رواية ظل البراق الفصل الرابع بقلم مريمة
بعضُ القلوب لا تبوح، لا تصرخ، لا تطلب.
هي فقط تختزن الأسرار كأنها وُلدت لتكتم، لتتحمّل، ولتبقى وحدها في الزاوية البعيدة من الحياة.
هناك في الصمت... تنمو الحكايات التي لا تُقال، وتتراكم الأحاسيس التي لا تجد مخرجًا.
وربّما... كان أقسى ما في القلب، أن يفيض دون أن يُرى.
"قد يجمع البيت الواحد بين أنفاسٍ متقاربة، وذكرياتٍ مشتركة، وموائد يجلسون حولها منذ الطفولة، لكنّ القلوب ليست بالضرورة على وتيرة واحدة. فمن بين الجدران التي تحتضنهم، قد تنشأ مسافات لا تُرى، فجوة يصنعها الاختيار، لا المكان.
هناك من يختار أن يسير في طريقٍ مستقيم،يحكمه الدين و المبادئ، ويتشبّث بالقيم التي نبتت في قلبه منذ الصغر. وهناك من يلتفت إلى طرقٍ ملتوية، يظنها أقصر نحو لذّة أو مغنم، غير عابئ بما قد يتركه خلفه من أثر.
والعجيب أن من عاشوا طفولتهم في ذات الدار، وتشابهت أصوات ضحكاتهم، وتردّدوا على المدرسة نفسها، قد يصير أحدهم شرف العائلة وفخرها، بينما يصبح الآخر عبئًا ثقيلًا على سمعتها. ليس الأمر دائمًا عن نقصٍ في التربية أو قسوة في المعاملة، بل عن اختلاف فطرةٍ وميول، وعن قلبٍ اختار الإصغاء لهمسٍ آخر غير ما نشأ عليه. وهكذا، قد تجد بين أبناء البيت الواحد من يرفع الرأس، ومن يجرّها إلى الأسفل، وكأن الحياة أرادت أن تكتب في سطورهم درسًا عن أن القرابة لا تضمن التشابه، وأن الدم المشترك لا يمنح الروح الواحدة."
................
في إحدى الزوايا المعتمة من مقهى صغير على أطراف الحارة، جلس "خالد" متكئًا إلى الكرسي بغير اكتراث، سيجارة مشتعلة بين أصابعه، والدخان يتصاعد ببطء أمام عينيه. كان المكان شبه خالٍ إلا من صوت مروحة قديمة تدور بكسل، ورائحة القهوة الثقيلة التي اختلطت برائحة التبغ. حوله جلس مجموعة من رفاقه المقرّبين، يتبادلان الضحكات الخافتة، وكأنهم جميعًا يتقاسمون سرًا لا ينبغي أن يخرج إلى العلن.
ألقى خالد نظرة خاطفة نحو الباب، ليتأكد أن لا أحد يعرفه قد دخل. هو يدرك تمامًا أن اسمه في الحارة أكبر من أن يرتبط بهذه الجلسات، وأن صورته أمام أهله يجب أن تبقى كما هي: الشاب الغني، ابن العائلة المحترمة. لكن هنا، في هذه الزاوية المخفية، كان يسقط القناع قليلًا.
مدّ أحد أصدقائه الكوب الزجاجي الصغير أمامه، وهمس وهو يبتسم بخبث:
– "إيه يا خالد… لسه على وقارك ده؟ ولا نسيّت نفسك؟"
ارتسمت على وجه "خالد" ابتسامة جانبية، وأخذ الكوب بيده، يقلبه بين أصابعه دون أن يشرب فورًا، وكأنه يستمتع بلعبة التريّث. ردّ بصوت هادئ لكنه ينضح بالثقة:
– "في حاجات ما بتتعملش قدام الكل… مش أي حد يستحق يشوف النسخة التانية مني."
ضحك أصدقائه، ضحكة قصيرة لكنها محمّلة بالتواطؤ، قبل أن يعودوا إلى أحاديثهم المقطّعة التي لا يليق أن يسمعها غريب.
أشعل خالد سيجارة أخرى قبل أن تُطفأ الأولى تمامًا، وكأنه يحاول ملء الفراغ بين الكلمات بالدخان. كان يتحدث ببطء، يختار ألفاظه بعناية، بينما عيناه تراقبان انعكاس الضوء على الطاولة الزجاجية.
قال صديقه الأسمر النحيف "متولي"وهو يميل بجسده للأمام:
– "بس برضه، مهما عملت، مش هتعرف تعيش النسختين طول العمر… في يوم هيتقابلوا."
ابتسم "خالد" ابتسامة خفيفة، لكن عينيه فقدتا شيئًا من بريقهما للحظة:
– "أنا اللي بحدد إيه يبان وإيه يختفي… فاهم؟"
تدخل "أحمد"، وهو أكثرهم فوضوية، يعبث بعلبة الكبريت على الطاولة:
– "طب، و… الموضوع اللي كنا بنتكلم فيه المرة اللي فاتت؟ هتكمّله ولا لأ؟"
انحنى "خالد" قليلًا، صوته أصبح أكثر انخفاضًا، وكأنه لا يريد حتى للجدران أن تسمع:
– "هكمّله… بس مش دلوقتي. لازم كل حاجة تمشي بخطوات، مفيش داعي نستعجل."
هزّ متولي رأسه بتفهم، بينما أطلق "أحمد" ضحكة قصيرة:
– "إنت دايمًا كده… تخلي الواحد يفضل معلّق!"
رد "خالد" وهو يزفر دخان سيجارته ببطء:
– "التعليق بيخلي الناس تفكّر أكتر… وأكتر حاجة بحبها، إنهم يفضلوا يفكّروا فيا."
قال "متولي"بغمزة وهو يضحك:
_ " قصدك بكلامك ده موضوعنا ولاااا، رقية؟ هو انت لسه بتجري ورا البت دي؟ ولا خلاص زهقت؟"
لم يلتفت "خالد" فورًا، بل نفث دخانًا كثيفًا ثم قال بهدوء:
– "أنا ما بجريش ورا حد."
ضحك "أحمد" وهو يصفق على الطاولة:
– "يا عم بلا كدب… الحارة كلها شايفاك بتبص عليها كأنك هتبلعها، وهي ولا هنا!"
ابتسم "متولي" بسخرية وهو يحرّك ملعقته في كوبه:
– "أصل هي مش من النوع اللي بيبص وراه… البنت دي دماغها مشغولة بحاجات أكبر منك."
ارتسم خط توتر خفيف حول فم" خالد"، لكنه حاول يخفيه بابتسامة جانبية:
– "ده عشان هي مش فاهمة… أو يمكن مستنية الوقت الصح."
ضحك "أحمد" بصوت عالٍ:
– "وقت إيه يا عم؟ دي لو كانت مستنياك، كانت إدّتك إشارة من أول يوم."
التفت "خالد" ناحيته بنظرة باردة، وقال وهو يطفي سيجارته في الطفاية ببطء:
– "في ناس بتحب اللعبة تطوّل… وأنا ما بحبش الحاجة اللي تيجي بسهولة."
قال "متولي":
– "أنت بتقول كده عشان تبرر إنها مش معبراك… بس أنا بقولك، لو فضلت كده، هتلاقي غيرك سبقك."
ساد صمت قصير، ثم انحنى خالد للأمام، صوته منخفض لكن حاد:
– "اللي هيجي غيري… هيتعب. وهي عارفة كده."
"أحمد" هز رأسه، نصف ضاحك ونصف ساخر:
– "والله يا خالد، شكلها هتتعبك أنت قبل ما تتعب أي حد، وهتترفض برضوا في الأخر."
"خالد" رفع حاجبه، ابتسامة صغيرة على فمه لكن عينه كانت بتلمع بنوع من العناد:
– "هي مين اللي ترفضني؟! أنا بس اللي مش فاضي لها دلوقتي."
"متولي" انفجر ضاحكًا، حتى كاد يقع من مكانه:
– "مش فاضي لها؟ يا راجل ده لو كانت معبّراك كانت زمانك عملت فرح في نص الحارة!"
شخص ثالث، قال بنبرة ساخرة وهو يهز الكوب:
– "هو أنت مش واخد بالك إنها أصلاً ما بتحبش حتى تبص في وشك؟ ولا إيه؟"
"خالد"،بدلاً من أن يتضايق ، مدَّ ساقيه إلي الأمام واتكأ أكثر ،ثم نفث الدخان ببطء:
– "رقية دي… قصة لوحدها. وبعدين، اللي ما تطولوش النهارده، تطوله بكرة."
– "يعني إنت مصمّم؟"
"خالد" ابتسم ابتسامة مائلة، ضرب بإصبعه على الطاولة:
– "أنا لو حطيت حاجة في دماغي… مفيش قوة توقفني."
ضحكوا من جديد، لكن الضحك هذه المرة كان به نوع من التحدي، كأنهم يقولوا له "هنشوف". واحدً منهم أشار بسيجارته ناحية خالد:
– "إحنا بقى قاعدين بنتفرج… بس ما تيجي تقولنا بجد إيه اللي عاجبك فيها؟"
– "شكلها… وقفتها… طريقة كلامها… نظرتها اللي فيها كبرياء. هي مش زي أي بنت هنا."
ضحك أحدهم وقال:
– "آه كبرياء… يعني مش طايقاك!"
ضحك "خالد" معهم، لكن ضحكته كانت أقرب للغموض:
– "كل ده كلام… وأنا واثق إني هكسر الكبرياء ده."
الغرفة امتلأت بالدخان، والضحك استمر، لكن في قلب خالد كانت نار تشتعل، نار العناد والتحدي والرغبة في إثبات نفسه، ليس فقط لنفسه… بل ايضًا لاصدقائه وللحارة .
........
رغم أن الدم الذي يجري في عروق الأخوين واحد، والبيت الذي نشأا فيه سقفه واحد، إلا أن المسافة بين روحيهما لا تُقاس بالخطوات، بل بالقيم والمبادئ التي تشكّلت في داخلهما. خالد، بطبعه المائل إلى الانفلات والبحث عن المتعة السريعة، ظل يسلك طرقًا ملتوية بعيدًا عن أعين أهله، بينما "عبد الله"، أخوه الأصغر، بدا وكأنه يسير في خط مستقيم مرسوم بعناية، يضع قدميه على أرض صلبة، ويعرف أين يضع خطوته التالية قبل أن يخطوها.
كان عبد الله في مطلع شبابه، طالبًا مجتهدًا في السنة الأولى من كلية الهندسة الميكانيكية، يحمل في عينيه بريق الطموح، وفي قلبه احترامًا عميقًا لكل من حوله، خاصةً لعمه عامر البرّاق، الذي لطالما اعتبره قدوة في الجِدّ والعمل. ذلك العم الذي ورث مهنة إصلاح السيارات عن أبيه، وحوّل ورشته الصغيرة إلى مكان يعج بالحركة والصوت والروائح الممزوجة بين زيت المحركات ودخان العوادم.
في صباح ذلك اليوم، خرج" عبد الله" من البيت بخطوات ثابتة، مرتديًا قميصًا قطنيًّا بسيطًا وبنطال جينز داكن، يحمل في يده حقيبة صغيرة تحوي أدواته وكراسته التي يدون فيها ملاحظاته أثناء التدريب. كان الجو مائلًا إلى الدفء، والشمس تتسلل بين أسطح البيوت القديمة في الحارة، لتسقط أشعتها على الإسفلت المليء بآثار الزيت وبقع الشحم أمام الورشة.
دخل عبد الله الورشة في الصباح، مبتسمًا، يحيّي الجميع بصوت واضح:
– "صباح الخير يا رجالة."
رفع "عم عامر" رأسه ، وابتسم نصف ابتسامة وهو يمسح يديه في قطعة قماش:
– "صباح النور يا باشمهندس… وريني بقى إيدك عاملة إيه من الشغل ولا لسه ناعمة من الراحة والدلع!."
ضحك" عبد الله" بخفة، وتقدّم نحوه وهو يقول:
– "لسه يا عمي بتعلّم، بس هتلاقيني قريب زيك."
تدخّل أحد العمال، وهو شاب في الثلاثين من عمره، له نظرة مازحة دائمًا:
– "زيه؟! ده إحنا لسه بندوّر على حد يلحقه."
ضحك الموجودون، لكن "عبد الله "أخذ المزاح بروح طيبة، وأمسك بالمفتاح الإنجليزي، ينحني بجوار عمه الذي كان يشرح شئ لأحد العاملين :
– "ماشي… هنشوف مين اللي هيلحق التاني."
جلس على ركبتيه، ينظر بإمعان في القطعة التي يشير إليها عمه، يسأله عن كل تفصيلة، وكأنه لا يكتفي بالعمل اليدوي فقط، بل يريد أن يفهم كيف تفكّر الماكينة.
– "بص يا عبد الله… المكنة دي بتعرف حالها من صوتها، لو الصوت تغيّر، يبقى في حاجة مش مظبوطة. مش أي واحد يعرف يسمع الفرق، لكن اللي بيركّز وبيحب الشغل ده، هيعرفه."
هزّ "عبد الله" رأسه باهتمام:
– "يعني الموضوع مش بس إيدين… الموضوع ودان وعقل."
ابتسم عامر بفخر:
– "بالظبط… وعشان كده أنا مبسوط منك، باين عليك هتطلع مهندس جدع، مش بس بتاع كتب."
وقف عبد الله يمسح العرق عن جبينه، بينما أحد الزبائن يدخل الورشة. أسرع عبد الله يبتسم له، يفتح له الطريق، ويسأله:
– «حضرتك عايز تصلّح إيه النهارده؟»
لم يكن عبد الله يتعامل مع الورشة كمكان لقضاء الوقت، بل كمدرسة حقيقية يتعلم فيها الصبر والدقة، ويفهم منها كيف يعمل قلب السيارة، وكيف يقرأ صوت المحرك وكأنه حوار سري بين الحديد والزيت. كان يحرص على مساعدة العمال، ينحني ليمد يده تحت السيارة دون تذمر، ويمسح العرق عن جبينه بمنديل صغير يحتفظ به في جيبه.
في كل مرة يراه العم عامر منهمكًا، كان يشعر بالرضا، وفي داخله مقارنة صامتة بين هذا الفتى الذي يعرف قيمة العمل، وأخيه الأكبر الذي لم يرَ يومًا فائدة في التعب، منشغلًا بطرق أخرى لم تجلب له إلا ضحكات أصدقاء السوء. ومع ذلك، لم يكن عبد الله يذكر اسم خالد بسوء، بل كان يرى أن احترام العائلة يبدأ من كفّ اللسان عن التجريح.
_______________________
"هي لم ترَ ما فعله من أجلها، لم تُدرك كم مرّة تراجع عن حلمٍ كي لا يُقلق راحَتها… كلّ ما رأته هو أنه لا يشبه ما تمنَّته."
رغم أنّ بيت الحاج عامر البرّاق كان يتسع لأنفاس أجيالٍ متعاقبة ورغم الرُقي الذي به، إلا أنّه ظلّ محكومًا بجدران الحارة الضيقة. النوافذ تطلّ على الأزقة المزدحمة، والسطح يطلّ على أسطح أخرى متلاصقة، حتى الشمس كانت تدخل بتردّد وكأنها تستأذن. وبين تلك الجدران، نشأت نادين، ابنة الحاج عامر المدللة، في بيت يفيض بالراحة واليسر، لكن قلبها ظلّ يرفض فكرة أن يكون سقف أحلامها هو نفس السقف الذي ظلّ والدها متمسكًا به.
