رواية عودة الذئاب الفصل الثالث والأربعون بقلم ميفو السلطان
ما إن صعد نديم بوجد إلى الأعلى، حتى خيّم الصمت على القاعة…ليس صمتَ انتظار، بل صمت قلوبٍ تأنّ من وجعٍ لا يُقال، وكأنّ كل نبضة فيها كانت تبكي مشهداً لم يُكتَب بعد."
جلس الجد في ركن القاعة كمن سُحب منه الهواء، ووضع كفه على رأسه، كأن الندم يثقلها. كانت نظراته شاردة، معلّقة في الفراغ، كأنها تبحث عن نَسَمةٍ رحلت ولن تعود.
اقتربت منه "مهره"، بانكسارٍ خافت ويدٍ ترتجف، ولمسته بحنانٍ خائف:
– إنت كويس؟
تنهد العجوز، لكن الأنفاس لم تحمل سوى الأسى، وصوته خرج منكسرًا، كأنه يبكي بين الكلمات:
– كويس ؟! منين كويس؟هاتيلي حاجه تخليني كويس يا بتي!ده أنا مدبوح… ومش جادر أنطج!
ده حتي أبوكي… أبوكي يا مهره، بطِيبته ونيّته البيضا، طالعلي من تحت التراب، بيهيل عليّا الطين…عايزني أختنج من خيبتي… من شيني وعاري!
أسند رأسه للخلف كمن يهرب من نفسه، ثم أردف بصوتٍ أقرب للعويل:
– كويس؟ بتجولي كويس؟أخوكي اللي بيجولي "يا حج"، ماشايفش مني خير…
ولا معتبرني أجرب له حاجه.. !وخيتك… الطيبه بت حنينه وشكلها غلبان ، بتجول: "ارمولهم فلوسهم… دول ناس أشرار، ما نعرفهمش". تعرفنا منين هو إحنا اشكال تتعرف.
وأنا؟أنا بقت وسطكم تايه… غريب… كأني مش منكم!
حدّق في "مهره" بعينين اغرورقتا بالضعف، وقال وهو يهزّ رأسه كمن يتحدث إلى نفسه:
رفع الجد عينيه نحو "مهره"، كأن عتابه ممتزج بدهشة، بصوتٍ منهك يلهث من الحزن:
– "كويس!"جولي… جولي كلمه عجيبه في وجتٍ عجيب!
ثم أطرق برأسه، وصوته يتلوى بين المرارة والضعف:
– أنا يا مهره…
ياللي جواكي جرفان منّي، ومن أدبك، ومن واصلك من خير ابوكي فيكي …ياللي رُغم الظلم، ورُغم اللي دوجتيه،لساتك من أصلك طيبه…لساتك حنينة عليا!
اتسعت عيناه بحزنٍ أبكم، كأن قلبه يصفق ندماً على زمنٍ ضيّع فيه مَن لم يستحق الضياع.
دانا لما أموت… هتكفنوني في ملس أسود، متعفر بالحزن،ويجعدو يجسمو الفلوس علي روحهم.. ماني ماسيبتش رحمه يترحمو عليا.. اجول إيه؟ حيلي انهد، وجَلبي مات!
توقف قليلًا، ثم هوى بصوته إلى قاع الوجع:
– البِت… البِت النسمه،اللي جلبها حليب أبيض،أنا اللي سوّدته…أنا اللي حرجتها بيدي!بتجولي… تاخد عالراس كام؟يا وجعي… يا مراري… يا سوادي!أنا عايز أعيّط، زي النسوان،في المجابر… يا مهره!
ثم صرخ فجأة، والدموع تخنق صوته:
– راحت… راحت البِت يا عمران! عمران؟
عمران إيه.. ما خدتش من اسمك والا الهوا،
دانت… الخراب كله!تاخد وتكبش، وما تسيبش!يا جهرتي… البت خلعت جلبي!
أدار الجد وجهه جانبًا، وكأن طيف "نسمته" مرّ أمامه، ثم شهق فجأة كأن عينه وقعت على ذكرى لم يعرفها:
– مين دي؟مين دي يا مهره؟بقت شكل العفريت!خَطّه عنيها زي العالم الغلاويه…
نظره بتخوف، بتجرّح،مش هيّ… مش بنتي!
صوته ارتجف، ويده ارتفعت للهواء كمن يصفع شبحًا لا يُرى:
– ليه اكده؟ليه بقت كده؟بتي…فين راحت؟
فين؟!
