رواية علاقات سامة الفصل الاربعون 40 بقلم سلوى فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل الاربعون 

- مالك يا مشمش؟ سرحانة من بدري.

طالعته شاردة تغوص ببحر أفكارها وحين آثرت الصَّمت حاصرها باهتمامه حتى أعربت عمَّا يشغلها:
- نفسي أروح لجدو قوي.

ضغط على فرامل السيارة فدوى صوت احتكاك إطارها بالأسفلت ورمقها بلوم وعتاب، وقف جابن الطريق يعاتبها وقد تسلسل الوجس ممزوج بالحزن لقلبه:
- ليه يا شيماء؟ ليه؟ عايزة تسبيني! أنا حبيت الدنيا والحياة مِن يوم ما ارتبطنا، بقيتي حياتي، ليه تقولي كده؟ ليه بس؟
احتــضنت كفه بحنان وبأعين معتذرة وضَّحت: 
- أنا آسفة يا حبيبي، حقيقي آسفة بس جدو واحشني قوي، وقصدت أروح بيته أوضته تحديدًا، مش حاجة تانية.

عادت الحياة تسكنه، ابتسم بسعادة وأدار السيارة يحدّثها:
- طلباتك أوامر، يلا على بيت جدو.
- وماما!!! ممكن ما ترضاش تدخلني، آخر مرة تقريبًا طردتني.
- طول ما أنا معاكِ اوعي تقلقي سيبي طنط عليَّا.

وهناك وبقربهما من باب المنزل استمعا إلى صوت إحداهن تصرخ على أخرى؛ فنظرت إلى رامي مُتعجبة:
- مش صوت ماما.

طرقا الباب ففتحت سيدة تبدو في عقدها الثالث ولم تتعرف عليها شيماء.
- أنتِ مين؟
- استغفر الله العظيم! أنا هلاقيها مِن اللي الجوة ولا اللي بره! أنا بردو اللي مين؟ هو مين اللي خبط على التاني.
- أنا جاية لماما، أنتِ مين؟
- أخيرًا لقيت لها أهل، ادخلي يا اختي.
- أنا ساكت مِن بدري، لكن طول لسان وقلة أدب مش عايز، ردي على سؤالها، أنتِ مين؟ وبتعملى أيه هنا؟
- يا خويا لا تزعق لي ولا أزعق لك، اديني حسابي وأنا أغور،
- هاغورك بس أفهم.
- أنا اللي نصيبي وقعني في الست دي، ممرضة جيت أراعيها عشان شللها، جوزها اداني مرتب تلات شهور ومشي، أتاريه نصب عليها وخد اللي وراها واللي قدامها، مِن خيبتي افتكرت القبة تحتيها شيخ قولت استني يمكن حد من أهلها يظهر وعدَّى تلت شهور وأنتم أوِّل ناس تعبروها.
- قولت مش عايز قلة أدب، يعنى أنتِ مقيمة معاها ومهملة؛ المكان زفت وحالتها سيئة وكمان بتقلي أدبك، خمس دقايق تكوني بره.

القى بوجهها بعض النقود فأخذتها بسعادة أسرعت تلملم حاجاتها، أمَّا شيماء فمنذ دلوفها استقرت عينها الدَّامعة على والدتها وحالتها التي يرثى لها بملابسها الرَّثَّة وشعرها المبعثرة، ينبعث منها رائحة كريهة، جادت عينها بغزارة وثبتت على الكرسي المتحرك الذي يحتجزها، انفطر قلبها حزنًا مع ترجمة وضع ذراعيها واعوجاج أصابعها، فيبدو أن أطرافها الأربع خرجوا عن كامل سيطرتها، تحركت ببطء وجثت قبالتها تحدثها باعتذار وأسف:
- والله كنت فاكراكِ كويسة وحابة تفضلي بعيد، سامحيني!

تحدثت عبراتهما التي أغرقت وجهيهما ولم تبخل عينيهما عن الجود بالمزيد، لم يترك صوت والدتها زنزانته ولم يتحرر من حنجرتها، ترمش جفونها وتتحسر عينها وترجو، لم تكف شيماء عن الاعتذار رجت والدتها للعفو عن قطيعتها؛ فلم تزدها سوى بكاءً حتى خرجت الممرضة إليهم بعدما انتهت مِن جمع أغراضها وأردفت ساخرة:
- مش هترد ريحي نفسك، اتشلت وبعد فترة خِرْسِت كمان، جيبت لها دكتور ولمَّا فلوسها خلصت وقفت كل الأدوية طبعًا، مش كفاية مش بقبض هاصرف عليها كمان.

فظاظة كلماتها أخرجت رامي من تأثره، حمحم مُجليًا صوته:
- ده مِن امتى؟
- نفس الفترة اللي ما قبضتش فيها، لأ، أقل أسبوع ما أنا لو كنت أعرف أنها آخر فلوس لا كنت جبت الدكتور ولا العلاج أنا أولى.
- اطلعي بره.

وجده أفضل رد على فظاظتها فما تستحقه كلمات متدنية منحدرة ينْأ بنفسه عن لفظها، جمعت شيماء أغراض والدتها وبدَّلت ملابسها بعدما اهتمت بنظافتها وطيبتها ولم تجف عبراتهما، حاولت إضفاء بسمة على وجهها، اعادتها على الكرسي هندمت حجابها، ثم جثت أمامها:
- بقيتي قمر يا سوسو، رامي طيب قوي هتحبيه، ما تزعليش مني!

جعدت والدتها معالمها برجاء وكأنها تطلب الصَّفْح: 
- مش زعلانة خلاص والله!

اخفضت والدتها رأسها نادمة، اردفت شيماء تشق على وجهها بسمة مغــتصبة تناقض نبرتها الباكية تحاول تخفيف حزنهما بإضفاء المرح بكلماتها:
- لا يا سوسو، ارفعي راسك. 

رفعت رأسها ترمقها باعتذار فضمتها شيماء باشتياق ونهضت تدفع الكرسي لتخرجا من الغرفة، وواصلت دعاباتها:
- أنا عندي كلام ورغي مِن هنا لنهاية العمر، وحشتيني قوي.