في تلك الظهيرة الهادئة، حيث الشمس تسكب ذهبها الخفيف على أرضية الصالة، جلست نادين إلى طاولة صغيرة من الخشب المعتّق، أمامها فنجان شاي بالكاد تلاعبه البخار. كانت أمها، انتصار، تجلس مقابلة لها، تحمل كوبها بيد، وتقلّب السكر بملعقة صغيرة بصوت رتيب، بينما عيناها تتابعان ملامح ابنتها بدقة خبيرة.
تنهدت" نادين "بملل وهي تضع الفنجان على الطاولة، ثم قالت بصوت ممتزج بنبرة استعجال:
ــ "ماما، أنا مش قادرة أستنى أكتر من كده… لازم نسرّع في إجراءات الطلاق من يوسف."
رفعت "انتصار" حاجبيها قليلًا، مائلة بجسدها للأمام وكأنها تريد أن تلتقط كل كلمة.
ــ "ليه الإستعجال ده يا نادين؟ مش كنتِ متأكدة من قرارك من الأول؟"
أشاحت" نادين" بيدها في حركة دالة على الضيق:
ــ "كنت متأكدة إني مش هكمّل معاه، بس دلوقتي أنا متأكدة أكتر إني ضيعت وقتي معاه… يوسف طول النهار كلام حب وأحلام رومانسية، وأنا مش عايزة ده، أنا عايزة حد يطلعني من الحارة دي، يفتح لي باب جديد لحياة أكبر."
ابتسمت "انتصار" ابتسامة صغيرة، فيها شيء من الانتصار الخفي:
ــ "مش قلتلك من الأول بلاش يوسف؟ أنا كنت شايفة من بعيد إنه مش من مستوانا… شاطر آه، مؤدب آه، بس في الآخر على قد حاله، ولا عمره هيعرف يحقق لكِ اللي بتحلمي بيه."
اعتمدت "نادين" بظهرها على الكرسي، ونظرت إلى السقف وكأنها تحصي المرات التي سمعت فيها تلك الجملة من أمها:
ــ "عارفة يا ماما… كنت فاكرة إن الحب بيأكل عيش… طلعت كدبة كبيرة."
قهقهت" انتصار "ضحكة قصيرة وهي تضع فنجانها على الطاولة:
ــ "الحب حلو يا بنتي، بس الحلو ده ما يدومش لو مفيش وراه قوة وفلوس…
سكتت لحظة، ثم مالت للأمام ونظرت في عيني نادين مباشرة:
ــ "أنا قلتلك من الأول، أنتِ تأثيريك عليه واضح… كُنتِ تقدري تغيريه وتطلعيه من الحارة دي، بس هو ما عندوش الجرأة… ودي مش مشكلة صغيرة، دي حاجة تخلي الحياة واقفة مكانها."
أمسكت "نادين "ملعقتها وأخذت تحركها في الفنجان الفارغ بلا وعي، ثم تمتمت وكأنها تحدث نفسها:
ــ "أنا محتاجة أبدأ من جديد، وأختار صح المرة دي."
وضعت انتصار يدها فوق يد ابنتها وربتت عليها بلطف، لكن عينيها كان فيهما بريق طموح أكبر بكثير من الطلاق نفسه:
ــ "والمرة الجاية، مش هنسيب حاجة للصدفة… إحنا اللي هنختار، وإحنا اللي هنرسم الطريق."
وبينما الأم والبنت في سجالهما المعتاد، انفتح باب الصالة بهدوء، ودخلت عمة نادين، تلك المرأة الأرملة ذات الحضور الهادئ والوجه المضيء، التي كانت تقيم معهم منذ سنوات. خطواتها بطيئة، لكنها تحمل ثِقَل الحكمة في كل حركة.
اقتربت وهي تبتسم ابتسامة باهتة، ثم جلست على الكرسي المقابل لهما، وضمت يديها في حجرها قبل أن تقول بنبرة دافئة وهي تنظر إلي نادين:
_"إيه يا بنتي، شايفاكي مش مرتاحة، وعينيكِ فيها كلام كتير. الطلاق مش كلمة سهلة تتقال، والزواج مش لعبة نرميها وقت ما نتضايق. الدنيا مش فلوس وبس، يا نادين… المال بيروح وييجي، لكن العِشرة والرحمة لو ضاعوا، ما في فلوس في الدنيا تعوّضهم."
ظلت تحدّق في نادين لحظة، ثم أضافت بنبرة أكثر جدية:
– " الدنيا مش فلوس وبس، واللي فاكر إن الفلوس هتفتح له باب الجنة يبقى بيخدع نفسه. قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً…
السكن يا نادين مش في بيت واسع ولا في شارع راقي، السكن في قلب راجل يحافظ عليكِ ويصونك."
خفضت نادين عينيها للحظة، لكن نبرة تحدٍ ما زالت تلوح في صوتها:
– "بس يا عمّة… وإيه فايدة الراجل لو مش قادر يغير حياتي للأحسن؟"
ابتسمت "فريدة "بحزن، وقالت وهي تضع يدها على يد نادين:
– "الحياة الحلوة يا بنتي مش دايمًا بتيجي من بره، ساعات بتكون جوه قلبك… لو قلبك مش راضي، حتى القصور مش هتسعدك."
أطرقت نادين برأسها، تحرّك الملعقة في كوبها بلا تركيز، بينما"فريدة"تتابع:
ـ "أنا عشت وشفت، واللي شوفته علّمني إن الراحة مش في المكان اللي إحنا فيه، ولا في عدد الجنيهات اللي في الجيب… الراحة في النفس اللي مطمّنة، وفي البيت اللي فيه ستر ورضا. فكّري كويس، قبل ما تمشي خطوة تندمي عليها."
تنفّست" نادين "بعمق، وعينيها تجولان في المكان بضيق:
ـ "أنا تعبت من الشوارع الضيقة والناس اللي عارفة كل كبيرة وصغيرة عن حياتنا. أنا عايزة خصوصية، عايزة أعيش وسط ناس مش كل يوم واقفين على باب البيت يحكوا في سيرة اللي رايح واللي جاي."
اقتربت العمة قليلًا، وصوتها اكتسب دفئًا أشد:
ـ "الخصوصية مش في الحيطان اللي حواليكي، يا نادين، دي في القلوب اللي بتعيشي معاها. ممكن تعيشي في فيلا كبيرة، وتلاقي نفسك وحيدة وسط ناس ما يهمهمش إذا كنتِ فرحانة ولا مكسورة. وأنا شفت بعيني جوازات ضاعت رغم إن أصحابها كانوا ميسورين. المهم يكون في عشرة حلوة، وواحد يعرف يوقف جنبك في الضيق قبل الفرح."
أطرقت نادين للحظة، ثم رفعت رأسها وعينيها تحملان بريقًا من العناد:
ـ "يمكن كلامك صح... بس أنا مش قادرة أعيش حياتي كلها هنا. لازم أجرّب أعيش برا الحارة، أشوف الدنيا أوسع من كده."
أطلقت العمة تنهيدة طويلة، وهي تدرك أن قلب نادين ما زال متمسكًا برغبته، لكنّها لم تيأس من محاولة إقناعها:
ـ "أنا مش ضد إنك تشوفي الدنيا... بس اختاري بعقلك وقلبك مع بعض، مش بعينك على الرخام والستائر. شوفي مين اللي هيشيل معاكي الشيلة، مش بس مين اللي هيدفع الفاتورة."
ساد الصمت في الغرفة بعد أن أنهت العمة كلماتها، وبقيت نادين تحدّق في فنجان الشاي أمامها، كأنها تحاول أن تجد بين تموّجات سطحه إجابة لشيء ما يضجّ في قلبها.
انتصار اكتفت بزفرة طويلة، ثم نهضت ببطء وهي تُعدل طرحتها، بينما العمة ظلّت في مكانها للحظة، تراقب ملامح ابنة أخيها، وفي عينيها مزيج من الشفقة والرجاء.
