رواية علاقات سامة الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم سلوى فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل الواحد والاربعون 

«مُداهمة»

نُفِّذَت الخطة بإحكام، وثَّقت الكاميرات خطواته ومقابلاته التي رتبوا لها جيدًا ورغم اتخاذه الحيطة والحذر إلا أنه وقع بالفخ كما رُسِمَ، ولأنه لا تهاون بقضايا شُرب الخمور؛ نال أكثر مِن ستين جلدة مع أمر بالحبس لثلاثة أشهر كاملة، أنْهَك جسده ووَهن، لم يتوقف عقله عن التفكير، أيقن أن الشخص الذي ترافقه زوجته ذو نفوذ؛ لذا يخطط ويذلل العسرات ليتم ما يُريد بدقة متناهية، لا يعلم لما تمثلت صورة طيف أمامه، يراها بعدما جـلــدها منكبة على وجهها بجــسدها الجريح والمكدوم، لم يتلقَ جلداته دفعة واحدة كما فعل معها، كيف تحملت بهزل بدنها وصحتها المتأخرة، غضب من نفسه؛ أيفكر بها ويتعاطف معها!! استحقت ما فعل، عاد عقله يقارن بينها وبين ريفال؛ فتجعدت معالمه بغــضب.

  

ثلاثة أشهر كاملة بلا أم تحنو أو أب يغمرها بالأمان؛ فتلاطمت حلا بين أمواج الحسرة تتذوق مرارة اليتم وتتجرع قـسـوة الحياة، تعمدت ريفال تجاهلها وبالكاد منعت نفسها عن تعنــيفها، إن تقابلت الأوجه طالعتها بازدراء وبغض؛ فذبلت زهرتها وانطفأ بريقها وتاهت روحها.

 

أمَّا سارة فما زالت بعرين كمال لا معين لها ولا مُغيث، اغتــيلت كرامتها ودهست تحت أقدامه، عاشت الإذلال وتجرعته، مارس عليها بحـقــارة وخِـسَّة ما ادعته على مؤنس، جعلها بالصباح خادمة وبالمساء بائعة هوى أو جارية، تؤمر، تجبر، تعــذب بكل السبل، عكفت على محاسبة نفسها بالأوقات البسيطة التي نعِمَت فيها بالوحدة، وضعت نفسها أمام مرآة صادقة رأت عيوبها وعددتها، حصرت كل من أخطأت بحقهم وبمقدمتهم طيف ومؤنس وسارة، نعم أساءت لنفسها ربما هي فقط مَن أذت نفسها وضرَّتها، دسَّت بها جميع الخِصال السَّيِّئة، كِبَر، تعجرف وغرور، وخطيئتها الكبرى كمال، ألقت بنفسها في مستنقعه فتنفَّست الجحيم، لا تعلم كيف تحملت العيش معه لثلاثة أشهر!!! ابتسمت ساخرة فقد عاقبها ذات مرة لظهور هالات سوداء أسفل عينها، عَــذْبها بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقفت أمام المرآة تطالع نفسها، هزل جَسَــدها وامتلأ كل ما هو مخفي منه بعلامات عُصــيانه التي لا تكاد تندمل فيضع علامات ورسومات جديدة تحمل نفس اللونين الأحمر والأزرق، ابتسمت بسخرية لاذعة بل يزيد البنفسجي والأسود، جَسَــدها الذي طالما افخرت به، بات لوحة سريالية من قساوة إبداعه، ورغم ذلك يوجب عليها المحافظة على نضارة وجهها ورسم بسمة مبتذلة على قسماته، مِن واجباتها اليومية -كما يُلزمها- التَّزين ووضع مساحيق تجميل صارخة، كعروس بيوم عرسها أو بالأصح كموميس تعرض نفسها، استنشقت بعمق هواء فاسد يمزق ويحرق صــدرها ونفثت زفير محمل بلهيب اشتــعال روحها.

قصدت الدَّرج متوجهة للمطبخ؛ لتضع الطعام على المنضدة، اقترب موعد وصوله وها هي تزينت وارتدت ما يظهر مفاتنها المُعـذبة كما يأمرها دوما.

 

انتهت عدا من أخر طبق وقبل أن تتحرك لوضعه صحبة رفقائه سمعت صوته يُعلن حضوره، ثبتت قدمها وكأن جذورها نبتت وتشبَّثت بمحلها، تستمع لكلماته الغاضبة، يتحدث بالهاتف مع أحدهم:

-       يعني إيه صور تسربت؟!! وهما فاكرين بطلع اعترافات منهم ازاي؟ دول ستات و**** ما ينفعش معَهم غير كدة.

 

 

صمت يستمع للطرف الآخر ثم رد بعُــنف وعصــبية:

-       وأيه المشكلة لما تتشوه ولا يجيلها نزيف داخلي! ما هي واحدة بايعة نفسها قضية دعــارة ومخدرات، أنام معاها عشان تعترف ولا أعدِلها وأربيها؟!! خلوني أحقق معاها وهما عارفين شغال ازاي، ولا عشان الرأي العام قام عليهم فادفع أنا التمن؟!

 

ارتعدت خوفًا، لم تعتد بنبرته كل هذا الكم من الغَـضــب، سبت نفسها لتأخرها في إعداد المائدة، إن خرجت أمامه الآن ستهلك لا محال؛ سيصب جمَّ غَضَبه بها، وإن عدلت عن وضع الطبق وتذكَّره فهي بالطبع هالكة، وبالحالتين ستعيش ألمًا لا يحتمل، لم يكن بيدها إلا الابتهال لله داعية أن يصعد للأعلى لتضع الطبق الأخير ثم تفر هاربة.