ثم خنقته غصة، وجلس كمن تهدّ جبل داخله، يردد بهمسٍ مرتجف:
– فين راحت البت؟فين نَسمه البيت ؟
انهار، وضرب رأسه بكفيه، يدبّها على جمجمته كمن يعاقب نفسه، ثم شهق بحرقة، فاندفعت "مهره" نحوه، واحتضنته كأنها تمنع قلبه من التوقف:
– بس… خلاص!هتتعب … كفاية!
كفاية…!
نظر إليها والدموع تفرّ من عينيه كأنها تتسابق مع ندمه، بصوتٍ مبحوح من ثقل الذنب قالها وهو بيكاد ينهار:
– اتعب؟
مااتعب… ماحدش هيزعل في الدفنه!
هيجعدوا يجسموا الفلوس،
ولا حد هيترحّم عليّا!
ماني… ما سيبتش رحمه لحد،
ما رحمتش قلب… ولا سترت وجع،
كنت ناشف… ناشف عالكل، حتى على نفسي!
ظلت "مهره" تمسح على كتفه برفق، تمسح عنه ثقل العمر كله،لكن الجد كان كمن غرق في لجة الانهيار،
صرخ "جابر"، حاصره بوجع السنين:
– ما خلاص…يابا بقه… هو فيه إيه؟
الكل اتراضي…!
ظل "عمران" منحنياً لفترة، صامتًا كأن الأرض تشهق من تحته،ثم رفع رأسه، بعينين تشعان ألمًا، وابتسم بسخرية مُرّة:
– اتراااضي؟اللي زيك هو اللي اتراضي؟
عبد الجرش… والمال؟همّ دول اللي يتراضوا؟مافيش حد راضي هنا…
إلا انتِ!
نظر الجد "عمران" وهو يرتعش من الغضب والقهر،
عيناه تقدحان شررًا، وصوته ارتفع كالرعد في بيتٍ تهدّمت أركانه، وأشار نحو جابر الذي داس على كرامة البيت بخطواته الثقيلة، وقال بصوتٍ ملطخ بالحزن والذلّ:
– – آه والله…أنت اللي خربتها…وطلعت على تلّها…تِجِف بجدمك النجِس؟
أجول إيه؟أدعي عليك؟ما دانت ذنبي اللي انحال عليّا!دعوة أخوك الغلبان، اهيه!واجف جدامي ودمّه ما نشفش!منّك لله يا بعيد…
لا تربح… ولا تكسب!
هتف جابر، وقد اشتعل وجهه بالغضب، صوته متوتر ومشبع بالقهر:
– يابا…!
لكن "عمران" صرخ في وجهه، كأن كل جُرح السنين تفجّر دفعة واحدة:
– بو لما تيجُطّع وشّك!اِكتِم!ماعايزكش تنطج قدّامي!مش كطايج أشوف خلجتك العَفشه!
مدّ "أسمر" يده بسرعة، وسحب جابر بعيدًا، كأنه يحجز عاصفة على وشك تكسير الكل، وهمس فيه بعصبية مكتومة:
– ماتسكت بقه؟هو إيه؟جدي تعبان…!
تنهد الجد، وقد هدّه الانفعال، وسقط جسده الثقيل على الكرسي كأن القلب لفظ آخر نبضاته،
بينما "مهره" وقفت جواره، ساكنة…
كأنها الجدار الأخير اللي لسه ماسك البيت من السقوط.
كانت واقفة بجوار جدها ، ووجهها شاحب والعرق نازل من جبينها…
الجو نار، وجواها نار أكتر… من وجعها، من قهرها، من الكل وخصوصا من أسمر اللي دايمًا يضغط عاللي موجوع فيها. أخيها صعد للاعلي وتركها تشعر بالخواء بمفردها لا تجروء أن تنظر اليه وهو نظراته كصقر لا يحيد عنها
أسمر كان بيبص عليها من بعيد، ساند على الحيط ومضايق من سكوتها.
لكن فجأة…
ميلت مهره وركبها خانتها،
حاولت تتماسك بس جسمها خانها، وبدأت تترنح
صرخ بصوت جهوري:
– ! مهره!"
جري عليها، وشالها قبل ما تقع عالأرض، قلبه بيخبط في صدره زي الطبل، عنيه بتلف عليها كأنها كنز هيتكسر.
قال بلهفه وهو شايلها:
بيكي إيه إني جولت بيكي حاجه.
همست وهي شبه غايبة:مفيش سيبني.
كلبش فيها... أسكتي بقه يلا سبني بلا سخمطني.. انت ميته اخر حاجه كلتيها.
– قطبت جبينها تتذكر.. ماكلتش… من امبارح…"
قربها منه أكتر، وشه اتحوّل لغضب ناري:
– "ماكلتيش؟ ليه يا مجنونه! ؟ حابه تموتي ؟!"
دخلها المطبخ بالعافية، وهي بتحاول تقاوم:
– "نزلني يا مجنون انت رجعني واخدني فين..
– "اسكتي، عشان جبت أخري . تموتي إياك ؟! ."
دخلها المطبخ، وحطها على الكرسي بقوة، قرب وجهه منها وقال:
– "انتي بتعاندي معايا ولا مع روحك؟!"
– "أنا مش جعانه…"
– "جعانه مش جعانه هتاكلي يعني هتاكلي…"
أقتربت الخادمه فأشار لها ان تخرج... واقترب من الاكل وبدأ يغترف منه وتحضر طبقا وجلس لجوارها وهيا تنظر اليه شذرا
قرب منها وقال بهدوء مخيف:
– "لو ماكلتيش، والله أفتح بقك بيدي وأأكلك، وعادي عندي، تاكلي من إيدي ولا من المعلقه، اختاري."
نظرت له بذهول، فيه شئ في عيونه خلّاها تبطل عناد للحظه…
شئ بيقول: "أنا خايف عليكي… بس ما بعرفش أقولها غير بالطريقه دي."
قالت بسخرية ضعيفة:
– "عايز تأكلني بالعافيه؟"
– "آه، بالعافيه… لو احتاج الأمر."
.رفعت راسها وبصتله بغضب،
وقالت بصوت عالي، متقطع من القهر:
– "انت مالك؟! مالك بتعمل كده؟! شايف نفسك وصي عليا؟!
حد قالك تحميني؟! ولا تأكلني بالعافيه كأني طفله ؟!"
أسمر اتشد، عنيه اتسعت، لكنه ما نطقش.
قامت واقفه، وكرسيها وراها وقع بصوت عالي:
– "انا مهره! خلي بالك.. مابعملش حاجه غصب
قرب منها، وقال بصوت هادي ومخيف:
– "خلصتي؟"
هزّت راسها بعنف، ودموعها قربت تقع:
– "لا ما خلصتش! إنت بارد. كده ليه
انت مش شايفني، بتكلم.. هوااا انا.. كلو جبر في جبر … فبتظن تقدر تطبطب عليه بفرض السيطرة!بس اسمعني كويس…
انا مش سكّتك، ولا عايزه منك طبطبه،
شد كرسيه، وقعد تاني، ، …وصوته نازل رخيم، بس فيه نار متجمعة:
– "انتي فاكره إني بلعب؟فاكره إنك لما تزعقيلي هقع من طولي؟ وهرتدع.. ان كنت انت المهره انا الاسمر واللي اجوله هيتنفذ. وهفضل اشيلك للاخر رغما عنك.
."مهره كانت واقفه، تهتز من كل حرف…
بس عنادها لسه ماسكها، مسحت دموعها بسرعة، وقالت بتحدي:
– "وهو أنا طلبت منك تشيلني؟ولا فاكر إن رجولتك في إنك تغصبني حتى عاللقمة؟"
ابتسم، ابتسامة باهتة كلها استفزاز، وقال:
– "آه، الرجولة إن اللي تبقى تحت سقفي، ماتنوجعش واللي تحت عيني، ماتطيحش.
واللي قلبها مليان سُم، أفضل أمصّه منها لحد ما ترجع تبقى بنى آدمه تاني."
قامت تهجم عليه:
– ! انت متسلط! انت..."
قطع كلامها، بصوته الجامد:
– "أنا راجل…وإنتِ مشكلتك إنك أول مرة تشوفي راجل بحق."
سكت لحظة، وقرب منها، وقال بصوت أوطى بس مفخخ بالغليان:
– "وعشان كده، أنا اللي هأكلك…وغصب عنك…هتبقي بخير…سواء رضيتِ… أو عاندتِ."
مهره وقفت، بتنهج، مش عارفه ترد…
كل حاجه جواها بتصرخ "ابعد عني"،
بس كل نفس في صدرها بيقول "قرب كمان".
.المهرة (بصوت عالي لأول مرة، متهزّة من التعب):
ـ ما تفرضش سيطرتك عليّا يا أسمر! أنا مش أي حد.
أسمر (يقرّب منها بخطوة، ملامحه اتبدلت، العروق في رقبته نبضت):
ـ وأنا عارف إنك مش أي حد.
