رواية رائحة الارض المفقودة الفصل الخامس بقلم فارق العلي
الشارع بين بغداد والرمادي كان يمدّ نفسه مثل نفس طويل ومكتوم، والهوى الخفيف اللي يصفّر من شباك السيارة كأنه يهمس: "اصبر... بعد شوي وتوصل."
بالكرسي الأمامي، ليث گاعد يسوق بهدوء، وعينه تباوع الطريق، بس قلبه يم صاحبه.
باوع على شير، شافه ساكت، متكئ برأسه عالشباك، وعيونه تغوص بالمكان وكأنّه ما يشوف شي.
ليث حاول يكسر الصمت، بصوته الهادي المليان طيبة:
"حبيبي شير... لا تشيل هم. أختك تجي يمنه، معزّزة مكرّمة. تتعالج، وأم شهد تداريها مثل اختها. وشنو تحتاج؟ علاج، راحة، رعاية؟ لا تشيل هم... أني يمك."
شير ردّ بكلمة خفيفة:
"تسلم، ليث..."
بس صوته ما بيه روح، مو لأنّه ما ممتن، بس لأن تفكيره طار بعيد...
بعيد كلش...
بعين عقله، كان شايف نفسه بعمر العشرة، يركض ورا ايفين بين سنابل الحنطة والزرع الأخضر، بهوا كوجو البارد، اللي يلسع الخد مثل قبلة أم منسيّة.
كانت ايفين دوم مثل الولد المشاكس، ما تفرقها عن ربع شير، تلبس مثلهم، تلعب وياهم، تضحك وتصيح وتطيح وتقوم، تركب البايسكل وتگول: "أسبقك للگاع!"
حتى بالملابس؟ تاخذ فانيلة شير وتلبسها، وتطلع برّا وگالها عالي: "آني وياهم... مو أقل منهم بشي!"
وأكثر شي كان يحرجه، لما تصر تگعد وياهم وهما يلعبون طوبة، تصير حارس وتصيح عليهم إذا ما سجلو.
بس كلشي تغيّر بيوم...
يوم گام واحد من أولاد القرية ضرب شير ضربة ثقيلة، قبل ما شير يتحرك، ايفين ركضت عليه، وبدأ تتعارك وياه ، تمالخو وتضاربو، وهو يصيح وهي تصرخ: "لا تلمس أخوي!"
رجعوا للبيت، اثنينهم خدوش وطمّغ، وثيابهم متبهدلة.
أبوهم خليل، بس شافهم، صرخ صرخة رجّت البيت:
"إيفين! من اليوم ما تطلعين ويه شير... ما أريدج تگعدين بين الأولاد!"
ومن ذاك اليوم... انقطعت مشاركتها.
بس شير، بگلبه، ظل يحس بالذنب... ويحن لتلك الأيام.
هسه، وهو بالطريق إلها، وهو رايح يشوفها بعد غياب الموت، هاي الصور رجعت كلها...
رجعت بقوّة، وكل نفس يتنفسه، يگول لنفسه:
"يمكن الدنيا مو كلها ضاعت... يمكن بعض الضوا بعده موجود... بإيفين."
وصل شير للمشفى...
خطاها كانت ثقيلة، كأنه ديطب عالوجع بخطوة خطوة.
الدكتور دلّاه على الغرفة، فتح الباب بهدوء، وشافها...
إيفين.
نايمة عالسرير، وجهها أبيض، شاحب، وجسمها... ملفوف من كل جهة.
إيدها اليسرى كلها جبس، رجلها مربوطة، وحوضها مشدود بسيور، وحتى خدها عليه كدمة زرگه.
كأن الحياة ركضت فوقها وما خلت شي سليم.
الغرفة ساكتة، ريحة المعقّم ثقيلة، بس ريحتها مو أقسى من وجع شير.
گعد على الكرسي اليمها، ما حچة...
بس راسه نزل، وانسد بين إيديه، ودموعه تتجمع، ما يريد تنزل، بس ما ديكدر.
مد إيده بهدوء، ومسگ إيدها الباردة.
بصوت مبحوح، بدأ يحچي، حتى لو ما تسمعه:
"إيفين...
شوفي، بس إنتِ بقيتي إلي...
كلهم راحوا... ماما، بابا، ريفا...
بس إنتِ... إنتِ بعدچ هنا.
