رواية رائحة الارض المفقودة الفصل الرابع بقلم فارق العلي
الطريق بين الموصل وبغداد كان يمتد مثل جرح طويل، ما يندمل، تحيطه أراضٍ شاحبة مرّت بيها نيران الحرب مثل شتيمة على وجه الأرض. الجيب العسكري يهدر بين المطبّات، والغبار يلطم الزجاج مثل حزن متراكم على الماضي.
داخل السيارة، شير گاعد يلزم صمته بأسنانه. عيناه معلّقة على الشباك، تراقب الأراضي المحروقة، الأشجار اليابسة، والسياج المتهدّم الممتد على جانبي الطريق، وكأنّه يقرأ حكايات الحطب اللي تفحّم وما لحق يتحوّل رماد.
ليث ساكت، بس روحه تتحرك. يباوع صاحبه من طرف عينه، يشوف الكتفين المشدودين، اليدين المعقودتين، وعينه الغارگة بالبعيد.
حاول يكسر هالصمت الثقيل، بصوت واطي، بيه مزيج من رجاء وخوف من الرد:
"صدكني… سويت هذا لمصلحتك. بس تعال، ارتاح يومين، مو أكثر.
وإذا ما عجبك الوضع، ترجع… وبعد لا تجي وياي.
إنت غير… صديقي المقرب."
شير ظل باوع من الشباك، كأن ما سمع، بس بعد لحظة، بصوت هادي يشبه النفس المتقطع، رد:
"أعرف شتقصد… أعرف.
بس شلون أرتاح؟
واختي… اللي وصاني بيها أبويه، مو يمي؟
شلون أضحك، وأنا ما أدري إذا بعدها تتنفس؟"
ليث هز راسه، مو معترض، بس متألم.
صوته نزل مثل همسة:
"وإذا عذّبت نفسك… تتوقع أبوك يرضى؟"
وساد السكوت...
السيارة تكمل مشيها على طريق غارق بالتعب،
والهوى يضرب الوجوه من الشباك،
بس لا برّد الغضب، ولا نفّس القلب.
والاثنين گاعدين… بين واحد يحاول يداوي، وواحد بعده ينزف.
بقرية صغيرة بين نخيل "سيد دخيل" جنوب الناصرية، تميل الشمس على وجه المزرعة مثل أم تحن على أطفالها قبل النوم. الطريق المترابي اللي يوصل للبيت مرصوف بالغبار والحنين، ومواسم الحصاد اللي عدّت مثل حلم.
السيارة وقفت يم باب الطين، وما إن نزل منها هندس حتى ركضوا أطفاله الأربعة باتجاهه، عيونهم تلمع من الفرح، وضحكاتهم تسبق خطواتهم.
كان شايل بأيديه أكياس بلاستك، مليانة فواكه بسيطة: موز، تفاح، وعلبة بسكوت محلية.
صاح وهو يبعد الكيس عنهم ويضحك:
"ولكم غير ترحبّون بأبوكم؟ شنو؟ أول مرة تشوفون موز؟!"
ضحكوا الأطفال، وكل واحد اختطف كيسه، وركض للداخل كأنه لقى كنز.
من باب البيت الطيني، ظهرت زوجته أم عادل، مغطية راسها بشال خفيف، وعيونها تضحك حتى قبل ما تحچي.
قالت بنبرة حنونة تعبّر عن ألف شتلة صبر:
"الله يساعدك يا أبو عادل…"
رد عليها وهو يبتسم ويمدّ يده لها:
"هلا بـأم عادل، هذي السلفة والدَّين… دفعيهن، ونكضيها على راحتنا شوي شوي ."
أخذت الظرف بهدوء ومشت للباب، بس قبل ما تدخل، هندس تكلم وقال بصوت عالي:
"هااا خالي، غير زوجچ وجاي… شنو، الوزة اللي تبيض ذهب اني؟! ولكم لا ترحيب لا شي"
ضحك هو وزوجته بصوت عال
دخلوا للبيت… بيت بسيط، مبني من بلوك، بس نظيف، مرتب، مليان دفء.
