رواية احفاد المحمدي الفصل السادس بقلم ساره ياسر
بالبركة نبدأ فصل جديد من الحكاية... ودايمًا وأبدًا:
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما كان وعدد ما يكون، وعدد الحركات والسكون.
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ }
[النحل: 127]
**
ما بين سطور الأيام...
بتبدأ الحكايات اللي ما حدش كان متوقعها، وبيتكشف في الصدف اللي بنعديها ألف سرّ وسر...
والقلوب؟
القلوب عمرها ما كانت تعرف تكذب... لكن أوقات بتتأخر، وأوقات تسبق اللعبة كلها.
يلا نكمل، ونفتح باب فصل جديد من "أحفاد المحمدي"...
واللي جاي؟
هيخضّكم.
****
قصر المحمدي - قبل الفجر بساعات
الصمت كان لفّ المكان كله... إلا من صوت خطوات ناعمة على الأرضية الرخام، بتتردد وسط أروقة القصر الكبير.
زين المحمدي كان قاعد في جناحه، النور خافت، والشاشة الكبيرة اللي قدامه كانت بتعرض مشهد متكرر: تسجيل بكاميرا مراقبة للبنت اللي وقفت قدام أخوه في الشارع، وقفتها، ردّ فعلها، نظرتها اللي فيها نار وكبرياء.
إيده الهادية مسكت التابلت، وابتدى يدوّر في تفاصيل أكتر... مش بس عن سلمى، لا، عن كل بنت في بيت الألفي.
وفجأة...
الباب اتفتح بهدوء، دخل محمد المحمدي - الجد - بصمت، لكنه كان عارف يزين بيفكر في إيه.
قال بصوته العميق: "عايز تعرف هما مين؟ ولا خايف إنك تكون لقيت فيهم حاجة نقصاك؟"
زين ما بصش له، لكن صوته طلع هادي: "مش خايف... بس مستغرب. فيهم حاجة مش مفهومة... بالذات سلمى."
محمد قعد قدامه، ومد إيده على كتف حفيده: "إحنا اتربينا ما نخليش مشاعرنا تطلع... بس القلب دايمًا بيعرف قبل العقل.
وأنا شايفك... أول مرة تبص لحد كده، كأنك بتدوّر على حاجة تايهة فيك."
زين ابتسم بخفة، وقال: "مش عارف هي تايهة فيّ ولا أنا اللي ضايع فيها..."
سكتوا لحظة... قبل ما الجد يقول بجديته المعتادة: "خليك صاحي يا زين... الحب لو دخل من غير ما نكون مستعدين له، ممكن يهز قصور.
بس يمكن... هو ده اللي إحنا محتاجينه دلوقتي."
زين لفّ الكرسي ناحيته، بص لجده وقال بابتسامة خفيفة لكنها حقيقية: "حتى المحمدي... محتاج يحب؟"
محمد ردّ بهدوء: "المحمدي إنسان قبل ما يكون اسم... ومفيش إنسان ما بيحتاجش قلب."
**
في نفس الوقت تقريبًا...
في بيت الألفي، كانت ملك قاعدة على الأرض جنب السرير، لابسة بيجامة واسعة لونها وردي فاتح، شعرها مفكوك، وعينيها بتجري ورا خطوط التصميم اللي كانت بترسمها في كشكولها.
كان واضح عليها إنها مش مركزة خالص... بتقلب في الصفحة، ترسم خط، تمسحه، ترجع تبص في السقف، وكأن فيه فكرة مش قادرة تهرب منها.
دخلت جودي من غير ما تدق، لابسة بلوزة بيضا وشورت رمادي، وبإيدها مجّ شاي.
قالت وهي بتمدّ لها المج: "كفاية رسم بقى يا مهندسة... دماغك طايرة مش في الورق."
ملك ابتسمت بهدوء وهي بتاخد المج: "مافيش دماغ خالص يا دكتورة... حسيتك نايمة، إيه اللي صحّاك؟"
جودي اتكأت على طرف السرير وقالت بصدق: "مش قادرة أنام... قلبي مش مطمّن، مش عارفة ليه... حاسة إن فيه حاجة كبيرة جاية."