بخطًى وئيدة دلفت إلى غرفة جدها دافعة أمامها كرسي والدتها وضعته أمام الباب وجالت بعينها تحتضن أرجاء الغرفة، هنا نعمت بالدفء والتدليل، رغم انقلاب البيت رأسًا على عقب إلَّا أن الغرفة لم تتأثر كما لو كان هناك حارسًا يحميها، تنفَّست بعمق وكأن عبق جدها لا زال منتشرًا بالأرجاء، أخرجته ببطء مغمضة العين، تغلغلت داخلها راحة نفسية وتوغلت، اتجهت للفراش تتحس موضوع جلوس الجد، ابتسمت باشتياق، ثم التفت والتقطت مسبحته، حدثته كما لو كان يسمعها:
- عارف يا جدو، نادية وفت بوعدها ورجعت، وأنا كمان هسمع كلامك ودي أوِّل خطوة، ولو هو كمان احتاجني هيلاقيني ووَعد أسأل عليه بانتظام، وحشتني قوي أنتَ ساكن هنا يا جدو أنت هنا.

رافقت جملتها الأخيرة بالإشارة لقلبها كما اعتادا بالسابق، تابعتها سهام بحسرة، فوالدها أوصى حفيدته بها وببرها لها، لم ينساها أو يغــضب عليها رغم إساءتها له، بكت بأسف على كل أفعالها معه بنهاية عمره، اعترفت الآن أنها تجبَّرت عليه بنفس الوقت الذي أوصى ابنتها عليها.

انتبهتا على طرقات رامي الخافتة، ثم دخوله استقبلته شيماء ببسمة تستمع لكلماته:
- معلش يا مشمش لازم نتحرك، عندي عملية بدري.
- آسفة يا حبيبي، نسيت.
- مين لقى أحبابه يا سيتي، المهم خلصتي .

أومأت مبتسمة فمسد على رأسها بحنان وضمها إليه، ابتهجت سهام من أجلها فابنتها وجدت ما فقدته وجعلها تتخبَّط لأعوام وتمنت لها حياة سعيدة، راجية أن تكون نادية أيضًا تحيا بسعادة.

خيَّم على شهاب وريڤال هدوء شديد، أوقات هادئة حد الغرابة لا يعترض ولا يسأل عن تأخرها ممَّا أثار ريبتها، لم تعتَد عليه بهذا الهدوء، حدسها يخبرها بأنه يرتب لأمر ما حاولت استنتاجه دون فائدة، أعربت لأبو عبد الله عن ظنونها فاستهان به وظن أنه ارتدع خوفًا لما ألمَّ به؛ فظلت تتابعه بترقب لا يسعها سواه.

وبأرض الوطن جلس حسن يفكر بأمر أخته، تملكته الحيرة وتمنى وجود والده جواره ليرشده للتصرف السليم، قرأت زوجته حيرته جلية فدعت الله مبتهلة بزوال الغمة، أمَّا سعاد فأشفقت عليه نادمة وغَـزاها الخزي، أقبلت نحوه بثقل مُنكــسر تمطر مقلتيها ببزخ لربَّما غسلت ذنبها وطهَّرت روحها فاستقبلها باسمًا فتح ذراعيه بدعوة صريحة للاقتراب؛ فارتمت داخل صدره تبكي وتعتذر، فحاول طمأنتها بكلماته ونبرته الحنونة:
- مش قادر أقول حصل خير، لكن إن شاء الله هيحصل خير، اطمني يا حبيبتي أنا معاكِ. 

أبعدها بلطف ناظرًا إليها ببسمة تخفي خلفها خوفه وقلقه:
- أنا ونيرة راجعين الشغل بكرة، عايز أكون مطمن عليكِ يا حبيبتي، مش عايز أي تفكير سلبي، عشان خاطري ده لو ليا خاطر عندك.
- ليك والله يا حسن، ليك يا أخويا خاطر وكبير قوي.

سبقت جملتها بالتحصن بصدره والالتحاف بذراعيه فلمست قلبه وادمعت عيناه "أخويا" كلمة ارجفت مشاعره كقلبه وخرجت صادقة دون زيف، ربت على ظهرها بحب وشدد من عناقها، أقبلت عليهما نيرة والدموع تتراقص بمقلتيها تأثرًا وتحدثت بمرح:
- يلا العشا جاهز، النهارده النوم بدري مفيش سهر وده قرار جمهوري.
- تمام يا فندم.

سبق ردهما نهوضهما ونطقاها مصاحبة للتحية العسكرية، وانطلقت بعدها ضحكة سعاد الممتزجة بدموعها، ضحكة صادقة نابعة من القلب، تشعر بالانتماء لهما ممتنة لكل ما يفعلاه مِن أجلها، لا يدخرا جهدهما مِن أجل اسعادها وبثها الأمان والاحتواء اللذان افتقدتهما.

اهتدى حسن لمَنْ يلجأ له طالبًا النُّصح ولم يُهْدِر المزيد مِن الوقت فتوجه له بعد انتهاء دوامه، بالقسم طلب مقابلة نفس الضابط ياسين، دلف إليه يذكره بنفسه.
- فاكرك، حالتك مختلفة، معظم اللي جولى زيك كانوا مقطعين بعض، لكن أنت كنت خايف على أختك بجد.
- أنا جاي لحضرتك في موضوع حساس وعايز مساعدتك.

أمعن النظر به ثُمَّ اتكأ بظهره على الكرسي وأجابه:
- قول، سامعك.

قص له مشكلة سعاد محتفظًا لنفسه بكل التفاصيل التي تسيء لها، فشك الضابط بنوايا حسن ربما يريد استغلاله فتساءل بهدوء:
- مشكلة فعلًا، لكن أنا دخلي إيه؟
- مش عايز تدخل مِن حضرتك، مش محتاج غير نصيحة بالتصرف السليم.. ازاي نقطع الورقتين واخليه يرمي اليمين عليها بدون شوشرة، أي كلام هيأثر عليها وعلى مستقبلها.
- قولي كل التفاصيل عنه اللي تعرفها عنه.

