رواية رائحة الارض المفقودة الفصل الثالث بقلم فارق العلي
صوت السوق بعد المزاد ما سكت... بس صار أضعف، مثل أنين جرح مو راضي يطيب.
الريحة بعدها معلقة بالهوا: جلد محترق، عرق خوف، وشي يشبه الكراهية المتجذرة بالحطب اليابس.
ضرغام، متخفي بهوية "أبو حارث"، واقف عالطرف.
ما استعجل... جسده ثابت، بس كل أعصابه مشتعلة.
عيونه بعد تلاحق ريفا، واللحظة اللي التقت بيها نظراتهم صارت مثل ختم ناري على روحه.
بخطى محسوبة، قرّب من صاحب السوق:
رجل سميك الوجه، ملامحه مثل الطين المتشقق، صوته ناشف، وعينه مثل عيون الذبان... تحوم على التعب وتعيش على الرعب.
قال ضرغام، بصوت ناعم يخفي غليان:
"عمي... ذيج السبية، چنت ناوي آخذها. شلون راحت؟ هدية للأمير جابر؟"
الرجل اتلفّت بسرعة، صوته نزل، ووجهه شحب:
"يمعوّد! تريد تضيعنا؟ هاي مال الأمير جابر! هو طلبها خصّ، عبالك آني فرحان أخسر شدتين؟"
ضرغام ما علّق، بس نبرة صوته تغيرت، صارت حادة وفيها فضول:
"زين... هذا الأمير جابر، شنو قصته؟ يخوف لهالدرجة؟"
الرجل سرّح نظراته للحظات، كأنه يختار كلماته بعناية، وبعدين قال بهمس متوتر:
"أبو حارث... الله يخليك لا تجرنا للتهلكة. جابر؟ هذا مو بشر عادي. رقم اثنين... يمكن حتى رقم واحد بالتنظيم، بس محد يعرف بالضبط. عبالك شبح. حتى القادة الكبار ما يعرفون وجهه الحقيقي."
رفع حاجبه وهو يكمل، صوته صار أهدأ... كأنّه يبوح بسر:
"لو ما نقطة ضعفه النسوان، جان حتى آني ما أعرفه. أول مرة شفته، سألته بهدوء: شسمك؟
باوعلي، وگلي: شتحب تسميّني، هو هذا اسمي.
ولا مرّة عطى معلومة عن نفسه. لا عمر، لا بلد، لا شي. يجي بأمر، ويمشي بلا أثر.
وأي أمر يوصله؟ نُفّذ بلا نقاش. من فوگ فوگ فوگ، على حد قوله."
ضرغام سكت، بس وجهه انشدّ شوي، وعيونه ضاقت كأنها تقيس مسافة الغموض اللي قدامه.
الرجل استدار وهو يتمتم:
"نصيحة، لا تسأل عنه أكثر... مو الكل يطلع من ظله سالم."
رجع ضرغام بالسيارة بطريقه للقاعدة العسكرية، والدنيا تمشي يمه ببطء...
بس عقله؟ يركض، يدوّر، يحفر بكل زاوية بدماغه.
كل الطريق چان يسأل نفسه:
"منو هذا جابر؟ شلون هيچ يخوّفهم؟ شنو سالفته؟ شلون واحد يصير بهالمنصب وبهالهيبة، ومحد يعرفله لا شكل، لا صوت، لا بلد؟"
گام يتّصل بأكثر من قائد يعرفهم، يسأل، يدوّر، بس مو بشكل مباشر.
يحچيها كأنّه سوالف...
"هااا، اليوم راحت عليه بنيه، تخبل، سحبوها مني، گالو هاي للأمير جابر... زين منو هو؟ منو هذا اللي ياخذ ويمشي، ومحد يگدر يحچي؟"
الكل چان يجاوب بتردد، أو ما يعرف، أو يخاف يتكلم.
حتى واحد منهم گاله:
"ضرغام، لا تدخل، هذا مو لعب جهال، هالسالفة إلها جذور بعيدة."
رجع ضرغام ساكت...
كأنه سمع أكثر من اللازم، أو أقل من اللي يريد يعرفه.
وهو يسوق، الهوا يدخل من الشباك، بس ما حس بيه.
ما يشوف غير عيونها...
ريفا.
رغم البؤس اللي عايشته، رغم الهزال والتعب... بس عيونها الزرگ،
چنها سهم اخترق صدره... دخل لوين ما يگدر يوصل حتى هو.
وگال بصمت داخله:
"أنـي؟ أنـي الي رافض فكرة الزواج سنين...
الي نذرت كل عمري للعسكرية والاستخبارات...
ضعفت؟
هيچ... بنظرة، ضيّعت توازني؟"
غمض عيونه، وراسه استند على ظهر المقعد، بس مغمض ما شاف إلا وجهها.
تخيل لحظة التحرير...
شنو راح يصير؟ شراح يكله شير؟
شلون يگدر يباوع بعينه وهو راجع بلاها؟
"فشلت؟ لو بعدني ما بلّشت؟
شلون أگله إن أخته بعد مرة راحت؟
ويا من؟ ويا شبح، محد يعرف وينه؟"
وظل ساكت...
بس داخله ما هدأ...
كل نفس، چنه يتمتم:
"ما أخليها... حتى لو أدخل لنص الجحيم، أرجّعها."
وصل ضرغام للقاعدة العسكرية قبل طلوع الشمس بشويّة.
ذبّ العمامة السودا والعباءة المخططة بالسيارة، وانزلع اللحية الصناعية، حس وجهه يرجع يتنفس.
لبس قيافته العسكرية النظيفة... آخر قيافة گبل لا يدخل للمقر.
أول ما چان يمشي باتجاه المقر، لمح شير وياه ملف بيده، داخل بسرعة، وجهه مشدود مثل وتر القوس.
"ها؟ وينها؟"
سأل شير بصوت مليان لهفة... ولهيب.
نظرة ضرغام، بس، كشفت كلشي.
نظرة ما بيها أمل... ولا خيبة كاملة.
بس تكول: "ما صار مثل ما نريده."
شير، بصوت مر، محمّل غضب وانكسار:
"مو كتلك... خذني وياك؟!"
ضرغام نزل صوته وقال بهدوء:
"مو هنا... تعال، نروح لمكان وحدنه."
دخلوا ساحة خلفية، بعيد عن عيون المقر.
التراب تحت رجليهم يابس، والهوى چنه يصفّر فوق راسهم.
ضرغام أخذ نفس عميق، وقال بصوت محسوب:
"شير... لازم تفهم، عمل الاستخبارات غير. يحتاج صبر، يحتاج تأنّي.
مو بكل لحظة تتوقع نكسر الدنيا ونرجّع كلشي... ممكن نضيع الخيط كله."
شير، عيونه مولعة، مقطّبة، گال برجفة ولهفة:
"شفتها؟ صدگ؟ شلونها؟
تعبانة؟ مريضة؟ ضايعة؟
أذوها؟!"
ضرغام حاول يطمنه، صوته ناعم، عكس القساوة اللي جوّاه:
"شفتها...
ما بيها شي، أقسم، مثل الوردة...
ضعيفة، إيه، بس واقفة...
حاولت أشتريها، والله حاولت، بس..."
سكت لحظة...
نزل صوته أكثر، كأنه ينقي الجملة من بين جمرة قلبه:
"اشتراها أمير كبير... .
برغم كل قذارة هالموقف، بس...
صدقني، هذا أحسن من واحد تافه من أفرادهم.
الأمير عنده خدم، وحشم، وسياج، وحماية...
فرصة تحريرها أكبر، لأن عنده موارد، وعليه عيون...
مو مثل غيرهم اللي يبيع ويشتري مثل ما يبدّل نعاله."
شير كعد عالأرض...
ركبته خبطت بالتراب، وإيده على راسه...
أول مرة من ذاك اليوم، يوم سقطت كوجو... يبچي.
يبچي بصوت جبير، مو بصوت طفل،
يبچي وكأن العالم كله نزل بثقله عليه.
"بس هي...
بس هي بقت إلي، سيدي...
عائلتي راحت، حتى قبور ماعندهم جثثهم ما دفنتها بعدهم بالجبل تاكل بيهم الذيابة...
أرجوك، دلّيني... دلّيني وينها،
خلي أروح أحررها، حتى لو أني متت."
ضرغام گرب، باوعله بحدة، وبنبرة خلت شير يرفع راسه:
"لا، هيچ تقتلها. وتقتل نفسك.
وياها، لازم نخطط، مو نتهور.
وهسه... قراري واضح."
مد إيده وسنده من الأرض:
"راح أسحبك يمّي بالاستخبارات.
من اليوم، تشتغل تحت أمري.
إنت، وفريقك، محد يتدخل بيكم.
بس ماكو فوضى. ماكو تصرف فردي.
هاي المهمة، لازم تنجح...
حتى لو احتاجت نكسر الزمن."
شير نزل راسه، بس عيونه ولعت من جديد...
مو بدمعة، لا...
بشرارة.
داخل المقر، الجو صامت... بس مو صمت راحة، صمت انتظار.
ليث وهندس گاعدين سوا، وكل واحد غارق بعالمه.
ليث چان قاعد على أعصابه، ما مستقر، يحك بيده، يرفع راسه كل شوي صوب الباب، ينتظر شير يرجع.
هم صاروا مثل الأخوان، مو بس ربع جبهة... صار أقربله حتى من بعض الدم.
وكل مرة يتذكر شنو صار لعائلة شير، يحس قلبه ينكسر چدمه...
ويتخيّل لو نفس الشي صار بيه، لو مرته، لو شهودة بنته الحلوة... لو واحد مس شعرة من راسها؟ شيسوي؟
الدنيا كلها تنقلب، وكل شي يفقد طعمه.
هندس، كاعد جنبه، ما يباوع بيه، بس يحس بيه.
حتى لو هو ما چان قريب من شير مثل ليث، بس صار يحبّه... ودايماً يتمنى ينقذ الموقف لو بكلمة، لو بضحكة.
بس حتى هندس... قلبه مو مرتاح.
كل همه بأطفاله الأربعة... ولد وثلاث بنات.
كل ما يمر يوم بالحرب، يفكر:
"آني إذا متت... منو يشتريهم اكل شرب ، منو يشتري لبناته وابنه ملابس للمدرسة؟"
هالتعيين، بالنسبة له، چان فرصة نازلة من السما.
بعد ما چان سبع صنايع والبخت ضايع.
من الكهربائي للصبّاغ، من عامل بمطعم للعتّال... بس بكل شغلة يصيرله شي.
يفتح محل؟ يعزلوا المنطقة.
يشتغل بالعمالة؟ يوكع السكلّة على أستاذه.
حتى زواجه، ما چان اختياره.
تزوّج وعمره ثلاثة عشر سنه، بأمر أبوه، لبنت عمّه، حتى "يفرح بجهاله"، وحتى أطفاله وحدة من البنات معوّقة ذهنيًا، حالتها صعبة، تحتاج رعاية أكثر من ما يگدر عليه.
مرته، أول ما نوى يلتحق، كالتله بنص وجهه:
"وإذا استشهدت؟ شلون نعيش؟ شراح أگول للأطفال؟"
وهو رد عليها بنص حزنه:
"تاخذين راتب شهيد... وتطگّين وكيعان وقطع اراضي حسبتها من كل جانب."
يضحك، بس الضحكة مالته ما توصل للعيون.
حتى لما يحچيها للجنود، يحچيها بمزاح:
"آني؟ آني ططوة، أني إذا صارت طكة... تلقاني أول واحد يوقع!"
بس...
كل مرة يحچيها، تحزّ بقلبه، لأنه يعرف... هو مو مزحة.
هو فعلاً ما يوم مشت وياه الدنيا عدل.
ووسط هالسكوت، وهالوجع المتخفي، ما چان بينهم غير نظرات قليلة...
نظرة ليث للباب، ونظرة هندس للساعة، ونفس ثقيل... ينتظرون خبر.
خبر من شير... أو من مصير ما يندلّه عنوان.
دخل شير للغرفة، وعيونه مكسورة، حزينة... بس بيها نار ساكتة، نار الغضب واليأس.
ما چان بيده شي، بس وجهه يحچي كلشي.
ليث أول ما شافه، گام من مكانه بسرعة، ما انتظر ولا لحظة، فتح إيديه وحضنه بقوة:
"ترجع والله... بس اصبر. ترجع، أكيد ترجع."
صوته چان حنون، مشبع ثقة، كأنه دا يريد يزرع أمل بقلب صاحبه المنهار.
"يومياً نحرر قرية جديدة، يومياً نكسر ضلع من ضلعهم، وكل خطوة تقربنا إلها..."
بس شير...
انهار، طاح، انفجر.
چان يكبت، بس ما گدر بعد.
بصوت عالي، بوجع، صاح:
"ريفاااا! ريفاااااا!"
چان صوته يهز الحيطان، يبچي مثل طفل ضايع بأحضان النار، مو بحضن صديق.
هندس گرب منهم، نزل على ركبته، وطبطب على ظهره:
"هدي يابه... إحنا وياك، ما نتركك، ما نخليك وحدك."
ضرغام چان واقف بالزاوية، ما راد يحچي بهيج لحظة.
بصمت انسحب، وگبل لا يطلع من الباب، لمح بنص عينه ليث يلحقه.
"سيدي، لحظة بس... أريد أطلب منك شي."
صوته واطي، متأكد ما حد يسمعه غيره.
"گول."
رد ضرغام وهو يوقف.
ليث قالها بثقة بس بلهجة خايفة على صاحبه:
"سيدي، شير ينام ساعة باليوم... صارله شهرين ما نازل، ما راح للبيت، ما شاف حتى شمس برا غير وهو راجع من مهمة. وين ينزل؟ ما بقى أحد من أهله."
ضرغام ما گطع، بس چان يسمع.
"المطلوب؟"
سأله.
ليث كمل وهو يباوع بالأرض:
"سيدي، أطلب تجبره ينزل وياي.
هو مو طفل، بس حالته... والله خطرة، ممكن يعرض نفسه وإيانا للخطر.
مو مستقر، وأنت شايفه.
أنا آخذه، بس هو ما يقبل.
بس إذا إنت طلبت... يسمعلك."
ضرغام سكت لحظة، وبعدين گله بنبرة حاسمة:
"تعال وياي."
رجعوا للغرفة، شير چان بعده يم الأرض، بس بدأ يهدأ شوي.
ضرغام وقف بالنص، صوته هادئ، بس قوي:
"من اليوم، إنتو الثلاثة ضمن فريقي.
صرتوا رسميًا تحت أمري.
أي مهمة جاية... نطلع سوى."
هندس ابتسم بخبث وكله وهو يحاول يخفف الجو:
"سيدي... سؤال: إنت هم من تراب مثلنا؟ لو خابطين وياك عسل؟"
ضحك ضرغام بنظرة وحدة، ورد عليه بصوت هز الجدران:
"انزل عشرة شناو."
هندس نزل راسه، گام يسوي التمارين، جسمه يرجف، يضحك ويعرگ بنفس الوقت
ضرغام التفت لشير، وبنبرة حازمة:
"راح أقدم إجازة ليث لباجر، وتروح وياه للبيت.
تسبح، تنظف نفسك، وتجهز كلشي.
وإذا ترفض؟ ما تنضمون للفريق...
الفريق اللي بيه زيادة راتب تقريبًا الضعف."
هندس، وهو بعده يعرگ من التمارين، گال بصوت واطي:
"راتب دبل يابه شوف شير إذا متروح... اعضّك من خشمك. مو تهديد، وعد!"
خزره ضرغام لهندس من جديد
باوع هندس لضرغام بصوت مضحك كال:
"بعد عشرة، سيدي مو؟
جاوبه ضرغام
عفية بالسبع"
ونزل يكمل شناو، والكل غصّ من الضحك.
ليث قرب من شير، حط إيده على گتفه وقال بهدوء:
"تعال... بس يومين، والله راح ترتاح.
تهدي أعصابك، تعيش حياة شبه طبيعية ع الاقل جرب واذا ماعجبك الوضع بعد لتجي."