ملك سكتت شوية، وبعدين قالت وهي بتبص قدامها بشرود: "أنا كمان... خصوصًا بعد اللي حصل مع سلمى. مش أول مرة تتخانق في الشارع، بس المرة دي... عينها كانت مختلفة."
جودي عضّت شفايفها وقالت بنبرة قلقة: "طب فَرَض يعني... فرض إن الراجل ده يطلع مش سهل؟ يطلع حد مش طبيعي؟"
ملك ضحكت ضحكة صغيرة لكنها مش مرتاحة: "ده مش فرض، ده أكيد. إحساسه بالسيطرة، نظرة عنيه... ده مش شخص عادي."
جودي قالت وهي بتبص على أختها: "وإنتي... بتفكري فيه ليه؟"
ملك بصتلها بسرعة، وغمغمت: "أنا بفكر في اللي هيحصل، مش فيه هو... بس... بصراحة، مش عارفة ليه حاسة إن حياتنا هتتقلب قريب."
جودي همست: "وحياتنا محتاجة تتقلب؟"
ملك بصتلها... وسكتت.
في اللحظة دي... صوت رنة موبايل قطع الصمت.
ملك مدت إيدها بسرعة، شافت الرقم، وكان غريب... بس حسّت بقشعريرة في ضهرها أول ما شافته.
جودي سألت بسرعة: "مين؟"
ملك ردت بصوت واطي: "ماعرفش... بس... الإحساس مش مطمّن."
**
وفي الجهة التانية من المدينة... كان مراد المحمدي واقف قدام صورة كبيرة متعلّقة في مكتبه، صورة لوالده - "أحمد المحمدي" - مبتسم فيها بهدوء غريب، وورا عينه غموض واضح.
دخل جاسر من ورا مراد، وقال بنبرة متحفظة: "اللي كلفتهم يراقبوا بيت الألفي... بعتوا تقرير."
مراد ما لفش ناحيته، لكنه قال: "اتكلم."
جاسر بص له وقال: "البنات أقرب لبعض من إخوات، مش بس عيلة... وملك؟ مش زي ما أنت متخيل... دي عيلة في دماغها، قلبها مش سهل يوصل له حد."
مراد لف له، ساب الصورة وقال بنبرة هادية لكن فيها طبقة غريبة: "عشان كده هي الوحيدة اللي أنا حابب أخد وقتي معاها..."
جاسر بص له نظرة طويلة، وقال: "وإنت متأكد إن قلبك مش اللي هيتأخذ في الآخر؟"
مراد ضحك، ضحكة هادية ومقطوعة: "حتى لو اتاخد... هي تستاهله."
**
وفي الشباك المفتوح فوق فيلا الألفي...
كانت سلمى واقفة، ضامة نفسها، بتبص على السما، وعنيها فيها لمعة مش مفهومة...
وفي اللحظة دي، موبايلها نور برسالة.
رسالة من رقم مفيش اسم ليه:
"نامي وانتي حاسّة إنك في حضن الأمان... بس ماتنسيش، فيه اللي عينه ما بتنامش."
سلمى اتجمدت، بصّت للرسالة...
ورجعت بسرعة تقفل الشباك وتشد الستارة.
لكنها ما كانتش تعرف... إن الحرب لسه ما بدأتش، وإن كل خطوة جاية هتفتح باب جديد من الألغاز والقلوب اللي بتتشق، واحدة ورا التانية...
**
وفي قصر المحمدي...
كان الجد محمد قاعد في البلكونة الواسعة، كرسي خشب هزاز بيتهز ببطء، وبين إيديه فنجان قهوة مظبوط، والبخور شغال على جنب، يعطّر الجو برائحة المسك.
جنبه، كانت زينب قاعدة بتطرّز في قماشة حرير بلون بنفسجي، ووشها هادي، لكن فيه لمعة حيرة مش بتروح.
قالت بعد صمت طويل: "يا محمد... حاسّة إن الزمن بيعيد نفسه... وإن اللي كنا خايفين منه بيقرب من ولادنا دلوقتي."