(يمد إيده يشدها من دراعها لما لقى جسمها بيميل)
المهرة (بتحاول تفلت، تتهز بصوت مخنوق):
ـ سبني يا مجنون… سبني بقولك!
أسمر (يشدها أكتر لحضنه بالعافية، صوته واطي بس غليظ):
ـ لا، مش هسيبك…وإنت عارفاني يبقي ليه العناد. هو كيف وكيد فيا.. كان يحتضنها بقوه..
المهرة (تسكت لحظة، ودموعها تغدرها، راسها تغوص في صدره وهي بتحاول تبعد نفسها):
ـ أنا ما عدتش قادرة…ابعد بقه.. كانت قد كلت من تعبها وقلبها يأن.
أسمر (بصوته وهو بيحضنها أقوى شوية، كأنه بيحضن كسرها مش جسدها):
ـ هتسمعي الكلام الوكل يتاكل.
تنهدت بغلب.. أخذها واجلسها بهدوء واعطاها الطعام ظلت ساهمه لفتره
حركت الملعقة في الطبق بهدوء، وبدأت تاكل بصمت.
أسمر وقف قدامها، دراعه على صدره، بيبص عليها وكل حاجه جواه بتهدى شويه.
مهره كانت بتاكل بلقمتين وبس، وبتحاول تسيطر على رعشة في إيديها،لكن الكلام اتحشر في صدرها، وجع الأيام اتجمع فجأه، واللي قدامها؟هو أقرب وأغرب حد ممكن تنفجر فيه
تنهد وهو ينظر إليها…منظرها كان موجعًا بقدر ما كان جميلاً،تُظهر صلابة وتكبّرًا،
لكن وحدتها كانت تصرخ في صمت،كأنّها تحتاج لصدرٍ يحتويها،ولو للحظة…
لحظة واحدة تريح هذا الثقل داخلها.
اقترب منها وجلس بهدوء،يراقبها وهي تأكل بصمت،تحاول أن تسيطر على كل شيء… حتى على جوعها.حركاتها كانت محسوبة،
كأنها تخشى أن تنكسر أمامه.
مدّ يده فجأة،وشد الكرسي الذي تجلس عليه نحوه،ثم حاصرها بذراعيه وساقيه،كأنّه قرر أن يُغلق عليها العالم كله… داخله فقط.
ارتبكت،وانكمشت بجسدها،تراجعت للوراء كمن فُوجئ بزلزال داخلي:
– بتعمل إيه؟!
لكن صوته لم يأتِ،بل كانت عيناه تتكلمان،
تقولان لها ما لم يستطع أحد أن يقوله:
"كفاية… كفاية حرب، أنا شوفتك… وعارفك، ومش هسيبك وحدِك".
كان الصمت بينهما أبلغ من الكلام،وكانت تراجعها منه،مجرد اعتراف صغير…
بأنها تعبت من الوحدة.
همس بصوتٍ دافئ، يتسلل إلى أعماقها كنسمة دافئة في بردٍ داخلي:
– بتترعشي ليه؟هو الأكل كمان فيه "عند"؟
مدّ يده وأمسك يدها برفق،رفعت عينيها إليه،هزّ رأسه ببطء وهمس، كأنّه يكشف ما خفي عنها:
– عيونك…الوجع جوّاهم،ما بيعرفش يستخبى…وطلب الحماية…بيصرخ من جُوّاته!
اهتزّت، وابتلعت ريقها، ثم تمتمت بضعفٍ مشوبٍ بالعناد:
– حماية؟أنا… ما بتحماش في حد!
مال نحوها، كان صوته أقرب إلى لمسة:
– إنتِ آه…بس جُوّاك بيطحنك!هتصدّجيه؟
ميّتة ما خابَرْش!
همّت أن تتكلم،
لكنه مدّ يده، ووضع إصبعه على شفتيها…
رفعت عينيها إليه في ذهول،
فهمس من جديد، بصوتٍ محمَّل باليقين:
– كلّ كلام يخرج منك…مش من جَلْبِك،
هيتعبك أكتر!
ابتلعت ريقها ثانية، وأحنت رأسها بخفة،
أمسك يدها من جديد وهمس بنعومة:
– ممكن… تغمّضي؟
قطبت جبينها،همس بابتسامة هادئة:
– ما تخافيش!
قالت بتوتر، تكاد تداري رعشة قلبها:
– أنا ما بخافش…
ضحك بخفة، ورفع حاجبيه متحديًا:
– أهو!
فأغمضت عينيها، وهو يمسح بأنامله على يدها،اقترب من أذنها،وهمس بصوتٍ محمَّل بوجعٍ راكد:
– خابره الزمن لو ينعاد،ما كنتش جُولت الكلمة دي واصل…إنتِ… ما تتحطيش إلا
فـوِج الرّاس!
كانت أنفاسه الحارّة تلامس رقبتها،وقلبها يدق بعنف…كأنّه يحاول اللحاق بكلمة لم تُقال.ظلّت كلماته تتردد في أذنها،تتسلل داخلها، كأنها توقظ شيئًا نائمًا من زمن.
ثم بلينٍ عميق، وهدوءٍ شديد،وضع شفتيه بجانب شفتيها…قبّلها قبلة حانية طويلة،
ضغط على خدها كما لو يؤكد على كلماته،
وهي ساهمة، مغيّبة، بين الوعي والضياع.
ظلّا هكذا…لا يتحركان،وكأنّ الدنيا من حولهما تلاشت،ولم يبقَ إلاهما،وسكونٌ حنون يغمر اللحظة.كانت اللحظة ساكنة…
ساكنة لدرجة أن الزمن خجل أن يتحرك.
الهواء من حولها لا يُسمع له صوت،
لكن داخلها…كان كل شيء يصرخ.
جلست في مكانها، لا تهرب ولا تقترب،
تبدو هادئة، عيناها جامدتان،لكن في صدرها كانت هناك نار…نار لا تحرق الجلد،
بل تحرق النبض.
كانت صامتة…لكن الصمت نفسه كان يئنّ،
كأن الحروف تخاف أن تخرج،لأنها إن خرجت،ستفضح الوجع،والضعف،
والحنين… الذي أقسمت أن تنساه.
نظرة واحدة منه…كفيلة بأن تكسّر جدرانها،
أن تخلخل ثباتها المُتَصَنَّع،أن تجعل كل الحكايات التي خبأتها في قلبها…تصرخ.
الكلمه هزتها من داخلها لكنها لم تتحرك.
ظلت ثابتة،تحبس الدموع خلف رمشها،
وتحبس النبض خلف صدرها،كأنها تقول لنفسها:
"ما يبانش… ما ينفعش يبان".
وفي اللحظة التي اقترب فيها،في نفس الثانية التي شعرت فيها بدفء جسده يقترب،
انكمشت النار داخلها أكثر…ولم تطفأ، بل اختبأت…تتغذى من لمسة مرتقبة،
من كلمة لم تُقَل،ومن وجع… لا يريد أن يُشفى.
لتنتفض وتبعده بقوة، كأن نارًا مستعرة في صدرها انفجرت فجأة...
عيناها اتّقدتا بالغضب، والوجع بين ضلوعها بيصرخ.
– "بس الزمن ما بيعدّيش نفسه يا بن عمي!"
قالتها بصوت مشروخ، بيخنقه وجع قديم وكرامة مجروحة.
دفعت صدره بكل ما تملكه من قهر،كأنها بتدفع عنه سنين من الوجع،بتزيح إيده اللي حلمت بيها زمان…لكن خلاص، الحلم مات.
وتحمّلت على روحها،
قامت… وكسرة ظهرها ساكنة مشيتها،
وخرجت، كأنها بتخلّي وراها رمادها.
**
أما هو،جلس مكانه،بيشتعل من جوه،
الغضب بيأكل ملامحه… بس مش غضب منها…غضب من نفسه… من زمنه… من حيلته العاجزة.
كان بيحس إن الوجع ليه صوت… بس دلوقتي عرف إن السكوت أوجع.
الكرسي اللي كانت عليه لسه دافي…
بس هي بردت منه خلاص.
عاد "أسمر" واقفًا، عيونه مشدودة على "مهرة"، والجد جالس يراقب الصدام بصمتٍ مرير.
قال الجد بصوتٍ هادئ، كأنه يظن أنه يخفّف التوتر:
– اطلعي يا مهرة… خلي الحريم يشفولك، مجعد لحالك.
صرخ "أسمر" بانفعال، غاضبًا من التلميح:
– مجعد إيه اللي بتجول عليه يا جدي؟!
ضحك الجد، كأنّه يحاول الهرب من الوجع بابتسامة:
– مجعدها يا ولدي… أمال هتروح فين يا ابني؟
ارتفع صوت "أسمر" مجددًا، هذه المرة يحمل مرارة وخوف:
– ليه مالهاش مجعد؟! أمال مجعدي راح فين؟!
ضحكت "مهرة" بسُخرية نحاول أن تتناسي ما حدث بينهم ، ونظرت إليه بعين متحدية:
– مجعدك ؟
رمقها بغضبٍ وغيظ:
– اتلمي… أحسنلك.
اقتربت منه، في حركة عناد وجرح قديم، وصرخت:
– وإن ما اتلمتش، يا بن سلطان، هتعمل إيه؟!
اقترب أكثر، وجهه صار قريبًا من وجهها، صوته خافت لكنه حاد:
– بَقي برضه مش راضية تتلمي؟ما بتعرفيش إن طيحتك دي… ما بتمشيش مع أسمر!
صرخت بقهر وانفعال:
– تمشي؟ولا تولّع!أنا مالي!أوعى، شوفلي يا جدي مكان… إيه القرف ده؟!
مدّ يده وشدها بعيدًا عن عيون الجميع، صوته انكسر لكنه ظل حادًا:
– مكانك… معايا، في حضني!وكفاية!عشان إنتِ جُولتي حزن الدنيا… واني بلعته!
هاه؟!اتلمي بقى!
نظرت إليه، غضبها لا يهدأ، وعيناها تتقدان تحديًا:
– أقول حزن الدنيا؟حزن الآخرة كمان!
أنا حرّة!وتبلعه؟تكتمه؟تطرشه؟مالييش فيه!
ما حدّش قالك تبلع أصلاً!
اشتدت قبضته على ذراعها، فنظرت إليه بشزر، وقال بحنق مكتوم:
– يا بِت…إنتِ ما تعرفيش إنتِ واجفة قدّام مين!ما تخلينيش أتغابي عليكي!
ضحكت ضحكة قصيرة مرّة، رفعت يدها إلى رأسه:
– تتغابي؟إنت لسه هتتغابي؟!دا هنا!
(وضربت على جبينه)معبّي… وطاشش!
هتعمل إيه تاني؟هتجيب كرباج "جابر" وتضربني؟مش كفاية اللي هنا؟!
(وضربت على قلبها، وعيناها تلمعان بالدموع)مش كفاية الوجع؟!
لم يتحمّل، انفجر قلبه من الداخل، فشدّها إليه بعنف، احتضنها وكأنّه يحاول إخماد النار التي أحرقت روحه.بهتت هي، اتّسعت عيناها، حاولت دفعه:
– ابعد… إنت مجنون!الناس بتبص!
فهمس قرب أذنها، صوته غارق في الغليان والرجاء:
– ما يهمّنيش حد…يا رب الكل يولع!ما ليش دلّوك إلا إنت!واللي شايفه جوّاتك بيِنحَرِك!
إني… ما بيهمّنيش مخلوج،إنت محتاجة حضني…والمهم جلبك الموجوع… يهدى!
نظرت "مهرة" في عينيه، نظرة مخنوقة بقهرٍ قديم،صوتها خرج متهدّجًا، ممزوجًا بالضعف والتحدي:
– قلبي الموجوع؟!إنت بعيد عن قلبي الموجوع أميال، يا أسمر!
تلانت نبرته، ومال برأسه قليلًا نحوها، صوته انكسر بلينٍ لم تعهده فيه من قبل:
– إني جادر أطبطب عليه…أسمر يِجدر يشيل اللي جواتك… بس افتحيلي بابك، بس شويه!
سهمت فيه للحظة، قلبها يخفق رغمًا عنها،
كأن نبضها يخذلها، وهي تحاول أن تبدو أقسى مما هي عليه.
لكن هذا الهدوء لم يعجب "جابر"،كان يقف بعيدًا يراقب المشهد، عيونه تغلي بغلٍ دفين،
فرأى "أسمر"، عمود العائلة، يحتضنها دون أن يكترث لنظرات من حوله… ولا حتى لصوت الجد.
اقترب "جابر" بخطى سريعة، وهاجم بكلماته كسكين:
– إنت بتعمل إيه يا سبع الرجالة؟!بتاخد الحيّة في حضنك؟!اللي علمت عليك؟!
دا حتى القلم لسه على خدك بيضوي!
اشتعَل "أسمر"،يداه تشدّ على جسد "مهرة"، يقبضها بقوة، وكأنّه يحتمي بها من وجعه ومن غلّه…لكن كلمات "جابر" كانت كوقودٍ يُسكب على نارٍ لم تخمد.