جدرانه محاطة بأصص ريحان وياس، وسقف غرفة الجلوس معلقه بي مروحة بيضاء تأن عبالك صارلها عشرين سنه من اشتروها، البيت مفروش زوالي قديمة لكن تغسلت مليون مرة بمحبة.
تحلّق أطفاله حوله مثل خيوط الشمس، واحتضنوه كأنهم ما شافوه من سنين.
"بابا… شنو جبت إلنا؟"
صاح الأصغر وهو يتعلّق برقبة أبوّه.
هندس ضحك ومسح على راسه:
"جبت فيل… بس بعده ما وصل، دازي بالطريق الجاي!"
صاح الطفل بحماس:
"والله فيل؟! بابا صدگ؟!"
هو ضحك من قلبه:
"صدگ… بس ينام هواي، لازم نصبر عليه!"
مرت كم دقيقة، ودخل رجل مسن… أبوه.
نهض هندس بسرعة، قبّل إيده بكل خشوع:
"شلونك يابه؟"
الأب رد بصوت خشن، فيه محبة متينة:
"الحمد لله ابني… إنتو شلونكم؟ أمك شلونها؟"
"زيني يابه، الحمد لله… والله هم زين إني اجيت، چنت مشتاقلكم."
الأب هز راسه، وقال بنبرة متعبة:
"هم زين اجيت… باچر تساعدنه بالمحصول. هاي السنة الزرع هواي، واني تعبت… وامك بعد كبرت، صارت ما تگدر تحصد وياي مثل قبل."
هندس، بصوت هادي لكن فيه نبرة انكسار:
"تدلل يابه… اليوم أرتاح، وباچر من الفجر أكون يمك بالحقل."
الأب وكأنّ حمل نزل من على صدره، قال:
"ها ولا تنسى فلوس العشيرة… كل شهر لازم نسدّد حصتنا،."
"صار يابه، تآمر أمر."
الأب ربت على كتفه وقال بصوت فيه حنية الدنيا:
"بارك الله بيك ابني… نعرف نضغط عليك، بس إنت اللي طلعنا بيك من هالدنيا. وخواتك بعدهن صغار، أكبر وحدة مو مال زواج بعدها."
هندس شد إيده، وقال بصوت حازم:
"لا يابه… إنتو البركة، واللي تطلبوه يصير."
خرج الأب بهدوء، بس زوجته… ظلت واقفة يم الباب، عينها تلاحق ضهره، وبنظرتها سطر كامل: "إلى متى نبقى نتحمّل؟"
انتبه هندس لنظرتها، حب يلطّف الجو، مثل عادته، قرب منها وهو يبتسم وقال بنبرة مزاح:
"شنو هالجمال؟ والله أبيع الهوايش والصخلات لعيونچ!"
ضحكت، ابتسامتها كانت نفس الابتسامة القديمة… نفس الأمان.
"إي ولچ… هيچ؟ خلينا نشوف اللولي ليش حاطة بردة!"
قامت تقرصه بخفة، وهمست:
"منا… الجهال!"
ضحك… ضحكته چانت حقيقية، طالعة من قلب مليان وجع… بس بعده يباوع للدنيا بعين الطفل اللي يحب يلعب، حتى وهو غرقان بهمّ الرجال.
في عمق الموصل، وتحت طبقات التراب المحترق والخوف المتراكم، يقع واحد من أوكار داعش المدفونة تحت الأرض… أنفاق معتمة، ضيقة، معبأة برطوبة وموت ساكت.
جدرانها مصبوغة بلون العفن والدم، والهواء فيها ثقيل كأنه تنفّس موتى.
وسط غرفة صغيرة مظلمة، جلست ريفا بصمت، متلفعة بنقاب أسود فضفاض، يختنق جسدها الصغير تحته.
حولها نساء، بين سبايا صامتات، وبين "أخوات" تبعن التنظيم، يجهزنها لما يسمونه "عرسًا".
كانت ريفا منكسرة، مطرقة، صامتة حتى عن الدمع.
كلشي صار بسرعة.
كلشي تغير.
ما مستوعبة اللي ديصير…
بنت خليل؟ مدللة أبوها؟ صارت غنيمة؟
كانت مثل ظل، تتنفس من غير صوت، تقاوم الغصة بكل خلية بجسمها.
وهي جالسة، حست بأحداهن تقترب وتجلس يمها.
صوت البنت كان واطي، مكسور، لكن بيه دفء غريب:
"هذا أول زواج الج؟"
ريفا هزت راسها بخفة، وقالت بصوت شبه معدوم:
"نعم..."
البنت تنهدت، وكأنها سمعت جواب تعرفه:
"آني… هذا الخامس."
ريفا رفعت راسها ببطء، وعيونها وسعن.
نظرت للبنية اللي تحچي، كانت أصغر منها… يمكن ما مكملة ستة عشر سنة، بس وجهها مفرغ، مثل صفحة بيضة كلشي بيها ممسوح.
ريفا ما عرفت شتكول…
هاي الفكرة الوحيدة اللي دارت بمخها: "خامس زواج… وبهاي العمر؟"
البنت كملت، بدون ما تنتظر سؤال:
"آني صفية… من قرية قريبة من چبل سنجار.
راح أنطيچ كم نصيحة…
كل اللي عليچ تسوي… استسلمي.
انطيهم كلشي يريدوه، ذولة وحوش، ما عندهم قلب.
قاومت بالبداية… بس شوفيني هسه.
ملّوا منّي، حركوا جسمي، ما ظل شي، بعد ما بيه فايدة.
جابوني أساعد العروسات الجدد."
ريفا ظلت تسمع، بس مو بكيفها… كأن أذنها تشتغل وراها، وهي مو موجودة بجسدها.
"قاومي؟ رح تموتين. استسلمي؟ يمكن تعيشين. بس تظلين تفكرين بالكرامة؟ هاذي تروح أول ليلة…"
قبل ما تكمل، انفتح الباب فجأة.
دخل الأمير جابر.
الغرفة كلها خمدت، حتى الهوى وقف.
رجل ضخم، ملامحه ما تشبه المنطقة.
أبيض البشرة، شعره أشقر، عيونه زرق مثل ثلج ما يعرف دفء.
يمشي بثقة، ظهره عريض، خطوته كأنها تدوس على جباه الكل.
وقف جدام ريفا.
باوع عليها بهدوء غريب، وقال بصوت أجش:
"إنتي… عروستي الجديدة؟"
ريفا ما حركت شفتها.
صمتها چان درعها الوحيد.
ابتسم ابتسامة ضايعة بين اللطافة والتهديد:
"لا تخافين…
طالما إنتي وياي، محد يكدر يسويلچ شي."
مد إيده، وحطها على كتفها بلطف مصطنع.
جسد ريفا كلّه رجف، كأن نار بردت ودخلت بجلدها.
همس بصوت ناعم:
"لا تخافين مني… أبد.
ما راح أأذيچ بشي."
ريفا ظلت صامته.
بس عقلها اشتغل.
"من بيت خليل لهنا؟
شلون صرت هيج بلحظة؟
ليش ما متت وياهم؟
ذاك أبو شوارب… الي راد يشتريني، يمكن جان ذبحني، يمكن باعني لغيرهم…
هم زين ما صرت إلّه.
زين…"
نظرت بنص عينها للـ"جابر".
وقتها فهمت: إذا ما أقدر أهرب… لازم أكون ذكية.
"راح أخدعه…
راح أضحك عليه، أخليه يصدگ إني حبيته.
بس حتى أأمن… حتى ما يأذيني.
وبلكت… بلكت ألاگي فرصة أهرب… بس وين أروح؟
ما عندي أحد…
وفجأة، دخلت مجموعة نساء.
الهلاهل علت، الزغاريد، الصفگات…
كلشي زائف، بس صوته مثل سكاچين بأذنها.
أمسكوها من إيدها، وبدو يزفوها لغرفة الأمير.
خطوة… خطوة…
ريفا كانت تمشي، لكن كل نفس تاخذه كأنه آخر نفس.
قلبها يدگ بسرعة، إيدها ترجف، رجلها ثقيلة ما تجرّها، وجهها أصفر، عيونها تغيم.
وصلت للباب…
وبلحظة، انطفى كلشي.
أغمى عليها.
وقع جسدها على العتبة.
الأمير جابر، بدون تردد، حملها بين إيديه، وقال بهدوء، بصوت سكن حتى الهلاهل:
"خلاص…
صارت يمي."
ودخل الغرفة… وسد الباب.
داخل غرفة عمليات محصّنة في أحد مقرات القيادة العسكرية ببغداد، كان ضرغام واقفًا بكامل قيافته، يواجه ضابطًا رفيع المستوى تجاوزت نجماته حد الرتبة المعتادة. الغرفة باردة، الجدران رمادية، وعلى الطاولة أمامهم خرائط وأجهزة اتصال وأوراق عليها شفرات وعناوين مهام.
صوت ضرغام كان منخفض، لكنه مشحون:
"سيدي، منو هو الأمير جابر؟ وليش حتى اللي عدنا بالداخل، وسط التنظيم، ما سامعين باسمه؟
شنو هالبعبع اللي طلع فجأة؟
أني حضرت فريق خاص، نتابع، نحقق، نعرف… حسب قراءتي، هذا مو شخص عادي… هذا حوت، جبير."
الضابط، اللي كان يقلب أوراقًا قديمة، رد بنبرة محنكة:
"مرات داعش يستخدمون رموز وهمية… أمراء مزيفين، ينطوهم هالة، سلطة شكلية…
بس بالحقيقة، مجرد طُعم.
حتى نضيع وقتنا نلاحق ظلّ، وهم يغيرون وجهتهم."
ضرغام ثبت نظره بعين الضابط، وصوته صار أهدأ بس أشد:
"سيدي، من لحظة شفت تعامله… من طريقة نظرة عناصره إلّه… من انضباطهم، من حركاته…
هذا مو طُعم. هذا رجل تلقّى تدريب عسكري عالي جدًا.
ما يتصرف كواجهة، يتصرف كقائد حقيقي.
لازم تنطيني تفويض أتابعه.
الفريق مكوّن مني وثلاثة فقط.
وما أحد يعرف عن الأمير جابر غيري، جنابك، وواحد من الفريق."
الضابط رفع نظره، نبرة صوته صارت أقسى:
"ضرغام… شخص بهذا الحجم، مستحيل ما عدنه معلومات عنه.
إذا ما وصل اسمه لأرشيفنا، يعني احتمال كبير… أنه واجهة مصطنّعة."
ضرغام اقترب خطوة، لكنه حافظ على انضباطه.
صوته بيه شدّة حريص:
"سيدي، إذا ما تنطوني تفويض… أروح مباشرة للواء بسّام.
هالملف ما أتحمّل أتركه."
الضابط صمت لثواني… عيونه ضاقت، كأن جمر تحتها.
"يعني تلوي إيدي؟"
ضرغام تنفس بعمق، وقال بأدب صارم:
"لا سيدي، أبدًا.
بس أني متوغل وياهم، عايش بعالمهم، وأعرف الفرق بين أمير زائف… وأمير واقعي."
صمت الضابط لحظة، بعدين قال ببطء:
"تمام…
راح أنطيك التفويض.
بس اسمعني زين…
هذا النوع من العمليات، ما ينذكر اسمه لحد.
لا تقارير، لا ملاحظات، لا دردشات بينك وبين فريقك حتى.
وإذا فشلت… محد راح يذكرك.
حضّر فريقك، وانطيني تحديثات أول بأول.
جيب الملف اللي محضّره، أريد أقراه،
وانت… روح، باشِر."
ضرغام ضرب تحية عسكرية قوية:
"حاضر، سيدي."
وانسحب من الغرفة بخطى ثابتة، ووجهه متشدّد مثل مهمّته.
---
بعد ثوانٍ من خروجه، ظل الضابط واقف.
ما تحرّك.
بس إيده مدت بهدوء ورفعت الهاتف الأرضي القديم.
ضغط زر مخصّص، وقال بصوت منخفض، حذر:
"أنا العقيد مهند الاسم الحركي ابو بركات…
انطيني الأمير جابر."
ثواني من الصمت.
ثم ردّ الصوت من الطرف الآخر.
العقيد قال بصوت بارد:
"جابر…
اكو ضابط شافك وقرر يلاحقك.
ضابط مثل الكلب، شاف عضمة… وما يتركها ابد اعرفه كلش زين.
اختفى هالفترة ماريد ضلك يضهر بالأرض."
وسد التليفون وفتح الفايل الي جمعه ضرغام عن الأمير جابر
وصلت السيارة لواجهة بيت بسيط بحي شعبي في أطراف بغداد.
وقف شير وياه ليث على باب البيت، ليث مد إيده ودق الباب، مرتين بخفة.
بعد لحظة، انفتح الباب بهدوء، وطلعت منه طفلة صغيرة، شهد، بعمر خمس سنوات، عيونها زرگ، شعرها أشقر نازل على جبينها، وجها مثل الورد بليل ربيع دافي.
صرخت أول ما شافت أبوها:
"باباااا!"
ركضت عليه وحضنته بقوة، تبوسه، وتشبثت برقبته كأنّه هسه راجع من غربة سنين.
ليث حظنها وضحك:
"يا روح بابا وعيون بابا… سلمي على عمو شير."
التفتت شهد، ومشت بخطواتها الطفولية البريئة نحو شير، نظرت له بعينين زرگ كلش تشبه شي كان ناسيه، وبابتسامة صغيرة مدت إيدها وقالت:
"هلو عمو شير."
شير ظل واقف بمكانه، كأن الوقت تجمّد.
هالوجه، هالنظرة، هالصوت… نسخة من ريفا وهي طفلة.
نفس الشعر الأشقر، نفس العيون، نفس الطريقة اللي كانت تتمسّك بيها بأبوها من أول ما يدخل.
كأن نفس الطفلة طلعت من بين الركام ورجعت تمشي قدامه.
اختنق… بس جمع نفس، نزل لركبته، ومسح على راسها بحنية مهزوزة.
"هلو حبيبتي…" قالها وهو يحاول يسيطر على رجفة صوته.
دخلوا سوا للبيت، ليث طلَب چاي، وطلعوا صينية بيها شاي وكيمر وخبز، بس شير بعده ساكت… عيناه تباوع الطفلة اللي قاعدة مقابيله، تلعب بكوبها، وتحچي كلام ما يفهمه، بس صوته يخترق شي عميق بداخله.
ليث نكزه بكتفه وقال:
"روح، إدخل، اسبح وبدّل.
أما أشوف أم شهد، وأجهّزلك فراشك."
شير هز راسه، ومشى للحمّام بهدوء،
وهو يمكن لأول مرة… يدخل بيت حقيقي من يوم فقد عائلته،
لأول مرة، يحس بأمان ما مغطّى بغبار المعارك،
ولأول مرة، تنسى روحه تسأل نفسها: شلون الحياة تكون بدونهم؟
وقف تحت المي الحار، ينزل على راسه مثل مطر ثقيل…
ومن تحت الرغوة، بدأت الذكريات تطلع:
ريفا وهي صغيرة… نفس مشية شهد، نفس دلعها، نفس تشبّثها بإيد أبوها.
كانت دوم متعلقة بخليل، كأنها ذراعه الثالثة.
وانتبه فجأة…
ابتسم.
أول ابتسامة تطلع من وجهه بدون ما ينتبه، بدون قصد، بدون دمعة وراها.
---
في الغرفة الثانية، ليث كان يسلم على زوجته، يضمها بحنية الغائب:
"شلونج حبيبتي؟ والله مشتاقلج…
هذا شير اللي كلت لج عليه.
أريد يحس روحه ملك هنا… هذا يتيم، وما عنده أحد.
قدّمي له أطيب أكل، أحلى شاي، داريه مثل أخوج."
أم شهد رفعت إيدها وأشارت لعينيها:
"من هالعين… تأمر أمر."
---
مر يوم… ثم يومين… ثم ثلاثة.
شير حتى نومته اختلفت ما يفز الف مرة باليل بدأ يضحك شوي، يلعب ويه شهد، يركض وراها، وهي تباوعه بعينين كبار وتصيح:
"عمو شير! لا تروح!"
وهو يبتسم ويگول:
"لا يابه، وين أروح؟ قشمرني أبوچ… خلاني أتورط!"
ويضحك، والضحكة تبدو أخف من حزن البارحة.
يوم ثاني، طلعوا سوا: شير، ليث، أم شهد، وشهد.
راحوا للحديقة القريبة، لعبوا، شربوا عصير، وشير شال شهد على أكتافه.
كان يركض، وهي تضحك وتصيح: "طيران!"،
وهو يضحك… بس جوا هاي الضحكة، شاف خليل.
شاف نفسه صار خليل.
وشهد… صارت ريفا.
نفسه، نفس تصرفاته، نفس الحنية، نفس الدلال.
كلشي يرجع، كلشي يتكرر.
ولأول مرة، فهم شنو يعني "أب".
فهمه مو بالعقل… فهمه بالقلب.
صرف على شهد نص راتبه بدون وعي، اشترالها لعب، فساتين، بسكوت… ما شايل هم.
وعرف… عرف إن الحب ما ينهزم، حتى لو مات أهله.
---
لكن الفرح ما يدوم طويل…
رنّ التليفون.
شير جاوب:
"ألو؟"
صوت رسمي، هادئ:
"مرحبا، أستاذ شير؟"
"إي، نعم… تفضل."
صوته فيه قلق مفاجئ.
"حضرتك شير خليل، من كوجو – سنجار؟"
"إي نعم… منو حضرتك؟"
"ياريت تجينا للمستشفى… أختك، ايفين، كعدت من الغيبوبة."
سكت شير.
عيونه وسعن، وكأن الزمن انكمش بثانية.
"إيفين؟ إيفين ماتت… وكعت من الجبل وماتت!"
الصوت من الطرف الثاني كان حازم:
"إي، وكعت، وتكسرت كل عضامها، بس ما ماتت.
ناس هربوا من داعش جابوها، واستقبلناها هنا بمستشفى الرمادي التعليمي بالانبار.
صارلها أسبوع صاحيه. من كالت اسمها واسم عائلتها، كدرنا نوصل إلك عن طريق الرائد ضرغام."
شير وقف، ما عرف ياخذ نفس، كلبه يدگ بسرعه:
"إيفين عايشة؟ عايشة؟!"
ركض للغرفة الثانية، شبك ليث من كتفه:
"ليث!! اختي… اختي عايشة!!"
ليث حضنه، بقوة، وقال:
"أعرف… ضرغام گلي عنها بس يم الامير.."
شير ما گدر يتمالك نفسه.
بكى… بحرقة وفرحة بنفس الوقت.
قعد بالأرض، حط وجهه بين إيديه، يصيح:
"إيفين عايشة… مو ريفا ايفين الي عايشة،
بس شراح أگولها عن ريفا؟
شراح أگولها عن أمي؟ عن أبوي؟ عن الجبل… عن كلشي؟"
ليث جلس يمه، مد إيده عليه، وقال:
"هسه نروح نجيبها، أنا وياك.
وأخلي أم شهد تهتم بيها…
تعيش ويانه، تبقى يمنه شكد ما تحتاج،
لحد ما ترجعون لبيتكم… وتتحرر الأرض."
شير رفع عيونه، وبابتسامة مشوبة بالدموع، گال:
"إن شاء الله… نرجع."