 

لم يرها فلم يتذكرها، تناول طعامه بعصبية ثم صعد لغرفته جلس يفكر كيف ينجو بنفسه؟ لم تغفل مقلتيه حتى الصَّباح وكذلك هي، هو بالأعلى وهي بالأسفل داخل المطبخ، ومع دحر نور الشمس لغسق الليل اتجه كمال لعمله ليحاول حل مشكلته؛ فتنفست الصعداء وصعدت لتغتــصب دقائق قليلة من النوم تعيد طاقتها التي استنــزفت في ترقب خروجه، ثم تبدأ عملها كخادمة وحيدة بالفيلا.

 

 

تدبر حسن أموره ووضع رفقة اخته وزوجته خطة لتنفيذ ما يرغب خلال الساعات القليلة التي سيقضيها في الدولة الأخرى، تحدثت نيِّرة تؤكد عليه من فرط توترها:

-       هتحتاج السرعة يا حسن عشان تأمن أي تصرف من طنط.

-       ربنا ييسر إن شاء الله زي ما اتفقنا اطلع من المطار على البنك، أحول الفلوس وأخلص كل الإجراءات بعدها على البيت أخد بابا وعلى المطار.

 

لم يهدر حسن مزيدًا من الوقت، حجز تذاكر الطيران وحرص على الوصول مع إشراق الصباح، الذي قضاه كاملًا داخل أروقة البنك وبين أوراقه، لم يتوقف لسانه عن الذكر والتضرع إلى الله ليساعده وييسر له الصَّـعب، ارتسمت بسمة سعيدة مع انتهاء الجزء الأول للمهمة وبقيَّ له الجزء الأصعب والأهم «تحرير والده» توجه للعنوان الذي اعطته سعاد إيَّاه، ظل على تواصل معها ليتأكد أنه لم يضل وبالطريق والمكان الصَّحيحان.

 

تسارعت دقات قلبه وتواترت سحب نفس عميق وأخرجه ثم طرق الباب بهدوء، فتحت له الخادمة ودعته للدلوف للمجلس اتسمت خطواته بالثبات والقوة بعكس زوجة والدته التي لم تتوقع قدومه وارتسمت الصَّدمة جلية على تعابيرها، أصبح لها كعفريت العلبة بأي مكان تجده وكلَّما ظنت ابتعاده عن حياتها تكتشف خطأها وتوغله بها، استولى بالماضي على حب زوجها واهتمامه وإن كان عن بُعد، ثم استولى على أمواله، والآن استحوذ على ابنتها وحبها، لن تسمح له بالمزيد.

وضح له جليًا ما دار بخلدها فنظراتها النَّـارية تحدَّثت عنها وكادت تحرقه، أمَّا هو فزيَّن ثقته بالهدوء، لم يهتز أو يتأثر بحالتها، ابتسم بهدوء وتحرك بصمت يبحث عن والده، فأتاه صوتها مِن خلفه صارخًا: 

-       أيه اللي جابك هنا؟ اطلع بره.

-       طالع، أكيد مش جاي أقعد معاكِ.

 

وقفت تصرخ عليه تلقي على مسامعه كل كلمات الطرد التي تعرفها، لم يبالِ ودلف ممر الغرف باحثًا عن والده، دق بابهم غرفة فالتالية حتى وجده، أما هي حين فقدت الأمل في جعله يطيعها لم تجد مفر من مهاتفة المغفر واتهماه باقتحام البيت لعله يفر قبل وصولهم! ولم تحسب عاقبة فعلها الأحمق.

 

امتلأت مقلتيه بالحزن حين قعت على هيئة والده الذي تملكه اليأس والوهن، هزل جسده ونُكِّــست هامته وهو مَن كان عتيَّا صنديدًا، اقترب منه بخطوات خجلة ثم جثا أمامه معتذرًا:

-       والله ما عرفت غير من كام يوم، ما ترددتش لحظة إني أجي يا دوب رتبت أموري، إن شاء الله ترجع معايا مصر بعد إذنك طبعًا، سعاد كمان معايا وهي اللي ساعدتني عشان اجي، أنا اتصلت بيك كتير والله، كتير قوي، آسف.

 

ابتسم له والده ممتنٌّ ونعت عينيه عجزه وضعف حاله، تقص مرار الغَدر وانقلاب الحال، جفف حسن دموعه ابتسمت معالمه رغم فياض مقلتيه وطالعه مشجعًا يطمئنه برفع رايات العزة والتحرر فقابله واحه بأخرى شاكرة لبذرة صالحة نبتت شامخة قوية رغم الحرمان، تبادلا عناقًا طويلًا، يبث لكلاهما الأشواق.

  

أغلق الباب من الداخل يكمل تنفيذ ما نوى وجمع أغراض والده الأساسية وأوراقه، جال بعينيه في المكان هَم بالبدء واستوقفه والده الذي حاول جاهدًا توجيهه للنظر لمكان بعينه، مكان مرتفع بالنسبة له لا تصل له يداه، ذهب ببصره وتبعته قدماه فتمكنت الصَّـدمة مِن معالمه وغَزَاه الغـَضَب؛ فزوجة والده تعمَّدت وضع هاتفه ومتعلقاته أمامه حيث لا تصل يداه قاصدة إيلامه تعذيبه نفسيًا تشعره بالحاجة والحسرة، اعطى والده الهاتف؛ فاسرع بالاتصال برقم ومد يده لحسن الذي استمع لكلمات الطرف الأخر المتذمرة: 

-       لو هتكرري نفس الموال ونفس الأسلوب فأقفلي أحسن وأخر مرة أقولك زوجك حول الفلوس كلها باسم ابنه ولغى التوكيل لو عايزة الفلوس كلمي ابنه.