محمد نفخ نفس طويل، وقال بنبرة فيها وقار: "الدم اللي في عروقهم مش عادي يا زينب... فيهم من الحديد، وفيهم من النار، لكن القلب دايمًا بيغلب... وغلطاتنا القديمة بتلاحقهم، بس هما أقوى مننا."
زينب رفعت عينيها له: "وتفتكر هيعرفوا يختاروا صح؟ ما يقعوش في نفس فخنا؟"
محمد ابتسم بخفة وقال: "الحب يا زينب... هو أكتر حاجة بتعلّم الراجل، وبتكسره في نفس الوقت. بس لما يكون حب نضيف، يطلع من قلب نضيف، يقدر يغيّر مصير كامل."
زينب هزت راسها: "وأنا شايفة من دلوقتي إن القلوب بدأت تدق... بس مش عارفة هي دقات نجاة، ولا بداية عاصفة."
محمد سكت لحظة، وبص قدامه للجنينة، وبصوت مبحوح بالحكمة قال: "العاصفة جاية يا زينب... والسؤال مش إحنا نوقفها؟ السؤال... نعرف نمشي جواها ونخرج سالمين؟"
**
في اللحظة دي، كانت ليلى واقفة في بلكونة أوضتها، ماسكة كتابها المفتوح، بس ما بتقراش...
عينها راحت بعيد، حيث المباني اللي في الجهة التانية من المدينة...
وكأن في إحساس جواها بيشدّها لمكان معين، لشخص معين...
لسيناريو عمره ما كان في الحُسبان.
وتحت في الحوش، كان رأفت الألفي بيتمشى بهدوء، وبيفكر في بناته، في الأيام اللي بتتغير بسرعة، وفي نظرة في عين سلمى ما فهمهاش.
أما في برج المحمدي...
كان زين بيقلب في صور عالسريع، صور مراقبة، فيديوهات، وشّه متجهم، وصوته واطي قال لنفسه:
"الموضوع مش صدفة... فيه حاجة أعمق من كده... البنت دي مش عادية."
أما ياسين؟
فكان واقف قدام المراية في جناحه، سايب رابطة العنق مفكوكة، وعيونه سرحانة في انعكاس مش وشه...
بل في سؤال واحد بيكرره جواه:
"ليه بالذات... هي؟!"
**
وهنا...
الليل نزل على المدينة، وسكونه مش بريء.
سكون بينتظر أول رصاصة...
وأول لمسة...
وأول دمعة هتقلب كل حاجة.
**
في الطابق الأرضي من قصر المحمدي، كان الصمت مُطبق، لكن عيون الحرس بتتحرك في صمت، وكأن القصر بيستعد لحاجة محدش عارفها.
مراد المحمدي كان قاعد في مكتبه الجانبي، مكتّف إيديه، عينيه معلقة على ملف جديد اتسلم له من زين. فتحه بهدوء، وبدأ يقرأ...
صورة أولى لسلمى الألفي...
صورة تانية... ليها وهي خارجة من مبنى جريدة كبيرة...
وصورة ثالثة... ليها مع حد غريب... شخص ظهره للكاميرا، لكن ملامحه مألوفة بطريقة مريبة.
دخل زين بخطوات سريعة، وقال من غير مقدمات: "الشخص اللي مع سلمى في الصورة الأخيرة... طلع من طرف جهة أمنية زمان، بس اختفى فجأة من السجلات."
مراد رفع عينه، وغمغم: "يبقى سلمى داخلة في حاجة أكبر مما كنا متوقعين."
زين رمى على الطاولة فلاشة صغيرة: "كل تحركاتها من أسبوعين على الفلاشة... بس في حاجة مش مفهومة.
في حد بيحاول يراقبها غيرنا... وده اللي يقلقني."
في اللحظة دي...
دخل جاسر، وجهه مشدود، وقال بنبرة فيها توتر لأول مرة: "يا ياسين... محتاجين قرار.
يا نحمي البنت ونتدخل، يا نسيبها تواجه مصيرها... ووقتها ما نلومش غير نفسنا."