ما أريد شي من الدنيا، ما أريد...
بس إنتِ تكعدين، ترجعين تمشين، تضحكين، تضحكين مثل قبل...
كلشي ينكسر ويصلّح...
بس إنتي لا تنكسرين."
ظل صوته يرجف، ونفسه يتقطّع، وهو يحچي إلها وكأنه ديترجّى روحها ترجع.
وفجأة...
أنّة صغيرة طلعت من حلقها، جفنها تحرك، وعينها اليسرى فتحت شوي شوي.
بصوت مبحوح، مكسور، طالع من تحت الركام:
"شير...؟"
رفع راسه، عيونه وسعن، ودموعه نزلت بلا إذن.
"إيفين... إنتي صاحية؟"
مدت إيدها التانية بصعوبة، تمسگ إيده بقوة، كأنها خايفة تضيع مرة ثانية.
"إنت عايش؟ شلون؟ شفتهم شلون ذبحو ماما وبابا؟
شير... شلون هربت؟ شلون؟"
عيونها تتوسّع، وكأنها بعد ما مصدگة.
هو قرب، مسح دمعتها بإيده، وقال بصوت هادي، حنون:
**"إي إيفين... أني عايش، هربت من بين أيدهم،
مشيت يومين بلا وگفة، بلا مي، بلا أكل...
لحد ما ناس لگوني، ساعدوني...
ومن يومها، دخلت للجيش...
حتى انتقم."**
ايفين انفجرت تبچي، تحچي وهي تنهار:
"لا شير... لا تحچي هيچ...
إنت بس إنت بقيت إلي، إذا متّت...
ما عندي أحد... لا تروح... لا تخليني وحدي..."
شير شد على إيدها، قلبه ينزف بس صوته ظل ثابت:
"إيفين... حبيبتي، هسه فكري بس تكومين...
بس تتعافين، وترجعين تمشين.
والله، نرجع نبني بيتنا، حتى لو حجر على حجر...
بس نرجع."
سكَتت شوي، وبعدين، فجأة، سألت بنبرة مرتجفة، كأنها مو متأكدة إذا لازم تسأل:
"شير...
ريفا...
أخذوها؟ خطفوها؟ شنو صار إلها؟ شفتهم كتلو امي وابويه بس ريفا جانت بايدهم وينها؟"
هنا... شير تجمّد.
عيونه نزلت، وصدره ضاق.
يعرف الحقيقة... بس ميكدر يذبح الأمل اللي بعينها، ميكدر يخليها تعيش كل يوم تحترق.
فرد، بصوت خافت، مخنوق:
"لا... ريفا ماتت.
ماتت ودفنتها بيدي، يم ماما وبابا، بالجبل...
نامت يمهم، وما خليتها وحدها."
إيفين سكّت... دمعة نزلت من عينها، بصوت واطي، كأنها تحچي ويا نفسها:
"أحسن إلها...
أحسن من ياخذوها هذوله الوحوش."
شير رد وهو يخنق نفسه:
"إي... أحسن."
سكت لحظة، وبعدين تنفّس وقال:
**"هسه أهم شي... إنتِي.
راح آخذچ وياي لبغداد، لبيت صديقي ليث،
ناس طيبين كلش، مرته راح تهتم بيچ مثل أختها.
راح تتعافين، تكومين بالسلامة، ونرجع...
حتى لو القرية كلها تهدمت... نرجع نزرعها من جديد."**
بعد ما سمع "جابر" مكالمة العقيد مهند، الاسم الحركي "أبو بركات"، وهو يبلغه إن ضرغام بدأ يلاحقه، التغيّر بدا واضح على وجهه.
جابر، الأمير اللي يخافون حتى يذكرون اسمه، كاعد بأحد أنفاقه السرّية، تحت الأرض، بجانب زوجاته الثلاث، بعينين مثل جمر، متلألئات من الغضب، لكن نبرته… هادئة، غريبة، كأن البركان جوّه بس غطاه بغطاء حديد.
مسك تليفونه الخاص، اتصل على أمير أقل منه رتبة، صوته كان بارد مثل موس:
"اسمعني زين… هذا ضرغام…
أريده ينتهي.
شلون؟ منين عرفني؟
وين كل عيونّا بالجيش والداخلية؟
محد گلي حرف؟! يعني منو ديشتغل وياه؟
اكيد عدهم ثغرة… اختراق… جاسوس بينّا."
صاح على واحد من حراسه بصوت قوي، لكن بدون صياح:
"جيبلي الجدول… آخر تنقلاتنا، آخر مقابلاتنا، كل شبر مشيناه من شهرين لليوم…
ما أريد شي يفوتك، افتح عينك قبل لا أفتحه بيدي."
الجندي طلّع دفتر أسود سميك، كله تواريخ وأسماء ونقاط تنقّل.
جابر گعد، وبدأ يتصفح بعيونه، يقلب الورق بهدوء، وذهنه يشتغل مثل آلة حاسبة مبرمجة على الشك.
برغم الغضب اللي يغلي بجسمه، ما فقد توازنه…
بالعكس، بدا وكأنه كل ما يغضب… يصير أخطر.
وبلمح البصر، رفع عيونه وصاح:
"كلكم برا… كلّكم."
الكل تجمّد، حتى نساءه انصدموا.
لكنهم انسحبوا بدون اعتراض… لأن جابر من يكول شي، يعني صار قانون.
بقي وحده بالنفق، إلا من نساءه الثلاث، ومن ضمنهم ريفا، اللي كانت قاعدة على بُعد، صامتة، عيونها تدور بالغرفة وراسها يدك بالأسئلة.
جابر مد يده، طلع تليفون ثاني، أصغر، لونه رمادي باهت، شكله ما يوحي بشي… لكنه واضح إنه مو مثل باقي الأجهزة.
ضغط رقم، وبدأ يحچي بلغة غريبة.
ريفا شدت نفسها، رفعت راسها بهدوء، وحاولت تركز…
بس الكلمات كانت متداخلة، مثل خيوط متشابكة.
مو عربي، مو كردي، ولا فارسي…
كلمات متقطعة، كأنها مكسّرة، بيها نغمة شرقية، بس مو مألوفة.
أحيانًا كانت تلتقط كلمات عربية مثل:
"تحرّك، بدون اسم... انتبه..."
بس باقي الكلام… طلاسم.
جسمها تجمّد، كل شيء بداخلها بدأ يرّتجف.
هو ديحچي ويّامن؟ شديصير؟ شراح يصير؟
هذي المكالمة… أنقذتني قبل كم يوم.
چان رايد يقرب، بس دگ الباب، وصاح واحد:
"أمير جابر… أبو بركات يريدك فورًا."
وقتها انسحب فجأة… وتركها.
ومن ذاك اليوم، ما عاد طبيعي.
تغيّر… صار يشك بكل شي.
رجع جابر، ختم مكالمته بكلمة وحدة، ولزم سلاحه، لفه بحزامه، وبعدها لف نظره على ريفا.
قال بهدوء، نبرة تخنق الروح:
"قومي… حضّري نفسچ.
راح نختفي فترة…
ماكو تواصل، ماكو صوت، ماكو حتى تنفس مسموع.
أي مخلوق نحچي وياه، ينكشف مكاني."
ريفا حاولت تسأل، حاولت تطلع حرف… بس صوتها ما طلع.
نزلوا، هو وزوجاته الأربعة، بنفق عميق…
نفق ما أحد يعرفه، غيره، واثنين من حراسه الشخصيين.
ممر ضيّق، طويل، جدرانه طين وكونكريت، ريحته عفن وغبار سنين.
يبعد أكثر من مئة متر تحت الأرض… وما إله فتحة غير وحده… مخفية.
ريفا تمشي بين الخوف والتجمد، داخلها يصرخ بس وجهها ساكت.
صارت بعالم ثاني…
عالم مظلم، مفصول عن الحياة، لا بي صوت، لا بي نور…
بس موجود بي وحش، يبتسم بلطافة… ويخبي خلفه كل شي ما ينحچي.
قاعدة ريفا بزاوية النفق، ظهرها للحايط البارد، وجسمها ملتف بالشال السميك اللي صار مثل جلدها الثاني من كد ما صار ما يفارقها.
الظلمة حوالينها متخثرة، ثقيلة، كأنها مو مجرد نفق... كأنها قبر ممدود على شكل ممر، بس ما بي لا موت سريع ولا حياة حقيقية.
تباوع الجدران، وتتنفس الهوى الثقيل، وتگول بينها وبين نفسها:
"ياريت... ياريت كمزت ويا إيفين من الجبل.
ياريت متت… وخلصت."
كلشي بجسمها ديذبل شوي شوي. وزنها بدا ينقص، نظرتها تبهت، حتى لون شفايفها صار يشبه الجدران.
جابر، من دخلوا للنفق، ما خلّى أحد يطلع، حتى الحراس ممنوعين يدخلون.
الأكل؟ قليل… بايت… بارد… ومو دايم.
لكن الشي الوحيد اللي يثقل اللحظة هو جابر نفسه.
جابر، من جابها لهسه، ما حچى وياها ولا لمَس حتى خصلة من شعرها.
ولا مرة باوع عليها بنظرة وحش مثل ما شافته من باقيهم، بس...
ما چان يعني أمان، بالعكس… صمته يخوّف أكثر من الصراخ.
وكل يوم، نفس الطقس:
يگعد، يفتح تليفونه الرمادي الغريب، يحچي لغة غامضة ما تعرفها،
وورا المكالمة، يكتب ملاحظات بدفتر صغير أسود.
ريفا تحاول تفهم… تحاول تقرأ نبرته، حركته، نظراته… بس ما تلگي بيه شي يتفسر.
الشي الوحيد اللي تتذكّره كل لحظة، هو يوم كان قريب عليها،
وكان رايد يمد إيده، بس فجأة…
انفتح الباب، وصاح واحد:
"أمير جابر، أبو بركات يريدك فورًا!"
ووقتها وقف… وراح… وما رجع لنفس اللحظة.
من يومها، دا يسكن بجواها سؤال ما له جواب:
"منو هذا أبو بركات؟ أنقذني من لمسه هذا الوحش الي جنت مقررة انطي كلشي واقنعه اني احبة حتى ما ياذيني"
---
بهالليلة، جابر كاعد مثل العادة، ظهره للحايط، قدّامه ضو خافت يطلع من لِد صغير مربوط بالبطارية.
مسك تليفونه الرمادي، وضغط رقم، وسرعان ما وصل صوت من الطرف الثاني.
صوت هادئ، واثق.
"ها أبو بركات؟ جبتلي شي؟ عن ضرغام وفريقه؟"
ريفا انتبهت فورًا، قامت بصمت، وسحبت نفسها شوي شوي، تقربت من جدار النفق وهي تزحف تقريبًا.
الصوت هالمرة بالعربي… مو مثل باقي المكالمات.
گلبها دگ.
قامت تدفع راسها شوي شوي، قريبة كافي حتى تسمع بوضوح…
عيونها تتراقب كل حركة بوجه جابر، بس هو مشغول… مو منتبه.
صوت أبو بركات جان واضح، فيه برود عسكري:
**"جبتلك كلشي حسب الطلب: الأول: ضرغام فلاح عبد الواحد – ضابط استخبارات، مسؤول عن ملف السبايا… سكنه غير معروف.
الثاني: ليث صبري حسين – سكنن بغداد، الإعلام.
الثالث: شير خليل حسن – من كوجو، سنجار.
الرابع: هندس عبد الستار إبراهيم – َالسكن الناصرية تابع لفوج المهمات الخاصة."**
ريفا شهگت...
اسم شير خلى قلبها يوقف للحظة…
و"كوجو" ضربت بجوفها مثل طعنة ناعمة من الحنين.
شهگتها چانت واضحة، حتى هي حاولت تگتمها،
بس عيون جابر رفّت، ولف راسه جهة الصوت.
هي، بسرعة، سحبت نفسها وغطّت راسها بالشال،
نزلته للگاع، وگعدت تتنفس بصمت، تترجّى ما يلاحظ.
لحظة سكتة… ما تعرف شنو صار، بس ما تقدم إلها، ما گال شي.
وهي تحت الشال، والهوى محبوس بحنجرتها، ابتسمت.
أول مرة تبتسم من يوم سقطت كوجو.
بس هاي الابتسامة، مو لأن شي زين صار...
بس لأن اسم شير... طلع.
يعني هو عايش.
يعني ما زال يدور، ما زال يحچي، ما زال يقاتل…
يعني، أكو أمل.
بعقلها گالت:
"شير حي... يعني راح يلكاني،
يعني راح أتحرر،
حتى لو مو هسه… باچر،
حتى لو مو باچر… بس يومًا ما."