-       أنا ابنه، عرفت باللي حصل قريب وأنا معاه لو حضرتك تقدر تساعدني نرجع مصر أنا حجزت التذاكر بعد كام ساعة.

 

أسرع إليهما يدعم موقفهما بالوقت الذي جمع حسن أغراض والده حسب ارشاده لمكان ما يريد، خلال دقائق معدودة انتهى من تجهيز حقيبة والده وأخذ أوراقه جميعًا.

 

 

 طرقات حادة ثابتة على باب الغرفة جعلتهما يخمنا طارقها ولم يكن سوى ضباط المغفر، فتح حسن الباب بعدما تأهب للموقف واستعاد هيبة طلته وثباتها، عرف للضابط عن نفسه ثم خطى نحو والده ودفع كرسيه أمامه، وضع يده بجيب سترته يضم جواز سفر والده بقبضة يده، طلب منهم الضباط الخروج للمجلس فامتثل حسن وخرج رفقة والده ولم ينسَ سحب الحقيبة معه، وبسؤال الضابط عن فعله رد ببساطة وعفوية:

-       أنا مِن محارمها فطبيعي اتحرك بحرية، هى زوجة والدي، وكنت جوه في حديث خاص معاه، وحضرتك ممكن تسأله.

-       وكيف راح يجيب؟ ما تدري بمرضه!

-       عارف طبعًا وحضرتك ممكن توجه له أسئلة إجابتها آه أو لأ، ولو تحب ممكن يكتب.

 

حديثه نال استحسان الضابط كما أثار غَضَب الزوجة جزَّت على أسنانها تعنف نفسها تفقد تعقلها وقت الغَضَب. بدأ الضابط توجيه الأسئلة يتلقى الإجابة بالنفي أو التأكيد وجميعها دعمت موقف حسن، ثواني وانضم لهم صديق والده، وواصل دعمه، وقفت زوجته تميز غيظًا انتصر حسن وقضيَّ الأمر. 

 

بلغة العيون تعامل حسن مع والده وصديقه، تأكد الضابط من كيد الشكوى وبدأ يعنف مقدمتها بالكلام تحرك حسن يدفع كرسي والده وصديق الأب يسحب الحقيبة ويتحدث مع الضابط، سبقت خطواتهم حركة الضابط ليتجنبوا أي معوقات أو مضايقات مِن الزَّوجة الحانــقة والسَّاخطة، مَن توشك على الانفجار، وجهها محتقن بالدماء، عروقها بارزة بدت كشيــطان رچيم، أغلق الضابط باب المنزل عقب خروجه منهيًا كل السبل بوجهها.

 

بالسيارة كل ينظر أمامه عدا الأب تعلَّقت عينه على بيت ظنه بيوم وطنه، يمُر شريط العمر بذاكرته، أغلق مقلتيه بندم موجع ثم فتحهما يطالع حسن -نبتته الصالحة- عبر مرآة السيارة بإعزاز واعتذار، التقت العيون وتبنت الكلمات الاعتذار والسَّماح، عقله يحدثه فسدت نبتة وصلحت الأخرى، فــسد سامر وصلح حسن، لكن ماذا عن سعاد؟! دق قلبه بفزع يتساءل: كيف هى؟ شكت قسوة أخوها، ثم انقطعت أخبارها، ثم اكتشف توغل الإدمان بروحه، هل اذاها تحت وطأة السموم؟! هل أفسدها وأصابها ما أصابه؟! اتسعت عينه بذعر، فكتب على هاتفه يسأل عنها، التف بذعر جعل قلب حسن يهوى بقدمه وأجابه ببسمة مطمئنة.

 


 

لا يعلم كيف انقضت مدة عقوبته، جلَّ ما يدركه تعاظم غضبه وتأججه وعقله ينسج كيف سيثأره من زوجته بعدما يتعافى من وهنه وسوء حالة جسده، استقبلته ريفال شامتة ولم تخفِ شماتتها، بل أعلنتها صريحة دون مواربة:

-       أهلًا بالغضنفر، أتمنى يكون الرد وصلك وعرفت مين اللي بيروض مين.

-       البجاحة وصلت معاكِ للمرحلة دي متوقع مِن واحدة زيِّك.

-       ما أنتَ لو فاكرني هوطي أبوس ايدك ولا اترجاك تبقى غبي، أنا ريفال اللي محدش زعلها وعاش عادي كده وأنت تطاولت عليَا فاكرني لقمة طريَّة زي المحروسة اللي قبلي، لا يا شهاب لو أنتَ نار فأنا الجحيم بعينه، فكر كده فكر بس تدوس على طرفي وأنا أولع فيك.

 


 

 

رغم هدوء ورفاهية حياتها الجديدة والتي غُلِّفت باحتواء مؤنس لها، إلا أن حلمًا يصر على مرافقتها عكر صفوها، يوقظها مِن أعماق نومها مفزوعة تتنفس بعنف وكأنها عَدَت لمسافات طويلة؛ فينتفض إثر حركتها يهدئ روعها ولا يتركها إلا وقد غطَّت في بحر أحلامها، تكررت حالتها لحد أقلقه، وبتروي طلب منها عيادة طبيب نفسي، لم يرد التخلص من قلقه، بل الاطمئنان عليها، فرأي بعينها الرفض وبحالها انكــسار وذبــول، شرح لها مراده مِرارًا فتجيبه نظراتها اللائمة، لم يتحمل عتابها فاعتذر ولم يكرر المحاولة.