كان ياسين واقف قدام الشباك، ضهره ليهم، ساكت...
لحد ما قال بجملة واحدة، قاطعة:
"اللي يقرب من سلمى... هيقرب من نار المحمدي.
والمحمدي... ما بيسيبش ناره تهدى إلا لما تحرق."
اتبادلوا التلاتة نظرات سريعة، فيها خوف، فيها غموض، بس أكتر حاجة كانت واضحة...
اللي جاي، مش مجرد لعبة.
**
في حديقة فيلا الألفي...
كانت ملك الألفي قاعدة على أطراف السلم الرخامي المؤدي للحديقة الخلفية، قدامها دفتر الرسم، وإيدها بتتحرك فيه بخفة، لكن عيونها كل شوية تطلع من فوق الصفحة وتبص ناحية الباب الخارجي.
كان فيه حاجة في الجو مقلقاها، أو يمكن إحساس مش مفهوم، زي ما يكون في حد بيراقبها... بس مش خوف... لا، هو فضول غريب كأن حد بيحاول يدخل عالمهم من بعيد.
اتفتحت البوابة الحديد الجانبية بهدوء، ودخلت عربية سوداء صغيرة، نزل منها شاب طويل، بشرته قمحية، عيونه رمادية حادة، لابس قميص كحلي وساعة معدن لامعة، وأول ما شاف رأفت الألفي واقف في آخر الحديقة، ابتسم وقال:
"مساء الخير يا خالي."
رفعت ملك راسها بسرعة، وعينيها وقعت عليه...
آسر - ابن أخت رأفت، ساكن في محافظة تانية، ومش بييجي كتير.
ابتسمت تلقائيًا وهي بتقوم تقف، وقالت: "أنت آسر؟... ما شاء الله، شكلك اتغير خالص عن آخر مرة شفتك فيها!"
آسر ضحك بخفة، وبص لها: "وإنتي ملك، صح؟ كنتي لسه في إعدادي وقتها... دلوقتي بقيتي رسامة محترفة."
رأفت قرب منهم، وهو بيفتح دراعه لآسر يحضنه: "نورت يا ولد أختي... البيت بيتك."
آسر رد عليه بضحكة دافية: "أهو قولت أغير جو شوية... واجي أقضي كام يوم معاكم."
ملك شالت دفترها، لكنها لحظت نظرات آسر السريعة اللي كانت بتروح وتيجي على وجهها بهدوء، زي اللي بيكتشف ملامح جديدة فاته يشوفها زمان.
سألها بنبرة خفيفة: "إيه اللي بترسميه؟"
ملك ابتسمت وقالت: "كنت برسم شكل فيلتنا من زاوية جديدة... بس الظاهر إن وجودك هيغير زاوية الرسم."
رد عليها وهو بيشاور على الكرسي اللي قدامها: "ممكن أقعد؟"
"اتفضل طبعًا، ده بيتك."
قعدوا، وبدأ الحوار بينهم ياخد شكل بسيط، لكن دافي، فيه ضحكة خفيفة، وفيه محاولة من آسر إنه يتعرف من جديد على البنت اللي ما كانتش في باله... وبقت فجأة في مرمى نظره.
من بعيد، كانت ليلى بتراقبهم من البلكونة، نظرتها فيها حذر، لكن فيها ابتسامة صغيرة مش قادرة تخفيها.
وقالت بصوت واطي لجودي اللي كانت جنبها: "شايفة آسر؟"
جودي ردت وهي بتكتم ضحكة: "آه، وشايفة ملك اللي مش قادرة تبص في الأرض."
ضحكت ليلى وقالت: "يا رب تكون بداية خير."
وفجأة... دخلت سلمى من بوابة جانبية، شعرها مشدود وعيونها فيها توتر، ووقفت مكانها لما شافت آسر...
عينه جات في عينها للحظة.
هو ما عرفهاش...
لكن هي... وقفت ساكتة.
ملك قامت بسرعة وقالت: "سلمى! أخيرًا جيتي! ده آسر، ابن خالي."
سلمى بصت له، ومدت إيدها وقالت بابتسامة خفيفة لكنها متحفظة: "أهلاً... نورتنا."
آسر مد إيده، صافحها، لكن اللحظة دي كانت كأنها ثابتة في الزمن...
في حاجة مش مفهومة، في لمحة، في غموض عدى بينهم ومشي، كأنها شرارة صغيرة... اتولدت وراحت.
ملك قالت بسرعة: "سلمى تعبانة شوية من الشغل، خليها تدخل ترتاح."
وسلمى فعلاً مشيت بهدوء... لكن عقل آسر ما بقاش في مكانه.
قعد تاني، وعينه راحت للمكان اللي مشيت فيه، وغمغم لنفسه: "اسمها... سلمى؟"
من بعيد، ليلى كانت لسه واقفة في البلكونة، ووشها ما بقاش فيه غير ابتسامة واحدة:
"آهو ربك بيدبّر الحكاية... بطريقته."
**
في قصر المحمدي - الجناح العائلي الداخلي...
كان المغرب خلاص بيأذّن، والدنيا واخدة لون غروب هادي بيكحل الشباك الواسع للصالون العائلي، ريحة البخور بتتمشى وسط الدفا، وصوت الأذان بيترفع من بعيد كأنه بيرجع للمكان روحه القديمة.
قاعدين كلهم حوالين ترابيزة شاي نحاسية، عليها أكواب شاي وقطع كنافة سخنة، كأن اللي قاعدين نسوا شغلهم وحساباتهم وبدلوا وجوههم اللي كانت مشدودة بلحظة سلام.
زينب المحمدي، الجدة، لابسة عباية منقوشة بالذهبي، شعرها مغطّى بطرف طرحتها، ووشها المرسوم بالتجاعيد الناعمة لسه فيه جمال الزمن الطيب.
محمد المحمدي، الجد، قاعد جنبها في ركنه المفضل، ماسك عصايته، وبيبص على أولاده بنظرة فيها حزم ورضا.
ياسين، مراد، زين، وجاسر قاعدين قدامه... لأول مرة كلهم سكتين.
قالت زينب بنبرة فيها دفا وحنين: "يعني... ما فيش منكم واحد فكر ياخد خطوة ناحية العيلة؟!"
رد مراد بابتسامة خفيفة: "عيلة إيه يا جدتي؟ إحنا شغالين من الفجر لليل، يا دوب نلحق نفسنا."
زينب بصت له بحدة لطيفة وقالت: "هو أنا طلبت منكم تسيبوا الشغل وتغنولي مواويل حب؟! أنا بس عايزة أشوف فيكم حياة... بنت حلال تداريكم، وطفل صغير يدوّب القلب."
ياسين قال بنبرة هادية لكن وراها طبقة دفينة من الوجع: "إحنا قلوبنا مشغولة بحاجات تانية يا جدتي."
رد محمد المحمدي لأول مرة بصوته الرزين: "يا ولدي... القلب اللي يقفل على الوجع يختنق... لكن اللي يفتح للحب، حتى لو مجروح، يعيش."
سكتوا للحظة... وكل واحد فيهم دماغه راحت لحاجة هو بس اللي شايفها.
زين كان بيحرّك المسبحة في صمت، لكن عينه علقت على كوب شاي فاضي، وكأنه بيشوف حاجة مش هنا.
جاسر رفع نظره وقال بصوته الغليظ: "لو لقينا اللي تستاهل، يمكن نفتح الباب... لكن لحد دلوقتي، كل الطرق مسدودة."
زينب ابتسمت بسخرية ناعمة: "ولا حتى البنات اللي شفتوهم في عزومات الكبار، ولا حفلات الشركات؟!"
مراد ضحك وقال: "دي كانت عروض استثمار يا جدتي، مش مشاعر."
ضحكوا كلهم، لكن كانت ضحكة مجروحة... كأنهم بيضحكوا على وجع قديم.
فجأة، قال محمد المحمدي بنبرة حاسمة: "أنا عايز منكم وعد... لو لقيتوا اللي قلبكم ارتاحلها، ما تفكروش كتير. الحب رزق، زي المال... ولو اتأخرت عليه، يضيع منك."
زينب هزت راسها بتأييد: "والله ما حد بيحس بطعم الحياة إلا لما يلاقي اللي قلبه يتسند عليه."
سكتوا كلهم... لكن في عيون ياسين كان فيه لمعة مختلفة... كأن وجه سلمى مرّ قدامه للحظة، ورجع اختفى بسرعة، بس القلب حس.
جاسر لف وشه نحية الشباك، وعينه شردت بعيد...
ومراد كان بيهز كوباية الشاي بإيده، سكت فجأة عن الضحك.
أما زين... فكان الوحيد اللي ابتسم لنفسه ابتسامة شبه مريرة، وقال: "ربك بيكتب الحكايات... يمكن سطر من غير ما نقصد يكون بداية."
**
في اللحظة دي...
رنّ جرس الباب الكبير للقصر، صوت رخيم تقيل، زي ما يكون بيعلن بداية صفحة جديدة.
الحارس دخل بسرعة، وقال: "في ضيوف على الباب... واحدة ست كبيرة، ومعاها بنتين صغيرين، بيقولوا إنهم من طرف قديم... اسمه الألفي."
سادت لحظة صمت.
محمد المحمدي قام من مكانه، نظر لأولاده وقال: "هاتوا الضيوف... لو من طرف الألفي، يبقوا من أهلنا."
زينب قامت ووشها فيه دقة قلب مش مفهومة.
أما الأولاد... فتحركوا بتركيز.
من بعيد... كانت البوابة بتتفتح.
واللي جاي... مش أي حد.
دي بداية فصل جديد...
بداية اللقاء بين الماضي، والحاضر... واللي جاي.
**
في فيلا الألفي - الدور العلوي
كان الليل ابتدا يفرش سواده، والنجوم ظهرت على استحياء، لكن جوه أوضة ملك الألفي، النور كان دافي، والألوان بتتلون على ورقها زي الحلم.
ملك كانت قاعدة على الأرض، وسط دفاترها وأقلامها، شعرها الأسود سايب على ضهرها، لابسة بيچامة قطن بسيطة، وعينيها مليانة تركيز وهي بتظلل تصميم جديد لبيت ريفي بتحلم تبنيه في يوم من الأيام.
دخلت جودي من غير ما تدق، ماسكة كوباية شوكولاتة سخنة، وقالت وهي تقف عند الباب: "هو انتي ناوية تنامي ولا ناوية تعمّري العالم الليلة؟"
ملك ضحكت، وقالت من غير ما ترفع عينيها: "بس خلصت الجنينة... تعالي بصي كده، مش تحفة؟"
جودي قربت، قعدت جنبها، بصت على التصميم وقالت بنبرة صادقة: "ملك... بيتك ده هيتبني في يوم من الأيام. وأنا متأكدة إنه هيبقى مليان حب زي قلبك بالظبط."
ملك بصتلها بابتسامة خفيفة، وقالت: "لو لقيت حد يشاركني فيه، ويستاهل كل زاوية فيه..."
جودي سكتت لحظة، وقالت: "هو اللي مستاهل... هيجيلك. ربنا بيأخر الحلو، بس ما بينساش وعده."
ملك بصت فيها للحظة، وقالت: "طب وانتي؟ قلبك أخباره إيه؟"
جودي اتحركت في مكانها وقالت بخجل: "أنا قلبي مشغول بالكتب والمستشفى دلوقتي... الحب ليه وقته، وأنا لسه مش جاهزة أفتحه."
ضحكوا مع بعض، والضحكة كانت خفيفة وناعمة، لكن مليانة حاجات ما اتقالتش.
دخلت ليلى عليهم فجأة، شعرها مربوط، وشكلها بيقول إنها كانت بتتفرج على مسلسل رومانسي من اللي بيوجعوا القلب.
قالت وهي ترمي نفسها على السرير: "أنا قررت... لو ما لقيتش فارس أحلامي قبل التلاتين، هتجوز شغل البيت وخلاص."
ملك ضحكت: "يعني إيه؟ هتطبخي لنفسك وتلبسي فستان أبيض وتقولي لنفسك موافقة؟"
جودي اتقهقحت من الضحك، وليلى قالت: "أنا بجد زهقت! مفيش واحد طبيعي؟ مفيش راجل محترم وحنين وما يكذبش ويحبني؟"
ملك قالت بهدوء وهي بترجع تلمّ ورقها: "ممكن يكون في... بس لسه ما دخلش حياتنا. يمكن قريب... يمكن بكرة. محدش عارف."
في اللحظة دي... تليفون ملك رن، وكان الرقم غريب.
بصوا لبعض... هي فتحت المكالمة، وقالت: "ألو؟"
صوت شاب هادي، واثق، نبرته فيها احترام لكنها مش عادية: "مساء الخير... دي الأستاذة ملك الألفي؟"
هي اتفاجئت وقالت: "أيوه، مين معايا؟"
رد: "أنا آسر... ابن خالتك. ماما بتسلم عليك، وقالتلي أبلّغك إننا جايين القاهرة كمان يومين... ولو فاضية، ماما بتحب تشوفكم."
سكتت لحظة، وبعدين قالت بابتسامة: "أهلاً وسهلاً، شرفتني المكالمة."
قفل الخط، والبنات بصوا لبعض.
ليلى قالت بسرعة: "آسر مين ده؟ صوته مش طبيعي."
جودي قالت بخبث: "هو اللي هيسكن الجناح اللي فاضي في قلب أختنا."
ملك ما ردتش... بس ابتسامتها كانت أهدى من العادة، وعنيها فيها نظرة مختلفة.
وفي اللحظة دي...
كان في قلب المدينة، في مكان تاني تمامًا... حد بيخطط يقلب الطاولة كلها.
**
في معرض فنّي في وسط البلد - الساعة 8 مساءً
الأنوار خافتة، والمزيكا الكلاسيك بتعزف في الخلفية، واللوحات محطوطة على الحيطان كأنها بتتنفس، والمكان مليان ناس بتمشي بهدوء، بتتفرج، بتهمس، بتقيّم، أو بس بتعيش لحظة من جمال الفن.
ملك المحمدي كانت واقفة قدام لوحة مرسومة بألوان زيتية، فيها بنت ماشية وسط عاصفة، شعرها بيطير، لكن وشّها ثابت، وعينيها قدامها كأنها مش خايفة من الريح.
ملك كانت لابسة فستان بسيط بلون النبيتي الغامق، شعرها الطويل سايب بحرّية على ضهرها، وشنطة صغيرة متعلقة في كتفها.
فضلت تبص للوحة، كأنها شايفة نفسها جواها... وقالت بصوت واطي: "جميلة... فيها وجع ساكت."
من وراها، كان آسر الألفي واقف بعيد، شايفها... مش سامعها، بس عينه متسمّرة عليها من وقت ما دخل.
آسر، الطول الفارع، والعيون اللي لونها رمادي في ضوء المعرض، كان لابس قميص أبيض بسيط، وبنطلون كحلي، واقف بهدوء، لكن في عينه فضول نادر.
خطى خطوة... ووقّف نفسه.
ملك حست إن في حد بيراقبها، لفّت بهدوء... عينها قابلت عينه.
نظرة واحدة.
لحظة واحدة.
بس الزمن حس إنه وقف.
هي ما خافتش... وهو ما رمش.
بس الاتنين حسّوا بحاجة... زي نبضة مختلفة عدّت في القلب من غير إذن.
ملك بصّت له ثواني، وبعدها حرّكت عينها للوحة تاني، وابتسمت خفيف، كأنها فهمت حاجة محدش قالها.
آسر رفع حاجبه بخفة، وهمس لنفسه: "هي دي؟"
وخطى خطوة... ووقف.
لسه مش وقت الاقتراب... بس هو ابتدى يحط أول حجر في طريق هيقوده ليها، مهما كانت المسافة.
وفي الخلفية... صوت المزيكا زاد هدوء، ورا لوحة العاصفة... بدأت العاصفة الحقيقية.
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم