رواية خيوط النار الفصل الثامن 8 بقلم نورهان موسي


 رواية خيوط النار الفصل الثامن 

في مخزن مهجور على أطراف المدينة، كان السكون يخيّم على المكان بشكل مريب، كأن الزمن توقف للحظة. الأضواء كانت خافتة، والهواء يعبق برائحة الغبار والحديد الصدئ، بينما وقف أكثر من عشرة رجال أمن مدججين بالسلاح، أعينهم مترقبة، وأنفاسهم محبوسة، في انتظار الإشارة.

بعيدًا قليلًا في الظلال، كان يونس يتوارى بجسده خلف أحد الجدران المتهالكة، نظراته مركّزة كعدسة بندقية، كل حاسة من حواسه مشدودة لأقصى حدودها، وكأنه على وشك خوض معركة مصيرية. قبضته كانت محكمة على سلاحه، يده ثابتة رغم الغليان الذي يعصف بداخله. هذه الليلة لم تكن عادية، كانت بالنسبة له الفرصة الذهبية لإسقاط زاهر الحديدي، أخيرًا... وبلا رجعة.

التفت يونس للضابط الذي يقف إلى جواره، وقال بصوت منخفض، لكنه مشحون بالحزم:

"كل الرجالة على استعداد؟ لازم نتحرك في اللحظة الصح، محدش يديهم فرصة يهربوا."

الضابط أومأ برأسه بثقة، ثم أشار للرجال بيده بحركة سريعة. خلال ثوانٍ، انتشروا في صمت، استعدادًا للهجوم.

يونس رفع يده فجأة، وأعطاهم الإشارة المرتقبة.

وانفجر الهدوء بحركة خاطفة

أصوات الأقدام ترددت كالصدى في جنبات المخزن، الأسلحة ارتفعت بلمح البصر، والرجال اقتحموا المكان بحرفية وحذر.

يونس دخل أولهم، سلاحه أمامه، عيناه تمسحان المكان بجنون، بحثًا عن الشحنة، عن زاهر، عن أي دليل يدين هذا الشيطان الذي أفلت منه مرارًا.

لكن... ما إن وقعت عيناه على الصناديق المتراصة حتى تجمّد في مكانه.

وجهه تجمّد.

جسده تصلّب.

"إيه ده؟!"

الصناديق... مليئة بالفواكه!

تفاح... برتقال... عنب... وأشياء لا تعني شيئًا.

لا سلاح.

لا رصاص.

لا أي شيء يُدين أحدًا.

اليأس اندفع إلى صدره كرصاصة بطيئة، وشعور بالغليان انفجر داخله فجأة. ضرب الصندوق بقبضة المسدس بعنف، فتدحرجت الفاكهة على الأرض، كأنها تسخر منه، من غضبه، من انتظاره الطويل لهذه اللحظة التي انتهت بالسخرية.

وفي خضم صدمته، سمع صوت خطوات واثقة قادمة من الخلف... خطوات رجل يعرف تمامًا ما يفعل، لا يخشى أحدًا.

صوت هادئ، مشبع بالسخرية والثقة:

"كنتم فاكرين إنكم أذكى مني؟"

التفت يونس بسرعة، وعيناه تقدحان شررًا. الدم اشتعل في عروقه حين رأى زاهر الحديدي يقف هناك، بكامل أناقته، مرتديًا بدلة سوداء لامعة، وابتسامة هادئة ترتسم على وجهه، كأن الموقف لا يعنيه، أو كأنه حضر ليستمتع بفشلهم.

نظرة يونس له كانت كفيلة بإشعال المكان.

كل عضلة في وجهه مشدودة، أنفاسه متقطعة، والكلمات تخرج من بين أسنانه بقسوة:

"فاكر إنك هتفضل تهرب مني كل مرة؟ اليوم بتاعك جاي، والمرادي مش هتهرب."

