![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الخامس بقلم فاطيما يوسف
تاهتْ ليالينا، وضاعت في الدُجى سُبُلُ دروبنا
وقلنا عسي ان نلقي المَرسى، فخاب المُرتجِى و الأملُ،سِرْنا وقد خلّفْنا وراءَ ظهورنا أحبابا ،كأنّ الأرضَ قد ضاقت علينا بما رحبت ، وكأنّ القلبَ اعتاد الالم ومن يسألْ، كأنّا ما عشناه في الوجودِ هباءْ،
كأنّ العمرَ لا يُبقي على وصل القلوب ولا صفاء،
وما الدنيا الا خَديعة، كم غدرتْ بنا ،تُبدي الحنانَ، وفي طيّاتها شقاءْ،احانت علينا دروس الحياه ، ايها الضلع النابض داخل ضلوعي كأنكِ لا تعرفين،أنّ الجُرحَ لا يُشفى إذا ما زادته السنين، الم تري كم مَرَّ من اقومٍ قِبْلَنا،تألّموا، وبكوا، وما عادوا كما كانوا بفيض حنين ،أين الحنانُ؟ وقد زهقت روحي بفعل الجفاء بَكى قلبي كما لم يبكي من قبل ،كأنّه حلمٌ ضاعت دروبه و تكسّرَت فوقَ صدرِ الزمانْ،ما لهذه الدنيا تغيّرت؟ ما لهذه القلوبِ تنكّرت؟حتى الوجوهُ التي اغشاها فيض حنانٍ ما عادت كما كانتْ، فهل يبقي الإنسانْ كما كان ،أين الكلمةُ الطيبةُ؟ دفء ضاع كما ضاعتْ الليالِي،أين القلوبُ الصافيةُ؟ جرفتها ريحُ الخيالِ،أضعْتِهم، وجرحْتِهم، وبدّدتِ طريقهم،وها هم في جوف الليل تائهون، كأنّهم ظلالُ سؤالِ .
بس لحد اكده وبقولك كفاية
ونومتك هتبقي جاري لأن دي حقي عليكي ،
معاكي طول اليوم لولادك اما الليل فدي حقي اني واللي مش هسمح بيه اني افضل في أوضة وانتي في أوضة تانية ،
كل الناس حداها عيال مشفناش حد بيعمل كيف ما بتعملي اكده ودي اخر حديت عندي يا “سكون”
وقفت “سكون” في مكانها وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها كانت ملامحها باهته عاجزة عن إدراك المصير الذي رسمه “عمران” بنبرة صارمة لكنها منكسرة في العمق كانت تشعر بأن هواء المكان قد ثقُل وبأن قلبها عاجز عن النبض للحظة وهي تستوعب أن من أحبته بصدق قرر أن يقول كفى،
وهي تنظر إليه بعينين يغمرهما الذهول والانكسار لم تستطع أن تتحرك أو تتنفس كانت صدمتها بحكمه الأخير كصفعة قاسية أفاقتها من وهم أن الحب وحده يكفي كانت ترتجف ليس خوفًا منه بل خوفًا من فقدانه وخوفًا من أن يكون الحد الفاصل قد وقع بالفعل بينهم دون رجعة :
ـ كيف الكلام دي يا “عمران” هتحطني قدام الامر الواقع يا إما أهمَل ولادي وأفوتهم ومراعيهمش وهما لساتهم صغار ومحتاجين رعايتي ليهم أربعة وعشرين ساعة ، يا إما تفكِر تشوف حالك بَعيد عني !
وتابعت بذهول وهي لم تصدق ان ذاك الواقف أمامها هو “عمران” الذي عشقته سنوات وسنوات دون أن يعرف وعانت في عشقه كثيراً:
ـ بقى رايد تتجوَز على “سكون” يا “عمران” ؟
هو دي حالك اللي هتشوفه علي ؟!
أني مصدومة من كلامك والله وومصدقاش اللي سمعته وداني عاد ؟
أجابها “عمران” بحدة خفيفة كي يجعلها تفيق من دوامة الوهم التي تعيش بها وعقلها وقلبها وجل جسـ.ـدها الذين ورطتهم بل وسحلتهم في مفهوم بئر خاطئ من الأمومة وألقته هو في بئر الحرمان منها دون أن تكترث لمشاعره ولا أن يلومها ضميرها على إهمالها له وهو يتقطع داخله لأجل حزنها ولأجل نبرته الهادرة بها وهو دوما كان معها هيناً ، ليناً، طيب القلب ، عاشق لرائحتها وأنفاسها بل وما زال عاشقاً :
ـ مصدومة من اني بطلب منك حقي فيكي اللي ربنا أمرك بيه ؟
ولا مصدومة في إن طيرك العاشق المربوط والموصوم بعشقك وصلتيه بإهمالك انه بقي تايه وحيد الدفء غادر فرشته وبعادك عنه ليالي وشهور خلي ايامه كيف الحنضل المر بتعتبي علي ولا خايفه ان طيرك المربوط بعشقك هيفلت زمامه من يدك ؟
أني لو عايز أغدر ولا أخون مستناش دي كله يا “سكون” ، مقعدش كل ليلة والتانية أحض*ن مخدتي كيف البت البايرة ومرتي اللي هعشقها وهيفصل بيني وبينها يدوب جدار مطيلهاش ،
وتابع بحدة مصاحبة لبعض العـ.ـنف وقد زهق الصبر من صبره وهو يمسك بكتفها يهزها بغضب :
ـ ارجعي بقى عن اللي في دماغك ، ارجعي لي “سكون” مرتي اللي مكانتش تتحمَل بعاد “عمرانها” ولو ليلة واحدة ، ويكون في معلومك المرة دي بالذات اني مش هتنازل عن اللي في دماغي يا “سكون” ودلوك تتفضلي تظبطي حالك لجوزك ومفيش بيات في أوضة العيال تاني ولو اعترضتي يوبقى باكده بتبني أول نعش في طريق سد بيناتنا ، واظن اني عداني العيب وياكي وصبرت كَتير وما فيش راجل هيتحمل الا اني اتحمَلته السنين دي كلاتها يا بت الناس .
ـ أنهى كلامه وتركها وخطى خطوتان لخارج الغرفة فلحقته وتمسكت به وهي تسأله :
ـ طب انت رايح فين دلوك يا “عمران” لسه ما خلصناش كلامنا انت قلت اللي عايز تقوله وما اديتنيش فرصة ادافع عن نفسي ولا اقول اني كمان عايزه ايه؟
أبعد يداها برفق عنه وهو ينظر بعينيه تجاه غرفة أولاده مُعلِماً إياها بحزم :
ـ رايح لبتي اشوف ازاي قدرت تعمل السلوك العدواني دي مع خواتها واعلمها الصوح، واعلمها كيف توبقى زينة علشان دي واجبي ناحيتهم واللي انتِ عايزه تنحيني عنيه،
واسترسل حديثه باعتراض صارم وهو يحذرها بشدة :
ـ واياكي يا “سكون” تفكِري انك تخليني صورة في باترينا قدام ولادي واني ما ليش رأي معاهم ،وانك الكل في الكل وانك المسؤولة عنهم في كل شيء وتنحي دوري كأب، وتخليهم يدوب شايلين اسمي وإني مجرد اسم بس، هما ولادي وليهم حق عليا كيف ما هم ولادك برده وليهم حق عليكِي مش اني الراجل اللي هيقف يبص على ولاده من بَعيد ولا يشوف أخطائهم ويقف متكتَف علشان خاطر عامل حساب ليكي ولزعلك، وما تفكِريش نفسك هتحبيهم اكتر مني؛ لااه يا “سكون” حبي لولادي من حبي ليكي ورعايتي ليهم المفروض انها تبسطك مش تخليكِي خايفة من رد فعلي عليهم ساعة الغلط، راجعي نفسك يا بت الناس لان الكيل طفح ومش هتحمَل اكتر من اكده واصل .
كان الليل يفرش أجنحته على أرجاء المنزل بهدوء مهيب بينما هدوء يملأ الأجواء بعد نهارٍ طويل مليء بالحركة والصخب، وقف “عمران” أمام باب غرفة أطفاله وقد تملكه شعور مزدوج بين الحزم والحنان، دفع الباب برفق ودخل إلى الغرفة حيث كانت “سكن” تجلس على طرف السرير وتمسك بيدها قلماً وكراسة وتحاول أن ترسم كي تكون بارعة في الرسم مثل أخيها ، بينما كان “سليم” و”سيف” جالسين في ركن الغرفة يلهون ويلعبون مع بعضهم بلعبة “البازل” ،
اقترب “عمران” بخطوات بطيئة مدروسة ثم جلس على الأرض أمام ابنته ورفع وجهه لينظر إليها بعينين تغمرهما الأبوة والرفق بينما خيم السكون على الغرفة كلها،
مد يده ومسح على يد “سكن” الصغيرة وهو يقول بصوت منخفض يفيض حنانا :
ـ قولي لي هتعملي ايه يا “سكن” هترسمي وريني اكده رسمتك ؟
خبأت الطفلة رسمتها المشوهة من وجهه نظرها عن ابيها وهي تقول بحزن:
ـ لاااه يا بابا رسمتي وحشة “سَليم” و”سيف” هيقولوا عليها عفشة، ماني بحاول اتعلَم ارسم حلو زيهم وماما هتساعدني كَتير لحد اما ارسم رسمة زينة اوريها لك .
اخذ منها الدفتر وهو ينظر إلى رسمتها وقد زينت الابتسامة ثغره وهو يبدي إعجابه برسمتها :
ـ ايه الحلاوة دي يا بتي، هتخزي العين ولا ايه ؟ ما انتِ هترسمي زين اهو، وما تاخديش على كلام خواتك هم هيمسكوا على عندك وعلشان اكده ما كانش ينفع تقطعي كتاب “سَليم” انت غلطتي يا حبيبة بابا ،
انتي عميلتي اكده ليه يا حبيبتي قولي لي ايه اللي خلاكي تعملي اكده في كتاب خوكي ؟
في عيني “عمران” كان يلمع قلق لم يحاول أن يخفيه إذ شعر أن الغضب ليس سبيل الإصلاح في هذا الموقف بل إن الحوار والرفق هما ما تحتاجه ابنته الآن، لقد كان يعلم أن مشاعر الغضب عند الأطفال تأتي من شعور بالعجز أو الحاجة للانتباه وقد أدرك من نظرة عينيها المرتبكتين أنها نفسها لم تفهم ما دفعها لفعل ذلك،
رمشت “سكن” عدة مرات ثم هزت رأسها بخفة وقالت والدموع تتساقط على خديها ببراءة الأطفال:
ـ والله ما كنت أقصد يا بابا والله ما كنت أعرِف إن دي هيوحصل الكتاب كان في يدي و’/”سَليم” كان هيزعِق لي جامد وقال لي ما تلعبيش معانا واني ما هعرفش ارسم ورسمتي عفشة قوي واني ما قدرتش أتحمّل وكنت متضايقة جوي.
استمع “عمران” إلى كلماتها بانتباه بالغ وهو يشعر بوجعٍ في قلبه من اعترافها البريء وبكائها الحار،لقد أدرك أن الطفلة الصغيرة كانت تتصرف من انفعال مفاجئ ولم تدرك عواقب ما فعلت وقد ازدادت مشاعر الحنو في قلبه نحوها أكثر فأكثر:
ـ بصي يا “سكن” أنا فاهم انك زعلانة وفاهم انك كنتي متضايقة بس برضو لازم تعرِفي انك لما تتضايقي ما ينفعش تعملي حاجة تزعل خوكي أو تأذيه ، ولازم لما حد يزعلك تاجي على طول تقولي لي واني اللي هتكلم معاه وهجيب لك حقك من غير ما تزعلوا بعض .
كانت ملامح “عمران” وهو يتحدث تتلون بصدق مطلق، في صوته اهتزاز خفيف يعكس الألم العميق الذي يشعر به حين يرى أبناءه يجرحون بعضهم البعض عن غير قصد، كان يعلم أن مشاعر الطفولة رقيقة وسريعة الانكسار وأن أي جرح قد يترك أثرًا طويل الأمد إذا لم يتم علاجه بالكلمة الطيبة والعناق الدافئ :
ـ انتي عارفة انك مش بس أختهم انتي بالنسبة لهم زي أمهم بالضبط يا “سكن” والأم لازم تكون قلبها وبالها طويل وانتي اللي لازم تكوني قدوتهم في كل حاجة، طيب ينفع بنتة قمر زيك تعمل اكده؟ بتي الحلوة اللي أني هعشقها تعمل اكده؟ لا طبعًا انتي أحن من اكده بكَتير وأطيب من اكده كماني .
رفعت “سكن” رأسها ونظرت إليه بعينين مغرورقتين وقد بدا عليها أنها تسمع صوته لا بأذنيها فقط بل بقلبها كله، كان وقع كلماته عليها كالماء البارد على نار داخلها كانت توشك أن تحـ.ـرق كل شيء ، احساس طفولي بعقل صغير جعلها تشعر أنها سيئة للغاية:
ـ أني آسفة يا بابا ،أني فعلًا آسفة ما كنتش أقصد أزعله أني كنت عايزة ألعب معاهم وخلاص وهم كانوا هيمسكوا على عِندي .
نظر “عمران” إلى ابنه “سليم” الذي كان لا يزال جالسًا دون حراك ثم أشار له أن يقترب، اقترب “سليم” بخطوات مترددة وعيناه متعلقتان بأبيه:
ـ تعالى اهنه يا “سليم” تعالى جنبي شوي، شوف يا حبيبي أختك غلطت لما قطعت الكتاب بس هي قالت إنها ما كانتش تقصد وكانت متضايقة، وانت كمان غلطت لما مسكت عليها وضغطت عليها بالكلام، المفروض اننا كلنا نحافظ على بعض وما نوجعشي بعض بالكلام ولا بالفعل.
التفت “عمران” إلى ابنته وقال بلطف وحنان:
ـ يا “سكن” هتجولي لأخوكي إيه؟ جولي له إنك آسفة وانك مش هتعملي اكده تاني وانك بتحبيه.
نظرت “سكن” إلى “سليم” ودموعها لم تتوقف ثم قالت بصوت منخفض:
ـ أني آسفة يا “سليم” بجد مش هعمل اكده تاني سامحني علشان أني هحبك وكنت عايزاك تقول على رسمتي حلوه بس المره الجايه مش تقول ل”سكن” رسمتك عفشة.
ثم التفت “عمران” إلى “سليم” وقال له:
ـ وأنت كمان يا “سَليم” لازم تعتذر لها علشان الكلمة اللي قلتها لها وجعت قلبها، إحنا ما ينفعش نكسر قلب بعض علشان ننتصر في لحظة، قول لخيتك إنك آسف وانك هتحبها.
أخفض “سليم” رأسه قليلًا ثم قال بصوت خافت:
ـ أني آسف يا “سكن” أني ما كنتش أقصد أزعلك أني كمان هحبك.
في تلك اللحظة شعر “عمران” أن قلبه قد امتلأ دفئًا غامرًا وتسللت ابتسامة خفيفة إلى شفتيه دون أن يدري، مد ذراعيه واحتضن “سكن” و”سليم” ثم نادى على “سيف” الذي كان يراقب الموقف بعينين فضوليتين فركض إليه وقفز في حض*نه دون تردد،
ضم “عمران” أولاده الثلاثة إلى صدره بشدة كأنما يريد أن يحتفظ بهم داخل قلبه وألا يفرط في لحظة دفء واحدة معهم، أحاطهم بذراعيه ونظر إليهم بعينين تلمعان بالحب والحنان وقال بصوت منخفض لكنه مملوء باليقين:
ـ اسمعوني كويس يا حبايبي انتو إخوات يعني لازم جلبكم يبجى على جلب بعض وتبجوا يد واحدة وما حدش يغدر بالتاني وما حدش يزعل التاني وما حدش يعاند مع خوه، أي حاجة تحصل بينكم تيجوا تحكوها لبابا على طول وبابا هو اللي هيحلها .
شعر الأطفال جميعًا بدفء الأمان في صدر أبيهم وارتسمت على وجوههم الصغيرة ملامح الاطمئنان والسكينة وكأنهم أدركوا أن لهم سندًا لا يتخلى أبدًا عنهم مهما حدث،
وفي الطرف الآخر من الغرفة كانت “سكون” تقف بصمت تراقب المشهد ويداها تتشابكان أمام صدرها وعيناها مغرورقتان بالدموع، كانت تشعر بغصة في حلقها ووجع يعتصر صدرها كلما نظرت إلى “عمران” وهو يضم أولاده إليه بحنان لم تبذل هي جهدًا في دعمه كما ينبغي،
كانت تلوم نفسها في صمت وتعترف أمام قلبها بأنها قصّرت في حقه كثيرًا ولم تقدر جهده كما يجب، كانت تعرف أن قلبه عامر بالحب وأن صبره لم يكن يومًا ضعفًا بل قوة لا تُضاهى، وفي تلك اللحظة فقط تمنت من قلبها لو استطاعت أن تعيد الزمن لتكون أقرب إليه كما كان دومًا أقرب إلى أبنائهم منها ،
ولم تخرج من تلك الليلة إلا بصمتٍ طويل ورسالة واحدة تنبض في قلب “سكون” قبل عقلها أن “عمران” لم يكن أبًا فقط بل وطنًا حقيقيًا لثلاثة قلوب صغيرة وسندًا لامرأة ما عادت تعرف كيف تفيه حقه في زمنٍ مرهق بالخذلان
********
كانت تقف أمام المرآه تنهي لمساتها التجميلية لوجهها ومن ثَمَّ شعرها وهي تنظر إلى هيئتها بإعجاب شديد ويدها تتحسس ذاك القميص الناعم باللون الأسود والذي أعطاها هيئة أنثوية مغرية للغاية والإبتسامة العابثة تزين ثغرها وأخذت تدور حول حالها بخيلاء وداخلها واثق الخطى أنها ستبهره بشدة ،
ثم أمسكت بزجاجة المعطر وبدأت برش عطرها في جميع الغرفة كي تعبئ المكان بتلك العطور النفاذة وبعد أن انتهت استنشقت عبقه وهي تغمض عينيها وكان ذاك المشهد أعطاها سحراً خاصاً لايليق إلا بتلك القوية ،
في تلك اللحظة دلف زوجها إلى الغرفة وجدها تجلس على الشزلونج وقدماها ممدة بأنوثة وتغمض عينيها تستنشق عبق العطور الذي يملأ الغرفة ، ساقته قدماه إليها كالمسحور من جمالها وجمال المكان ناهيك عن رائحتها التي نادته من أسفل وهيئتها الساحرة التي خطـ.ـفته وهي تقف مغمضة العينين وتلك الموسيقى الرومانسية الهادئة تعطي نغماتها لحناً خاص وساحر ، كم كان ذاك المشهد بالنسبة له كالحلم الذي حلم به كثيراً ،
حلم بأن يعود من عمله يجد زوجته تنتظره بتلك الهيئة دون أن يجبرها على أن تكون في أحضانه وأنه يشتاقها كل مرة ، وهو يحدث حاله أمامها وكل ذلك حدث في بضع ثواني ، كل تلك المشاعر والأحاسيس والنبضات التي كادت أن تخترق صدره وتهرب من بين ضلوعه وتستقر بين يديها :
ـ فقال العقل ؛اهدأ يا رجل وتمسك بحالك قليلا أمام تلك العابثة الماكرة ، اهدأ ولا تستكين لمحاولات جذبها إليك بذاك الدهاء الكبير ،
ليرد القلب الملهوف الآن ؛أحقا! لن تستطيع يا رجل أن تصمد أمام كتلة الأنوثة تلك ، تقدم وانهل من رحيق شهدها المسكر حتى تغيب معها وتنسى نفسك والظروف والزمان والمكان وكل الأشياء ،
هنا عاد العقل يذكره بما فعلته وهو ينهره ، تراجع يا رجل ، تراجع عن أفعال تلك الماكرة فهي ماكرة تقصد أن تنسيك العقاب ، أين الكبرياء ؟ فلا تدعها تنسيك وكل ما فعلته معك يضيع هباء ،
نطق القلب مكانه وهو ينهر ذاك العقل ؛ اصمت أنت أيها العقل ، ألم ترى هيئتها الساحرة ؟ ألم تشم عبقها الآخاذ ؟ ألم تقف أمام فاتنة بإطلالة ثائرة؟ أنت الآن سوف ستجعلني أخسر جولة ممتعة أمام تلك الصغيرة الفاتنة فليذهب العقاب والعقل والقلب إلى الجحيم وسأخطو بقدمي إليها بعد أن أشعلت حـ.ـرائق الاحتياج لها داخلي ، تقدم يا رجل واسحبها اليك واسحقها بين أحضانك وتمتع وتهنئ باقترابها ،
وعلى الفور هبط بنصف جسده أمامه وهمس بصوت أجش داخل أذنها حتى اقشعر جسدها من صوته الرجولي في أذنها ،حينما استقر الضوء في قلب الغرفة وارتسمت على ملامحها سكينة خفيفة مع لمحة دلالٍ لا تخفى على عين “ماهر” المترصدة لكل نبضٍ منها اقترب منها وهو يحمل في عينيه رجفة الاشتياق وغضبة المحب التي لا تلبث أن تنقلب إلى شغف متوهج كان حضوره في الغرفة كأنفاس عاصفة صيفية ناعمة تحاصر الهدوء وتحرك كل ساكن فيها اقترب بكبريائه الذي لا يلين ووقف أمامها بذراعين مفتوحتين وكأنه يختصر المسافات بينها وبين اعتراف قلبه:
ـ على فكرة تدوبي وتجنني وكل حاجة حلوة ومختلفة ومميزة فيكي النهاردة يا رحمتي
فتحت عينيها على اتساعهما وكأن قلبها سمع صوته قبل أذنيها وبمجرد أن لمحت طيفه أمامها شعرت بأنفاسها تخرج متلاحقة كأنها تحاول اللحاق بهيبة حضوره وقبل أن تنتفض لتقوم من مكانها إذا به يسبقها بحركته الحاسمة محاصرًا إياها بين ذراعيه والشزلونج وكأن لا مفر من سطوته ولا نجاة من سحر عينيه:
ـ رايحة فين يابت “سلطان” هو دخول الحمام كيف خروجه ولا ايه عاد؟
وبعدين إيه الجو الجامد دي يا رحمتي دي الغيبة بتاعتي مقصرة فيكي جوي وهتم*وتي من الاشتياق يا صغنن؟
لم تضعف “رحمة” رغم الحصار ولم تهرب رغم القرب بل رفعت حاجبيها بدلالٍ أنثويٍ لا يجيده سواها وعيناها تتحدثان قبل شفتيها وكأنها تخبره أن التحدي بدأ الآن وأن اللعبة لم تنتهِ بعد وجهها تلفه ابتسامة خبيرة تخبئ وراؤها موجة أنوثة تندفع نحوه بثبات:
ـمين دي اللي هتمو*ت من الاشتياق مين يا حبيبي؟!
جول إن انت اللي مش قادر تمسك حالك قدامي وانك أول لما دخلت الأوضة وشفتني هتمو*ت على انك تاخدني في ح*ضنك وانك مش جادر تتنفس قدامي اصلا.
ضحك “ماهر” ضحكته الرجولية التي تحمل في نبرتها ثقة المنتصر وهو يرمقها من أعلى وكأنه يعرف أن هذه اللحظة تخصه وأنها لن تفلت منه مهما حاولت الدفاع أو المناورة عيناه تخترقان ملامحها ويداه تتشبثان بإطار اللحظة ليؤكد أنه لا مجال للهروب بعد الآن:
ـ أني بردوا اللي همو*ت عليكي آمال الروايح اللي معبية الأوضة داي ايه؟
والشموع والموسيقى والقمصان الجامدة والحركات اللي انتِ عاملاها دي تدل على ايه؟
غير انك انتِ اللي هتعرضي نفسك علي وهتمو*تي على انك تنامي في ح*ضني النهاردة وانتِ كل يوم والتاني هتح*ضنيني بعد ما انام ومفكِره اني مش هحس بيكي لعلمك بجى أني عارف انك ميتة من الاشتياق وجبتي أخرك يا رحمتي اعترفي بجي انك رجعتي وانتِ مسلمة الراية البيضا وكلك جوع لأحضان “ماهر”
تقهقرت “رحمة” بخطوة لكنها لم تبتعد ظلت واقفة أمامه كالملكة التي لا تسمح بالهزيمة حتى وإن أرادت أن تهدأ عنادها جعلها تصعد في اللعبة وعزتها جعلتها تتمايل بالكلمات لكنها في قرارة نفسها كانت تشتاق أكثر منه لتقول قبل أن تنتوي الخروج بعد أن أحست بالحرج من تلميحاته :
ـ فشر مين دي اللي بتعرض عليك ؟
دي أني “رحمة سلطان المهدي” يعني انت اللي تشوفني تم*وت علي وتتمنى رضاي وح*ضني
جول بجى انك اول ما دخلت الأوضة وشفتني ما قدرتش تمسك اعصابك وبجيت تطلع نـ.ـ.ـار من كل حتة حتى حرارة جسمك وصلت لي واحنا في ايام الجو معتدل فيها واذا كان على اللبس والحركات اللي هتتحدت عنيها دي اني ست وفي أوضة نومي الخاصة وحبيت ادلع نفسي واروق على حالي بعيد عن الحوارات اللي في دماغك دي خالص اللي انت اصلا هتم*وت عليها واما صدجت شفتني اكده و هتمو*ت على نفسك.
لم يتحمل “ماهر” تلك النبرة المتعالية التي تخرج منها وكأنها تملك الحق كله في قلب المعركة أراد أن يعيد التوازن ويؤكد أن السيطرة ما زالت بيده فتقدم منها خطوة أخرى اقترب حتى أصبح يفصل بينهما أنفاسهما الملتهبة وأمسك بيدها بحزم العاشق الواثق:
ـ تعالي اهنه رايحة فين هو انت هتشعللي النار جواي وتُهربي اكده عاد ؟
اعقلي يا بت سلطان ومفيش خروج من اهنه واصل الا لما تطفي الحـ.ـريق اللي أشعلتيه،
أه منكم انتم يا جنس حوا شاطرين في اللفلفة والدوران والمكر ما تقصري الطريق واعترفي انك عايزاني وانك مقدراش تعيشي من غيري يوم واحد وانك عملتي الليلة داي علشان تصالحيني واني ياستي بكل نفس راضية سامحتك.
أشاحت بوجهها قليلًا لكنها لم تستطع الفرار من قبضته أو من صوته الذي يتغلغل في عروقها كالموسيقى المتسللة بين جدران القلب وقفت بثبات الأنثى العنيدة ورفعت ذقنها في كبرياء ظن أنه قد ولى لكنها أثبتت أن الحب حين يسكن القلوب لا يلغي قوة الشخصية:
ـ هأو مش “رحمة سلطان المهدي” بردوا اللي تاجي راكعة وتطلب الوداد
اعترف انت انك مش قادر تمسك حالك قدامي وانك أول لما دخلت الأوضة وشفتني هتمو*ت على وانك دلوك خلاص جبت أخرك يا متر واني جامدة مو*ت وعرفت أخليك تقف قدامي وعيونك هتاكلني وكمان تصالحني على السبوعين اللي قعدتهم بعيد عني ومخاصمني اعترف واني اخليلك الليله دي زي شهريار بالظبط وهعيشك ليلة ولا ألف ليلة وليلة من بتوع شهرزاد.
لم يتمالك “ماهر” نفسه أمام هذا الإغراء الملفوف في تحدي وكبرياء ضحك بحرارة وهو يهز رأسه بإعجاب واستسلام وكأن كل الكلمات قد ذابت في وهج عينيها وشوقه الذي لم ينطفئ منذ أول يوم افترقا فيه:
ـ طب أعترف أنا “ماهر البنان” وأنا بكامل قوايا العقلية إن “رحمة سلطان المهدي” خلتني دايب ومشتاق ومش قادر على بعدها ولا قادر مشدهاش لحض*ني ولا قادر أستنى أكتر من اكده قدام سحرك وجمالك يا صغنن.
أطلقت “رحمة” تنهيدة دافئة خرجت من أعماق قلبها المنهك من الخصام وتقدمت نحوه كمن وجد ضالته في حض*ن الحبيب فتراقص صوتها بدفءٍ وصدقٍ وهي تنطق الكلمات كأنها مرهم على جراح الاشتياق:
ـ وأنا عفوت عنك يا متر بس ياريت متعملهاش تاني علشان انت عارف اني هحبك وهعشقك ياقلب “رحمة” ومجدراش على بعادك اكتر من اكده كيفك وأكتر كمان.
ضم “ماهر” يديها بين يديه ونظر في عينيها بعمقٍ لا يحمل إلا الصدق والحب والخوف من الفقد من جديد تنهد بحنان الأب والعاشق وقال بصوته الرجولي العميق الممزوج بعاطفةٍ جياشة:
ـ وأني هحبك طول مانتي واخدة بالك من بنتنا وهتراعيها بنفسك أني مليش غيركم يا “رحمة” انتو جنتي على الارض وانتو كل حاجة حلوة بالنسبة لي وأحب أشوفكم بكل الخير.
في تلك اللحظة كانت روحهما قد تصالحت معًا قبل أن تتصالح الكلمات وألقت “رحمة” بكل العناد أرضًا ورفعت كفيها لتطلب حض*نه كأنها تعلن أنه وطنها الوحيد فمالت عليه بهمسة ممزوجة بالشوق:
ـ طب خدني في حض*نك بجي اتوحشتك جوي جوي يا “ماهر” اتوحشت حض*نك وضمتك ليا وحنانك علي اتوحشت أنفاسك وريحتك وكل حاجة في يومي وحشة من غير كلامك معاي بجى هنت عليك تخاصمني سبوعين بحالهم من غير ما تسأل فيا
هنت عليك نبقى نايمين على سرير واحد وتبَعد عني وأجي أقرب منك كأن كهربا لمستك وتنفرني أني زعلانة منك جوي وجلبي مش مسامحك على بعدك وهجرك ليا.
اقترب منها أكثر وكأن الندم يذوب على ملامحه وتشابكت نظراته بنظراتها ليُسكت كل الأسى باعتذارٍ من قلبه لا يحتاج إلى كلمات لكنه رغم ذلك نطق بها بصوته الذي اختلط بالحب والندم:
ـ حجك علي بس اللي حوصل منك لبنتنا ما كانش سهل واصل ويا ريت ما نفتحش فيه تاني علشان أني ناوي اني أدوبك الليله واخد حقي في السبوعين اللي فاتوا منك لحد ما تجيبي أخرك وتُهربي مني وتجولي لي ارحمني بجى كفاية .
ساد في الأرجاء صمت مهيب، كأن اللحظة ذاتها تخشى أن تُقاطع ما بين قلبين ينبضان بنبضٍ واحد، في ذلك الركن الهادئ من البيت، حيث لا ضجيج سوى همسات الهواء، ولا حركة سوى ارتجافة الستائر، كان كل شيء يدعو للسكينة، لكنه يخبّئ في طيّاته نداءً عارمًا للشوق، ليقول “ماهر” بصوت منخفض أقرب للهمس:
ـ “حاسس إني محتاجك جوي يا رحمتي ومش هستحمل تبعدي تاني .
انزلقت نظراتها على ملامحه، متأملة تلك القسوة التي لا تفارق قسمات وجهه، لكنها تعلم تمامًا أنها تختبئ تحتها حنانًا لم يكتشفه أحد سواها، كانت تحب فيه هذا التناقض، وتشتاق دومًا للغوص في أعماقه لتتحسس وجنتيه بنعومة وابتسامة خفيفة ونغمة لا تخلو من الدلال والمناوشة:
ـ طب ما اناي اهنه اهو ، واجفه جدامك ملك يمينك ، اعمل ما بدالك يا جلب “رحمة” واني هتجبل منك أي عاصفة اشتياق بصدر رحب .
اقترب منها ببطء، وكأن كل خطوة منه تعني تحدّيًا لصبره، وتعني لها عزة في أنوثتها، لكنها قاومت، كعادتها، واختارت أن تقف متماسكة، رغم أنها كادت أن تنهار بين ذراعيه،
وقد اقترب حتى بات بينه وبينها شبرٌ واحد، ينظر في عينيها نظرة تعرف جيدًا معناها:
ـ “هضمّك جواي بس اتحمَلي بجي جبروت ابن البنان المحروم من حض*ن مرته .
شعرت برجفة تسري في أطرافها، لكنها ما زالت متشبثة بتلك اللعبة الجميلة، لعبة القرب والتمنّع، لعبة النساء التي لا يجيدها سواها، لكن عينيه جعلتاها تفقد اتزانها للحظة لتقول بصوتٍ خافت وهي ترفع رأسها لتثبت نظرتها في عينيه:
ـ “يعني ناوي تفتكر دلوك إنك هتحبني؟ بعد ما سيبتني أتقلب في الوحدة وأني جنبك يا ابو جلب حجر .
تقلّصت المسافة بين جسديهما، لكنه لم يمسّها بعد، وكأن لمسةً واحدة ستشعل الكون، وستفتح أبوابًا من الضعف والشوق، لم يُردها أن تُفتح سريعًا، بل أرادها أن تنكسر أمام رجولته شيئًا فشيئًا ليهمس بصوتٍ أجش، فيه نبرة احتياج ورغبة لا تحتمل التأجيل:
ـ أني مهبحبش أبرّر ، بس لما بكون بَعيد، ببجى شايل الدنيا على دماغي وكل لحظة بتعدي علي من غيرك، بحس إني مطايقش حالي وهخانق دبان وشي .
أشاحت بنظرها قليلًا، وكأنها تخشى أن يقرأ في ملامحها ما تخفيه، لكنها لم تبعد كثيرًا، فقد كانت كل ذرة فيها تشتاق لاحتوائه، لوجوده، لرائحته، لكنها فقط أرادت أن تعرف: هل هو ما زال يراها كما كانت؟
لتنطق بصوت مرتعش، لكنه ما زال يخبّئ قوة امرأة تعرف من تكون وهي تمسح في صدره كالقط الوديع :
ـ “وإنت فاكر إني كنت مرتاحة وانت هتبعد كل يوم عن ح*ضني ؟ اني من غيرك بتوه توهة انت دليلي يا “ماهر” .
لم يتمالك نفسه، رفع يده ببطء، ولمس طرف خدها بطرف أصابعه، كأن لمسته تحمل آلاف الاعتذارات التي لا تُقال، ثم أحاط وجهها بكفّيه، وقال كلماته كمن يُقسم على صدر السماء بصوت منخفض، يشبه تنهيدة موج عائد للشاطئ:
ـ طب أديني رجعت لك بقلب مليان اشتياق، ومليان حب، وكل حاجة ناقصة فيا مش هتكمّل غير بيكي يا صغنن .
أغمضت عينيها للحظة، وكأنها تحتبس دمعة، أو تحاول لجم عاصفة داخلها، ثم فتحتها ورفعت يدها تمسك بيده الموضوعة على خدها، وضغطت عليها برقة ونعومة وبصوتٍ هامس:
ـ يا هلا وغلا بيك يا قلب وروح وعمر الصغنن .
اشتدت عاصفة الاقتراب بينهما كما يشتد الموج إذا عانق الصخر بعد طول غياب، لا رحمة في الاشتياق، ولا عذر في الحنين، كانت بين ذراعيه كأنها وطنه المفقود، وكأن صدره كان يفتقد أنفاسها كما يفتقد الجسد روحه حين تتيه، احتواها “ماهر” بين ضلوعه برجولة لا تعرف التراجع، وقبّـل وجعها قبل شفتيها، وبعينيه أخبرها كم أرهقته المسافة، وكم كان عناده مجرد صرخة خوف من حجم الحب الذي يسكنها ،أما “رحمة”، فقد أذابت كبرياءها بأناملها على وجهه، وكتبت بلمساتها على جسده قصيدة عشق ناري ، لم تحتج حروفاً، بل تناثرت همسًا وأنفاسًا لا تُفسَّر، كانت عنيدة، نعم، لكنها ما إن لامس دفء صدره روحها، حتى استسلمت بكامل كبريائها، كأنها لم تكن يومًا سيدة الممانعة ،التصقت به كأنها تختبئ من العالم، وكأنها تقول له بلغة الجسد؛ “أحبك رغم كل شيء”، فردّ عليها بلغة أكثر وحشية، أكثر رجولة، أكثر امتلاكًا ،تسابقا في الجنون، في الإقتراب، في كسر كل ما بينهما من جليدٍ عنيد، وكان كل منهما يشتهي الآخر كأنه لم يره من قبل، لم يكن مجرد لقاء جسد، بل اشتعال روحين كان بينهما آلاف الكلمات المؤجلة، وكمٌ هائل من الرغبة المخبأة تحت وسائد العناد، لم تكن قبلاته تلامس بشرتها فقط، بل كانت تقتحم أعماقها، تُشعلها، تُوقظ أنوثتها من نومها الطويل، وظلت هي تهمس له بصمتها، بصدرها الملتصق به، بدموعها التي لم تنزل بل احترقت على جفنيها، أنها لم تملك يومًا مهربًا منه، ولن تملك وكانت تلك اللحظة، رغم جنونها، لحظة خلاص، لحظة عناق بين العاشقين، حين يتلاشى الزمن، ويذوب العناد، وتنتصر الرغبة في لحظة حبٍ لا تعرف التراجع.
********
كان الصباح يزحف على أطراف الغرفة بهدوء، كأن الشمس تخشى أن توقظ من ناموا على وعد الحب، غير أن “أشرف” لم ينتظر الضوء، كان مستيقظًا قبله، يتقلب في الفراش كمن لدغته نحلة الشوق، نظر إلى “فاطمة” التي تنام على الطرف الآخر من السرير، متكوّرة كقطة صغيرة، وغطاؤها يرتفع وينخفض بأنفاسٍ هادئة، ووجهها نائم في براءة تُغري بالمشاكسة،
مال ناحيتها، وبصوتٍ هامس لا يخلو من المقالب قال:
ـ يا صباح الجمال على وش القمر،قومتي؟ ولا لسه في عالم السنافر؟
لم ترد، لكنه لمح حركة خفيفة في زاوية فمها كأنها تكتم ابتسامة، فعلم أنها مستيقظة، لكنها تتغافل، وهنا شعر أنه آن أوان اللعب ،
اقترب منها أكثر وهمس في أذنها:
ـ بصي لو ما قمتيش دلوقتي، هتشوفي الوجه التاني لـ”أشرف” هتشوفي الجنرال بيتنطط لك هنا في الأوضة ، هفتح لك الشباك، وأغرقك بشمس يوليو في عينيكي، وبعدين هغني لك ذهب الليل وطلع الفجر والعصفور صوصو، بصوتي اللي يخلي العصافير تهاجر!.
فتحت “فاطمة” عينيها بتثاقل، وما إن رأته يضحك كالأطفال، حتى عضّت شفتها وغطت وجهها بالملاءة، ثم تمتمت:
ـ قوم يا “أشرف” خليني أنام شوي أني لسه ما خدتش نفسي من اللي حوصل امبارح، جاي تهزر من بدري اكده؟!
رد وهو يمد لسانه:
ـ لا يا حبيبتي انا خلاص خلصت نوم وانتِ كمان هتقومي من النوم اجباري علشان تجهزي لي فطار وتعامليني معاملة الملوك في يوم اجازتي وانت كل يوم بتبقي نايمه وبتشخري وتسيبي جوزك حبيبك يروح الشغل من غير فطار ، قوم يا بطبط علشان مش هحلك النهاردة .
اعتدلت “فاطمة” في جلستها وجلست على طرف السرير، تغطي صدرها بالغطاء، وشعرها المبعثر قد تناثر حول وجهها كستار شفاف، ثم قالت بخجل:
ـ إنت كان لازم تصحيني بالشقلوب؟ يعني ما فيش صباح الخير ناعم كده، ولا بو*س*ة على الراس، ولا اي كلمتين من اللي هيعملهم الراجل ويا مرته لما يصحيها من النوم .
رفع حاجبه كأنه يمثل مشهد درامي وقال:
ـ والله أنا ناوي أقولها، بس لما شفت منظر الشعر الغجري الذي يسافر في كل الدنيا ده، نسيت كل حاجة!
قالها وهو يشير لشعرها المنكوش، وعينيها المتورمتين من النوم، فأطلقت ضحكة خفيفة، ثم رمته بالوسادة وهي تقول:
ـ يا قليل الأدب، هو دي ذوقك وصباحك؟ طب قوم حضّر فطارك بدل ما تفضل تتمسخر علي.
أمسك الوسادة وض*ربها بها ض*بة تمثيلية كأنه داخل حرب، ثم صاح:
ـ مش هحضر حاجة، أنا راجل شرقي،لازم مراتي تصحى تحضر لي الفطار، وأنا أقعد على السفرة أستنى ولو ما عملتيش كده، هبعت لأمك تقولك جوازنا باطل!
قامت “فاطمة” وهي تكاد تتعثر في الغطاء، وقالت بتهديد وهمي:
ـ ماشي، طيب يا “أشرف”، والله ما هعملك غير شاي بكركديه سخن علشان يهدّ أعصابك، ومعاه بيضة مسلوقة ناشفة تطلع لك تراب في بقك، هو ده الفطار بتاع الرجالة الشرقيين!
وضع يده على صدره وكأنه تلقّى طعنة:
ـ كده يا فاطمة؟ بيضة ناشفة؟ ده أنا كنت فاكرك هتعملي لي فول بالسمن، وطعمية مقرمشة، ومربة مشمش، وشاي بحليب!
اقتربت منه بخطوات محسوبة وقالت:
ـ مش إنت الراجل الشرقي؟ قوم اعمل لنفسك يا باشا، دي المساواة بقى مش انت بتقول هتحب المودرن والفاهمين؟
ولعلمك بقى اني عايزه أتعامل معاملة بطة جدو علي تصحى من النوم تغطس وتعوم وهات يا لعب وهات يا نوم ما ليش اني في حوار الزوجة اللي تفطر جوزها دي خالص.
رفع حاجبيه وقال:
ـ بس أنا بحب الفاهمة اللي بتفهم إن الرجالة صباحهم بيبدأ بلقمة حلوة، مش نكد وض*رب بالوسايد يا “بطة” ما ليش انا في الجو ده بلا بطة جدو علي بلا بطة جدو حسين.
ضحكت “فاطمة” ثم اتجهت إلى الحمام، لكنها قبل أن تدخل، استدارت نحوه وقالت بخبث:
ـ بقولك إيه، لو قعدت تعيط شوية وأني جوه، ممكن أطبخ لك بيضتين بدل واحدة.
رمقها بنظرة فيها تمثيل الذل والخضوع، ثم تظاهر أنه يجهش بالبكاء:
ـ هو ده جزاء اللي استناكي أربع سنين؟ هو ده؟ دموعي بتنزل ،طب يا ناس شوفوا مراتي هتذلني علشان تفطرني.
دخلت الحمام وضحكت ضحكة خفيفة، وتركته يمثل في الخارج مسرحية درامية لا تنتهي،
بعد قليل، خرجت “فاطمة” من الحمام، ترتدي قميصًا بسيطًا بلون السماء، وشعرها لا يزال مبللًا يتدلّى على كتفيها، ووجهها متورد من حرارة الماء والحياء ،كانت تتحرك في الغرفة بخجلٍ، كأنها تمشي على أطراف الضوء،
توقّف “أشرف” عن التهريج فجأة، ثم قال ببطء وهو يتأملها:
ـ إيه الجمال ده؟ هو أنا رجعت تاني ليلة الدخلة ولا إيه؟ طب ده أنا لازم أعملك زفة تاني من السرير للمطبخ!
خفضت “فاطمة” بصرها وهمست:
ـ خلّي عندك دم، مش كل مرة تقعد تسبل لي اكده وتحرجني.
اقترب منها، ووضع يده على كتفها برقة، ثم قال بنبرة أكثر دفئًا:
ـ والله يا “بطبط”، لو كل يوم أصحى على وشك ده يبقى كتر خير الدنيا
كفاية عليا ضحكتك دي، دي فيها أكتر من ألف صبّاح.
هزّت كتفها محاولة أن تُبعد يده بخفة، لكنها لم تقاوم كثيرًا، ثم قالت بنعومة:
ـ طيب قوم بقى يلا علشان نفطر يا سيدي الرومانسي انت .
قال وهو يغمز:
ـ طيب بس عندي شرط.
منذ أسبوعين
ـ خير؟
ـ الفطار يكون على السرير ومعاه ب*سة مجانية فوق البيعة!
نظرت إليه بصدمة، ثم قالت بسرعة:
ـ هو إحنا في فندق ولا في بيت؟ قوم يلا يا “أشرف” قبل ما أرجع أنام تاني وتصحيني بكركديه فعلاً!
ضحك، ثم اندفع خلفها إلى المطبخ وهو يغني بصوته المزعج:
ـ بطبط يا بطبط ، يا حتة سكره خلقك ضيق قاسينه بمسطرة يا أجمل من المربى على العيش السخن يا سكرة
وانطلق النهار عليهما كما ينبغي أن يبدأ ،خفة دم، ودفء، وكسوف، وضحكة من القلب، تملأ البيت قبل الشمس.
**********
هبت نسمات المساء على أرجاء المزرعة، تداعب أشجار الجميز والنخيل، فيما خيّم السكون على المكان إلّا من أصوات الطيور العائدة إلى أعشاشها، وصهيل بعيد من أحد الخيول داخل الإسطبل،
كان “عمران” جالسًا تحت مظلّة خشبية تتوسط حديقة المزرعة، على مقعد بسيط من القش، ينظر نحو غروب الشمس الذي لوّن الأفق بدرجات من البرتقالي والذهبي، ويداه متشابكتان في هدوءٍ تام،
لم تمر دقائق حتى اقتربت منه الدكتورة “نور” تمشي بخطواتٍ ثابتة، تمسك بملف صغير، وعلى وجهها علامات التوتر،
وقفت أمامه، ثم قالت بصوتٍ منخفض وهي تنظر إليه مباشرة:
– “مساء الخير يا بشمهندس “عمران”، معلش مضطرة أبلغك بحاجة مش كويسة.
رفع عينيه إليها ببطء، وعيناه امتلأتا بالقلق قبل أن يتكلم، بصوته العميق ولهجته الروجولية التي لا تخطئها الأذن:
–خير يا داكتورة ،فَرَسة منهم حوصل لها حاجة؟
أومأت برأسها في حزن:
– آه للأسف “لمّة”حالتها مش مستقرة خالص، بعد ما كشفت عليها، شكيت في بداية إصابتها بـ’داء الحوافر المزمن’ وده مرض مؤلم جدًا للخيل، وبيأثر على حركتهم بشكل كبير.
ظلّ صامتًا للحظات، ثم مال بجذعه للأمام، ووضع كفيه على ركبتيه، قبل أن يهمس وكأنّه يخاطب أحد أبنائه:
– “لمّة؟ يا ساتر يا رب! دي أغلى فَرَسه عندي يا داكتورة، دي أنا مربّيها من يوم ما كانت مُهره صَغيرة.
نظرت “نور” إلى ملامحه في تلك اللحظة، فرأت شيئًا لم تعهده في وجوه الرجال الذين عرفتهم، لم يكن فقط حزنًا، بل انكسارًا صامتًا، يتسلّل من بين السطور المتماسكة في هيئته
ثم قالت بتردّد:
– أنا آسفة، بس لفت نظري حاجة، إنت بتحبهم أوي كده؟ أقصد الخيل بالنسبة لك مش بس شُغل أو تجارة، صح على ما أعتقد؟
اعتدل في جلسته، ثم نظر نحو الإسطبل البعيد كأنّه ينظر إلى أرواح تسكنه، وقال ببطءٍ يحوي صدقًا شديدًا:
– الخيل حداي مش بس حيوانات، دول أهلي وونسي من واني طفل صغير كل واحد فيهم ليه حكاية ،لمّة داي مثلًا، كانت بتنهج وهي بتجري عشان صَدرها ضعيف، فضّلت شهور أقعد جنبها، أدفّيها ببطانية وأرضّعها بلبن صناعي علشان تقوى ،فقولي لي بربّك، ينفع أنسى داي أو محسش بالحزن على مرضها؟
شعرت “نور” أن قلبها اهتزّ، ليس من حكاية الفرسة، بل من الطريقة التي حكاها بها ،نبرة صوته، عمق مشاعره، عينيه اللتين لم تخشيا أن تُظهرا التأثّر كان مختلفًا ،
ثم ابتسمت في حياء وهي تهز رأسها:
– “أنا بشتغل في المجال ده من سبع سنين، لكن عمري ما شفت حد بيحب الخيل كده، الصراحة، إنت مختلف جدًا يا بشمهندس “عمران” عندك وفاء تجاه الفرسان مشفتهوش قبل كده .
ردّ وهو يُخفض بصره في احترام، ثم قال بصوت حزين كحاله:
ـ وكيف مهكونش ليهم وفي وهما ليا أوفياء عمرهم ما بتغيروا في محبتهم ليا كيف البني ادمين ما عتتغير طباعها والسنين هتخليهم أنانين مهيشوفوش غير حالهم .
صمتت نور لثوانٍ، ثم قالت محاولة أن تخفف من الجو الكئيب:
– “طيب إحنا هنبدأ العلاج فورًا، بس محتاجين نتابع كل يوم، وأحب أكون أنا اللي أشرف بنفسي على كل حاجه تخص الفرسة ده لو ما كانش يضايقك يعني؟
هز رأسه بامتنان، وهو يقول:
– لكِ السماح يا داكتورة إنتي من يوم ما جيتي المزرعة وقلبي مطمئن للخيل، ربنا يجعل تعبك في ميزان حسناتك.
ابتسمت في هدوء، ثم جلست على المقعد المقابل له، وأخرجت من الملف بعض الأوراق، وبدأت تشرح له الخطة العلاجية،
في تلك اللحظة، كانت “سُكون” تقف في شرفة الطابق العلوي، ذراعاها مسنودتان على السور الحجري، ووجهها يعكس مزيجًا من الصدمة والضيق،
لم تكن تسمع ما يُقال، لكن عينيها رأت كل شيء،رأت “عمران” وهو يجلس بهدوء أمام امرأة جميلة حد الفتنة، ملامحها مصرية أصيلة، تتحدث إليه بثقة، وهو ينصت إليها بكل احترام واهتمام ،
رأت ضحكتها الخفيفة، وجلوسها المقابل له، ولمحت في عينيها نظرة لا تُخطئها النساء، نظرة إعجاب، وشيء آخر لا تستطيع أن تُسميه، لكن قلبها أحسّه ،
شعرت كأن نـ.ـارًا اشتعلت في صدرها، نارًا باردة لكنها مؤلمة، تمدّدت في شرايينها ببطء،
تراجعت خطوة إلى الخلف، وداخلها يسألها:
ليه وجعاني النظرة دي؟ وليه حسيت إنها كانت بتبص له مش كدكتور إنما كراجل؟
اما في الأسفل، كانت الجلسة قد صارت أكثر هدوءًا فقالت نور وهي تنظر إليه نظرة أطول من اللازم:
– “عارف؟ أنا أول مرة في حياتي أقعد مع حد وأحس بالأمان ده، يمكن عشان كلامك صادق، أو يمكن عشان فيك حاجه نادرة.
قطّب “عمران” حاجبيه قليلًا، ثم قال بحزم مهذّب:
– “كتر خيرك يا داكتورة ،بس أني راجل عادي جداً هيتهيئ لك .
ضحكت بخفّة، ثم ردّت وقد تبدلت معالم وجهها للحزن وقد تذكرت ماحدث لها من جنس الذكور وما جعلها ترى في “عمران” أنه مختلف حقا:
– أنا كمان مش بحب المجاملات، بس بحب أعترف بالحقيقة ويمكن الحقيقة المرة بجد إن الرجالة اللي زيك نادرين.
أشاح بوجهه نحو الغروب، وقال بنبرة أقرب للهمس:
– هتصدقي لو قلت لك إن الندرة ساعات بتكون نقمة مش نعمة.
ساد الصمت بينهما، لم يقاطعه سوى صوت الرياح وهي تمر بين أوراق الأشجار،
ومن بعيد، كانت “سُكون” ما تزال واقفة، تُراقب، دون أن تدري هل تغار عليه كزوج؟ أم كراجل سكن قلبها دون إذن؟
ربما كانت لحظة عابرة،وربما كانت بداية حرب صامتة لم تُعلن بعد ،
كانت الحاجة “زينب” تجلس على المقعد الخشبي خلف نافذة الصالون، تُطلّ على الحديقة الهادئة التي ما عادت هادئة في عينيها، هناك في ذلك الركن الظليل تحت شجرة التوت، كان عمران يجلس بجواره تلك الدكتورة الجديدة، لم تكن المسافة بينهما ضيقة، ولا الأحاديث المعلنة تحمل ريبة، لكنّ نظرات “نور” كانت تحمل اهتمامًا زائدًا، وعين “عمران”رغم التشتت كانت تستمع، تنصت، تتجاوب ،
رفعت “زينب” بصرها إلى البلكونة، فوجدت “سكون” واقفة شاردة، يديها مشبوكتان، ووجهها جامد كأنّها تمثال من خيبة، غير أنها حين التفتت نحو الحديقة، اشتعلت في عينيها شرارة لم تخفَ على الأم ، كانت تلك نظرة امرأة تستفيق من غفلة، نظرة أنثى أحسّت أن ما تُهمله، قد يُؤخذ منها ذات لحظة،
تنهدت “زينب” بحرقة وهي تتذكر أنها نصحتها ألف مرة :
ـالراجل مش بيتساب يا بتي، الراجل لو مهتمّتيش بيه، غيرك هيشوف فيه اللي إنتِ ناسياه.
كانت تشعر أن البيوت لا تنهار صخبًا، بل بصمتٍ يتسلّل من بين الشقوق الصغيرة، وها هي ترى الشق يتّسع، والنـ.ـار تتهيّأ للدخول،
حدس الأم لا يُخطيء؛ العلاقة بين “سكون” و”عمران” مثقلة بصمتٍ مريب، وتلك الدكتورة “نور” ليست بريئة النظرات، و”عمران” ابنها رجل كأيّ رجل، إن وجد اهتمامًا في عيون امرأة، مال القلب وإن لم يُدرِك العقل.