 

اعتاد السهر جوارها يوقظها إن طال حلمها أو كابوسها، يقويها بكل طاقته يذيقها الاهتمام والدعم، تسلل إليه الإرهاق فكلَّما بنى أساس قوي بعلاقتهما ظهر شرخ بموضع آخر، يكاد يجزم أنها تخفي عنه شيئًا يرهقها ويعذبها، كثيرًا ما يجدها منفردة بدموعها تبثها شكوًى صامتة وكلَّما سألها ترجعه لاشتياقها لابنتها، قلبه يخبره بوجود ما هو أكبر، ما تعجز عن سرده أو ربما تخجل، تنهَّد بإرهاق عليه ضغوط عديدة، فهو محاصر بين رفض والدته لزيجته ولطيف تحديدًا وامتناعها عن دلوف بيته، وبين طيف وما تخفيه قاصدة يؤرقها ويرهقه، وهو تائه لا يعلم للراحة عنوان، ظن بزواجه ممن ملكت قلبه سينول راحة البال، ووجده خيط دخان.

 

أفكار متزاحمة، انتظار، حيرة وأرق صادقه يبقيه مُستيقظًا، يطالعها بعين ترجو الراحة التي ضَلَّت طريقه عامدة وضنَّت عليه بصفو البال حتى يأس، يسهر لتجده جوارها إذا افزعها ما تُخفي؛ فهَذت بما أجــج واشـعل أنفاسه وقتــله حيًّا:

-       لا، لا أرجوك، ابعد أرجوك لا، مؤنس ما يستهالش كده، لا لااااا.

دوت صرختها بحلمها وواقعها؛ فاستيقظت فزعة تطالع المكان حولها بأعين جاحظة، تقابلت الأعين ولم يخفَ عنها الحزن الذي توغل بنظراته وقلبه، ربت عليها بآلية يهون ألامها وهو يحتاج لمَن يهون ويداوي جرحه، نهض تاركًا الغرفة عاودت الاستلقاء تضم جسدها بوضع الجنين ترثي حالهما.

 


جلس مهزومًا منكَّـس الرأس؛ زوجته وحبيبته تحلم بأخر تناشده البعد اشفاقًا عليه، تسقيه مما سقى طليقته، أهو دين يرده؟ أظَلَم طليقته وظنَّ أنه وحده مَن ظُلِمَ؟!! عاشت معه سنوات وهو يبحث عن طيف محبوبته، أهكذا تألَّمت وانكَــسرت؟! لكنه صارحها قبل أن يخطو إليها وهو أيضًا مَن اقتحم حياة زوجته التي تحب بطل أحلامها وتناشد البُعد، ألذلك لم تعد تشعر به؟! التمعت مقلتيه بدموع لن يحررها، ضاع عمره باحثًا عن سراب عن حلم مسمم يقتله، فعلت به ما لم يستطع البُعد والحرمان صنعه، دوائر سوداء سحبته دار بفلكها حتى أنارت الشمس الأرجاء فهرب إلى عمله.

 

 

 دلف مؤنس بهدوء صامت وعملية، وجد طارق يعِد ويرتب لحملة المداهمة التي سيشاركه بها، استمع لتعليمات المهمة وخطتها بعقلٍ شارد، لم يخفَ بؤس حالته على صديقه الذي سأل بجدية مرحة:

-       مالك يا مؤنس؟ بالذمة ده شكل واحد ترقى من شهر، وعريس من تلت شهور؟!!!

 

ابتسم مؤنس ساخرًا ولم يعقِّب، جلس طارق بالكرسي المقابل له أمام المكتب يطالعه بترقب يتابع جلوسه الشارد، ومؤنس يطالع الفراغ لا يرى سوى صورة طيف بالمساء، فتحدث طارق بجدية:

-       مؤنس، أنتَ دخلت الجوازة دي وعارف تفاصيلها، ياما قولت لك اللي شوفتها زمان غير الموجودة دلوقت وما سمعتش غير نفسك، ارجوك ركز في شغلك هو الباقي لك، لما صدقنا أخدت التَّرقية اللي ضاعت عليك بسببها بردو.

-       هي ومش هي يا طارق، ساعات ترفعني معاها للسما وساعات تاخدني لسابع أرض.

 

سحب نفس عميق مغلقًا مقلتيه وحررهما مع كلماته:

-       نفسي أحس إني عارف عنها كل حاجة نفسي أدخل جواها واطلع اللي واجعها نفسي أرجع لها بنتها.

-       كل أحلامك دي لها، فين أحلامك لنفسك؟ أحلامكم المشتركة، فين مؤنس من أحلامك؟ ليه ناسي نفسك؟

 

ابتسامة ساخرة صغيرة نمت على جانب فمه ثم دلك جبهته وتحدث بإرهاق

-       تاه، مؤنس تاه وتعب.

 

اعتدل بجلسته وتحول للجدية الشديدة وامتثل صديقه له اشفاقًا عليه: 

-       يلا نراجع الخطة ونتأكد من التفاصيل عشان نتحرك.

-       المداهمة مش سهلة والوكر في سلاح كتير وعددهم كبير، المواجهة والصدام هتكون على أوجَّها، لو مش مستعد وفي كامل لياقتك هتتعرض الحملة للخطر، مؤنس أنا مش عايز اخسرك أنا مش عارف قولت لك الجملة دي كام مرة.

 

ابتسم بإرهاق يجد بالموت رحمة له مما يعاني، حقًا كل ما يتمنى الآن هو انتهاء معاناته.

 

 

يقتلها ضميرها، هو جنتها بالأرض وهي له الجحــيم، أكيدة مِن سماعه لما لفظت، لحظتها كانت بين الكَرَى واليقظة، ترى الحلم والحقيقة، مزَّقَـتها أنفاسه المتلاحقة، لا تعلم كيف سيراها الآن! انسابت دموعها أسيظنها خائنة؟ لا لن يظن بها السُّوء أبدًا، لكنه سيعاني، يؤنِّبها ضميرها لحلم تحلمه والآن طعــنته به وإن لم تقصد، بعد تفكير دام لساعات طويلة أخذت قرار ستصارحه وتطلب الطلاق لن تتحمل عذابه وعذاب ضميرها لفترة أطول؛ عاشت معه كل ما تمنت يومًا وما لم تفعل، فلن تسبب له المزيد من الألم وإن قابل ذلك حرمانها لحصنها وأمانها، لن تقابل إحسانه بالإساءة، ستتألم ببعده جزاء خيانة اقترفتها ولو داخل حلمًا، اغمضت عينها ستتجرع عذاب البُعد للمرة الثالثة، يبدو أنَّ الوحدة قدرها.

 

اتصلت به بمحل عمله؛ لن تصبر حتى عودته، تجزم أنه بأسوأ أحواله، أجابها أحد العساكر:

-       الباشا خرج في مداهمة والكل في المستشفى الإصابات كتيرة، بين مُصاب وشهيد.

 


 

شحبت وهوى قلبها أرضا، يتردد بعقلها فقط كلمتين «بين مُصاب وشهيد» اتسعت عينها بذعر هل يمكن أن تفقده؟! أسيبتعد عنها دون رجعة؟ هل سيرحل وهو مقتول منها دون أن توضح له وتشرح؟!! سقطت دمعة نادمة مسحتها سريعًا تمني نفسها:

-       مش هايموت، مش هايسيبني، لا، لا مؤنس لأ.

 

أسرعت إلى المستشفى، لا تعرف كيف استعدت أو كيف وصلت، اتجهت للغرفة كما أخبروها بالاستقبال، سألت إحدى الممرضات متلهفة عن المريض نزيل الغرفة المقصودة لم تذكر كلتاهما اسم الضابط، فاصمتها الممرضة بإجابتها:

-       البقاء لله.

 

 

بالغرفة التَّالية للغرفة المقابلة لمكان وقوف طيف يقف طارق مع مؤنس الذي يشاركه غرفته مخليًا خاصته لزميلهم الذي توفى، لمح طيف تحدث الممرضة، التف إلى مؤنس الجالس على الأريكة الدَّاخلية بإرهاق وتعب:

-       مؤنس مش دي مدام طيف؟

 

سكنته سخرية يائسة، أيتوقع الاهتمام منها بعد ما سمعه بالأمس:

-       طيف! لأ، مش هي، مش هتسأل أبدًا.

-       قوم بس، الممرضة ممكن تفتكرها بتسأل عن زميلنا اللي سيبت له الغرفة واستشهد.

-       ريح نفسك أسـ...

-       بتقع يا مؤنس، الحقها.

أسرع مؤنس إليها ولم يستمع لباقي كلماته، سيطر عليه الخوف والقلق حين سقطت بين يديه غائبة عن الدُنيا تنــزف عينها الدُّمـوع، حاول طارق معاونته وتحمل ثقل جسدها عنه؛ فقد أصيب مؤنس بطلق ناري بأحد ذرعيه ولولا إصراره على الخروج على مسئوليته لتوجب ذلك البقاء بالمشفى لبضع أيام، وفوجئ بهجوم مؤنس عليه:

-       ابعد ايدك يا طارق وشوف دكتورة تكشف عليها.

-       هتقع منك يا مؤنس دراعك متصاب.

-       سيبك مني وشوف دكتورة يا طارق، دكتورة.

 

تتحرك بوهن بين أروقة المشفى قاصدة غرفة الأطباء بعد يوم مرهق قضته بالطوارئ، تحدث حسن على الهاتف:

-       أيوة يا حسن دكتورة نسا، بس في ضغط جامد والدكاترة الموجودين النهاردة عددهم قليل بساعد باللي أقدر عليه.

 

كادت تتجاوز هذا الرواق لأخر لولا انتباها لصوت مؤنس فأسرعت إليهم تعاونهم ونقلوا طيف لغرفة الكشف وقامت بالكشف عليها:

-       ما تقلقش هي كويسة، ضغطها وطي شوية، هي بتابع حملها؟ 

-       حمل! حامل!!!

-       أيوة، باين في السونار الأفضل تتابع وبسرعة، هي اجهضت قبل كدة كام مرة.

 

نظر لها بتدقيق استشعر القلق منها، فسألته

-       هي اجهضت قبل كدا أعرف مرة من كام شهر كانت في نصف فترة الحمل تقريبًا

 

رأى تعجبها فأجاب متضررًا: 

-       كانت متجوزة قبلي.

-       آسفة مش قصدي، الرحم مجهد وهتحتاج تحاليل ومتابعة عشان نتجنب أي خطورة على صحتها.

-       يا ريت نبدأ من دلوقت.

 

تم عمل كل الفحوصات لها أثناء غيبوبتها التي استمرت لساعة كاملة، تحدثت نيرة مع مؤنس بأسف:

-       زي ما قولت لحضرتك الرحم مجهد جدًا متوقع في أي وقت يحصل إجهــاض، فيه تليف وعنق الرحم في وضع سيء.

-       نسبة الخطورة عليها كبيرة؟

-       عشان يتم الحمل لازم عناية كبيرة وممكن تلزم السرير لفترة طويلة أي مجهود زيادة أو حركة ممكن تأذيها هي والجنين.

 

رغم صعوبة ما ابلغته إلا أنه لم يهتم سوى بحالة طيف الصحيَّة، لا يعلم كيف ستتلقى الخبر، هون عليه طارق وبداخله يشفق عليه وكأن فقد ابناءه بات سمته.

بدأت طيف تستعيد وعيها تنادي عليه تناشده البقاء وعدم الرحيل، ابتسم بألم لا يعلم أيسعد لفعلها أم يهلك لما هَزَت به بالأمس، هرع إليها قاطعًا السنتيمترات الفاصلة بينهما يطمئنها مع صرختها التي سحبتها من غيابات الإغماء لأرض الواقع: 

-       مؤنس، لا، لا ما تسيبنيش أرجوك!

-       أنا هنا معاكِ يا طيف.

نظرت اليه تتأكد إنَّه حقيقة وواقع ثم انهارت فوق صدره تبكي وتعتذر، تركها حتى هدأت ولم يجد أي كلمات تعبر أو تهون وَهَج مشاعره وتضـاربها، عادوا للبيت تحت نظرات طارق الذي عجز عن التهوين عن صديقه أو عن العثور على كلمات مناسبة للموقف.

 

جلس مؤنس مهــزوم منـكَـسِر، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، يتكرر حديث الطبيبة على مسامعه، والآن فقط انتبه أنه على وشك فقد طفله الذي ما زال نطفة صغيرة، وهو مَن سيضع له كلمة النهاية، هل كُتب عليه قطع نسله رغم قُدرته؟ متى ستصفح عنه الدُنى وتعطيه له قدر من السعادة وراحة البال دون سحبها؟! إلى متى سيظل يبحث عن مبتغاه دون نتيجة؟ طموحاته وأحلامه بسيطة ومشروعة، لقد اتخذ قراره لن يُجازف بحياة طيف وفقدانها، لكن كيف سيخبرها بحملها ثم يطلب منها قتله؟! وآخر ما كان ينقصه هو كلمات طيف التي ظنت حالته بسبب حُلمها، لا تتحمل حالته تشعرها بالذنب وتقــتل ضميرها وتعصر قلبها، ولأنها لم تعتَد النقاش أو توضيح مرادها ولا مهارة لديها سوى الطَّاعة والصبر فاختارت بداية مدمرة ظنت بها راحته وتحريره: 

-       أنا.. أنا آسفة للي سمعته، والله مش زي ما فهمت! أنا.. عايزة اتـ.. اتطلق و...

 

لم تكد تكمل فتملكتها الصَّـدمة من رد فعله، دوت ضحكاته بهيستيرية حزينة وكأنها دمعات أبت الهطول، تملكها الخوف والقلق عليه، تسابقت دقات قلبها تشفق عليه منها ومن عذابه، بكى قلبها لأجله وانعقد لسانها، ودَّت لو تستطيع فعل كل ما يجول بتفكيرها، ما لا تستطيع البوح به حتى لنفسها، كيف تداويه وكل ما بها جروح وندوب؟! سحبها من دوامة أفكارها كلماته المتناقضة:

-       للأسف يا طيف أنتِ حامل، لكن ما تقلقيش الطفل لازم ينزل، هتجهضي ابني.

 

ما زال ببحر أحزانه لا يستطيع مقاومة أمواجه، يعيد الكلمات لعله يتقبلها ولا يستطيع، أمَّا هي فأخذتها كلماته لماضٍ لم تشفَ منه تخفي مرارته بغيابات أفكارها هاربة، تراجعت للخلف كأفكارها، يردد لسانها كلمة واحدة «حامل» ثبتت محلها كما علقت مقلتيها بمكان جلوسه وعقلها يتساءل: لمَ دومًا تترجى لبقاء جنينها؟ لمَ لا يُرغب بنبتتها؟ أيرغب في إذلالها كشهاب؟! لكنه يغايره ولا يجوز جمعه معه ولو بنفس الفكرة، حيرة شديدة وقعت بين ظُلماتها، لمَ ماثله في قتل جنينه؟ ألأنه منها؟!

 

تحركت بخطًى ثقيلة تتداخل صورته مع صورة شهاب، رغم صغر المسافة بينهما إلا أنها شعرت بها أميالا، جثت أمامه ولا زالت صورته غير واضحة تارة تراه مؤنس وأخرى شهاب، ثم استقرت صورته على حقيقته، كَـسَـت عَبَرَاتها وجهها، تراه محني الهامة والألم غائر بمعالم وجهه، لا تدرك أن وجع الرَّوح أعتى وأعظم من ألم الجسد، أخذت كفه بين راحتها وأردفت راجية:

-       أنا عارفة أنك موجوع مني، والله أنا كمان موجوعة عشانك، أبوس ايدك يا مؤنس بلاش ابني يدفع التمن، بلاش عشان خاطر ربنا. 

قبلت يده راجية؛ فسحبها بعنف محذر بعينه مِن تكرار فعلتها، انتفض جَسَــدها ثم تمالكت نفسها مسترسلة:

-       ما خنتكش والله...

-       ما شكتش ولا هشك في يوم، ما قولتش كده عشان اللي بتفكري فيه، ده كلام الدكتورة، صحتك مش هتتحمل.

 

مسحت دموعها بكفها، وتحدثت بحماس حزين 

-       هاخد بالي من صحتي عشانه، مش هاتحرك، هعمل كل حاجة وأي حاجة بس خليه يا مؤنس.

 

تدحرج لؤلؤ مقلتيها يذبــحه ويثقل كاهليه، وزاد حمله بتهدُّج أنفاسها وتقطع كلماتها: 

-       كل مرة بتحايل عليه يسيب حملي يكمل، بوست ايده ورجله وقتله برده، قبل حلا وبعدها كتير قتــلهم بعُـنفه، ما تعملش زيه! أنتَ إنسان، والله هاحكي لك كل حاجة وديني عند بابا أجيب حاجة من هناك بعدها هاقولك كل حاجة، اوعدني تسيب الطفل بالله يا مؤنس.

 

ضمها إلى صدره بكل قوته، يحاول بثها الأمان يحميها من الوجع، تمنى لو لم يكن أصيب اليوم ليطوقها بذراعيه ويبعد عنها كل ما يؤذيها، علا نشيجها ورج المكان، وهو يحكم ضمها ويهمس بأذنها:

-       أهدي، اهدي، هنتابع مع دكتورة ونمشي على تعليماتها، هنسيب البيبي لو مفيش خطر عليكِ، لكن مفيش طلاق يا طيف، ما فيش طلاق، ازاي قولتيها!! ازاي قدرتي!!!

-       آسفة، والله آسفة!

-       قومي اغسلي وشك وناكل بره بعدها نروح تجيبي اللي عايزاه.

 


مر الوقت بطيئًا متلكئ حتى وصلوا إلى بيت والدها الذي استقبلهما بكلمات مُستَهْزِئة وتوبيخ مُغلَّف بالعُنف كعادته القبــيحة معها:

-       جاي ترجعها! لا البضاعة المباعة لا ترد، مش كنت بتحامى لها لحقت تزهق! على كده شهاب له الجنة، صدقت أنها صنف عوج عايز الضَّــرب.

-       يا ريت تحتفظ برأيك لنفسك، هي هتاخد اللي عايزاها ونمشي.

-       ملهاش حاجة كل اللي هنا بتاعي، لما أموت تاخد اللي عايزاه.

 

لم تتحمل المزيد بالفعل روحها تفارقها، على وشك خسارة مُنقذها من مَال إليه قلبها، خسرت روحه وحبه، فانفكَّت عقدة لسانها وحُلَّت في وجوده لأول مرة واجهته بما ضمرته داخلها لأعوام وأعوام:

-       حرام عليك، ليه بتعمل كده؟ عمري ما حسيت بحنانك ولا حسيت أني منك، رميتني لأول واحد عشان تخلص مني، دوقت معاه العذاب ١٣سنة، اتهانت وتعذبت بكل الطُّرق ورغم كده كان أهون منك ألف مرة، حتى منال ماتت مقهورة بسببك ورفضت تحضر عزاها، ازاي مستحمل موت بنتك وعايش كده، أنا بموت في اليوم ميت مرة عشان بنتي بعيدة، متأكدة إن أبوها مش زيك، ياما عايرني بِك، أنتَ ليه كده! حرام، حرام والله، أنا كرهت نفسي لأني منك.

 

لم يتوقعا كلماتها وثورتها، تباينت ردود أفعالهما سعد مؤنس لبداية تحررها من سجــنها وبداية تعبرها عن غَضَبها، بينما انفعل والدها واحتقن وجهه بالدِّمـاء، تقدم نحوها عدة خطوات يناظرها بوعِــيد؛ فتراجعت للخلف خطوة ولم تستطع المواصلة، مر نصب عينيها ما فعله بها لإرضاء طليقها أو لفرض سلطته عليها، ارتجف بدنها مع كلماته:

-       أنت جاية تحاسبيني! واضح إن شهاب ما قدرش يعيد تربيتك زي ما قالي، سهلة أعيدها أنا.

 

تدخل مؤنس ووقف أمامه، محذِّرًا بغَضَب مما مر به على مدار أعوام:

-       ايدك، طيف مراتي ومش مسموح لأي حد يلمسها بأذى، هي عايزة حاجة تاخدها ونمشي، نصيحة ما تعتمدش على صبري عليك عشان خاطرها، أي تصرف يضايقني هتدفع تمنه غالي بتوصية بسيطة في القسم، تمام.

 

 

الغَضَب كلمة بسيطة عمَّا يشعر به، لكن الحيطة أهم سيتحملهما لبضع دقائق حتى يغادرا، انسحب إلى غرفته، تحركت طيف الى غرفتها السابقة أخذت ما أرادت، ثمَّ غادرا، دار بعقل مؤنس سؤال سيطر عليه، كيف لها أن تفكر في الانفصال؟ أتود العودة لوالدها؟! كيف ستحيا معه وهو بهذه العقلية؟! استقلا سيارة أجرة وعادا للبيت والصَّمت يحلق بينهما، تتشبث طيف بحقيبتها تحتضنها كما لو كان بها كنز ثمين، انتفخت جفونها من وفرة ما جادت مقلتيها، لم يتحمل مؤنس المزيد يريد أنهاء ما يحدث يكفي لهذا الحد الدَّامي، جلس على أول كرسي قابله يطالبها بالتوضيح:

-       اقعدي واحكي أنا سامعك.

-       أنا عارفة إني تعبتك معايا كتير، من يوم ما قابلتك وأنت بتبعد عني كل حاجة وحشة، وأنا.. أنا مش عارفة أقدم لك أي حاجة، كتير أفكر أعمل أيه ومش بعرف، يمكن عشان عمري ما كان ليا رأي دايمًا أعمل اللي يتقالي.

 

صمتت للحظة تستجمع شتاتها وهو يستمع منتظر ما ستفجره بوجهه:

-       مش عارفة اللي هقوله يديني ولا لأ، صدقني مش عارفة!