استدار فجأة،كأن صاعقًا ضرب روحه،ثم قبض على جسد "جابر"،ورماه بعنف نحو الجدار.
"جابر" بهت،شعر برعبٍ حقيقي لأول مرة من ابن أخيه.لم يكن يرى "أسمر"، بل يرى رجلاً آخر…مخلوقًا من غضبٍ مشتعل كالنار.
"أسمر" كان واقفًا،يده تُطبق على كتف "جابر"،يضغط، لا ليؤذيه فقط، بل ليُفرغ ما لا يُحتمل في صدره.
همس "جابر" بصوت مبحوح، حشرجة كادت لا تُسمع:
– مالك يا ولدي؟!إني عمك…أكده؟دا إنت حبيبي دونًا عن الكل…
لكن "أسمر" لم يكن يسمع،كان في مكانٍ آخر…مكانٍ انفجرت فيه كل المشاعر المكبوتة.ثم دفعه بقوة وتراجع،رفع إصبعه أمامه،وهمس كأنّه يُنذر:
– إنت اكده…أخرك معايا.
استدار وراح لمهره بخطوات غاضبة، عينه نار، وإيده طلعت شدّتها من دراعها وهو بيهتف:
– يلا.
صرخت وهي بتحاول تفك نفسها من قبضته:
– يلا فين يا مجنون؟ دانت اتلحست ع الآخر! ربنا يشفيك!
ما ردش، قرب وشه منها، صوته اتغير، ويده شبكت بإيدها بقسوة:
– طب أنا هعرّفك تكتمي ازاي...
نبرة صوته كانت باردة، مرعبة… خلت الرعشة تسري في عضمها، خطوة منه كانت بتسحب فيها ألف خوف، فزّت، رجعت لورا:
– ابعد… ابعد يا زفت، بتقرب ليه؟
بس هو كان بيقرب… وهي كانت بتبعد…
عيونه مش سايبة وشها، ملامحه متشنجة، حاجبيه معقودين… وفي لحظة اندفع، وصرخت بكل قوتها، فاختطفها، شالها على كتفه رغم ضرباتها وصريخها العالي:
– انزلني!! انت مجنون! جديييي!! خلي الحيوان ده ينزلني!!
وهي بتضربه بيديها، وهو ما انفلتش… كأن عضلاته اتشدت على قلبه مش عليها.
ضحك الجد وقال بحرقة:
– أحوّج إيه؟! دا أنا عارف إني هعيش في المرستان قريب.
ظلت تضربه وهي تصرخ:
– نزلني يا بارد! يا جبلة! والله لأموّتك!
لكنه لم يعِرها أي اهتمام، حملها وصعد بها إلى حجرته كأنها لا شيء.
******
نعودُ إلى براء،كان قد حمل "شَجَن" بين ذراعيه، وذهب بها إلى حجرتها،وضعها هناك… ثم ابتعد مسرعًا.لم يجرؤ أن يقترب منها…كأن نارًا سكنت في صدره، ولسانه عاجز عن الكلام.
كلامها؟كان زي السهم… غرس في قلبه وما طلعش.وجعته… أوي.هو ماكانش يقصد اللي قاله،ماكانش يعني يجرحها…
بس عنفوانه الصعيدي اللي ساكن فيه، واللي عمله "نديم" في عيلته،
كان لازم يرد بيه كرامة الناس اللي انهدت…
بس ردّها على حساب قلب هي اتعذبت من وحدتها…
واقف!واقف ومابيعرفش يعمل إيه…ولا يقول إيه…هو بس كان حاسس إنه وجعها…وهو بيتوجّع.
كان واقف وهو مش واعي إنها بقت تهمّه بالشكل ده…ولا حتى إنها سكنت جواه من غير ما يستأذنها،تغِلغلت…وهو ساذج ماخدش باله إنها خلاص…بقت وجعه الخاص.
يشعر بالرعب همس بقهر... خايف تصحي نظرة عيونك وانتِ بتجوليلي "ابعد"؟ جتلتني يا شجن، والله ما جصدت! هو النحره اللي فورتني، وأخوك داس علينا بالجامد، بس برضك والله ما كنت أتهبّب، ماكتش أعرف… ظلّ ياكل في حاله ويضرب صدره بندم: "انت واحد زبالة… يمين الله إني خايف… أعمل إيه طيب؟!"