أنهى سرد كل يعلمه والضابط ياسين يستمع ويصغي بإنصات، ثُمَّ أردف بعدها:
- بص يا حسن عندك حلين، واحد منهم ممكن أساعدك فيه بشكل رسمي، وواحد ممكن تقوم به لوحدك.
- المهم يكون بعيد عن الشوشرة، عشانها والله.

ابتسم الضابط ياسين بود:
- بعيد عن الشوشرة ولو اخترت تدخلي بشكل رسمي أوعدك الموضوع يتم بكتمان، الشخص ده طماع وعارف أنك كنت مسافر فاحنا نلعب على الوتر ده، تكلمه وتفهمه أنها قعدت معاك عشان تجهز المبلغ وأنها جمعته من غير ما تعرفك، كمان تحدد له يوم يجي بالورق العرفي وتفهمه بردو إنها لوحدها، واحد زيه هيجي من غير الورق يعاين شقتك، ووارد يحاول يسرقك أو يعتدي عليها عشان يبتزكم، وده كمين مع إذن بالتسجيل عشان نثبت الواقعة ويبقى حظنا حلو لو حاول يغتصبها.

انتفض حسن واقفًا وعلامات الرَّفض تغــزوا وجهه فتحدث الضابط: 
- اهدي.. احنا هنخرج عليهم بالوقت المناسب، كده قدامه خيارين.. إمَّا يطلع ورق العرفي ويقول مراتي، يا إما قضية إغـتـصاب.
- الحل فعلًا جذري، لكن خايف على سعاد، اللي مرت به الفترة اللي فاتت صعب وكتير والتجربة دي صعبة قوي عليها.
- ده نتيجة خطأها فلازم تتحمل العواقب وهيكون درس العمر استفادته أكبر بكتير مِن وجعه، ممكن اجي معاك افهمها لو حابب.
- أكون شاكر لحضرتك.
- ممكن نتحرك دلوقت.

استقبلته سعاد ببسمة مرحة زالت برؤية الضابط يرافقه، طالعتهما بذعر ثم غابت عن الدنيا، هـلع حسن خوفًا حملها وحاول إفاقتها حتى استردت وعيها باكية، ضمها حتى هدأت ثم شرح لها الضابط أهمية ما ستفعله وأنَّه الحل الأمثل سيجنبها أي تبعات أو عواقب سيئة شجعها حسن على القبول وأكد لها مرارًا استحالة تخليه عنها.

بموافقتها بدأوا تنفيذ الخطة، قدم حسن بلاغ وحرص الضابط على سريته، ذهب حسن إلى سامر ووجده بحالة يرثى لها والبيت خالي مِن سواه؛ فأيقن سفر والدته، جمع أغراض سعاد وهاتفها وبعودته طلب منها الاتصال بزوجها المزعوم، ظل يردد على مسامعها كثيرًا ضرورة ما طلبه وكأنه يعتذر لما سيضعها فيه مضطرًّا:
- والله يا حبيبتي غصب عني، ده أفضل حل إثبات في محضر رسمي أنه جوزك ويتوثَّق الطلاق، يعني الموضوع ينتهي بدون أي ديل ويتقفل بشكل نهائي.
- ولو ما رضيش يطلق يا حسن، أنا خايفة.
- عاملين حسابنا ما تخافيش، اللي زيه دايما ضعيف، ثقي فيا يا سعاد، ممكن؟!

حاولت ادعاء القوة ونمت على وجهها بسمة مهزوزة، اغمضت عينها تستجمع قواها ثم اتصلت به وتمت المكالمة كما رغبوا، لم يهتم زميلها وزوجها المفترض لاهتزاز صوتها فهي سمتها بكل مرة تهاتفه بها خشية مِن سامر، باليوم الموعود استعدت بأبهى حُلَّة ملابسها رقيقة ومحتشمة، عجــزت عن السيطرة على ارتعاش مفاصلها، حرص حسن على تهدئتها وبثها الأمان مؤكدًا على عدم سماحه بأذيتها لأي سبب، تحت نظرات الضابط ياسين المتابع لحالتهما تتأرجح أحاسيسه بين الإعجاب بالرابط بينهما وبين النقم لفعلها وبين الإشفاق عليهما.

وصل الزوج المزعوم وما أن استقبلته اتسعت مقلتيه بدهشة:
- أيه ده! ما أنت حلوة وبتعرفي تلبسي أمال ليه القرف اللي كنت بتيجي به مقفل وبنطلون، مش مهم أنتِ قمر النهاردة.

زادتها كلماته ارتجاف فوق ارتعاشها وخزي مما فعلت، وبالكاد حركت يدها لتغلق باب الكمين ترجو الله فك كربها.
- جبت العقد؟
- حضرتي أنتِ الفلوس؟
- ما عرفتش اجيب فلوس جبت ده.
- ماشي يمشي بردو.
 
أخرجت من جيب ثوبها قطعة ذهبية ثمينة خاصة بنيرة، أخذها منها وتأكد من كونها غير مقلدة ثم وضعها بجيب بنطاله، تقدم خطوة للأمام يلتف برأسه يعاين المكان. 
- أيه ده! هات العقد.
- عقد أيه مش فاهم.
- حرام عليك خليني أقطع الورقتين ونخلص.
- ونخلص ليه؟! ما تقربي وأنتِ حلوة قوي النهارده.
- ما تقربش مني! هصوت وألِمْ عليك الجيران.
- يا ريت ويا سلام لو أخوكِ يجي، ألَّا هو همجي زي اسم النبي حارسه.

وقف حسن والضابط يراقبا ما يحدث اندفعت الدماء بعروق حسن وهم بالخروج وتهشيم عظام الآخر؛ فمنعه الضَّابط وحاول تهدئته حتى اللحظة الحاسمة، لكنه فقد السيطرة عليه كليًا مع هجوم الزوج المزعوم على سعاد وتمزيق صدر ثوبها ودفعها على الاريكية يعتليها، وقبل أن تتم صرختها الأولى لتستنجد بحسن كانت يده تبعده عنها ويكيل له العديد من اللَّكمات، بالكاد تمكن الضابط والعساكر من فصله عنه ليلقوا القبض عليه.
وبالقسم حُصِر من جميع الجهات؛ قضية اغتصاب وسرقة أو اعتراف بالزواج وسرقة، والدليل بجيبه وعليه بصماته، قايضه حسن الاعتراف بالزواج والطلاق مع توثيقهما بالمحضر مقابل التنازل عن السَّرقةِ؛ فلم يجد بدًّا عن الاعتراف بالزواج وإظهار العقد، استرد حسن مصاغ نيرة ومن حظهم الحسن وسوء حظ الأخر أن ضبطوا بحوزته بعض قطع الحشيش.