-       أنا سامعك، من غير مقدمات يا طيف ومن غير ما تخافي خرجي كل اللي جواكِ.

-       زمان وأنا في الجامعة، حصل لي موقف محرج، ظابط صغير ساعدني، ومن وقتها بقيت أشوفه كل فترة من بعيد والله، والله يا مؤنس.

 

اخرجت مِن حقيبتها ظرف بهت عليه الزمن ومدت يدها المرتجفة به تقص عليه ما يعلم تحدثه عنه اتسعت مقلتيه ولم يتوقع ما تسرد والتزم الصمت يرى نفسه بعينيها، عقد حاجبيه بتركيز متمعن يصغي لها.

-       حسيت بحاجات مش فاهمة معناها، بفرح لما بشوفه، لما اتكتب كتابي على شـ .. وشوفته بعدها كان هاين عليا اموت نفسي من الحالة اللي وصلها بسببي وأخدت عقابي، لكن من شهاب لأنه شافني يومها ودي كانت أول مرة، كتير أحس أنه حواليا اتوتر ويبان عليا وكل مرة اتعاقب بحاجة أكبر، بدأت أعود نفسي اتحكم في انفعالي واخبي مشاعري، افترقت الطرق واتحبست بين جدران حياة شهاب، وكل ما اتعب وابقي على حافة الانهيار..

 

انكمش وجهها ببكاء، تتنفَّس بعمق لتسيطر على حالها وهو يتابعها بترقب تتزايد دقات قلبه وترتفع كاد يجزم أنها تسمعها، غافلًا عن تفسيرها المغاير لما يحدث داخله.

-       أحلم به يطبطب عليا ويقويني، والله كنت بستغفر واندم رغم أنه حلم! حسيت إني خاينة واستحق اللي شهاب بيعمله فيَّا، من بعد ما دخلت حياتي وبدأت تساعدني بقيت احلم بيك وبه، وكل مرة الحلم يكمل منه جزء، شوفتك تعبان ورغم كده بتساعدني.

 

رفعت وجهها تطالعه بندم وأسف 

-       اللي وجعني إني رجعت أحس بوجوده حواليا، وبقيت أحلم بك مهموم وواقف جنبه وأنا على الشط التاني محتارة اروح لمين فيكم، كل يوم يمر احترمك اكتر واحتقر نفسي وألومها لأن الحلم بيتكرر ومش بيفارقني، امبارح حلمت نفس الحلم اخترتك والله وترجيته يبعد! لكنه ضمني، أنا آسفة والله أسفة.

 

انهيارها واختناق أنفاسها هو ما أخرجه من حالته، عانقها بأنفاس متهدجه من فرط نشوته، ادخالها بين ضلوعه وبفؤاده، تشبثت به وفاضت بآخر ما حجبت عنه:

-       الظرف ده الحاجة الوحيدة اللي اخدتها منه واحتفظت بها، ما قدرتش اتخلص منها، سامحني يا مؤنس سامحني.

 

لم يتركها إلا حين ارتخت يديها ورغبة مُلِحة تغـزوه لمعرفة ما احتفظت به من أثره، وكان له ظرف الحظ والبهجة، تلك الوردة التي أعطاها لها، أو ما تبقى منها، هل خُبِّئ عنه الفرح ليداهمه دفعة واحدة؟! فما يشعر به الآن تخطى البهجة والسعادة، ابتسم بحبور ونشوة عقدت لسانه فرفع وجهها بحنان يخبرها بتعابير وجهه مدى سروره، رقص فؤاده بين ضلوعه طربًا، جفف عبراتها محاوطًا وجهها براحتيه، قابل ذهولها وتعجبها بقصائد غزل تلقيها مقلتيه وتنشدها.

 

 

حاوط كفها براحته وتحركا بها للغرفة، تتراقص البسمة على وجهه ولم تتركه، اجلسها على الفراش وهي تطالعه متعجبة ومترقبة، ولم تكن الوحيدة التي تحمل من الماضي ذكرى، أخرج صندوقه الذي يحتفظ به بين ملابسه، لم يفتحه من قبل فقط يطالعه بحزن ورجاء، لكنه الآن يطالعه باسعد أوقاته وأحلاها، أعطاها ورقة من الماضي بثت فيها شكواها وكانت حلقة الوصل رغم البُعد، وبلغة العين طلب منها قرأتها، ففاضت مقلتيها يتراقص على وجنتيها دُرِّ مبتهج واستمعت لكلماته تضع نهاية الجرح:

 

-       ما زعلتش عشان أنا وهو واحد، كنتِ بتحكي لي عني يا طيف، يومها لقيتني بدون تفكير رايح أشوف نتيجتك، صاحبتك جريت ورايا وحكيت لي اللي حصل لك، عشت ١٣ سنة على أمل اللقا، دورت عليكِ فيهم كل يوم وفي كل مكان، أفتكروني تجننت، للحظة ظنيتك طيف في حياتي، لكن قلبي قالي أنك حقيقة وربطني بكِ كل يوم أكتر من اللي قبله، قولي يا طيف إن إحساسك بيا لسه زي ما هو أنا كنت يأست كنت خايف أسألك وأكون واهم.

-       والله كنت بحس بِك، لكن خوفت أبين، خوفت أكون خاينة، قالها لي كتير لدرجة إني صدقت وأقول لنفسي أحلامي دليل خيانتي.

-       اتهمك لأنه سرقك مني ومن حياتك، حلمتي عشان ربنا وعدنا لبعض، أتوجعنا عشان نعرف قيمة بعض ولما الفرح يجي يفيض ويغطينا، من النهاردة فرح يا طيف، إن شاء الله فرح دايم.

تعليقات