كانت الشمس في الخارج قد بدأت تميل نحو الغروب، تتسلّل خيوطها البرتقالية من النافذة لتغمر وجوههن بضوء دافئ، لكنه لم يستطع أن يبدّد ثِقَل الجو داخل الغرفة.
في تلك اللحظة، شعرت نادين باضطراب خفي في صدرها؛ مزيج من العناد والرغبة في التمسّك بما تريد، والخوف من أن تكون كلمات العمة قد أصابت شيئًا في العمق.
لكنها لم تُظهر ذلك، وفضّلت أن تُبقي الأمر حبيس قلبها، ترفع فنجانها لترشف آخر ما فيه، وكأنها بذلك تُغلق الحديث كله.
………………..
كان النهار قد بلغ منتصفه، والشمس تسطع على الحارة بأشعتها القوية، فتجعل الأرض وكأنها تعكس ضوءًا لامعًا يزيد من حرارة الجو. أصوات المارة، وضحكات الأطفال وهم يركضون بين الأزقة، ورائحة الخبز الطازج المتسللة من فرن قريب؛ كلها كانت تشكّل لوحة حية للحياة اليومية في هذا المكان.
في قلب الحارة، حيث يقع مطعم رقية الصغير، كانت الحياة تدور بنشاط لا يهدأ. المراوح الكهربائية تتأرجح ببطء فوق الرؤوس، والمقاعد الخشبية على الجانبين، وأصوات أواني الطهي وهي تصطدم ببعضها، تختلط مع أصوات الزبائن الذين يتبادلون الحديث والضحك. وسط هذا الجو الحميمي، كانت رقية تتحرك بخفة بين الموقد والطاولة، تراقب إناء الفول الكبير وهو يغلي بهدوء ، بينما صوت الزيت يتماوج برائحة شهية تنتشر في المكان.
على الطاولة الجانبية، جلست مدام ناهد، مرتدية مريلتها الملوّنة، تمسك دفتر الحسابات، وعينها تتابع رقية بابتسامة دافئة. كانت كلتاهما قد اعتادتا هذه اللحظات، حيث لا يمرّ يوم دون مشاغبة خفيفة أو تعليق طريف.
رفعت" ناهد "رأسها وهي تضحك:
– "يا رقية، والله إنتي لو كنتِ اتولّدتي في أوروبا كانوا عملوكي مديرة أكبر مطعم في البلد هناك."
ابتسمت" رقية" وهي تقلب الفلافل:
– "سيبيكي من أوروبا يا ست ناهد، إحنا عندنا هنا أهم… إحنا اللي بنعمل الأكل بحب، مش بالماكينات."
ضحكت" ناهد" وهي تغمز لها:
– "أهو الحب ده هو اللي بيخلّي الزباين مش قادرين يستغنوا عنك."
نظرت لها "رقية " بضيق وهي تقول:
_ " ناااااهد ، إهدي يا حبيبتي شوية ، واشتغلي،هاا اشتغلي."
"ناهد" وهي تنظر لها بنصف عين:
_" حاضر يا اختي ، هشتغل ."
لم تمضِ دقائق حتى دخلت نادية، تحمل في يدها كيسين من الخضار والفول، وجهها متجهّم وعيناها تتنقلان بين رقية وناهد. وضعت الأكياس على الطاولة وهي تقول بنبرة ضيق:
– "رقية… الست أم أحمد مغلية الأسعار للضعف! الفول اللي كان بخمسة بقى بعشرة، والخضرة اللي بريال بقت بريالين… أنا مش فاهمة إيه اللي بيحصل."
رقية رفعت حاجبيها:
_ "للضعف؟!"
نادية:
_"أيوه، قالت الجملة المشهورة: هو كل حاجة بقت غالية، وإحنا كمان لازم نغلي."
"مدام ناهد" بتأفف:
_ "يا سلام! طب واللي زينا هيعملوا إيه؟"
تنهدت "رقية"، ثم مسحت يديها بمنديل وقالت:
_"طيب، أنا هروح لها دلوقتي. خليني أشوف إيه الحكاية معاها."
"مدام ناهد" بضيق وتساؤل:
_ "وإحنا نعمل إيه لو رفضت ترجع للأسعار القديمة؟"
قالت بصوت متزن:
– "بُصي يا ناهد… الرزاق هو الله، وإحنا بنشتري وندبّر على قد ما نقدر. ربنا قال: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}، وقال النبي ﷺ: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا»… يعني الأسعار تعلى أو تنزل، الرزق مكتوب، واللي بيرزق في الغني بيرزق في الفقر ،أحنا ما علينا غير السعي والأخذ بالأسباب."
تنهدت" ناهد" وهي تضع دفتر الحسابات جانبًا:
– "معاكي حق، بس برضه لازم نعرف إيه السبب."
أومأت "رقية "وهي تعدل من حجابها جيدًا:
– "أنا هروح لها دلوقتي وأشوف إيه الحكاية."
خرجت من المطعم، وخطت بخطوات ثابتة نحو آخر الحارة حيث يقع سوق الحارة كانت الحارة تعجّ بالحركة؛ أطفال يركضون خلف كرة صغيرة، وباعة متجولون ينادون على بضاعتهم، ونسوة يتبادلن الحديث على عتبات البيوت.
وقفت رقية أمام طاولة الست أم أحمد، التي كانت ترتب حزم البقدونس والكزبرة.
رقية بابتسامة دافئة:
_ "السلام عليكم يا أم أحمد."
أم أحمد وهي ترد السلام:
"وعليكم السلام ورحمة الله، إزيك يا بنتي؟"
رقية بجدية وهي تسحب كرسي صغير وتجلس عليه:
_"الحمد لله، سمعت إن الأسعار عندك زادت النهارده زيادة كبيرة… إيه السبب؟"
أم أحمد، وهي تتنهد:
_ "يا بنتي، الدنيا بقت نار، والتجار الكبار مش بيرحموا … التاجر اللي بجيب منه غلّى عليا، وأنا لو ما غلّيتش هخسر… الدنيا ولّعت."
ابتسمت رقية ابتسامة صبورة، وقالت:
– "أنا فاهمة، وكلنا في الهوا سوا… بس برضه لازم نرحم بعض، ربنا بيقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون. إحنا مش بناخد من حد، إحنا بناخد من فضل الله {يرزق من يشاء بغير حساب}، والرزق مش بس فلوس… البركة رزق، والرضا رزق، وحب الناس رزق… لو غلّينا قوي الزباين هتقل، وساعتها هنخسر أكتر."
أم أحمد ابتسمت بخجل:
_"والله كلامك بيرطب القلب."
رقية بهدوء:
_" ماتنسيش إني بأخد منك كميات ،خلي الأسعار معقولة، وأهو رزقك هيتبارك. اللي بيراعي الناس ربنا بيراعيه."
هزّت أم أحمد رأسها بتفكير، ثم قالت:
– "والله كلامك على راسي… خلاص يا رقية، علشانك وعشان العِشرة، هعملك الأسعار زيادة الربع بس مش ضعف، وربنا يعوّضني."
ابتسمت رقية شاكرة، ثم اشترت ما تحتاجه ودفعت الحساب، وقالت وهي تنهض:
– "هخلّي محمود ييجي ياخد الحاجات بعد شوية، تسلمي يا أم أحمد."
كانت رقية في طريق العودة تحمل كيسًا صغيرًا بيدها، وحين اقتربت من المطعم، جاءها صوت مألوف من الجهة المقابلة:
– "هوووب، يا ست رقية!"
التفتت، فإذا بيوسف، يقف أمام ورشته الكبيرة، المليئة برائحة الخشب وصوت المناشير. كان يرتدي قميصًا مفتوح الأزرار من الأعلى، ويمسح يديه بمنشفة صغيرة، وعلى وجهه ابتسامة واسعة.
"يوسف"، بمشاكسه:
– "هو إنتي ما بقتيش تعدّي تسلّمي ليه؟ ولا الشهرة خدتِك مننا؟"
"رقية"، وهي تضحك:
– "شهرة إيه بس؟ أنا كل يوم معدّية، إنت اللي مشغول في ورشتك ومش فاضي تشوف حد."
"يوسف"، متظاهرًا بالزعل:
– "أها! يعني أنا الغلطان. طب خلاص، هعملك كرسى مخصوص عشان تفكري تعدّي وتقعدي شوية."
رقية:
– "كرسي؟ طب هاتلي ترابيزة كمان عشان أحط عليها الفول."
انفجر "يوسف" ضاحكًا، ثم قال بتذكر:
– " استني استني ! بقالك كام يوم تقولي هجيب البنات وأجي أقعد ما خالتي شوية وماجتيش ليه يا أختي؟."
"رقية"، بأسف:
– "والله يا يوسف البنات كانوا عندهم امتحانات عملي كتير الفترة اللي فاتت وأنا قولت اسيبهم في مذاكرتهم"
قال بهدوء:
_ " ربنا يوفقهم يارب ، مش هقولك تعالي إنهاردة عشان عارفك مابتحبش تطلعي من البيت الخميس بالليل ، فتعالوا بكرة اتغدوا معانا بقي."
قالت" رقية" بابتسامة:
_ " كان علي عيني يا أبن خالتي ، بس ناهد هتقضي اليوم معنا بكرة ونتغذا مع بعض ، ومش هينفع السبت عشان قايله لعيال خالتك إني هخرجهم شوية ."
قال بحماس معتاد منه:
_ " طب ما نطلع كلنا إنتوا وأنا وناهد وأجيب خالتك معانا ونحاول مع الحاج أبويا يطلع معانا ، ها أيه رأيك؟"
قالت بتأكيد ورضا:
_" والله خطة حلوة ، ماشي موافقة قول للي عندك بقي ، ونبقي نطلع شوية."
ابتسم "يوسف " وقال:
– "حاضر يا ست رقية، قومي يلا عشان معطلاني عن أعمالي واحوالي."
ابتسمت رقية وهي تضرب كف بكف ، وقامت لتتجه للمطعم، وصوت يوسف يعلو من خلفها:
– "بس متنسيش، الكرسي جاهز بكرة!"
كانت رقية قد عادت إلى المطعم بعد جولتها في السوق، الهواء الساخن الذي التصق بوجهها أثناء الطريق تلاشى تدريجيًا أمام نسيم المروحة المعلّقة في السقف، ورائحة الفول الممزوجة بعبق الطحينة تملأ الأجواء. جلست مدام ناهد على الكرسي القريب من الكاونتر، تراجع الدفاتر بخفة يد خبيرة، بينما كان محمود يرص أطباق الطعمية المقلية على الصينية النحاسية الكبيرة.
"مدام ناهد "وهي ترفع رأسها مبتسمة:
ـ "ها رجعت يا ست الكل؟ السوق ولع ولا لسه؟"
"رقية" تتنفس بعمق:
ـ "ولع وزيادة، الأسعار مولعة نار، بس الحمد لله، ربنا بيسترها."
ضحكت" ناهد "وهي تهز رأسها:
ـ "إنتِ دايمًا كده.. لو الدنيا خربت هتلاقيكي بتقولي الحمد لله."
ابتسمت رقية بخفة وهي تقول:
ـ "وهو في غير كده؟ لو فضلنا نحسبها بالفلوس مش هنعرف نعيش، الرزاق هو الله يا ناهد، واللي خلقنا هو اللي بيقسم رزقنا، الفقر والغِنى من عنده، واللي يرضى بقليله.. ربنا يبارك له."
نظرت ل"محمود" وقال بصوت مرتفع نسبياً:
_"يا حوده..روح هات الحاجات من عند أم أحمد ، خُد توكتوك وهاتهم عشان جايبه كمية كبيرة من الفول ، وعدي علي بتاع الأنابيب أكد عليه الأنابيب اللي هيجبها بكرة."
"محمود " :
_" حاضر، هخلص بس الطلبية دي وأروح علي طول ."
في تلك اللحظة ،دخل سيف، يضع حقيبته المدرسية على كتفه، وملامحه تحمل مزيجًا من العجلة .
"سيف" وهو يمد يده لأخته:
ـ "رقية.. إديني مية جنيه بسرعة، مستعجل على الدرس."
نظرت له رقية بعينين حانيتين لكنها متفحصة، كأنها تبحث عن شيء في ملامحه، ثم فتحت درج الكاش وأخرجت المبلغ.
رقية:
ـ "خد يا حبيبي، وخلي بالك من نفسك، وبلاش تتأخر ."
أخذ المال وهو يبتسم نصف ابتسامة، ثم خرج مسرعًا دون أن يلتفت.
بقيت "رقية" تحدق للحظة في أثره، ثم التفتت إلى ناهد وقد خفت صوتها:
ـ "مش عارفة يا ناهد.. قلبي مش مطمن. حاسة إن في حاجة مش طبيعية بتحصل مع سيف."
"مدام ناهد "وهي تلوّح بيدها باستخفاف مرح:
ـ "يا ست قلبي، إنتِ عارفة إنك أخت وأم في نفس الوقت، وطبيعي القلق ده، بس سيبيه يعيش شوية، الشباب كده، وكل حاجة هتبقى تمام بإذن الله."
ابتسمت رقية ابتسامة صغيرة، لكنها ظلت شاردة للحظة.
بدا كأنها تسمع في قلبها همسًا خافتًا، همسًا لا يستطيع أحد غيرها أن يسمعه، يخبرها أن الأيام القادمة تحمل شيئًا غامضًا، شيئًا لا تدري أهو خير أم شر، لكنها كانت تعرف جيدًا أن قلبها لم يخذلها يومًا. ومع ذلك، شدّت على طرف حجابها، وأكملت عملها وكأنها تؤجل مواجهة ما يختبئ في الأفق.
......
وفي ذلك الوقت
كان المعرض يعجّ بالحركة منذ الصباح الباكر؛ أصوات المحركات تُختبر في الساحة الخلفية، وصفير رافع، العامل الميكانيكي، وهو ينادي على أحد الصبية ليحضر له أداة ما. أما داخل صالة العرض، فكان كل شيء لامعًا؛ السيارات مصطفّة في صفوف متناسقة، زجاجها يلمع بفعل التنظيف المتكرر، وألوانها تتدرّج من الأسود الفخم إلى الفضي اللامع والأحمر الناري.
وقف مهاب وسط هذا العالم وكأنه القبطان الذي يعرف كل زاوية في سفينته. بذلته الرمادية كانت مُرتبة على نحوٍ يوحي بالثقة، وقميصه الأبيض مكويّ بعناية، أما ساعته اللامعة على معصمه فكانت تلتقط الضوء كلما رفع يده ليتفحّص ورقة أو يشير لأحد الموظفين. على مكتبه، تراكمت ملفات الطلبيات والفواتير، وبجانبه هاتفه المحمول الذي لم يتوقف عن الاهتزاز، فهو تارة يتحدث مع أحد المستوردين، وتارة أخرى يراجع أوراق الصيانة مع المشرف الفني.
كان صوته ثابتًا حاسمًا، لكن فيه هدوء لا يخلو من حزم:
ـ "تمام يا أستاذ سمير، أنا موافق على الشحنة دي... بس لازم المواعيد تبقى زي ما اتفقنا، مفيش تأجيل... العربيات دي لو اتأخرت هتوقف عندي تسليمات العملاء."
أغلق الخط ثم أشار بيده لحازم، أحد موظفي المبيعات، ليدنو منه.
ـ "حازم، بلغ عميل العربية البي إم إن الاستلام هيكون الخميس الجاي، وخلي الصيانة تراجع العربية مرة تانية قبل ما نسلمها."
كان كل من في المعرض يعرف أن مهاب لا يقبل نصف العمل، إما أن يكون كل شيء كاملًا على أكمل وجه، أو لا يتم من الأساس. وهذا ما جعل سمعته في السوق قوية، حتى بين منافسيه.
وبينما كان يراجع مع شروط شحنة جديدة من السيارات اليابانية، سمع خطوات مألوفة تقترب من مدخل المعرض. لم يكن بحاجة ليرفع رأسه ليتأكد، فهناك نبرة في السير وحضور في الملامح لا يخطئه. رفع عينيه من على الأوراق، ليجد مازن، أخوه الأصغر، يقف أمامه بابتسامة خفيفة لكنها مترددة.
كان مازن يرتدي بنطال جينز أزرق وقميصًا كحليًا بسيطًا، وشعره مُصفف بعناية لكن فيه قليل من الفوضى التي توحي بانشغاله الذهني. عينيه كانتا تحملان شيئًا من الحيرة، لكن أيضًا لمحة من الأمان وهو يقف أمام مهاب.
مهاب، الذي اعتاد أن يقرأ ملامح الناس، لاحظ فورًا أن أخاه لا يأتي هذه المرة لمجرد التحية أو الدردشة، هناك ما يشغل باله. ابتسم وهو يشير له أن يقترب:
ـ "إيه يا مازن؟ جاي تزور أخوك ولا جايلي بمهمة رسمية؟"
جلس "مازن "على الكرسي المقابل لمكتب مهاب، تنهد قليلًا قبل أن يرد:
ـ "بصراحة... جاي أتكلم معاك في موضوع مهم شوية."
أغلق "مهاب" الملف الذي أمامه،واتجه وجلس أمام مازن وأسند ظهره للكرسي، واضعًا يديه أمامه باهتمام:
ـ "خير يا أخويا؟ إحنا لبعض، قول."
تردد "مازن" لحظة، ثم قال:
ـ "أنا... مش مرتاح في الكلية يا مهاب. بقالى أربع سنين في تجارة، وكل ما أفتكر إني داخل على التخرج بحس إني مش عارف هعمل إيه. لا الكلية عجبتني، ولا شايف نفسي فيها. حاسس إني بضيع وقتي."
ظل "مهاب" صامتًا لثوانٍ، ينظر إلى أخيه بعينين هادئتين، ثم مال بجسده للأمام وقال:
ـ "طيب... إنت عايز تعمل إيه؟"
هز "مازن "رأسه بيأس:
ـ "مش عارف. كل الناس بتقول لي أكمل وأخلص الشهادة، وأنا... أنا تايه. مش بحب أشتغل مكتب، ومش حابب الروتين، لكن برضه مش لاقي طريقي."
ابتسم" مهاب "ابتسامة خفيفة، وقال بصوت دافئ لكنه حازم:
ـ "بص يا مازن... أول حاجة، إنت لازم تفهم إن مفيش حد هيحدد طريقك غيرك. لو فضلت تسمع لده وده، عمرك ما هتلاقي نفسك. الحياة مش ماشية على مقاس كل الناس، كل واحد له مقاسه هو. وبلاش بلاش يا مازن تمشي ورا كلامها وتصدق إنك عشان ابن ناس اغنيا يبقي تقعد وتحط رجل علي رجل ومتعملش حاجة في الحياة ،فاهم قصدي؟"
أطرق "مازن "برأسه، كأنه يمتص الكلمات ،كان يعرف أن مهاب يقصد والدتهم التي زرعت في قلب مازن وشخصيته دلع ليس له حدود. فأكمل مهاب:
ـ "أنا مش هقولك سيب الكلية ولا كملها، القرار ده بتاعك، بس اللي هقوله إنك لو حبيت تشتغل معايا، الباب مفتوح. المعرض محتاج دم جديد، وأنا واثق فيك. مش مهم تبقى دارس تجارة أو هندسة، المهم تبقى شاطر وعايز تتعلم. وأنا هسندك لحد ما تبقى أحسن منّي كمان."
ارتفعت عينا "مازن "فجأة، وارتسمت على وجهه ابتسامة امتنان صادقة:
ـ "إنت دايمًا شايلني يا مهاب."
مد "مهاب" يده وربّت على كتف أخيه بحب:
ـ "إنت مش ضيف في حياتي يا مازن، إنت نصي التاني. وأي حاجة تشيلها، أنا هشيل معاك."
ساد بينهما صمت قصير، لكنه كان صمتًا دافئًا، يعكس المحبة الحقيقية التي تربطهما. ثم قطع" مهاب" اللحظة بنبرة مرحة:
ـ "وبالمناسبة، بما إنك جيت هنا، مش هسيبك تمشي قبل ما تساعدني في مراجعة شحنة العربيات الجديدة."
ضحك "مازن" قليلًا:
ـ "يعني جاي أشتكي لك، تشغلني!"
ابتسم مهاب:
ـ "هو ده التدريب العملي... شد حيلك."
أخرج مهاب ملفًا من الدرج، فتحه أمام مازن، وأخذ يشرح له تفاصيل الشحنة الجديدة: الأسعار، المواصفات، تكاليف النقل، وحتى كيفية التفاوض مع الموردين. مازن بدأ يراجع الأرقام بسرعة مدهشة، قلمه يخطّ ملاحظات بجانب الأرقام، وعيناه تتحركان بين الأوراق بثقة.
"مهاب "رفع حاجبه بدهشة:
— "هوووه... إيه يا عم! إنت مركز إزاي كده؟ دماغك حلوة أوي ،ماشاء الله !"
ابتسم" مازن "بخجل:
— "أنا بحب الأرقام... يمكن دي الحاجة الوحيدة اللي بتشدّني."
قهقه "مهاب" وهو يناوله كوب القهوة:
— "يبقى أنت اللي هتمسكلي الحسابات قريب... بس اسمع مني، متسمعش كلام حد يهبّطك، ولا حتى كلام دماغك لما تضعف. الكلية كملها، وابدأ الشغل معايا من دلوقتي. كده تبني نفسك على مهلك، من غير ما تقع."
"مازن "رفع عينيه إليه، وفيهما لمعة امتنان:
— "يعني... موافق أشتغل معاك بجد ، هتشغلني أنا؟"
— "موافق، بل وأتمنى. أنا عايزك جنبي، مش بس كأخويا، كمان كشريك في النجاح. بس على شرط..."
— "شرط إيه؟"
— "إنك ما تمشيش ورا كلام حد، ولا تستعجل النتيجة. النجاح بياخد وقته، بس اللي بيزرع صح... بيحصد حاجة تفرّح."
ظلّا يتحدثان طويلًا، بين رشفة قهوة وأخرى، والمكتب أمامهما أصبح ممتلئًا بالأوراق والملاحظات. كان مهاب في كل كلمة يزرع في قلب أخيه بذرة ثقة، ومازن كان يشعر أن حملًا ثقيلاً يُرفع عن كتفيه تدريجيًا. وفي عيني مهاب، كان يرى نسخة أصغر من نفسه، لكنها ما زالت في بداية الطريق — طريق هو مستعد أن يسير معه فيه حتى النهاية.
.......
مريم دياب
كان صباح الجمعة يتسلّل إلى أزقّة الحارة كخيطٍ من نورٍ ذهبيّ ينساب على الجدران العتيقة، يوقظ القلوب قبل العيون. الهواء عليل، محمّل برائحة الخبز الطازج من فرن الحاج عمران، وصوت دجاج الجارة أم أنور يتداخل مع خرير مياه الحنفية التي يغسل بها أحد الصبية عتبة البيت. الحارة هادئة، وكأنها تُمهِّد لاستقبال هذا اليوم المبارك بوقارها المألوف.
في بيت رقية، كانت أشعة الشمس تدخل من النافذة الصغيرة وتنعكس على وجهها وهي واقفة أمام طاولة الكي، تمسك بالمكواة بحذر، تمرّرها على القميص الأبيض لسيف. كان واقفًا بجانبها، متململًا، يربّت على شعره ويُصلح ياقة القميص بين الحين والآخر.
قالت وهي تنفخ بخفة على البخار المتصاعد:
– "اثبت يا سيف، مش كل شويّة تتحرك."
ابتسم بخجل:
– "ما أنا مستعجل عشان ألحق أصلي مع يوسف ومهاب."
نظرت له بحنان وهي تُسلّم القميص:
– "ربنا يفتح عليك يا أخويا… أهم حاجة تركّز في الصلاة وتدعي."
في الركن، كانت هنا تراجع مذكّراتها، بينما نور تُحضّر لنفسها كوب شاي بالنعناع،وناهد الجالسة تنظر لهم بحنان، والجو في البيت يفيض بذلك الدفء الذي لا يُشترى.
خرج سيف بعد أن ارتدى قميصه، عطره البسيط يسبق خطواته. ألقى نظرة على أخواته وابتسم، ثم نزل الدرج بخفة، متوجّهًا للمسجد القريب.
مع اقتراب وقت الصلاة، امتلأ الطريق المؤدي إلى المسجد بروائح المسك والبخور، وأصوات التحية بين الجيران. كان الحاج عامر يسير بخطوات ثابتة، إلى جواره مهاب بثوبه الأبيض النظيف، ومازن يتبعه هو ومحمد وحسن ابناء عمته، بينما يوسف يمشي مبتسمًا وهو يربّت على كتف سيف. خلفهم كان الحاج عمران وإبنه والحاج رزق وعبدالله وبعض شباب الحارة.
المسجد كان يغمره نور ناعم، سجادته مفروشة بعناية، وأصوات التلاوة تتردد من مكبّر الصوت. الشيخ مصطفى، بعمامته البيضاء ولحيته الخفيفة، وقف على المنبر بابتسامة هادئة، ينظر للحاضرين بعينين مليئتين بالمودّة.
ارتفع صوته بالخطبة بعد الحمد والثناء على الله:
"أيّها الإخوة الكرام… حديثنا اليوم عن اسمٍ من أسماء الله الحسنى، اسمٌ إذا طرق قلبك فتح لك أبواب الرجاء، وإذا فهمته عشت في يقين العطاء… إنه اسم الله الوَهَّاب."
توقّف قليلًا ثم تابع بنبرة مؤثرة:
"الوَهَّاب… هو الذي يعطي بلا حساب، ويمنحك قبل أن تسأله، ويزيدك فوق ما تتمنّى. هو الذي وهبك الحياة، ووهبك الصحة، ووهبك الأهل والأحباب، ووهبك الرزق والأمان. نحن عبادٌ فقراء إلى عطائه، وهو سبحانه الغنيُّ الذي لا تنفد خزائنه."
كان سيف ينصت بعينين لامعتين، بينما مهاب أطرق برأسه في خشوع،
ويوسف يتمتم: "اللهم ارزقنا من واسع فضلك".
"يا عباد الله… إن فهمنا لهذا الاسم يجعلنا نعيش في رضا، فلا نيأس من تأخّر الرزق، ولا نحزن على ما فاتنا، لأننا نعلم أن العطاء بيده وحده، وأنه إن منع فإنما يمنع لخيرٍ أكبر نجهله. فكن عبدًا شكورًا، واثقًا أن ما عند الله خيرٌ وأبقى."
صمت الشيخ لحظة، ثم ختم بصوتٍ مؤثر:
"فلنطلب منه دائمًا أن يهبنا الهداية، وأن يهبنا قلوبًا سليمة، وأن يهبنا حبّ الخير لعباده. اللهم يا وهاب، هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا."
همهمت القلوب بـ"آمين" في صوت واحد، كان كأنه نسيمٌ من الدعاء ارتفع إلى السماء.
كانت الحارة، بعد انقضاء صلاة الجمعة، تغتسل بصوت المآذن الذي انقشع شيئًا فشيئًا، تاركًا خلفه سكونًا يليق ببهجة اليوم. أبواب البيوت انفرجت عن روائح الغداء المتصاعدة؛ بخار الأرز الأبيض، ورائحة الدجاج المحمّر، وصوت أواني تُطرق في المطابخ. في الساحة الصغيرة أمام المسجد، تجمع الشباب كعادتهم، يتبادلون التحية والضحكات، ويمسحون عرقهم بعد صلاة طويلة في جو دافئ.
كان "عبد الله "يقف في وسط الدائرة، يلوّح بيده وكأنه يلقي اقتراحًا لا يقبل الرفض، قائلاً بصوتٍ عالٍ:
ــ "بصوا يا جماعة… إيه رأيكوا بعد الغدا نعمل ماتش كورة كده، نولّع الحارة حماس؟"
ضحك "يوسف"، وهز رأسه بحماسة وهو يربت على كتف عبد الله:
ــ "وأنا أول واحد موافق! من زمان ما لعبناش ماتش يعدل دماغنا."
التفتت الأنظار إلى "مهاب"، الذي كان واقفًا متكئًا على سور المسجد، وابتسامة خفيفة على وجهه. رفع رأسه وقال بثقة:
ــ "ماشي… موافق. بس بشرط."
انتصبت آذانهم، وسأله "عبد الله":
ــ "شرط إيه؟"
أشار مهاب إلى سيف الذي كان يقف إلى جانبه، يعبث بكرة صغيرة في يده:
ــ "سيف هيكون في فريقي."
ضحك" مازن"وقال بمزاح:
ــ "يا عم ده لسه صغير، هتعمل بيه إيه؟"
لكن" مهاب" رفع حاجبه في هدوء، وألقى نظرة جانبية على سيف، ثم قال بنبرة فخر لا تخفى:
ــ "صغير إيه… ده بيلعب أحسن من نصكم، ويمكن أحسن منكم كلكم."
ضحك الشباب، بينما سيف ابتسم ابتسامة عريضة. كان يوسف يراقبه، ثم قال وهو يغمز:
ــ "أهو كده بقى الفريق بتاعك ضمن الكاس قبل الماتش."
تبادلوا الضحكات، وبدأوا يحددون الموعد والمكان. اتفقوا أن يكون اللعب بعد العصر، في الساحة الترابية خلف المدرسة القديمة. راح عبد الله يعد اللاعبين بأصابع يده، ويوزع الفرق مبدئيًا، بينما أحدهم يذكّرهم أن يحضروا الكرة الكبيرة من بيت عم جابر، وآخر يوصي بإحضار زجاجات المياه الباردة.
كانت الحارة تستعد لوجبة الغداء، لكن عقول هؤلاء الشباب كانت بالفعل في الملعب، تتخيل الأهداف، والمراوغات، والصيحات التي ستتعالى مع كل كرة تدخل الشباك.
"مهاب"، وهو يغادر معهم، وضع ذراعه على كتف سيف وقال بصوت منخفض:
ــ "عايزك النهارده تورّيهم إنك مش أي حد."
أومأ سيف بثقة، وعيناه تلمعان بحماسٍ طفولي ممزوج بعزيمة شاب يعرف أن الملعب سيكون مسرحه.
بعد صلاة الجمعة وانقضاء وقت الغداء، كانت الحارة قد استعادت شيئًا من صخبها المعتاد، إلا أن ضحكات الشباب التي ترددت بين جدران البيوت أضافت نكهةً خاصةً لهذا النهار. الشمس تميل قليلًا نحو الغرب، ترسل أشعتها الذهبية التي تلمع فوق وجوه الأولاد المتحمسين، بينما الهواء يحمل رائحة التراب المبلول ببقايا مياه غسيل الأرصفة.
بدأ الأولاد يتجمعون في الساحة الترابية الصغيرة خلف صف البيوت، حيث تُقام مبارياتهم المعتادة. أرض الملعب لم تكن سوى مساحة من التراب المستوي، تحدها حجارة صغيرة وقطع طوب لتحديد المرمى، لكن بالنسبة لهم كانت كأنها ملعب دولي.
جلس الحاج عامر، كبير الحارة، على كرسي خشبي قديم قرب أحد الجدران، يراقب بعينيه المليئتين بالود، بينما كان الحاج عمران يقف بجواره، يتبادل معه التعليقات على "أيام زمان" وكيف كانا يلعبان الكرة حفاة.
قسموا الفرق بسرعة: الفريق الأول بقيادة يوسف ومعه مازن وعبد الله، ومحمود الذي يعمل مع رقية، وحسين إبن الحاج عمران ،وستة من شباب الحارة
والفريق الثاني بقيادة مهاب ومعه أبناء عمته فريدة ،محمد وحسن معهم سيف سبعة من شباب الحارة .
قبل أن يبدأوا، صرخ "مهاب "بصوت عالٍ:
ــ "يلا يا رجالة، ماتش من عشرة جون، والفايز هياخد تيشرتات جديدة."
تحمسوا جميعًا حين أخرج "عبد الله" من خلف ظهره تيشرتات رياضية ، لا يعرفون متي احضرتها وكيف بتلك السرعة، رفعها عاليًا وقال:
ــ "أهي الجايزة أهي !"
أطلقوا الصافرة من أفواههم، وانطلقت المباراة. بدأت الكرة مع "مازن"، الذي أظهر تحكمًا جيدًا بها، يتجاوز "عبد الله "بخطوة سريعة، ثم يمررها إلى "يوسف"، لكن "سيف" كان كالصقر، يقرأ حركة الكرة ويخطفها بلمسة واحدة، لينطلق بها نحو مرمى مازن.
ــ "عاش يا سيف!"
صاح "مهاب" وهو يركض إلى جانبه، يفتح له مساحة للتمرير.
"سيف" يراوغ لاعبًا، ثم آخر، قبل أن يرسل الكرة "لمهاب"، الذي سددها بقوة، لكن "يوسف "اعترضها بجسده قبل أن تصل المرمى.
ــ "مش بالساهل كده!"
قال يوسف وهو يضحك، ممسكًا الكرة بقدميه ليعيد الهجمة نحو مرمى الخصم.
"مازن"، الذي تلقى التمريرة، قرر أن يختبر مهارات سيف، فتقدم نحوه مباشرة، محاولًا خداعه بحركة جسد، لكن سيف ظل ثابتًا، يترقب اللحظة المناسبة. فجأة، انقض عليه وخطف الكرة مرة أخرى، ما جعل الحاج عمران يصفق بحماس:
ــ "برافو يا ولد! عندك موهبة ربنا يحفظها."
بدأت حرارة المباراة ترتفع، والغبار يتصاعد تحت أقدامهم. أصوات اللهاث والضحك والتشجيع تملأ المكان. "عبد الله" يحاول تسجيل هدف بلمسة ذكية، لكن "مهاب "يتدخل في اللحظة الأخيرة ويمنع الكرة من تجاوز خط المرمى.
وبين لحظة وأخرى، كان "الحاج عامر " الذي يجلس بتحفظ كالشاب الصغير يعلق بصوت مرتفع:
ــ "هو إيه يا مهاب، هتفضل ماسك الدفاع كده ولا إيه؟ عايزين هجوم!"
في منتصف الشوط، قرر" مهاب" أن يجرب خطة جديدة. اقترب من سيف وقال:
ــ "اسمع يا بطل، المرة دي هتعمل كأنك هتجري ناحية اليمين، وبعدين فجأة لف شمال… أنا هكون مستني التمريرة."
نفذ سيف الخطة بإتقان، ومع تمريرة سريعة، وجد مهاب نفسه في مواجهة المرمى، فسدد كرة قوية اصطدمت بقدم مازن، لكنها ارتدت مباشرة نحو سيف، الذي لم يتردد ثانية وسددها في الشباك.
انفجرت الصيحات، و"مهاب" رفع ذراعيه عاليًا، ثم وضع يده على كتف سيف:
ــ "هو ده الكلام! أهو ده الفريق اللي يكسب."
"مازن "لم يستسلم، بل ازداد إصراره على تعديل النتيجة. في الهجمة التالية، راوغ اثنين من المدافعين وسدد كرة قوية مرت بجوار القائم، وسط آهات المتفرجين.
وبينما الشمس تواصل انحدارها، ازدادت حدة المنافسة، حتى جاء الهدف الحاسم في اللحظات الأخيرة… تمريرة من يوسف إلى مازن، الذي أخيرًا نجح في خداع سيف هذه المرة، وأرسل الكرة في الزاوية البعيدة، لتعلن التعادل بين الفريقين.
ــ "كده الماتش هيولع!"
قال عبد الله بابتسامة واسعة.
قرروا أن الهدف القادم هو الحاسم. ومع صافرة الانطلاق، انطلق "سيف" بسرعة البرق، يتجاوز مازن ويوسف، يمرر لمهاب، الذي يعيدها له في لمسة واحدة. لم يتردد سيف، فسدد كرة منخفضة مرت بين قدمي الحارس المؤقت، لتستقر في المرمى.
قفز "مهاب" فرحًا، وركض الشباب نحوه يهنئونه، بينما "مازن" ابتسم وقال وهو ينظر إلي سيف:
ــ "ماشي يا سيف… المرة الجاية مش هتعدي مني."
نظر له "سيف" نظرة غرور مصطنعة وقال:
_" لما المرة الجاية تيجي بقي هنشوف إزاي هعدي."
تعالت ضحكات الشباب ، فاقترب "يوسف " وأخذ "سيف " تحت يديه بخفه وهو يقول:
_" صغير وتاعب عضلاتنا معاه، إهدي شوية يا كابتن علينا ، ده أحنا زي أخواتك برضوا."
"مهاب" نظر ليوسف وهو يقول ضاحكاً:
_" والله اللي مش قدنا مايجيش جنبنا يا حلو، ماتعلبش قصادنا تاني بقي."
"يوسف" بشهقة وهو يضع يديه علي صدره في حركة درامية ويقول:
_" يخرابي يا سي مهاب! بتقولي أنا الكلام ده؟ أخص عليك يا قاسي القلب،طب والعيل اللي في بطني أوديه فين..."
_ "بسسسسس..هتودينا في داهية يخربيت جنانك."
قالها مهاب سريعاً وهو يضع يديه علي فهم يوسف لإسكاته عما يقول.
تعالت ضحكات الشباب وجلسوا جميعًا على الأرض، يتبادلون الضحكات، وأصواتهم تتداخل مع همسات نسيم المغرب، والملعب الترابي يشهد على مباراة لن تُنسى في الحارة.
انتهت المباراة وسط صيحات وضحكات عالية، والأنفاس المتقطعة تختلط مع غبار الأرض الذي ارتفع تحت أقدامهم. كان العرق يلمع على الوجوه، والأيادي تتشابك في مصافحات حارة لا تخلو من المزاح." سيف" يقف في المنتصف، عينيه تتلألأ بفخر الطفل الذي أثبت نفسه أمام الكبار، ومازن يصفق له بإعجاب صادق، بينما مهاب يربت على كتفه مبتسمًا ابتسامة واسعة لم يبتسمها منذ زمن.
بدأوا يتفرقون ببطء، وكل منهم ما زال يكرر لقطات من المباراة في ذهنه، كأنها مشاهد محفورة لا تريد أن تنتهي. كانت الحارة هادئة إلا من أصواتهم التي تتلاشى في البعد، ومع غروب الشمس خلف الأسطح، ظلّ في الجو إحساس جميل بالترابط… إحساس أن هذا اليوم لن يُنسى بسهولة.