عاشت فترة ازدهار، أحاطها مؤنس بالحب والحنان الجارف، كما تحمل كل أفعالها داهم حصونها وأغدقها بمشاعره، بعثرها، كلما جلسا لمشاهدة التلفاز يضمها إليه باحتواء، يداعب خصلاتها متوسطة الطول، يقبل وجنتها بحنان يهمس بشكر جانب أذنها وأكثر ما أحب هو العناق الملتحم الذي يختم به اليوم مطلقًا العنان ليده لتتحدث وتقص عليها تعاويذ غرامه، تخبرها بشوقه للارتواء من قربها ونهل حبها لتشفى روحه وتحلق بسماء الوَلَه.

أسبوع واحد استطاع خلاله تحريك ركض مشاعرها، جعلها تقرر إعطائه فرصة وإن تأذت ستعاني من أجله وتتحمَّل لو مرة واحدة، بهذا اليوم وبعد عناق طويل ألْهـَب شوقه وأشعــله، سبقته طيف للغرفة وبدلت ملابسها إلى أخرى كاشفة تتحدث عنها وتخبره بموافقتها فمِن المستحيل أن يلفظ لسانها بها، أسرعت تختبئ تحت الغطاء وعقلها يلومها ويؤنبها، صراع لم يدُم طويلًا، كادت تحسمه بالعدول وتبْدِيل ملابسها لولا دخوله. 

هربت منه بعد عناق مُشتاق حتى ظنَّها طيف من نسيج خياله، استنشق بعمق يشعر بحيرة لا تلازمه سوى معها فتجعله عاجزًا عن تحليل مكنونها، يتمنى بين كل لحظة وأخرى أن يعود لها شعورها به تبحث عنه قبل رؤياه؛ ليحلقا بسماء السَّعادة، عاد يبتسم ويمحو من رأسه جميع الأفكار السَّلبية فهي معه حتى نهاية العمر وإن ضاع الماضي فسيصنعان معًا مستقبل مزدهر، شق على وجهه بسمة صغيرة ودلف إليها؛ التحمت نظراتهما لثوانٍ، نظرات مندهشة تتزايد بهجتها مقابل أخرى مُحْرَجة تكاد تذُوب خجلًا.
لو كانا بحالة مغايرة لوقف يتأمل طلتها الأخاذة بثوبها الناعم الرقيق، وقفتها وارتباكها مع احمرار وجهها جعلوها بناظريه عروس بكر بليلتها الأولى، حرر نفسه مِن أسْــر طلتها مرغمًا، أغلق الإنارة مكتفيًا بضوء خافت، تقدم إليها جفف عبرة محرجة تدحرجت على وجنتها ثُمَّ ضمها بحنان هامسًا جانب أذنها برقةٍ أذابتها:
- ما تخافيش يا طيف، حضني دايمًا سكن لك يحميكِ حتى مني.

وهل بعد كلماته تخشى قربه أســرها ببساطتها وعظم قوله؛ فطاوعته مطمئنة، برفق أجلسها على الفراش ودثر حياءها بالغطاء ثم أدخلها بعالم جديد لم تجرب دفأه إلا معه، عالم وردي يعج بكل الاحاسيس المنعشة والحنونة، غمرها بعاطفته وخط بأفعاله قواعد الحب. 

رغم جمال ورعة ما عاشاه إلَّا أن ذكريات الماضي عكَّرت صفوه، أندفع خارج الغرفة ولحاجته للهواء جلس بالشرفة وعلى غير عادته أشعل سيجارة ينفث فيها سعير ذكريات ملوثة بكلمات زوجته السابقة ســارة، يعاد على مسمع عقله تذمُّرها بعد كل لقاء حميمي بينهما: «أنا مش فاهمة امتي تتعامل معايا زي الناس الطبيعيَّة، قولت لك مية مرة أنا مش بنت ليل أنا بنت لوا، همجيتك دي مش مقبولة، تعامل بلطف، احمرار جسمي بعد كل مرة حاجة تقرف، اتعالج يا أخي».

زعزعت ثقته بنفسه وشكَّكَته بها حتى أنه لم يصدق الطبيب النفسي الذي أكد له سلامته من ادعائها، فلبعض الكلمات أثرًا لا يندمل وتركت خلفها جرحًا لا يندمل ويزداد بكل مرة يقربها، ولم يسلم من اتهاماتها فبالبعد تتهمه بالهجر ظالمًا؛ فيعود وتعود، حتى أصبح جرحه عميقًا، لا شفاء له ولا دواء، إنذار دوى بعقله عقب ذكراه السَّــامة، أتراه طيف مثلها عنيف وهمجي؟! سيموت إن ساوته بشهاب، هل ستبتعد؟! أتحتقره الآن؟! هل أثبت لها أن كل الرجال بشعون؟ القــهر هو أقل ما يشعر به الآن، دوامة صراع وأفكار سوداء التهمته وقطع سيلها صوتها الخجول.

بعد لقاء رقيق شغوف حلَّقت فيه ومؤنس بسماء الحب كساها الخجل وغمرتها النشوة، رحيمًا كعادته معها تذوقت الحنان وتجرعته على مَهْل، وبطول غيابه استنبطت أنه خرج مندفعًا ربما فعلت ما أزعجه دون شعور! هل آذته مجددًا؟ لم تحسب ردود أفعالها حرَّكتها مشاعرها ووجهتها، حاولت تذكُّر ما فعلا لتعلم ما أذاه، فعاد الخجل يغمرها من جديد؛ فتحركت تبحث عنه بعدما أخفت جَسَــدها بروب طويل، وقفت أمام الشُّرفة تردف اسمه بدلال خجول دون أن تنتبه ولولا سمــوم ذكراه لذاب من وقع نغمتها:
- مؤنس.
- كده يا طيف تقفي كده بردو.

 أطفأ سيجارته وأسرع للداخل يغلق باب الشرفة يحكم غلق الستار ورغم نبرته المؤنِّبة ابتسمت بخجل:
-  الستارة مقفولة والنور كمان. 
- ولو يا طيف لو سمحتي خدي بالك بعد كده، كنت عايزة حاجة.

يبدو أنه سيواجه مخاوفه الآن، أغمض عينيه مستسلمًا وأنتظر سيف كلماتها يصدر حكمه، لكن طال الصَّمت ليجــبره على تحرير ناظريه لرؤية توترها وفرك أصابعها حتى كادت تذيبها، فسر حالتها كما صور له تفكيره؛ فقرر القصاص لها مِن نفسه بمصارحتها بما لن تقوى هي على قوله:
- مش محتاجة، تتوتري كده، أنا عارفة إن أسلوبي عنيف وأذيتك آسف لأني خلفت وعدي لك و...
- عنيف!!!

صدمتها مما لفظ جلية صمتت للحظة تستوعب ما اتهم نفسه به، ثم انتابتها نوبة ضحك هيستيري، حولته من التأنيب وجَـلد الذَّات للذهول القلق، وسريعًا اردفت معتذرة وتحولت نبوتها لأخرى مناقضة بكاء بلا توقف واختنق صوتها داخل حنجرتها:
- آسفة.. العُـنف، أنت أبعد حاجة عنه، أقولك يعني أيه عُنــف، يعني جسمي يحــترق تحت ايده، أني أترجاه يرحمني، إن الضّـرب يكون شيء أساسي، أنه يمنعني حتى اتوجع، إني ما اقدرش اتحرك من كتر الألم، العُـ...

إن اُتِّهم بالسَّـادية أهون مئات المرات مما سمع، أسرع إليها يضمها باحتواء يمنعها عن مواصلة سردها وانطلق لسانه بأسف على ما لم يفعل، يحاول تخفيف وتهوين ألمها فوصلتها مشاعره بوضوح، هو منقذها وأمانها حتى من ذكراها:
- آسف، آسف على كل وجع وألم عشتيه، حقيقي آسف.
- ما حستش اني إنسانة غير معاك.
- يعني ما اتضاقتيش مني، ما نفرتيش مني يا طيف.

من فرط خجلها انعقد لسانها فأومأت نافية تتشبث بملاسه تخفي وجهها داخل صدره، فعاد يسأل يثبت لنفسه شفائه من مرض لم يوصم به: 
- ما تضايقتيش من قربي.

كررت فعلها نافية، ولما وصلها مدى قلقه جاهدت لتخرج الكلمات التي تطمئنه وتزيد خجلها:
- كنت بخاف قبل كده، كان عِـقَـاب، لكن.. لكن معاك كان مختلف، حسيت بإحساس مختلف وجميل.. حبيت.. قُـ.. قُربك

لأول مرة يكون معها أنانيًا فكلماتها داوت جرح عميق عمره سنوات، سرت رجفة خفيفة ببَـدنها وصلته فشدد من ضمها يحتويها فشددت قبضتها على ملابسه تحكم إخفاء وجهها داخله، كاد يدخلها بين ضلعه، قبَّل رأسها، فأطربه ما سمع منها:
- الوحيد اللي عاملتني كإنسانة، تحملتني ولسه بتتحمل عشاني، عِشت حنان وحب ما شوفتوش حتى من بابا.

أيام تلاحقت وشكَّلت بضع أسابيع اتسمت بالهدوء الحاد، حتى تأكد لريفال وصديقها من انبطاح شهاب وصِغَره أمامهما؛ فلم يعدا يهتما به وبأفعاله، عادت حلا مِن المدرسة، تذاكر دروسها وبعد العشاء أخبرت والدها بإعلان المدرسة عن رحلة سفاري ومعسكر لاستكشاف بعد تضاريس البلد وجمالها، ابتسم شهاب وشرد لثوانٍ ثم سألها:
- أنتِ عارفة إني مش بوافق على البيات بره البيت يا حلا.

سكنت خيبة الرجاء وجهها واخفضته باستسلام استنكره:
- أنا عارف من وقت ما جينا هنا وأنتِ تقريبًا مش بتخرجي غير للضرورة عشان كده هروح المدرسة أسال على كل التفاصيل والفترة اللي هتقضوها في المعسكر ولو لقيت الرحلة آمنة أدفع لك الاشتراك تمام. 

انير وجهها وارتمت بين ذراعيه بسعادة تزورها على استحياء من حين إلى أخر، ثم اتجهت لجدران غرفتها تحيطها بجليدها من جديد، التف إلى زوجته التي تعبث بالهاتف غير عابئة بما يدور حولها يشركها بما يفكر:
- أيه رأيك؟
- في أيه؟ تقصد المعسكر، عادي جدًا أنت اللي بتكبر المواضيع خليها تستكشف البلد بدل ما هي طول الوقت بتكلم نفسها.
- طاب ما تكلميها أنتِ ولا مشغولة بحاجة تانية أو حد تاني؟!
- أنا مش فاضية، هي بنتك أنتَ ومسؤوليتك أنت، وبعدين تقصد أيه بحد تاني؟ أنا ما أسمحلكش.
- أنا الحد التاني اللي المفروض تهتمي به يا ريفال، ولا عقلك وداكِ لفين؟!

توقن خبث تلميحه كعادته، لكنها تجاهلت حتى الرد أخذت الهاتف وتحركت لغرفتها. 

 اطمأنَّ على إجراءات السلامة للرحلة وأعد لها كل ما ستحتاجه لمدة أسبوع وهي مدة المعسكر، وقبل يومين من موعد السفر داهم ريفال شعور بالإعياء إرهاق شديد، قيئ، هزلان وألم بالمعدة وبحضور الطبيب أوصى بالراحة مشَخِّصًا حالتها بنزلة برد شديد، وبطلب من شهاب وحسب قواعد الإجازات حصلت على راحة لمدة أسبوع كامل.

كل ما شغلها أن إجازتها ستزيد شوق أبو عبد الله لها وتتدلل عليه كما يحلو لها، هاتفته تخبره بما أَلَمَّ بها فأوصاها بالراحة والاهتمام بصحتها وسيتحمل هو جَمْـر أشواقه ولهـيب قلبه، أخبرها أن ترسل توصية الطبيب للعمل وهو سيتكفل بالإجراءات وطالبها بالراحة وإن طالت إجازتها عمَّا مُنِحَت. 

بدأ المعسكر وخلا البيت سوى من شهاب وريفال، فقد منح الخادمة إجازة مُمَاثلة لغياب حلا، عاد للمنزل مبكرًا بعدما أُذن له بالسماح لنصف وقت الدَّوام، جلس بأريحية شديدة مسندًا مرفقيه على ذراعي كرسيه الوثير، نمت على وجهه بسمة ماكرة، عاد بذاكرته ليوم تعب ريڤال حيث وضع لها بمشروبها دواء طبي يظهر تلك الأعراض وواظب على وضعه حتى مساء الأمس وهي الآن بأحسن حال، يعلم باتصالها بأحدهم، ود أن يبدو تغيبها طبيعي ليستطيع الثأر لما فعلت به، وها هو أتي وقت الحساب، تحرك بخطوات واثقة سعيدة للأعلى فوجدها مستيقظ، بيدها الهاتف وقد اعلنت على حسابها الشخصي بمواقع التواصل مرضها وملازمتها للفراش ونيتها لغلق حسابها مؤقتًا حتى تمام شفائها، ابتسم داخليًا لو ودت مساعدته لما فعلت أكثر من هذا، بابتسامة مُزيفة جذب الهاتف ولوح التاب، لم يترك بين يديها أي وسيلة تواصل، صاحب فعله بآخر كلماته المعسولة:
- مفيش فايدة الموبيل والتاب يخلوا الصداع يزيد.

طالعته بتفرس وكأنها انتبهت الآن فقط للطف أفعاله المبالغ به، تود لو تستطيع الدُّخول إلى خفايا عقله لتعرف فيما يفكر، حافظ على رسم بسمة بشوشة مُتقنة والتف عنها يبدل ملابسه، وهي تتابع حركاته.
- الناني فين؟ بضرب الجرس ومش بترد، عطشانة جدًا.
- إجازة يا حبيبتي.
- ليه؟

اقترب منها وقد تبدلت بسمته البشوشة لأخرى خبيثة ماكرة، ومع تبدله دب بعض الخوف بقلبها أخفته سريعًا تطمئن نفسها بأنها الأقوى رغم نحافة جسدها وقصر هامتها اللذان يجعلاها جانبه كعصفور صغير، لم تكد تنهي عقد مقارنة بينهما إلا وشعرت بشعرها مجموع داخل كفه، جذبه بعُـنف كاد يقتلعه ثم أعرب عمَّا كتمه داخله الأسابيع الماضية:
- أنتِ فاكرة إني ممكن أوطي لواحدة زيك، أنا قولت أنك فرسة جامحة، يعني حيــوانة وأنا هاروضك يا ريڤال.

لم يعطيها فرصة لاستيعاب قوله أو الرد سحبها من خصلاتها المجموعة بقبضته؛ فتعلقت بكفه وتبعته مضطرة، ولسرعته التي فاقت خطواتها المُتَعَسِّرة وقعت وما زلت تتشبث بيده محاولة واهية لمنع اقتلاع خصلات شعرها أو تقليل الألم، تعمد التحرك بسرعة فسحلها خلفه تاركًا جسدها يتلقى الكدمات والرُّضوض، أمعن بسحل جســدها من قلب المجلس بالدور العلوي مرورًا بدرجات السُّلَّم وحتى غرفة البدروم. 
اعتادت ارتداء ملابسها خفيفة قصيرة وكاشفة داخل المنزل بلوزة رياضية ضيقة تشبه حمالات الصَّدر القطنية وجونلَّة قطنية قصيرة؛ فطال بَــدنها الكثير من القُرح الدَّاميَّة وبدت كعلامات حروق، تصرخ عليه تسبه وتتوعده ولم يتوقف كإنسان ألي أصم ينفذ التعليمات، وبدلوف غرفة البدروم دفع رأسها بقوة فارتطمت بالأرض مخلِّفة أثرها صُداع قوي.

جعل الغرفة سجــنها، أغلق الباب وأحكمه بمفتاحه ثم وضعه بجيبه، تحرك ببطء نحوها ثم مال عليها محدقًا وعلى حين غِرة صفــعها مرات متتالية، فردت عليه بوابل من السُباب وأحطها، لم تكد تتلقى الأولى فيحط على وجهها بالتالية مرة تلو الأخرى حتى ذهبت قوتها ونفذ مخزون سبابها، وبقى لها قلت الحيلة والضعف، تألم وجهها وتأذى فبكت مرغمة حينها فقط توقف وتركها تتأكد أنها أصبحت داخل عريــنه ولا مغيث منه، ولأنها ريڤال النَّاقمة على القواعد والمُتَـمَرِدة استجمعت شتاتها سريعًا، جالت بعينها الغرفة فجحظت مقلتيها وعقلها ترجم أنه طوال الأسابيع الماضية ينصب لها الفخ ويصنع أدواته بداخل هذا السِّجن، استخدام الخشب فقط، نجارة كما زعم، غلف بعضها ببعض الإسفنج والأقمشة، صنع أدوات بدائية ليعــذبها؛ لذا طال مكوثه هنا واستنـزف ساعات طوال، بل أيام إجازته جميعها، أعد لها عُدَتِه.

انتبهت من شرودها على عصًى خشبية مرنة تحط على ظهرها؛ فالتفت له بمشاعر متناقضة ألم خوف ووعيد، زحفت للخلف فابتسم وتحدث باستفزاز أثار حنقها كاد يلقيها للجنون:
- بتلسع؟ جربتي الخــرزانة قبل كدة! امم ما اعتقدش يا ريڤال لو كنت جربتيها كنت اتربيتي، وانتِ يا حبيبتي ما تعرفيش يعني إيه تربية، على العموم أنا موجود.

غل واضح بنظراتها، واحتقان وجهها خير دليل، مع تصارع أنفاسها، ابتسم لها بثقة، وأكمل 
- في الأوضة دي هتتعاملي وتعيش زي الفـَرَسة بكل تفاصيلها، وأنا الفارس لجامك بأيدي، فأول حاجة نشيل الزيادات وبعدين تدخلي الاختبار عشان نعرف إذا كنتِ فرس عربي أصيل ولا هجين.
- بتحلم، وربنا لأطلع كل اللي عملته عليك.

قابل تهديدها ببسمة هادئة بدت لوهلة رزينة ثم ارتسمت القتامة على معالمه:
- هنا هتعيشي خمس أيام تتروضي فيهم، ما اعتقدش هتعرفي توصلي لحد قبل ما أعيد تربيتك، أخر يومين ترجعي أوضتنا، وتكملي باقي واجبك بردو، أول هدوم تلمسك بعد أسبوع كامل من النهاردة، اعتبري نفسك في زنزانة وأنا السَّجَّان والجــلاد والمُدرب والمـالك.

برزت عروقه ونفرت رفع يده بالعصا وحطَّت عليها عدة مرات حاولت مقاومة الألم وعدم الصِـرَاخ وفشلت تتلوي أسفل عصاه وتصرخ، لا يرحم، لا يمنحها الوقت لتتنفس، بدأ حفلة أخذ الثَّأر بقتامة وقسوة.
- الحصان لما يحرن على صاحبه يجوعه ويعطشه وبعدين يقدم له الأكل والشرب مكافأة لما تسمع الكلام، ويبدأ يتدرب بالكـربــاج ومع كل لسعة الفَرَس يبقي مطيع أكتر أتمنى أسبوع يكفي.

بدأ معزوفته قاصدا منطقه بعينها، وهي تتلوي من الألم تبكي كما لم تفعل من قبل، بالكاد تمسك نفسها عن الرجاء، تفنن فيما يفعل، اذاقها الهــوان قبل العــذاب ولم تزدد سوى سخطٍ ووعيد احتفظت بهما لنفسها، وبعد انتهائه وضع ثِقل بأحد قدميها ونظر لها محتقرًا، فبصقت بأثره عقب غلق الباب عليها وطالعت المكان بغَضَب، اجتهدت لتستقيم، لا مكان للنوم ويوجد دلو صغير أطلقت سبَّة بذيئة مع تخمين سبب وجوده، توعدته بالكثير والكثير حالما تخرج من هنا، سبت نفسها سُباب لاذع؛ فقد أخبرت أبو عبد الله وكتبت على حساباتها الشخصية أنها لا تريد إي إزعاج، لما بالغت؟! أرادت أثارت شوقه وهي مَن تجلس على الأشواك، يؤلمها كامل جَسَــدها، عوملت كأســيرة بســجن أبو غريب، ضربت الأرض بغَضَب وصرخت بكامل صوتها.

أما هو فشعر بانتشاء شديد، ها هو يقتص منها، أظنته سيخضع لها؟!! فها هي بين قبضته يفعل بها ما يحلو له، فمَن سينقذها الآن، صعد لغرفته واستلقى على الفراش وبانتصار حدَّث نفسه بصوت مسموع: 
- أول خطوة في الحساب لسه التقيل ورا.

انتظر بصبر اضناه حتى تجاوزت سعاد محنتها، لكنه لن يستطيع تحمل مرار الصبر لوقت أطول، يلازمه هاجس حلول كرب شديد لوالده، فهو لن يتخلى عنه وعن صغيرته، لن يبتعد إلا لوجود أمر جلل، فقرر سؤال سعاد، خرج إليها وكانت تتحدث مع نيرة فجاورها باسمًا بتوتر:
- سعاد، من بدري في حاجة عايز أعرفها انتظرت تهدي وتتحل مشكلتك وأعتقد جه وقت السؤال.

اخفضت رأسها تعلم عما سيسأل.
- عارفة اللي عايزه، صح؟

أومأت مؤيد.
- طاب قولي هموت من القلق، اختفاء بابا كل ده مش طبيعي الأول كنت فاكره زعلان مني، لكن دلوقتي ومع كل اللي حصل الفترة اللي فاتت متأكد إن في كارثة، قولي يا سعاد من غير خوف.
- بابا تعبان ومش بس كده الموضوع وانا ما اعرف ش كله، هقولك اللي أعرفه، بعد ما رجع اتخانق مع ماما خناقة كبيرة بسبب اللي سامر عمله معاك وأنه خسَّرك شغلك، كانوا هيطلقوا، ماما تطاولت عليه وواجهته بإدمان سامر، اتهمته بفشله كأب وانه بيرمي عليها غلطه، ما تحملش ووقع من طوله وفضل كتير في المستشفى، جاله شلل نصفي ولما عرف حالته النفسية تراجعت وفقد النطق.

جحظت من شدة صدمته، جاب المجلس ذهابًا وإيابًا، لا يتصور بؤس ما تعرض والده له، ومع كلماتها الأخيرة هبط على أقرب كرسي فاقد كل قواه يأكله القلق، استرسلت تخبره بما لم يخطر على باله أن يمر به والده يومًا:

- شغل بابا أنهى تعاقده وصرف مستحقاته المالية، كان لازم يروح بنفسه لتفاصيل خاصة بالشغل، ماما شافت أنها انتصرت عليه وما اهتمتش تروح معاه، ما توقعتش المفاجأة اللي بابا صدمها بها وزلزلت كيانها.

وكأنه فقد النطق يسمع فيصدم ويتألم بصمت.
- بابا نقل كل حاجة باسمك وقبل ما تسأل إزاي؟ فمن ضمن الأوراق اللي بابا مضاك عليها توكيل يخليه يتصرف بحرية سواء فتح أو قفل حسابات البنوك وبه فتح لك حساب عنده بسهولة، وفي مرة حصلت خناقة بينهم لأنه حط لك مبلغ كبير فيه وقال أنه حقك لأنك بعيد ومش بيصرف عليك زينا، المهم ماما حاولت ترجع الفلوس؛ فاتصدمت تاني لأنه لغى التوكيل واستحالة تقدر ترجع الفلوس بدون علمك وموافقتك.

حلَّ عليهم الصَّمت وأطبق، تلبَّست الصَّدمة كل مِن حسن ونيِّرة لم يتخيلا كم الحقد والغل السَّاكن بقلب زوجة والده، عجز عقله عنذ استيعاب كم الأحداث والصدمات التي تعرض لها والده، كيف مرَّت عليه الأيام والأسابيع الماضية؟! كم تحمل من قــهر وحســرة؟! لا يستطيع تخيل والده ضعيف مكــسور، سَحَبَ نفْسَه عُنْوَة من بحر معاناته مُتسائلًا:
- ما رجوش ليه لحد دلوقت؟!!
- ماما اشتغلت وبابا معاها، بعدها أخباره انقطعت عني، ماما مش بتخليني لا أشوفه ولا اسافر لهم، سألت عنه كتير بتكتفي بكويس وبس.
- أنا هسافر لبابا.
- أفرض طنط اذيتك وشُغلك يا حسن! هاتسيبني؟ مش هترجع لي صح!!
- أنت وسعاد حياتي ما أقدرش ابعد عنكم، أنا هسافر أرجَّع بابا ونعيش مع بعض.

نهضتا تجاوراه فضمهما بذراعيه يحتضنهما، أغمضت نيرة مقلتيها وتحدثت:
- لازم تخطط للي هتعمله يا حسن، محتاجين نحجز تذاكر الطيران لك ولعمو وتحدد خطواتك قبل ما تقوم بأي خطوة.
- الفكرة إني عايز باسبور بابا أو صورة منه عشان حجز الطيران.
- مرة بابا بعت على الميل بتاعي صور جوازات السفر كلها عشان نخلص بها أوراق هنا، اعتقد جواز بابا من ضمنهم.
- يا رب يا سعاد تكون لسه سارية.

التفوا حول هاتف سعاد بترقب حتى وجدت هدفها تضاعف ترقبهم وتوقفت الدماء بعروقهم حتى تأكدت من صلاحية الصورة؛ هللوا فرحين لوصولهم لبداية تحقيق هدفهم، احتضنها حسن بفرحة ثم فكر بصوت عال معهما:
- كده باقي مشكلة الفلوس لحجز التذاكر والسفر.. أيوه افتكرت زمان بابا فتح لي حساب هنا أيام ثانوي وأفتكر كان فيه فلوس.
- يبقى تروح الصبح البنك وتشوف فيه كام ونحاول نكمل عليهم.
- إن شاء الله، يا نيرة من بدري، قدمي لي بكرة على إذن صباحي.

كما تباينت المشاعر بأسرة حسن الصغيرة تناقضت بأسرة شهاب الخبيثة فبالطابق الأعلى يجلس شهاب سعيد منتصر وشامت أيضًا وبالأسفل بالتحديد داخل غرفة البدروم تجلس ريڤال على الأرضية غاضبه مهزومة ولو مؤقتًا، أستعد للذهاب لعمله ولم ينسَ المرور عليها أولًا، طالعها مِن أعلى بنظرة يشع منها الاحتقار فبادلته بنظيرتها تقطر غِـلًّا وبالكاد أمسكت لسانها عن التلفظ بأكثر السُباب تدنِّي، تحلى بهدوء قاتل وهو يشــعل غَضَبها بكلماته:
- بما أنك محرومة مِن الأكل والشرب لوقت مش محدد طوله؛ فقررت أفطرك بطريقة مصرية.

أشار بعينه لهدفه تعبته مقلتيها فرأت عصًا غليظة معلقة على الجدار، رغم محاولتها للابتسام لتستفزه إلا أن بسمتها بدت مهزوزة؛ فشكل العصا يدعوا للذعر، لم يتركها إلا وهي على وشك فقد وعيها، ثم ذهب للعمل مشرقًا سعيدًا وظل على منواله هذا خمسة أيام حتى انهكها واستنزف قواها.

قبل عودة حلا مِن رحلتها نقلها لغرفتهما، أجبرها على الجلوس أرضا بنفس حالتها، قيد يديها بهيكل الفراش وحدثها بطريقته التي اتبعها طول الأيام السابقة:
- الأكل والشُّرب قدامك على الأرض في الطبقين، لو حابة تندهي الشَّغالة تفكك وتشوفك مكــشوفة ومربوطة زي.. الفَرس وبتاكلي زيهم فبراحتك، مع ملاحظة بسيطة إني مش همشيها وشوفي هترفعي عينك فيها إزاي بعد كده، ولو حصل ومشتيها في غيابي هرجعها أو اخلي الجديدة تشوفك بنفس الحالة، فاعملي اللي يعجبك.

لم يحتاج ان يزيد وعيدها له، فهي وصلت لذروته بالفعل، تعد الأيام كي تنتقم، تفكر كيف ستخرج من البيت بتلك الهيئة، من سيراها سيعلم بما تعرضت له، التزمت الصمت فقد تختزن جميع مشاعرها للحظة الانتقام والتشفي، تعد الأيام حتي تتحرر من أسره لتعد عدتها له، وبانتهاء الأسبوع أمرها بطلب مد إجازتها أسبوعا آخر، ففعلت ليس استسلامًا، ولكن لتندمل جروحها وتختفي أثارها.

 انتهت إجازتها أو فترة سجــنها فتوجهت مباشرةً إلى مكتب أبو عبد الله، تطالبه بالثأر وقصت له كل ما عانت، رغم تعبها الذي لم يشفَ لم تستطع الجلوس ولم يختلف حاله عنها، لكنه هدَّأ غلــيانه وأخمده وطالبها بالمثل؛ لمعنا التفكير لرد له ما فعل أضاعفًا مُضاعفة وبيد القانون، وكما تجرأ عليها سيتجرع الندم، وأخيرًا وجدوا الخطة قضية شرب خمر ودعما نيتهما بتقديم بعض البلاغات والشكاوي لسوء سمعته حتى ينال مع العقوبة الشرعية حكم تعزيزي كبير يلتهم جيده ويهلك عظامه، ثم جلسا يضعا خطة التنفيذ وعملا على احكامها حتى لا يفلت من العِــقاب.

تعليقات