أتى بزجاجة عطرٍ صغيرة، نثرها حولها برفق، وكأنّه يرجو أن تعبق الروح من جديد. تنشّقت أنفاسًا خفيفة، ثمّ فتحت عينيها ببطء، فرأته واقفًا أمامها، يحدّق بها بعينين غارقتين في ندمٍ ووجعٍ، كأنّه يجرُّ خلف نظراته ألف اعتذارٍ لم يُقال.
لم تتكلّم، ولم تتحرّك، كأنّ الزمن قد تجمّد بين جفنيها، إلا أن دموعها انهمرت في صمتٍ موجع، وكأنّ القلب قد قرر أن يصرخ من خلال مقلتيها حين عجز اللسان.
اقترب منها بخطى متردّدة، وصوته المرتعش ينساب من بين شفتيه كطفلٍ تائه:
ــ "أنا آسف… والله ما كنت أجصد يا شجن… أقسم بالله ما ضحكت عليكي، كل اللي جولته كان عشان أرد على أخوكى إللي داس علينا بالجامد …برد على الكلام اللي وجعني… ماكانش في جلبي حاجة ضدك… أبداً!"
كانت تحدّق فيه بصمت، لكن عينيها تنزفان وجعًا، تتكلّم نيابة عن لسانها الغائب، تُبكّته دون صوت، وتُعاتبه بلا حروف.
تابع، وهو يضرب صدره بكفّه كأنّه يُخرج ذنبه من أعماقه:
ــ "شجن… بالله عليكي! أنا ما خططتش لحاجة، وأسمر جال لوحده… ماعرفتش إنك إنتي غير دلوقتي… والله العظيم الكلام خرج منّي من غير تفكير… من غباوتي… أنا غبي… حيوان!"
اقترب منها أكثر، ممسكًا بآخر ما تبقّى له من أمل:
ــ "شجن… اتكلمي… ليه بتبصّيلي اكده؟ بطلي دموعك… أنا مش جادر أشوفك بتعيّطي اكده وتسكتّي!"
جلست على حافة الفراش في هدوءٍ يشبه السكون قبل العاصفة، تمسّكت بما تبقى من كرامةٍ مكسورة. مسحت دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم نهضت، واتجهت بخطى ثابتة نحو باب الغرفة.
اتسعت عيناه، كأنّ الزمن قد خانه فجأة. اندفع نحوها، جذبها إلى صدره بعنفٍ المشتاق، بصوتٍ مختنق:
ــ "رايحة فين؟! رايحة فين يا شجن؟ اتكلمي!"
لكنّها بقيت صامتة، كأنّ صمتها وحده كافٍ ليكسر صوته، فصرخ بحرقةٍ تكوي:
ــ "ليه ساكتة؟! جولي أي حاجة! اشتمي، زعّقي، ارمي اللي في جلبك… بس ما تجهلينيش اكده!"
شعر أن الحروف تختبئ منه، أنّ روحه تُسحب من صدره دون صوت. أمسك يدها برجاءٍ يائس:
ــ "اقعدي… اسمعيني… بس لحظة، بس لحظة واحدة."
نزعت يدها من يده برفق، وهمست بصوتٍ خافت، كأنّها تنثر خنجرًا على صدره دون أن تهزّه:
ــ "فين الورقة… يا براء؟… بتاعتنا؟"
أصابه الذهول، شهق قلبه قبل لسانه:
ــ "هاه؟ ورقة؟ ليه بتسألي؟"
قالت، وهي تحاول أن تثبّت نبرتها المتماسكة فوق فوضى داخلها:
ــ "عشان أقطعها… وأمشي."
صرخ من أعماقه، كأنّها سحبت الأرض من تحته:
ــ "تمشي؟! تروحي فين؟! إنتي مكانك آهنه……"
نظرت إليه طويلًا، نظرةً مكسورة كأنّها تفتّش عن ملامحه القديمة:
ــ "هنا؟… فين هنا؟"
وضع يده على صدره لا شعوريا،...
اقتربت منه بخطى وئيدة، رفعت يدها ببطء، تسلّلت بأناملها إلى داخل قميصه، كأنّها تبحث عن نبضٍ ضاع منها في الزحام. شهق من لمستها، وكأنّها أطلقت كل الذكريات في لحظة واحده...مدت يدها و.... ..
الله بتمدي يدك جوا جميصه ليه يا به ..البندجه يا ولد ...يا تري بتمد ايدها ليه عالحزين العبيط ..اعبط واحد ...بس شوفتو اسمر حلوف بس قمر وربنا ..ساااح .،تاااكس 😁😁😁ان شاء الله احتمال تندع.... كل واحد خد حتته وطلع ندعي بقه....
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم