رواية خيوط النار الفصل السابع
خرجت عائشة من باب المدرسة، تمسك حقيبتها بيدها، وتتنفس بعمق، كأنها تحاول أن تستوعب أنها عادت أخيرًا إلى عملها بعد كل ما مرت به. كان اليوم طويلًا ومجهدًا، لكنها شعرت أن العودة إلى الحياة الطبيعية خطوة ضرورية، بل حاسمة، نحو الشفاء.
تمشي إلى جوارها شهد، تتحدث بلا توقف عن ذلك العريس الذي تقدم لها، لكن نبرة صوتها كانت غريبة... لم تكن سعيدة، بل على العكس، كلماتها كانت باهتة، تخلو من الحماس، كأنها تروي قصة لا تعنيها.
قالت شهد، وهي تعدّل الحقيبة على كتفها، بابتسامة خفيفة أقرب إلى الإعياء:
"تصوري يا عائشة.. ماما لسه بتزن عليا أوافق على العريس اللي اتقدملي.."
نظرت إليها عائشة باستغراب:
" هو شخص مش كويس علشان ترفضى"
هزّت شهد رأسها بلا مبالاة:
"لأ.. بالعكس، ده ابن ناس ومحترم وكله تمام.."
قطبت عائشة حاجبيها، وحدقت في وجه شهد:
"طب وأنتي رفضتي ليه؟ طالما كويس ومش وحش، يبقى مفيش سبب للرفض.. ولا إيه؟"
طأطأت شهد رأسها قليلًا، ثم نظرت إلى الأمام كأنها تبحث عن شيء مفقود في الأفق، وابتسمت ابتسامة غامضة تخفي أكثر مما تظهر:
"عشان أنا عايزة حاجة معينة.. وحاجة أنا واثقة إنها هتبقى من نصيبي.."
اتسعت عينا عائشة بدهشة، وأمعنت النظر في وجه شهد:
"حاجة معينة؟ قصدك إيه؟"
ضحكت شهد ضحكة صغيرة، وهي تحاول الهروب من سيل الأسئلة:
"سيبك مني بقى.. قوليلي، أخبارك إيه في الشغل بعد الغياب؟"
همّت عائشة بالرد، لكن فجأة انتابها شعور غريب، كأن هناك من يراقبها... التفتت بحذر، لتجد رجلاً غريبًا يقف غير بعيد عنهما. ملامحه كانت داكنة، بشرته مسفوعة من أثر الشمس، طويل القامة، يرتدي جلبابًا رماديًا وعِمّة بيضاء، وعيناه... كانتا مسمّرتين عليها بنظرة جامدة، توحي بشيء مريب.
تسلّل التوتر إلى جسدها كخيط بارد، فاقتربت من شهد وهمست بقلق:
"شايفة الراجل اللي هناك ده؟"
نظرت شهد بسرعة، ثم أعادت وجهها للأمام وهمست بخوف ظاهر:
"آه.. بس إيه ماله؟ حاساه بيراقبك؟"
قبل أن تنجح عائشة في تحليل الموقف، تحرك الرجل نحوها بخطوات واثقة، وعندما اقترب منها، قال بصوت منخفض، لكن فيه ثقل غريب أربك حواسها:
"السلام عليكم، أنتِ عائشة، مش كده؟"
أجابت بتوتر ظاهر، وعيناها لا تفارقان وجهه:
"أيوه.. حضرتك مين؟"
ابتسم ابتسامة صغيرة، وهو يمد يده ليخرج بطاقة من جيبه، ناولها إياها وقال:
"أنا ابن عمك... اسمي ماجد الجابري."
نظرت عائشة إلى البطاقة، كانت مكتوبة باسم: "ماجد عبد الصمد الجابري". اسم العائلة فعلاً موجود... لكن من هو هذا الرجل؟ لم تسمع من قبل عن شخص بهذا الاسم، ولم تكن ملامحه مألوفة على الإطلاق.
قالت بصوت مهزوز، يشوبه التردد:
"أنا.. أنا عمري ما سمعت عنك، ابن عمي إزاي؟"
ردّ ماجد بنبرة هادئة، لكنها كانت تحمل شيئًا غامضًا، أشبه بتحذير غير مباشر: "عارف إنك مش مصدقاني، وعارف كمان إنك عمرك ما سمعتي عني.. بس إحنا لازم نقعد ونتكلم، في حاجات كتير لازم تعرفيها."
نظرت عائشة إلى شهد، فوجدت وجهها ممتقعًا من القلق، كأنها تشعر بالخطر يتسلّل بهدوء.
قالت بصوت خافت:
"نتكلم؟ عن إيه؟"
أجاب بثقة:
"مش هينفع نتكلم هنا، تعالي نقعد في مكان هادي نشرب حاجة، وأنا هشرح لك من البداية
كان الفضول ينهش عقل عائشة، لكن الخوف كان يقف كجدار بينها وبين القرار. كيف ظهر هذا الرجل فجأة؟ ولماذا الآن؟ وما الذي يخفيه وراء تلك النظرة الجامدة؟
اقتربت منها شهد، وهمست بتحذير صادق:
"عائشة، متأكدة إنك عايزة تروحي معاه؟"
ردت عائشة وهي ما زالت في صراع داخلي
"مش عارفة.. بس لازم أفهم هو مين وعايز مني إيه.."
قال ماجد بصوت حاسم، كأنه يضع نهاية للتردد:
"قرارك في إيدك، بس صدقيني.. هتعرفي حاجات هتغير حياتك بالكامل."
شعرت عائشة بارتجافة تمر في أطرافها. ابتلعت ريقها بصعوبة، وقلبها يدق كطبول حرب تستعد للانفجار. لم تكن تعلم إن كانت على وشك كشف الحقيقة... أم الدخول في متاهة أكبر من كل ما عاشته من قبل.
********
خرجت مريم من المول وهي تحمل بعض الأكياس بيدها، تنظر إلى هاتفها بحثًا عن الساعة، بينما تسير وسط الزحام. الشارع يعجّ بالناس، وجوه تمر بلا توقف، وضجيج المدينة يملأ الأجواء. كانت هناك نسمات هواء خفيفة تعبث بخصلات شعرها، لكنها بالكاد شعرت بها؛ عقلها كان مثقلاً... بين ضغط الامتحانات، وقلقها على يونس، وبين الحوار الذي سمعته صدفة صباحًا بينه وبين خالتها.
كانت غارقة في التفكير، لا ترى أمامها إلا خيوطًا من القلق تمتد داخل ذهنها. خطواتها كانت آلية، لم تكن مدركة لما يدور حولها.
وعندما بدأت تعبر الشارع المقابل للمول، كانت مشغولة كليًا، حتى إنها لم تلاحظ صوت أبواق السيارات المفاجئ. لمحت من طرف عينها شيئًا يقترب بسرعة جنونية... سيارة مسرعة تقطع الطريق وكأنها خارجة عن السيطرة.
في لحظة، تجمّدت في مكانها. عيناها اتسعتا برعب، ويديها ارتختا حتى سقط كيس صغير من يدها. الهواء حولها صار كثيفًا، وصوت الفرامل الحاد اخترق أذنيها كصفعة.
كل شيء حدث في ثانية واحدة.
قبل أن تصطدم بها السيارة بلحظة، شعرت بيد قوية تمسك بذراعها وتسحبها للخلف بقوة مدهشة. جسدها ارتطم بجسد آخر، وسقطت بين ذراعي شخص غريب، أنفاسها متقطعة، وقلبها يطرق صدرها بعنف كأنها نجت للتو من الموت.
رفعت رأسها ببطء، ونظراتها المرتبكة علِقت بعينيه.
كان شابًا طويل القامة، في وجهه مزيج غريب من الحزم والسكينة. عيناه سوداوان، عميقتان، فيهما لمعة غامضة توحي بأنه لم يكن هناك صدفة... وكأنّه كان ينتظر تلك اللحظة تحديدًا.
ظل ينظر إليها دون أن يرمش، نظرة ثابتة مقلقة، تحمل في طياتها أكثر من سؤال وأكثر من إجابة.
قال بصوت هادئ، لكن في نبرته شيء من الحدة:
– "إنتي كويسة؟ مكنتيش شايفة العربية؟ كنتي داخلة عليها كده عادي!"
لم تستطع مريم الرد في البداية. كانت أنفاسها متسارعة، وعقلها يحاول اللحاق بما جرى. ثم تنفّست بعمق وقالت وهي تحاول ترتيب كلماتها:
– "أنا... آسفة، والله مكنتش واخدة بالي... شكراً إنك لحقتني."
ظل يمسك بذراعها، كأن يده لم تستوعب بعد فكرة الإفلات، ثم حرّرها ببطء ونظر إليها بجدية:
– "خلي بالك من نفسك، السرعة هنا مجنونة... ومش دايمًا هتلاقي حد يشدّك في اللحظة الأخيرة."
شعرت مريم بتيار دافئ يتسلل من أطرافها إلى صدرها، لم تكن تعرف إن كان من التوتر أم من نظراته. كان كل شيء فيه غريبًا... طريقته في الكلام، نبرة صوته، النظرة الموجهة إليها وحدها.
قالت وهي تتهرب من عينيه، تتوتر أكثر كلما اقتربت نظراته:
– "هخلي بالي... متشكرة أوي."
ابتسم ابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن ابتسامة عابرة. كانت مليئة بالمعنى، ثم قال:
– "خلي بالك فعلًا... مش عايزين نخسر حد مهم."
توقفت أنفاسها للحظة. شعرت بوخز خفيف في قلبها، حرارة صعدت إلى وجهها، ولم تستطع الرد. فقط أومأت برأسها بخفة، ثم خطت خطوات متسارعة بعيدًا عنه.
ورغم أنها ابتعدت، إلا أن إحساسها بلمسته لا يزال ملتصقًا بذراعها... وقلبها لا يزال يطرق، لا تدري إن كان ذلك بسبب الخوف من الموت، أم من شيء آخر... شيء وُلد في عينيه في تلك اللحظة، وتركها مرتبكة لأول مرة بهذا الشكل في حياتها.
كان المطعم يطلّ على ضفاف النيل بهدوء ساحر، أضواء خافتة تتراقص على سطح المياه، وأنغام موسيقى هادئة تنساب في الخلفية كأنها همسات ليلٍ حنون. جلسا على طاولة قريبة من الشرفة الزجاجية، تطلّ مباشرة على النهر، وكان النسيم العليل يحرّك خصلات شعر عائشة برفق، لكنها لم تشعر به. كانت جالسة في وضع متوتر، تشدّ يدها على حقيبتها في حجرها، وعيناها تتنقلان بين ماجد والفراغ أمامها، كأنها تحاول أن تستوعب المشهد كله.
ماجد جلس في هدوء تام، كأن المكان لا يحرّكه، عيناه ثابتتان، ونبرته حين تحدث بدت محسوبة بدقة، لا تحمل انفعالًا، لكنها ليست باردة أيضًا.
ماجد بنبرة هادئة:
"بصراحة أنا كنت مستني اللحظة دي من زمان، إني أقعد معاكي كده ونتكلم براحتنا."
عائشة، بنبرة حذرة وهي تحاول ان تظهر طبيعية:
"أصل بصراحة أنا لسه مش مستوعبة اللي بيحصل.. يعني فجأة كده تظهر وتقول إنك ابن عمي؟"
ماجد بابتسامة خفيفة، وهو يحاول يبث فيها بعض الطمأنينة
"عندك حق، وده طبيعي جدًا. بس أنا فعلًا ابن عمك، واللي بينا أكتر من مجرد صلة قرابة.. في حاجات كتير إنتي محتاجة تعرفيها."
صمت لثوانٍ وهو ينظر إلى سطح النيل، ثم عاد بعينيه إليها، وقد خفّت نبرته.
ماجد:
"أنا عرفت من فترة إن إخواتك ماتوا، الله يرحمهم. ولما سمعت كده، حسّيت إنك بقيتي لوحدك.. وكان لازم تعرفي عيلتك اللي في الصعيد، تعرفي عمّك، وتفهمي جذورك جاية منين."
رفعت عائشة نظرها له، وكانت ملامحها بين الاندهاش والتردد، عقلها مشغول بأسئلة كتير، وصدرها يعلو ويهبط مع كل نفس، لكنها لم تنطق. اكتفى هو بمتابعتها بعينين فيها مزيج من الرقّة والغموض.
ماجد بهدوء:
"أنا جاي النهارده علشان أعزمك تيجي معايا الصعيد. مش أجبرك، بس نفسي تتواصلي مع أهلك.. تشوفي عمّك، وتعرفي الحكاية كلها."
في تلك اللحظة، اهتزّ هاتف عائشة في حقيبتها. نظرت إلى الشاشة، فظهر اسم "يونس". ترددت لثوانٍ، ثم أجابت وهي تحاول تخفي ارتباكها.
عائشة بنبرة هادئة:
"ألو؟"
يونس، بنبرة مليئة بالقلق:
"إنتي فين يا عائشة؟ كنت عايز أطمن عليكي."
خالتي قالت انك لسه مروحتيش
عائشة بابتسامة خفيفة، وهي تنظر لماجد وتحوّل نظرها بعيد:
"أنا تمام، في مشوار كده، لما أشوفك إن شاء الله هقولك على كل حاجة."
يونس:
"ماشي.. بس خدي بالك من نفسك، طمّنينى أول ما توصلي البيت."
عائشة:
"حاضر، هكلمك أول ما أرجع.
أنهت المكالمة، وما إن أعادت الهاتف لحقيبتها حتى سألها ماجد بهدوء دون أن يرفع حاجبه:
ماجد بنبرة فضولية:
"مين ده؟"
عائشة، بنبرة مختصرة وهي تعدل جلستها:
"ده.. صديق وجارى خالته كانت بتطمن عليا"
اكتفى ماجد بهزة خفيفة من رأسه، لكن عينيه قالت أكثر مما نطقت شفتاه. كان يراقبها عن كثب، وكأن المكالمة قد فتحت له بابًا جديدًا للتفكير، لكنه قرر ألا يدخل الآن.
مرت لحظة صمت قصيرة بينهما بعد المكالمة، لكنها كانت مشحونة بما لا يُقال. عائشة كانت تحاول تسترجع هدوءها، بينما ماجد ظلّ يراقبها بنظرة ثابتة.
ماجد، وهو بيحرك كوب العصير قدامه بهدوء:
"واضح إن الشخص ده ليه مكانة عندك."
عائشة، وهي تاخذ نفس عميق وتحاول ان تجيب دون ان تظهر مشاعرها:
"يونس؟ آه.. هو موجود في حياتي من فترة، بس اتعرفت عليهم هو وخالته لما نقلت للبيت الجديد."
ماجد لم يعلّق، لكنه رفع حاجبه قليلًا وكأنه يسجل المعلومة داخله. بعدها، أعاد الحديث إلى ما كان عليه.
ماجد بنبرة أكثر دفئًا:
"بصي يا عائشة، أنا مش جاي أضغط عليكي.. ولا هدفي أقلّب عليكِ المواجع. أنا كل اللي عايزه إنك تشوفي العيلة اللي عمرك ما عرفتي عنها حاجة. عمّك كان دايمًا بيتكلم عنكم.. وكان زعلان إن الظروف فرقتكم."
عائشة، بنبرة فيها ألم خفيف وهي تنظر للنيل:
"أنا عمري ما سمعت عنه.. ماما عمرها ما كانت بتتكلم عن الصعيد، ولا عن أي حد من العيلة
ماجد، وهو يهز رأسه بأسف:
"عارف.. وعارف كمان إن في حاجات كتير اتقالتلك أو متقالتش خالص. بس وجودك هناك مش هيكون مجرد زيارة، دي هتكون بداية.. بداية لفهم ماضيك، وجزء كبير من نفسك."
عائشة ظلّت صامتة للحظة، تحرك عينيها ببطء كأنها تبحث عن إجابة في المياه المتحركة إمامها.
لم تكن فقط مرتبكة من كلامه،
ولكن بداخلها تريد ان تعرف الحقيقة حتى لو كانت قاسية.
عائشة بصوت منخفض، أقرب للهمس:
"طب.. هو عمي ده عامل إزاي؟ يعني.. أنا هعرفه أصلاً؟"
ماجد وهو بيبتسم ابتسامة خفيفة
"هتعرفيه من أول نظرة.. راجل أصيل، ووشه فيه شبه من وش والدك.. هتحسي بيه، حتى لو ما اتكلمش."
صمتت عائشة، وغرقت في سكون ثقيل كأن أنفاسها تُحجز داخل صدرها. آثرت أن تُثبت نظرها في كوب الماء أمامها، كأنها تراه بحرًا واسعًا يغمرها شيئًا فشيئًا، أو كأنها تبحث في أعماقه عن إجابات لا تملك لها مفاتيح.
كان قلبها ساحة صراع بين مشاعر متناقضة تلتهمها في صمت. شعرت بحنين موجِع لماضٍ لم تعرفه، لم تعشه يومًا، لكنه يُناديها كذكرى بعيدة تسكن روحها دون إذن. وفي قلب هذا الحنين، تسرّب الخوف، خوف غامض من أشخاص لم تلتقِهم قط، لكن حضورهم الثقيل يحيط بها كما لو كانوا يراقبون خطواتها من وراء ستار.
وازداد الفضول داخلها، ينهش عقلها بأسئلته الكثيرة: من هؤلاء؟ ولماذا تشعر بأن هناك شيئًا ناقصًا، مفقودًا؟ الحقيقة تناديها، تشدّها من قلبها، رغم رهبة الطريق المؤدي إليها.
عيناها كانت شبه دامعتين، تتحركان ببطء خلف طبقة زجاجية من الحيرة، وشفتيها المرتجفتان توحيان بكلمات محبوسة لم تجرؤ على النُطق بها. أناملها كانت تضغط على حافة الكوب دون وعي، كأنها تحاول أن تثبت نفسها في عالمٍ يتهاوى من تحتها.
ماجد، وهو ينهى حديثه بنبرة حاسمة لكنها هادئة:
"أنا راجع البلد بعد يومين.. لو قررتي تيجي، قوليلي. وأنا أوعدك، كل حاجة هتتقال، واللي اتخبى عنك سنين، هيتقالك بالحرف."
رفعت عائشة نظرها إليه ببطء، وكأنها تنتشل نفسها من دوامة أفكارها. كانت عيناها غارقتين في بحرٍ من التردد، تتأرجحان بين الخوف والرغبة، بين الحذر والفضول. نظراتها لم تكن حاسمة، لكنها كانت صادقة... تحكي عن صراع داخلي يعصف بها، وعن عقلٍ لا يزال يوزن الأمور بقلبٍ خائف.
لم تكن تحدق فيه فقط، بل كانت تُفتّش في ملامحه عن طمأنينة تفتقدها، عن وعدٍ خفي بأن الأمور لن تخرج عن السيطرة. ولأول مرة، لم تكن فكرة السفر إلى الصعيد مجرد كابوس يُرهق أعصابها، أو خطوة محفوفة بالمجهول... بل بدت وكأنها احتمال يحمل في طيّاته شيئًا آخر، شيئًا غريبًا... وجذابًا.
نعم، كانت خائفة، تشعر برجفة خفيفة تسري في أطرافها، لكنها لم تكن تلك الرجفة التي تدفعك للهرب، بل تلك التي تسبق القفز نحو المجهول. كانت هناك رغبة دفينة، مختبئة تحت طبقات القلق، تحاول أن تجد لنفسها صوتًا. الصعيد لم يعد مكانًا مرعبًا فحسب... بل أصبح فكرة مغرية، دعوة لاكتشاف جزء من ذاتها لم تتجرأ يومًا على لمسه.