رواية احفاد المحمدي الفصل الرابع 4 بقلم ساره ياسر

 

رواية احفاد المحمدي الفصل الرابع بقلم ساره ياسر 


"اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد."

{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216]

***

عند ياسين كانت الساعة عدّت نص الليل، والدنيا هادية بشكل مريب، إلا من صوت الريح اللي بيلعب في الأشجار حوالين قصر المحمدي. النجوم كانت باينة في السما، لكن نورها خافت قدام نور القصر اللي كان منور زي ما يكون صاحية عيون بتحرسه.

في جناحه، كان ياسين قاعد لوحده قدام شباك واسع بيطل على الجنينة الخلفية. ملامحه متصلبة، عينه ع الشجر اللي بيتهز مع الريح، لكن عقله كان في حتة تانية خالص... كان بيراجع كل اللي حصل من الصبح، وكل كلمة خرجت من البنت اللي وقفت قدامه في الشارع من ساعات.

على الترابيزة قدامه كان فيه ملف مفتوح، صور للبنت، تقارير، عنوان، كل حاجة عنها. أدهم ما خيبش ظنه، جاب له المعلومات في أقل من نص ساعة زي ما أمر.

مد إيده، مسك صورة ليها، وعينه شردت للحظة. ابتسم ابتسامة باهتة، لكنها مش ابتسامة فرح... دي كانت ابتسامة الواحد لما يلاقي حاجة شدت انتباهه غصب عنه.

همس لنفسه بصوت واطي، لكن حاسم: "إنتي إيه حكايتك؟... وليه حسيت إن وقفتك قدامي مش صدفة؟"

قام من مكانه، خطوته تقيلة لكنها هادية، راح ناحية البار الصغير في جناحه، صب لنفسه قهوة سادة، ووقف يشربها وهو لسه عينه في الصورة.

دق الباب دقة خفيفة، ودخل مراد من غير ما يستنى إذن. كان باين عليه إنه مستغرب يلاقي أخوه لسه صاحي. قال بنبرة هادية لكنه مشغول: "لسه صاحية؟ ما كنت فاكر إنك نايم من بدري."

ياسين ما بصش له، لكن قال بصوت رخيم: "النوم؟... النوم يا مراد بقى رفاهية مش بتاعة أمثالنا."

قرب مراد منه، وبص على الصورة في إيد ياسين، ورفع حاجبه: "البنت؟ لسه بتفكر فيها؟"

ياسين شرب بقية القهوة، وقال وهو بيحط الكوباية: "دي مش بنت عادية يا مراد... فيه حاجة ورا عينيها... حاجة ما تعرفش توصفها... لكن تحس بيها."

مراد ابتسم ابتسامة صغيرة، وقال بنبرة شبه ساخرة: "ولا تكون عجبتك؟"

ياسين بص له بنظرة قطعت الهزار: "مش وقته الكلام ده... فيه لعبة ابتدت... وأنا لازم أعرف قوانينها قبل ما أتحرك."

مراد هز راسه، قرب من الشباك، وبص ع الجنينة: "إحنا في زمن، اللي يتأخر لحظة بيتداس عليه... لو حسيت إن البنت دي خطر، قوللي... وأنا هخلص عليها قبل ما تاخد نفس تاني."

ياسين وقف جنبه، بص قدامه بنظرة كلها غموض وقال: "ما بحبش أخلص على حاجة مش مفهومة... لازم أفهمها الأول... وبعدها كل حاجة ليها وقتها."

الهواء دخل من الشباك، وحرك الصورة في إيد ياسين، لكنه مسكها بإيده التانية بسرعة... كأنها ورقة بتلعب دورها في بداية معركة جديدة.

مراد لف وبخطواته الثابتة مشي ناحية الباب، قبل ما يخرج قال بنبرة واطية لكنها مليانة معنى: "إوعى قلبك يغلط يا ياسين... إحنا ماينفعش نغلط."

رد ياسين من غير ما يبص له: "ما بنغلطش يا مراد... إحنا بنختار الوقت اللي نغلط فيه."

اتقفل الباب ورا مراد، وساب ياسين لوحده، والهدوء رجع يملأ الجناح... لكن عقل ياسين كان شغال زي طبل الحرب.

سحب نفس عميق، وقعد على الكرسي الجلدي قدام الشباك، عينه على الصورة، لكن قلبه رجّع الزمن شوية لورا... للّحظة اللي واجه فيها البنت دي.

فلاش باك......

الشمس كانت قربت تغرب، والدنيا لونها نحاسي، صوت العربيات مخنوق وسط الزحمة، وهو واقف قدامها، شافها قدامه أول مرة... البنت اللي عيونها البني الغامق كانت بتبرق من الغضب، وشعرها مموج طاير مع الهوا.

صوتها لسه بيرن في ودنه: "يعني إيه تدوس على عربيتي كده؟! فاكر نفسك تملك الدنيا ولا إيه؟"

ابتسم ساعتها ابتسامة خفيفة، ما كانتش سخرية، كانت اندهاش... حد بيكلمه كده؟! هو؟!

قرب خطوة صغيرة، صوته خرج هادي، رخيم، لكن تحته نار: "لو عرفتي أنا مين، ما كنتش هتفتحي بقك بكلمة."

البنت ما تراجعتش، رفعت راسها بعناد، وقالت بنبرة متحدية: "ما يهمنيش مين تكون... الغلط غلط! ولا عشان معاك عربية غالية يبقى تعمل اللي يعجبك؟!"

نظرته شدت عليها، لأول مرة من سنين، حس بحاجة غريبة... قلبه اللي كان حجر، حس بنبضة زيادة. لحظة، بس لحظة كانت كفيلة تشغل نار جواه.

مد إيده، سحب الموبايل واتصل بأدهم، وعينه ما فارقتهاش: "عايز كل حاجة عنها... كل نفس بتتنفسه... دلوقتي."

وقفل، وقرب منها أكتر، لدرجة إنها شمت ريحة عطره الغالي، ريحة القوة والسيطرة.

قال بصوت ناعم لكنه مرعب: "انتي مش فاهمة بتتكلمي مع مين... ودي أول غلطة ليكي... وغلطتك دي هتدفعي تمنها... قريب جداً."

البنت اتوترت للحظة، لكن ما ورتهاش، عضت شفايفها وقالت بنبرة قوية: "تدفعني تمنها؟! أنا مش بخاف... وملكش سلطان عليا."

كان ممكن ساعتها يضحك... كان ممكن يزعق... لكنه اكتفى بنظرة، نظرة كأنها ختم النهاية:
"هنشوف... مين اللي ليه سلطان ع التاني."

باك......

رجع ياسين من شروده، وهو ماسك الصورة بين إيديه بإحكام... همس لنفسه: "لا... مش صدفة... دي خطوة في لعبة أكبر... بس يا ترى انتي حجر في رقعة شطرنج حد تاني؟ ولا... انتي بنفسك لعبة القدر؟"

وقف، بص من الشباك ع القصر، والجنينة، والدنيا اللي كلها تحت رجليه... لكنه حاسس إن فيه حاجة في الطريق... حاجة هتهز عرشه لو ما خدش باله.

الهوا دخل من الشباك، وبرّد له وشه، لكنه ما بردش النار اللي في قلبه.

***

كانت سلمى قاعدة في أوضتها، نور خفيف طالع من الأباجورة جنب السرير، والغرفة ريحتها مزيج من عطر هادي وورق كتب مفتوحة. شعرها البني المموج كان سايب على كتفها، وعينيها مركزة في السقف... لكن الحقيقة إنها مش شايفة حاجة.
كل اللي شافته النهاردة قدامها... الراجل الغريب ده... نظرته اللي اخترقت جواها، وكلامه اللي رج قلبها رغم إنها وقفت قدامه بتتحدى.

همست لنفسها، وهي بتحاول تطمن نفسها: "غبي... مغرور... فاكر نفسه مين عشان يخوفني؟"

لكن قلبها ما كانش مطمن... كان في نبض زيادة، نبض غريب مش عارفة تفسره... خوف؟ فضول؟ أو يمكن... حاجة أخطر.

قامت من على السرير، وقفت قدام المراية، وبصت في عينيها...
"إيه اللي شدني فيه كده؟! ولا هو فعلاً حاجة فيه تخلي الواحد... ينسى هو بيقول إيه؟!"

راحت ناحية الشباك، فتحت النافذة، والهوا دخل ببرودته يخفف شوية من نارها الداخلية... لكنها كانت حاسة إن الهوا ده مش كفاية.

مسحت وشها بإيديها، ورجعت قعدت، وعقلها لسه مش قادر يقفل على اللي حصل.

وفجأة...
رن تليفونها.
بصت عليه... رقم غريب.
قلبها دق بسرعة، لكنها ردت بنبرة قوية: "أيوة؟ مين؟"

وساد صمت في الخط... بس كانت سامعة النفس... تقيل، رخيم... نفس يخلّي الدم يتجمد في العروق.
وبعدين صوت جهوري وهادي، قال: "لسه مش عارفة أنا مين؟!"

اتسعت عينيها، واتجمدت مكانها...

سلمى اتجمدت لحظة، إيدها بتشد التليفون كأنها ماسكة فيه طوق نجاة... لكن الحقيقة إن الطوق كان بيغرقها أكتر.
حاولت تستجمع صوتها، وقالت بنبرة متوترة لكنها بتحاول تبين قوية:
"إنت مين؟ عايز مني إيه؟ ولو ما ردّتش، هبلغ البوليس."

ضحك خفيف جَه من السماعة... ضحكة مش فيها تهديد، لكن فيها يقين، يقين إن البوليس نفسه لو اتصلت بيه، مش هيقدر يعملها حاجة.
الصوت رد بهدوء، لكنه كان زي السيف وهو بيقطع في هدوء:
"يا سلمى... متقلقيش... لا أنا عايز منك حاجة... ولا هتحتاجي تبلغي حد. أنا بس... حبيت أطمن عليك."

نطقت بغيظ وهي بتتشد أكتر:
"إيه ده؟ مين إداك حقي تتصل بيا أصلاً؟ إنت شكلك اتجننت!"

ضحك تاني، بس الضحكة دي كانت أهدى... أعمق... كأنها ضحكة واحد فاهم اللعبة من أولها:
"وأنا لو مجنون، يبقى عشان وقفت قدامي النهارده، وعينيكي دخلت جوه دماغي... وفضلتي فيها."

سلمى ابتلعت ريقها، قلبها بيدق بقوة، وقالت وهي بتحاول تمسك أعصابها:
"إنت واضح إنك مريض... وأحسنلك تبعد عن طريقي، عشان ما يحصلش اللي يزعلك."

الصوت بقى أهدى، لكنه مريب أكتر:
"اللي هيزعل مش أنا... اللي هيزعل اللي هيفكر يقرب منك غيري."

واتقفلت المكالمة.
فضلت ماسكة التليفون في إيدها، إيدها بتتهز، وعقلها بيغلي... قلبها بيندّه عليها إنها تهرب، بس في صوت تاني جواها بيقول... عايزة تعرف أكتر.

اتنفست بعمق، وسابت التليفون يقع على السرير، وقعدت على طرفه وهي بتحط وشها في إيديها...
"أنا دخلت في دوامة... دوامة مش عارفة هتطلعني لفين."

في نفس اللحظة...
ياسين كان واقف في أوضته، قدام شباك كبير بيطل على المدينة.
السما كان لونها غامق، زي قلبه اللي ما بقاش يطمن لأي حاجة، غير صوت نفسه.
في إيده تليفونه، ولسه ابتسامة صغيرة على شفايفه، ابتسامة الصياد اللي شاف فريسته لأول مرة... وفريسته مش عادية.

همس لنفسه:
"لعبتك ابتدت يا سلمى... ولما أدخل لعبة... ما بخسرش."

***

في محافظة بعيدة شوية عن العاصمة، في بيت عريق له طابع ريفي أصيل، كانت قاعدة "صفية الألفي" أخت رأفت الألفي الكبيرة. ست في أوائل الخمسينات، ملامحها فيها وقار، لكن عينيها بتلمع بذكاء ست فاهمة الدنيا كويس. شعرها لونه أسود مخلوط بخصل بيضا، ولابسة جلابية بسيطة لكنها أنيقة، ومن بعيد تبان إنها ست بيت من الطراز الرفيع.

صفية كانت قاعدة في شرفة بيتها الواسعة، قدامها شجرة ياسمين، والهوا بيلعب في ريحتها، وحولها الجو كله بيقول هدوء الأرض الطيبة.

بصت للداخل لما سمعت صوت خطوات ابنها...

"آسر" ابن صفية... شاب في أواخر العشرينات، طويل، رياضي، وسيم بمعنى الكلمة، عيونه عسلي صافي، وشعره بني غامق متسرح بشكل بسيط، وملامحه فيها خليط بين الشدة والطيبة. كان لابس بنطلون جينز غامق، وقميص كحلي مفتوح أول زرار، وماسك مفتاح عربيته في إيده.

قرب منها، وقال وهو بيبتسم ابتسامة خفيفة:
"صباح الخير يا أحن قلب."

صفية ابتسمت له، وحطت إيدها على إيده وقالت:
"صباح الورد يا ضنايا... رايح فين بدري كده؟"

آسر رد وهو بيبص بعيد، كأنه بيحلم بحاجة أو مستني حاجة تحصل:
"عندي مشوار بسيط يا أمي... وهعدي على العم رأفت قريب كده... وحشوني البنات."

صفية بصت له بنظرة أم فاهمة اللي مش بيتقال، وقالت بهدوء مليان مغزى:
"ولا البنات وحشوك... ولا في بنت بعينها اللي وحشتك؟"

آسر ضحك ضحكة خفيفة، وهز راسه من غير ما ينكر أو يأكد.

وأهو... القدر بيكتب أول سطر في حكاية جديدة... بين آسر و... يا ترى مين هي؟!

آسر... شاب في أواخر العشرينات، طوله حوالي 185 سم، جسمه رياضي متناسق من كتر ما بيهتم بالرياضة والفروسية، ملامحه فيها قوة الرجالة وجدعنتهم، وعينيه العسلية الهادية مليانة ذكاء ودفا يخطف القلب. شعره بني غامق، ناعم ومسرح دايمًا بنظام بسيط بعيد عن التكلف، ودقنه خفيفة بتزود وسامته من غير ما تبين أي غرور. صوته رخيم، ولما بيتكلم، بتشعر إن كلماته لها وزن، وكل كلمة منه محسوبة.
لبسه دايمًا بسيط لكنه شيك، بيحب الألوان الهادية، وكأنه بيعكس طبيعته الواضحة والصريحة. وآسر... ابن صفية الألفي، شاب من نسل الرجولة، ابن عيلة، متربّي على المبادئ، لكنه لسه منتظر بنت تبقى حكايته اللي مكتوبة في القدر.

***

في قصر المحمدي...

كان الليل ابتدى يرخي ستايره، والهدوء الخطر رجع يسكن القصر بعد ما خلصت الاجتماعات والمعارك اللي بتدور في عالم المال والقوة.
ياسين واقف في جناحه، قدام الشباك الكبير، بيبص للنجوم اللي بدأت تلمع في السما... لكن عينه مش شايفة غير صورة البنت اللي اتصادم بيها الصبح. ملامحها، جراءتها، نظرة التحدي اللي في عنيها... كل ده شغال في دماغه كأنها حرب جديدة دخلها من غير ما ياخد باله.

دخل عليه مراد من غير ما يخبط، زي ما متعود: "ما شاء الله يا باشا، واقف سرحان كده كأنك بتكتب شعر في السما؟!"

ياسين رمقه بنظرة جانبية، وقال بصوت هادي لكنه فيه نبرة ماكرة: "إنت ما تعرفش... يمكن السما عندها سر، ولسه هتكشفهولي."

مراد قرب منه، رمى نفسه على كنبة قريبة، وفرد إيده ورا راسه: "واضح إن الصبح ده ما كانش عادي... ولا أنا غلطان؟"

ياسين لف ليه، وقف قدامه وقال بنبرة رخيمة: "ولا غلطان ولا حاجة... بنت غريبة... واقفة قصادي وما خافتش، كأنها بتتحدى جبل. ما فهمتش هي مين، بس هفهم... ومش هسيب حاجة تفلت مني."

مراد ابتسم ابتسامة خفيفة، وهو بيهز رجليه: "أهو ده اللي كان ناقصنا... الحرب اللي في الشغل قليلة، قولنا ندخل معركة قلب كمان!"

ياسين ابتسم ابتسامة جانبية، لكن عينه كانت فيها لمعة غريبة: "دي مش معركة قلب... دي حاجة تانية... حاجة لازم أفهمها."

وفي اللحظة دي، دخل جاسر بصمت، لكنه كان ماسك ملف كبير، رماه على الطاولة: "اللي طلبته يا ياسين... كل حاجة عنها، اسمها، شغلها، عيلتها... وهتتفاجئ."

ياسين مد إيده للملف، وقبل ما يفتحه، مراد قال بنبرة فيها لهجة ساخرة: "إوعى تطلع مراتك يا باشا... الدنيا صغيرة!"

ياسين ما ردش... فتح الملف، وعينه اتسعت شوية...
الملف كان فيه كل حاجة...
وصورة سلمى كانت باينة في أول ورقة، والاسم مكتوب بخط واضح:
سلمى رأفت الألفي
صحفية، بنت العيلة اللي كان اسمها زمان له صدى، لكنه غاب شوية في زحمة الدنيا.

ياسين ساب الملف، وبص للبعيد، وقال بصوت واطي لكنه مليان عزم: "القدر رسم خط... وإحنا هنتبعه... خطوة خطوة."

كانت قاعة المكتب الكبير ساكنة، غير صوت الساعة القديمة المعلقة على الحائط، وصوت خطوات ياسين وهو بيتحرك رايح جاي قدام المكتب.
مراد قاعد على كنبة جلد، ماسك ملف وبيقلّب فيه بهدوء، لكنه كل شوية بيرفع عينه لياسين.
زين واقف جنب الشباك، عينه بتطارد أضواء المدينة من بعيد، وجاسر مسنود على الجدار، صامت، لكنه في باله ألف فكرة.

قطع الصمت صوت خطوات تقيلة، وفتح الباب الكبير برفق.
دخل محمد المحمدي، الجد، بهيبته المعتادة، لابس جلابية سودة أنيقة، عينه فيها وقار الزمن، لكن نظرته حادة زي ما هي.
ورا منه دخلت زينب، جدتهم، طرحتها الحرير البيضا نازلة على كتفها، وشها فيه دفا وحزم في نفس الوقت.

محمد بص لياسين وقال بصوت جهوري هادي: "إيه اللي مجمعكم كلكم كده؟ الدنيا مقلوبة ولا إيه؟"

ياسين بصله باحترام، لكنه كان واضح إنه بيخبّي اللي جواه: "بنفكر في شوية شغل... ومحتاجين نرتب للخطوة الجاية."

زينب دخلت أكتر، وبصت لولادها الأربعة، وقالت بنبرة أم شايفة في عيون عيالها حاجة مش مريحة: "شغل؟ ولا غيم السحاب اللي في عيونكم بيقول غير كده؟"

مراد حاول يضحكها وقال: "يا ست الكل، ما تقلقيش... إحنا بخير."

لكن محمد قاطع كلامه وهو بيبص لياسين بنظرة أبوية حازمة: "ياسين... أنا ربيتكم على الصراحة. لما يبقى فيه حاجة، تقولي. الدنيا علمتنا إن اللي ما يتقال النهاردة، بكرة يوجع أكتر."

ياسين أخد نفس عميق، بص لإخوته، وبعدين رجع عينه للجد: "يا جدي... فيه ريحة غدر حوالينا... ودي لازم نقطعها قبل ما تكبر. بس في وقتها... هتعرف كل حاجة."

زينب قربت منه، وحطت إيدها على كتفه: "يا ضنايا... أوعى القسوة تسبق الرحمة... وأوعى الخوف يعميكم عن الصح."

محمد اتنهد، وحط إيده على عصاه، وقال بصوت كله حكمة: "يا ولادي... القصر ده اتبنى على القوة... بس ما كانش يوم على ظلم... خليكم فاكرين. واللي هيجي عليكم... ساعتها، قولولي، وأنا واقفلكم جبل."

سكتوا كلهم للحظة... لحظة كان فيها كلام كتير من غير ما يتقال.
الهوا دخل من الشباك، حرك ستارة بيضا تقيلة، وكأن حتى الهوا سامع الكلام.

محمد ابتسم ابتسامة صغيرة وقال: "كفاية كده... اللي وراكم وراكم... انزلوا اتعشوا معانا. ما في شغل من غير عِشرة، ولا قوة من غير لمّة."

زينب زغردت ضحكة دافية: "آه والله... ما شفت عشاكم بقاله يومين، تحسبوني مش وغدا بالي؟!"

ياسين ضحك بخفة، وقال وهو بيشد إيد جدته: "حاضر يا ست الكل... إحنا تحت أمرك."

خرجوا كلهم سوا من المكتب، خطواتهم تقيلة في الأرض، لكن بينهم دفء غريب...
دفء عيلة... عارفة إنها لو وقعت، هتقوم ببعضها.

والكاميرا كأنها بترجع تبص من فوق على القصر... قصر المحمدي، اللي جوه جدرانه أسرار... واللي جاي... فيه حسابات مفتوحة لسه ما اتقفلتش.

***

في بيت رأفت الألفي...

كان الليل خلاص غطّى الدنيا، والقمر عاكس نوره الفضي على شباك أوضة الجلوس.
رأفت قاعد على الكنبة القديمة اللي ليها معاه عشرة عمر، ماسك مصحفه، عينه على الآيات وصوته واطي، بيرتل في خشوع.
البنات حوالينه في هدوء غريب... كل واحدة سرحانة في عالمها، لكن عينها بتروح كل شوية على الباب... مستنية دقة المفتاح اللي تقول إن سلمى رجعت.

ملك قاعدة في ركن الأوضة، بترسم بخطوط بسيطة على ورقة صغيرة، ملامحها شاردة كأنها بترسم الحيرة اللي جواها.
ليلى سايبة راسها على كدف الكنبة، عيونها بتطارد عقارب الساعة كل شوية.
جودي، قاعدة على الأرض قدام باب الشقة، كأنها بتقرب المسافة بينها وبين اللي جاي... قلبها بيخبط زي دقات الساعة.

وفجأة...
رن جرس الموبايل على ترابيزة قدام رأفت.
البنات بصوا لبعض في لحظة واحدة، والخوف متخبّي في عيونهم.

رأفت مد إيده، شاف الرقم، ورد بصوت هادي: "أيوة؟... مين؟"

كان الصوت من الجهة التانية واضح ومختصر: "مساء الخير يا أستاذ رأفت... أنا آسف لو باتصل في وقت متأخر، أنا زميل سلمى في الجريدة... هي بخير، بس كان عندها ظرف طارئ في الشغل، ولسه خارجة من التحرير دلوقتي. كنت عايز أطمنكم."

ابتسم رأفت، وقال بنبرة أبوية كلها شكر: "ربنا يباركلك يا ابني... طمّنتنا."

قفل رأفت التليفون، وبص للبنات بابتسامة مطمنة: "سلمى بخير... هتيجي حالًا إن شاء الله."

تنفسوا الصعداء، والهوى دخل من الشباك بريحة الليل الهادية، لكن...
كان في إحساس غريب سابته اللحظة دي في القلب...
إن الليلة دي مش هتعدي عادي...
وإن الخطوة الجاية في حياة سلمى... مش هتكون زي أي خطوة قبلها.

ملك همست لنفسها وهي بتكمل رسمتها: "يا ترى يا سلمى... الليلة دي هتغير حياتك؟"

ورأفت رفع عينه للسما، وقال في سره: "اللهم سلّم سلمى... وسلم بناتي... من شر ما نعلم وما لا نعلم."

وساد الصمت للحظة، إلا من صوت دقات ساعة الحائط...
دقات كانت كأنها بتعد وقت بداية جديد.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات