:
- أيه اللي حصل لها يا رامي؟
- كانت مع فوج سياحي هنا في القاهرة، وعربية خبطتها.
- عايزة اروح لها يا رامي عشان خاطري.
- أكيد يا حبيبتي، بلاش عياط إن شاء الله هتكون بخير، نادر كلمني هو لسه في الأقصر، لازم نتحرك على طول عشان ما تفضلش لوحدها أكتر من كده.
نهضا وضمها إليه حتى هدأت أنفاسها أبعدها بلطف:
- اغسلي وشك وهاتي حاجتك، يلا بسرعة.
رافقها التوتر طوال الطَّريق، تخشى الفِراق، بوصولهما سألا عنها وكانت لتوها خرجت مِن غُرفة العمليات، وسألا الطبيب المتابع عن حالتها:
- قدر ولطف رغم قوة الحادثة إلا أن أصابتها بسيطة بالنسبة لحجم الحادثة، كسور بسيطة ومفيش نزيف داخلي، لكنها للآسف فقدت الجنين.
عادا لغرفة نادية رافقتها شيماء تنظر لها بإشفاق تخشى انهيارها، انتظر رامي خارج الغرفة، مر الوقت بثقل حتى وصل نادر بوجه شاحب تدور برأسه سيناريوهات سوداء، أطمئن على استقرار حالتها ثم خرج من الغرفة يجر قدميه يشعر بثقل حِمْل حطَّ على كتفيه، نكَّـس رأسه يسنده على كفيه ومرفقيه مرتكزان فوق قدمه، صوت أنفاسه المتوترة يصل إليهما بوضوح، فحاول رامي التهوين عليه:
- بكرة ربنا يرزقك بأطفال كتير.
رفع رأسه متنهدًا بإرهاق وتحدَّث بنبرة غلفها الحزن:
- مش زي ما فهمت، الموضوع حقيقي كبير.
- الدكتور قال مش هتفوق قبل ساعة ويمكن أكتر، تعالى ننزل الكافيتريا نشرب قهوة، وتحكي لنا الموضوع أحنا معاك.
مع إصرار رامي امتثل له بدأ نادر يقص لهم سبب قلقه، يزداد ألمه مع كل حرف ينطقه:
- أنا مش زعلان على فقد الجنين، مش موضوع حمل وراح دي إرادة ربنا وأنا مش معترض، أنا خايف من تأثير ده على نادية لانه هو الحبل اللي رابطها بالدنيا، خايف تكرر محاولتها من تاني، نادية مِن بداية جوازنا تصرفاتها متناقدة، ساعات تكون حنونة جدًا وساعات تتدعي القسوة بشكل مخيف، أول مرة حملت كانت سعيدة جدًا، والله كانت طايرة من الفرحة.
اخفض رأسه بألم وتجمعت الدُّموع بعينيه فأســرها سريعًا:
- يومين ولقيتها بتكلمني مِن عيادة تعبانة، جريت عليها وعرفت أنها نزلت الجنين، حاجة جوايا انكــسرت والتزمت الصَّمت، والكلام هيفيد بأيه؟! أي حاجة أقولها أو أعملها ترجعه لأنها ملهاش حد، وللأسف الموضوع اتكرر بعدها بسنة، واللي وجعني أكتر أنها منعت الحمل بدون ما تشاورني والحمل حصل قضاء وقدر، ثورت عليها لو رافضاني ورافضة تحمل مني ليه قبلت بيا وليه مكملة؟ اتصدمت بردها، جواها خوف ورعب من تكرار حياتها، خايفة لو خلفت تأذيهم وتفضَّل نفسها عليهم، حاولت أفهمها أنها ظالمة نفسها وإن جواها حنية هى مش عارفاها ولا مقدراها، صرخت وقالت لو صح كلامك بعمل مع شيماء كده ليه؟ أنت ما تعرفش هي عندي ايه؟
انهارت شيماء باكية فربت رامي عليها باحتواء، استرسل نادر بتأثر:
- والله العظيم بعد كل مكالمة بينكم تنهار وبكاها يرج البيت، تفضل كده لحد ما تنام، كأنها بتهرب، وتاني يوم تكون عصبية بصورة كبيرة، وقتها تأكدت أنَّها لازم تتابع مع دكتور نفسي وفعلا عملت كدة، بذلت مجهود كبير عشان اقنعها، كانت تتقدم شوية وتتحسن مرة واحدة بدون مقدمات حالتها تسوء، ولما ركزت في اللي بيحصل قبل انتكاسها ولقيت السبب مكالمة والدكم؛ فمنعها الدكتور عن الاتصال به، بس هو ما سكتش كل فترة يكلمها، ساعات ترد وساعات لأ ولو صادف كنت في البيت برد أنا واعتذر له واتحمل كلامه، وقت كتب كتابك الأول كانت في دور اكتئاب شديد.
نظر لشيماء معتذرًا وبعينه الكثير من الأسف:
- عملت له بلوك على تليفونها اتصل بيا والله افتكرتك راضية، ما تخيلتش إن الموافقة اللي بلغتها لوالدك والمحامي تكون سبب اذيتك وللأسف أذيتها هي كمان.
دموعها تتساقط يؤازرها رامي يحتوي كفها بحنان، تنظر تارة له وأخرى تخفض رأسها، وطالعت نادر بإصغاء مع نهاية قوله، فسحب شهيق عميق واسترسل:
- لما عرفت اللي حصل لك حاولت تنتحر، حملت نفسها ذنب اللي حصل لك كله.
تهدجت أنفاسه ببكاء مكتوم وكأنه يراها بحالتها التي وجدها عليها:
- رجعت من المستشفي متأخر لقيتها واقعة على الأرض ايدها بتنزف وجنبها ورقة مكتوب عليها أسفة قول لشيماء تسامحني خلفت وعدي لها.
اختنق ببكاء مؤلم وتعالت أنفاس شيماء صعودًا وهبوطًا مما أقلق رامي يخشى أن يُغشى، مد لها يده بالمياه وحاوطها بذراعه، وعاد نادر يسترسل حديثه:
- لحقتها في آخر لحظة، كلمت الدكتورة المتابعة لها اللي قالت وجودك جنبها ومسامحتك لها هيفرق في حالتها، حاولت اقنعها أكلمك، رفضت قالت كفاية اللي حصلها بسببي، وفضلت أحاول اقنعها، ولما ارتبطي بدكتور رامي وعرفت أنك سعيدة وفرحك قرب حالتها تقدمت وبدأت توافق خصوصًا لما دكتور رامي دعانا للفرح، فِرْحِت لفَرحِتك والدكتورة طمنتني، بعدها نادية اترجتني توقف العلاج، وتتابع من دكتور نسا عشان تحمل ووافقتها بعد الرجوع للدكتورة، لما حبت ترجع لشغلها الدكتورة قالت ده كويس هيشغل وقت فراغها، والله ما كنتش عايزها تسافر كنت قلقان، بس كان عندي سهر كتير الفترة دي وبعيد عن البيت معظم الوقت، وافقت عشان خوفت عليها.
قصِّه لما عايشه السنوات الماضية جعله يعاصرها من جديد مع وقع حادثة نادية وما ترتب عليها جعله يشعر بإرهاق شديد وبداخله بـراكـين لوم وندم، يشعر بتقصيره معها وعدم قدرته على مساعدتها، وكأنَّه مَنْ دفعها للهاوية، اخرجته كلمات شيماء من دوامة أفكاره والتي نطقتها بصوت متهدج مجهد مِن شدة البكاء:
- ليه اتحملت لوحدك؟ ليه ما قولتليش؟ افتكرتني هشْمَت فيها، أنا مسامحاها من زمان، ما كنتش عايزة غيرها والله! كنت مستنياها.
- أبدًا والله! أكيد هتكوني طيبة زيها، هي ما بطلتش تحكي عنك، تقريبًا اعرف كل حاجة عنك، آسف والله كنت حاصر تفكيري معاها! خصوصا لما حسيت أني ممكن افقدها.
حاول رامي ادخال بعض المرح يخفف توتر الأجواء كما شعر بالغيرة من كلماته:
- مش عشان متأثر بحالتك، تقولها أعرف كل حاجة عنك، خليها في سرك طيب، يا عمي دي مراتي أنا.
طالعته شيماء بامتنان رغم حزنها.
- آسف، مش قصدي.
- أسفك مقبول المرة دي، تعالوا نشوف مدام نادية ونطمن عليها، يمكن فاقت.
صعدوا إليها وبعد قليل بدأت نادية تتململ بوهن وتأوُّه، دنت شيماء إليها تربت عليها بحنان ومواساة، فانهارت نادية باكية وانسحب رامي ونادر الذي ثبَّت عينه عليها حتى أغلق رامي الباب.
قَبَّلت شيماء رأسها وجففت دموعها، ثم جاورتها على الفراش وتقابل وجهيهما.
- ما تعيطيش يا نادية يا حبيبتي، ألف سلامة عليكِ، خوفت عليكِ قوي وكنت متأكدة إنك قوية، فاكرة جدو كان دايما يقول نادية قوية وعارفة هي عايزة إيه.
- أنا آسفة.
ازدادت دموعها غزارة بكلمات شيماء، التي اقتربت منها تجفف وجهها ببسمة رضا وسعادة لعودة أختها إليها:
- مش زعلانة والله! وكنت مستنياكِ، جدو زمان قالي نادية راجعة ومهما طال الوقت راجعة، وأنتِ عارفة جدو، نظرته عمرها ما خابت.
أومأت نادية بصمت يغـزوه الخجل.
- يعني رجعتي يا نادية ومش هتبعدي تاني؟
- مسامحاني؟
- ما زعلتش منك عشان أسامح، كنتِ واحشاني قوي ولسه واحشاني، قولي أنك مش هتبعدي تاني.
- مش هبعد أبدًا، أنا.. أنا كنت مكسوفة منك، ومش عايزة أبوظ حياتك خصوصًا لما لاقيتك فرحانة وسعيدة في جوازك.
- ارفعي راسك وبصي لي، هو شكلي وحش كده.
نظرت لها بامتنان وفاضت عينيها باشتياق وحنين وعلت وجهها ابتسامة سعيدة شاكرة، كادت شيماء تلقي نفسها بحضن نادية لولا خوفها أن تتأذى بفعلتها، سرقهما الوقت ثم انتبهتا لطول انتظار زوجيهما، كادت تتحرك لفتح الباب لولا صدوح صوت نادية:
- البيبي، نزل صح؟
احتوت كفها بين راحتيها وأومأت لها بعبرات متجمدة داخل مقلتيها:
- ذنبك يا شيماء.
- ده نصيب يا حبيبتي، وأنا والله ما فيش في قلبي ناحيتك غير الحب! أنت أختي وأمي، إن شاء الله ربنا يخلف عليكِ بالذرية الصالحة، قولي يا رب وثقي أنه هيستجيب.
- نادر عرف؟ زعلان مني؟
- نادر اترعب على اللي دخلت قلبه قعدت وربعت، خاف على حبيبته اللي مغلباه.
استمعت للإجابة من نادر الذي دلف للتو واستمع لسؤالها وجلس جوارها يقابلها يمسح على وجهها بحب، انسحبت شيماء إلى جانب رامي فحاوطها بذراعه بتملك يستمعون لكلمات نادر:
- كنت خايف عليكِ ومش عايز غيرك والله! ابننا عند ربنا، لله ما اخذ ولله ما اعطي، المهم أنت يا حبيبتي، ربنا هيعوضنا أنا واثق في كرمه وأول بنت نسميها شيماء.
- ما قولنا كل واحد يخليه في اللي يخصه، شيماء تبعي أنا بس وبعدين يا مدام نادية ما تقولي حاجة للدكتور، بغير يا ناااس، حمد الله على السلامة.
لطفه في التعامل وأسلوبه المرح الذي أضفى بسمة خجولة زينت ثغر شيماء جعلت ضميرها يرتاح وغمرتها السعادة من أجلهما فتمتمت بخفوت: «الحمد لله».
يوم عمل طويل ومرهق لم يتمنَ سوى العودة يتشوق لرؤية استقبالها له، لم يمنِ نفسه بالكثير فقط بسمة رقيقة، وبخطوته الأولى للمنزل أصيب بالعجب والصَّـدمة؛ فهي أصيبت قبله بالحيرة ولم تعلم كيف عليها استقباله! أتفعل كما رغب شهاب بالسابق؟! أتتجاهل عودته؟! لكنها لن تتأفف أو تستعيذ بالله كما كانت تفعل والدتها!! مع استمرار حيرتها وعودته وجدت نفسها بالنهاية تقف كعلم مُنكَّــس، اقترب منها يرفع وجهها بأنامله برقه لم تشعر بها فارتجفت وأطبقت شفتيها كمقلتيها بإحكام، عايش عقلها ما حدث بالماضي وانفصل عن حاضرها فهيِّئ لها كشهاب وانتظرت صفعته بارتجاف، غص قلبه بوجع ولسانه ينطق بتعجب متغاضيًا عن مرار الحنظل الي ملأ فؤاده بحالتها وارتجافها:
- مالك يا طيف؟ واقفة كدة ليه؟
نبرته الحنونة وسؤاله المهتم أعادها لواقعها؛ فأخفضت وجهها تبكي برثاء لحالهما معًا، وصلته الإجابة واضحة دون حديث فتمتم بخفوت: «آه منه حيــوان ســادي»، وكأن الحيرة معدية فأصابته مثلها، في حضرتها يتقيد بقيودها فيجز عقله ويفقد دهائه وخبرته في التعامل مع الآخرين، مشاعره بهذه اللحظة متناقضة، غاضب وثائر على شهاب ومحب حليم مع طيف مشفق عليها ما عانت، خشى إن تحدث معها بهذا التناقض تسيئ فهمه وتزداد رهــبتها منه وتهــابه؛ فاتجه لغرفتهما بصمت ظاهري ولكم الجدار لعله يحتوي ثــورته الدَّاخلية، جاب الغرفة ذهابًا وإيابًا ثم دخل المرحاض يغسل همومه ليعود اليها بذهن صافي.
حرص على الإسراع كي لا يتركها للظنون تلعب بها، وقبل أن يأخذ خطوته الأولى نحو غرفتهما كما توقع وجودها التقطت أذنيه همهمات بكاء مكتوم، أتبكي؟! أسرع للغرفة متوقع وجودها هناك الطبيعي لكل البشر -عدا طيف- لم يجدها فاتجه للصالة، كاد يتجه للغرفتين الأخيرتين لكن بمروره جار المطبخ وضح صوتها فتحركت قدماه ليتأكد مما ظنَّ وعقله يطرح التساؤلات؟ وبدلوفه ورؤية كيفية وقوفها داخله كما اعتادت زادت علامات تعجبه واستفهامه، دنى منها ووضع يده على كتفها يهم بضمها لصدره لينتشلها من حزنها ووجعها ثم يعلم سببهما، لكن أفعاله المهتمة تشابهت مع أفعال قاسي مزدرية؛ فانتفضت مرتجفة وانطلق لسانها باعتذار جعلته في حالة قصوى من الصَّدمة.
- والله يا شهاب صوتي مش هيطلع تاني، بلاش بالله عليك! والله اخر مرة!
- أنا مؤنس، آسف.
انهارت جالسة فجثا أمامها وجذبها إليه يشدد مِن ضمها، ارتفع صدى أنفاسه المتواترة، يشعر بالذنب لما أعاده لمخيلتها ويعتصر ألما لرؤيتها له كشهاب، تغاضى عن ألمه يوضح لها سبب فعله:
- ما كنتش عايزك تخافي مني، غَضَبي منه، أيه اللي دخلك هنا يا طيف؟ ليه تعملي في نفسك كدة؟ اخرجي من حدوده وتعاملي مع الدنيا بقوة، ما تحبسيش نفسك.
- مش عارفة وخايفة، لو سمع عياطي يعــاقبني ولو بكيت يزيد وجعي، هنا بس حريتي، ولو حس كان.. كان...
- انسي اللي حصل لك منه، أبدئي من جديد، أنا معاكِ اقوي بيَّا وبنفسك، ساعديني اخرجك من جُحره، اكــسري ســجنك اللي جواكِ، ابكي وخرجي وجعك، ابكي اصــرخي وقولي لأ بكل طاقتك، اكــسري قيــودك
- مش عارفة.
- حاولي مرة واتنين وعشرة حاولي لحد ما تقدري، طلعي اللي جواكِ.
تشبثت بملابسه تومئ برفض:
- مش عارفة، والله مش عارفة!
لأول مرة تجد ملاذها، لأول مرة تتذوق حنان واحتواء الزوج، لأول مرة تجد بين ذراعي زوجها ما يطيب جروحها ولا يدميها، حضن ينتشلها من مخاوفها وضعفها قبل أن يحميها من العالم، يحارب مِن اجلها ليخرجها لنور السعادة ويمنحها القوة والدَّعم.
تركها تبكي حتى اكتفت، ثم حملها برفق للفراش، ظل جانبها يمدها الأمان والحب، حتى غفت واستغرقت في النوم، جافاه النوم، وضع مرفقه أسفل رأسه وشرد مهمومًا فلا مفر مما رفض مِن قبل، يجب أن تذهب لطبيب نفسي ليساعده في شفائها من آثار هذا الشهاب الحارق، يخشى ازدياد حزنها وانزوائها عنه وعن العالم.
مرت الدقائق وتحركت ببطء لتكون ساعة أو ربما اثنان، انتبه على تململها وتحركها بغير راحة، تلاه تأوَّه طويل منها، ثم انتفضت وجحظت عينيها كمن تلقت صــدمة للتو، جلس بتعجب من حالتها ولم يستطع كتم تساؤله:
- مالك؟ في ايه؟
- ما فيش.
نطقتها بحزن كسا روحها ثُمَّ نكــست رأسها، لم يعلم ما يجب عليه فعله فجذبها إليه يبثها الطمأنينة والأمان، مرَّت لحظة صمت ثم ابتعدت بخزي وأردفت أثناء نهوضها من الفراش:
- آسفة، نمت من غير ما ناكل، ثواني ويكون الأكل جاهز.
تنهد بإرهاق، ثم عاد مستلقيًا، يحاول تجاوز غرابة أفعالها، يتعمد الجلوس قربها وكلما حاولت الابتعاد الصقها به، يغسل تعبه ويجدد طاقته؛ ليصمد يداوي جراحها ويهتم بعمله.