زاهر ضحك ضحكة قصيرة، لكن صوتها اخترق صدر يونس كالسهم.

"اللي إنت مش فاهمه، إني دايمًا خطوة قدامك، وإنك كل مرة هتحاول توقعني، هتقع إنت بدل ما توقعني."

يونس كاد أن يفقد أعصابه. رغبته في ضربه، في محو تلك الابتسامة المتعجرفة، كانت تشتعل في داخله. لكن عقله كان يصرخ فيه أن يتماسك، أن لا يمنحه فرصة للانتصار.

فجأة، ابتسم يونس ابتسامة باردة، جامدة، كأنها خرجت من بركان مجمّد، وقال بثقة رغم الغضب:

"استمتع باللحظة دي... لإنها مش هتتكرر. النهاردة عدّت، بس المرة الجاية؟ هتمسك متلبس، وساعتها مش هتقدر تضحك على حد."

زاهر مال برأسه إلى الجانب، كأنه يدرس ملامح خصمه، ثم قال بنبرة باردة، تخبّئ خلفها وعيدًا صامتًا:

"هنشوف يا باشا... هنشوف مين فينا اللي هيضحك في الآخر."

ثم استدار وغادر المكان بخطوات هادئة، وكأنه واثق تمامًا أن أحدًا لن يوقفه، وأن المعركة لم تبدأ بعد.

يونس ظل واقفًا في مكانه، جسده مشدود، عينيه مشتعلة بالغضب، وقلبه يضرب كطبول الحرب. شعر بأن دمه يغلي، ليس فقط بسبب الخديعة، ولكن لأنه كان يعرف أن هذا اللقاء لن يكون الأخير.

هذه لم تكن النهاية... كانت مجرد البداية.

********

بعد دقائق من خروجه من المخزن،

كان زاهر الحديدي يسير بخطوات هادئة، كمن أنهى للتو رقصة نصر على حلبة حرب. الهواء البارد يلامس وجهه، لكنه لم يشعر بشيء... كأن جسده ارتدى درعًا من الجليد، لا يخترقه دفء، ولا تهزه رياح.

خلفه، تبعه رجاله بصمتٍ تام. لا أحد تجرأ أن يتكلم

السيارة السوداء كانت بانتظاره على بُعد أمتار، وسائقها يقف إلى جوار الباب بخضوع، فتحه بمجرد اقتراب زاهر، وانحنى قليلًا كأنه أمام سيد مملكته.

ركب زاهر المقعد الخلفي، ثم أشار بيده إشارة خفيفة. التحق به رجلاه المقربان: محسن وسامر

أُغلِق الباب.

وصمت ثقيل هبط داخل السيارة، كأن الأكسجين نفسه يخشى أن يُزعج زاهر.

أخرج سيجارًا فخمًا من جيب سترته، وثبّته بين شفتيه، ثم أشعله بهدوء وهو يتأمل لهب الولاعة، كأنما يرى فيه شيئًا لا يراه سواه.

سحب أول نفس ببطء... وأطلق الدخان على مهل، ليملأ الجو برائحة حادة... رائحة تحذير.

ثم نطق، بنبرة منخفضة... ولكن فيها شيءٌ لا يُقاوَم:

"هو فاكرني بلعب."

نظر إلى محسن كانت نظرته ثاقبة، تكاد تنزع جلده:

"فاكر نفسه صيّاد... ومش واخد باله إنه طُعم في سنّارتي."

محسن ابتلع ريقه بصعوبة، كان يحاول أن يبدو متماسكًا، لكنه يعرف زاهر أكثر من أي أحد آخر... يعرف أن تلك النبرة لا تسبق إلا العواصف.

أما ساهر، فحاول أن يقطع التوتر، فقال بصوت مبحوح:

"بس العملية كانت نظيفة، باشا. ما لقوش غير الفاكهة، وكل حاجة ماشية زي ما خططنا."

زاهر التفت له فجأة، والنظرة في عينيه كأنها شبح ظهر من العدم:

"أنا مش بتكلم عن النهارده... النهارده كان عرض. بروفة. بس يونس؟..."

ضحك ضحكة قصيرة... لكنها كانت باردة كالسكين:

"يونس هيفضل يفتّش ورايا، وهيقرب... وأنا؟ هفضل أعلّمه إنه مهما قرب، هيكون متأخر."

سكت لحظة، ثم قال بنبرة هادئة لكن مشبعة بالقسوة:

"بس خلّوا عيونكم مفتوحة. يونس لما يفشل... بيعض. وعضته ممكن توجع."

ساهر تردد، ثم سأل:

"تحب نرّبكه أكتر؟ نبعث له معلومة مضروبة؟ نوقعه في فخ جديد؟"

زاهر لم يجب مباشرة... فقط ابتسم.

ابتسامة كانت كافية لتجمّد الدم في العروق.

"مش دلوقتي... خليه يغلي. خليه يحس إنه قرب. أنا عايزه يتنفس وهم... وبعدين؟"

ضرب طرف السيجار في الطفاية أمامه وقال بنبرة مغموسة في الظلام:

"هسحبه برجليه للنار... بإيده."

السيارة انطلقت، تخترق شوارع المدينة المعتمة، بينما داخلها جلس زاهر الحديدي، لا كزعيم عصابة... بل كخطر يمشي على قدمين، يُخطط بصبر، ويفتّك بدهاء.

هو لا يهرب.

هو ينتظر اللحظة المناسبة... ليُهاجم.

********

في شقة عائشة الصغيرة، كانت الجلسة دافئة، يغلّفها سكون غريب. الضوء الخافت يتراقص على الجدران كأنّه يواسي الوحدة المتسلّلة إلى الزوايا. الهواء ساكن، لا صوت يعلو سوى أنفاسٍ خفيفة، تتردد بين عائشة ومريم.

مريم كانت جالسة على الكنبة، تتحدث بحيوية، لكن صوتها يرتد في الفراغ كأنّه لا يجد مستمعًا حقيقيًا. بجوارها، جلست عائشة، متجمدة النظرات، عينها معلّقة في نقطة وهمية، كأنها ترى شيئًا لا يراه أحد. وجهها ساكن، وروحها تائهة في دوامة أفكار لم تهدأ.

رفعت مريم يدها أمام وجه عائشة، تلوّح بها وهي تضحك بخفة، تحاول كسر ذلك الشرود الثقيل:

"إنتي سامعاني ولا لأ؟! بقالي ساعة بحكيلك على اللي حصل النهارده، وأنا متأكدة إنك ولا هنا أصلًا!"

عائشة ارتجفت قليلًا، رمشت كأنها عادت فجأة من عالمٍ بعيد، والتفتت إلى مريم بعينين مرتبكتين، تحاول أن ترسم على وجهها ابتسامة مصطنعة:

"هاه؟ لا، سامعاكي طبعًا... كنتي بتقولي إيه؟"

تنهدت مريم،واتسعت عيناها وهي تتذكر تفاصيل الحادث، الحماس ما زال يتوهّج في ملامحها:

"بقولك كنت هموت يا عائشة! عربية كانت هتخبطني وأنا خارجة من المول، ولولا إن واحد معرفهوش شدّني في آخر لحظة، كان زماني في المستشفى دلوقتي!"

تغيّرت ملامح عائشة أخيرًا، انعقد حاجباها، وظهر القلق في نبرتها رغم أن شرودها لم ينتهِ تمامًا:

"إيه؟! إنتي كويسة؟ حصلك حاجة؟"

هزّت مريم رأسها بسرعة مطمئنة، لكن صوتها نزل نغمة أخف، كأنها تسللت إلى ذكريات اللحظة:

"أنا كويسة الحمد لله... بس الشاب ده كان غريب! لما بصيت في عنيه، حسيت بحاجة... حاجة مش مفهومة... كأن فيها كلام كتير متكتم، كأن وراها حكاية!"

عائشة حاولت أن تواكبها، أن تُبدي اهتمامًا حقيقيًا، لكنها كانت عالقة... في مكانٍ آخر، مع اسمٍ آخر، وجهٍ آخر... ماجد.

لم تغب تلك النظرة عن مريم، كانت عيناها مرآة تلتقط التفاصيل الصغيرة، فأمالت رأسها قليلاً، ورفعت حاجبها بدهشة:

"طب استني... إنتي مالك؟ سرحانة كده ليه؟ حقيقي مش مركزة معايا خالص!"

عائشة أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تسحب معه ترددًا ظل يثقل صدرها طوال اليوم. نظرت لمريم بنظرة شاردة، لكنها حزمت أمرها وقالت بهدوء:

"ماجد... ابن عمي."

بدت الصدمة واضحة على وجه مريم، ملامحها انعقدت في استغراب خالص، ثم مالت قليلاً نحوها:

"ماجد؟! وإنتي من إمتى عندك ولاد عم؟!"

ارتبكت عائشة، عضّت على شفتها بتوتر، وراحت تعبث بأطراف طرحتها، ثم قالت بصوت منخفض، أقرب للهمس:

"النهارده... اكتشفت إن ليا أهل في الصعيد. أبويا كان سايبهم من زمان، لما اتجوز أمي وقطع كل صلة بيهم... ماجد، ابن عمي، لقاني فجأة وقال إن عمي كان بيدوّر علينا طول السنين اللي فاتت. وإنهم... إنهم عايزين يشوفوني."

فتحت مريم عينيها بدهشة صادقة، وقوّمت جلستها كأنها تستعد لتستوعب المفاجأة:

"ده حصل فجأة كده؟ وإنتي صدّقتيه؟"

نظرت عائشة إلى الأرض، شاردة، ثم رفعت عينيها بعينين تغليان بمزيج من التردد والأمل:

"مش عارفة... كان كلامه فيه صدق، أو على الأقل أنا حبيت أصدق. بس... في نفس الوقت، في حاجة مش مريحة، إحساس غريب... مش قادرة أوصفه. بس تعرفي؟ رغم كل ده... فكرة إن يكون ليا أهل، ناس... اسم، جذور! دي حاجة أنا كنت بدوّر عليها طول عمري."

سكتت مريم للحظة، تفكر، تمعن النظر في وجه عائشة وكأنها تحاول أن تستشفّ ما وراء الكلمات، ثم سألت بصوتٍ حذر:

"طب... قررتي تعملي إيه؟"

رفعت عائشة نظرها، وثبّتت عينيها في عيني مريم، وكان في نظرتها حسم لم تعرفه من قبل:

"هسافر. لازم أعرف الحقيقة بنفسي. لازم أشوفهم... وأشوف أنا جاية منين."

مريم لم ترد، فقط ظلّت تحدّق في وجه صديقتها، وبين ضلوعها شعرت بشيء يشبه التحذير، نغزة خوف خفيفة، إحساس داخلي يقول إن هذه الرحلة ليست عادية... وأن عائشة على وشك أن تفتح بابًا، لا رجعة بعده.

"" "" "" "" ""

كان المكتب ساكنًا، لكن الهواء بدا مشحونًا بشحنة ثقيلة من الغضب المكبوت. الصمت لم يكن هدوءًا، بل كأنه قنبلة على وشك الانفجار، والجدران نفسها بدت كأنها ترتجف تحت وطأة التوتر. خلف المكتب العريض، جلس اللواء عز الدين، يضمّ كفيه فوق بعضهما، نظراته السوداء الثاقبة مُثبتة على يونس الواقف أمامه.

يونس كان واقفًا في وضعية عسكرية صارمة، لكن قلبه لم يكن بهذه الصلابة. داخله كان يغلي، صدره يعلو ويهبط بصعوبة وهو يقاوم الانفعال، وكل عضلة في جسده مشدودة وكأنها على حافة الانفجار.

صوت اللواء خرج غليظًا، ثقيلًا، مغمورًا بالغضب المُتحكم فيه بعناية:

"إزاي ده يحصل يا يونس؟! إزاي نكون مجهزين العملية بالشكل ده، وعند لحظة التنفيذ... نلاقي صناديق فاكهة بدل السلاح؟!"

كأن الكلمات كانت رصاصًا يخترق صدر يونس. شعر بطعنتها بوضوح، ليس لأنها لوم مباشر، بل لأنها صدى للومه الذاتي، صوت داخلي لم يتوقف عن الصراخ منذ لحظة الفشل. ومع ذلك، لم يزِغ بعينيه، بل رفع رأسه بثبات، والصلابة انعكست في ملامحه، وقال بصوت منخفض لكنه حاد كحد السيف:

"أنا بعتذر يا فندم، وبأتحمل المسؤولية كاملة. لكن ده ما يعنيش إننا خسرنا الحرب... دي كانت جولة، وزاهر الحديدي مش هيفلت. أوعدك

اللواء لم يُجِب على الفور. ظلّ يحدق في عيني يونس، يتفحّص وجهه، كأنه يبحث عن صدق النية خلف الكلمات، عن الحقيقة خلف الغضب. ورأى فيها شيئًا نادرًا... لم يكن فقط الإصرار، بل نارًا شخصية، حُرقة رجل لم يكتفِ بأن يخسر عملية، بل شعر أنها صفعة في كرامته، في تاريخه، في قسمه.

تنهد اللواء ببطء، لكن نبرته ظلّت حازمة:

"أنا عارفك يا يونس... وعارف إنك مش من اللي بيتهزّ بسهولة. وأنا واثق فيك. بس أوعى تخلي الفشل ده يكسرك... زاهر يستنى غلطة زي دي، ويستغلها. ما تديهوش الفرصة. فاهمني؟"

يونس شدّ جسده أكثر، وملامحه تصلبت في تصميم واضح، وقال بصوت مشحون بالعزيمة:

"تمام يا فندم... مش هرتاح غير لما أشوف زاهر بإيدي متكلبش، واللي حصل النهارده... مش هيحصل تاني."

أومأ اللواء برأسه، ببطء، وكأن هذا الرد لم يُفاجئه، بل كان ينتظره. رفع يده في إيماءة خفيفة تعني الانصراف:

"تمام... روح. ابتدي من جديد، ووريني خطة تعوّض اللي فات. وعايز نتائج... بسرعة."

حيّا يونس اللواء بتحية عسكرية رسمية، ثم استدار وخرج، لكن مع كل خطوة خارج المكتب، كان يشعر بأن النار التي تأكله ازدادت اشتعالًا. زاهر لعبها باحتراف، وخدعهم جميعًا... لكنه أقسم لنفسه إن المرة الجاية، مش هيكون فيها مهرب.

وما إن أغلق الباب خلفه، حتى عمّ السكون مجددًا في المكتب. أخذ اللواء نفسًا عميقًا، ثم مدّ يده إلى درج مكتبه بهدوء. أخرج صورة قديمة، أطرافها باهتة بفعل الزمن، لكنها ما زالت تحتفظ بأثر الوجع. كانت صورته مع صديقه القديم، الذي خسره في واحدة من أخطر عمليات التهريب... على يد مجرم لا يختلف كثيرًا عن زاهر.

مرّر عز الدين أصبعه على وجه صديقه في الصورة، عينه لمعت بدمعة لم تسقط، وصوته خرج مبحوحًا، أقرب للهمس، لكن كل حرف فيه كان يحمل وعدًا لا رجعة فيه:

"ما تقلقش... حقك هيرجع... هيرجع مهما طال الزمن."

***********

كان يونس عائدًا إلى البيت بعد يومٍ ثقيل، لا تُقاس مشقته بعدد ساعاته، بل بما حمله من خيبات وضغوط. خطواته كانت بطيئة، مثقلة كأنها تحمل على ظهرها جبالًا من الهموم، وعيناه تشي بالإرهاق، تطفح بلمعة حزينة يختلط فيها الغضب بالخذلان.

كان ما يزال يشعر بمرارة الفشل، تلك المرارة التي لم تترك حلقه منذ لحظة الانهيار في العملية. إحساس أشبه بنارٍ مشتعلة تلتهمه من الداخل، ومع ذلك، لم يكن ينوي أن يُظهر شيئًا أمام أحد... ليس من طبعه أن يشتكي.

وما إن فتح باب الشقة، حتى سمع ضحكة خفيفة قادمة من جهة الصالة. توقف لوهلة، لم يستوعب المشهد في البداية، لكن سرعان ما تعرّف على الصوت... عائشة كانت هناك.

تقدم ببطء، وعيناه تبحثان عنها في الفراغ حتى لمحها، جالسة وسط مريم وخالته، يتبادلن الحديث والضحك، والجو حولهن بدا دافئًا، حيًا، كأن الحياة كلها اختارت أن تتمركز في هذا المكان تحديدًا... بعكس ما كان يشعر به تمامًا. كان داخله مظلمًا، مشوشًا، كأن عالمه يُعاد تشكيله من الرماد.

ابتسمت خالته فور أن رأته، وقالت بحماس دافئ وحنان ظاهر:

"يونس! حمد الله على السلامة يا ابني... تعالَ، النهارده عزمت عائشة تتغدى معانا!"

رمق عائشة بنظرة سريعة، لكنه شعر بقلبه يخفق فجأة... دون مقدمات. لم يعرف السبب، لكنه أحس وكأنه كان بحاجة لرؤيتها، بحاجة لأن يراها بخير، تسمع صوتها، حتى دون أن يدرك تمامًا لماذا.

حاول أن يخفي التعب خلف ابتسامة خفيفة، وقال بصوت هادئ، واهن بعض الشيء:

"الله يسلمك يا خالتي."

مريم ضحكت وهي تنهض مع خالته باتجاه المطبخ، تُحضّران ما تبقى من الطعام:

"بما إنك جيت، يبقى نكمل تحضير السفرة... عائشة، خلي بالك منه، شكله النهارده مش ولابد!"

بقيت عائشة تنظر إليه، ملامحها هدأت، لكنها كانت تُلاحظ. كانت عيناها تبحثان عن تفسير للحزن الساكن في عينيه. لم يكن يونس كما عرفته، شيء ما كان ثقيلًا عليه، متعبًا روحه، ظاهراً في كل حركة وكل نفس.

وحين خرجت مريم وخالتها، نظرت إليه بجدية، وصوتها خرج ناعمًا، لكنه مملوء بالاهتمام الصادق:

"إنت كويس؟ شكلك تعبان ومش على بعضك... حصل حاجة؟"

تفاجأ يونس من نبرتها، ومن اهتمامها. شعر للحظة وكأن قلبه يهدأ قليلًا، كأن حرارة السؤال خففت من برودة خيبته. كان الأمر بسيطًا، سؤال واحد، لكنه حمل في طياته ما لم يجده طوال اليوم... شعور بأنه ليس وحده.

نظر إليها، وابتسم ابتسامة خافتة، لكنها لم تُخفِ الضيق في عينيه، وقال بصوت متعب:

"مشاكل في الشغل... حاجات معقدة شوية، بس مش مهم، هتتحل إن شاء الله."

لم تُبعد عائشة عينيها عنه، وكأنها تُفتّش في نبرته عن حقيقة لم يُفصح عنها بعد. بقيت نظرتها معلّقة عليه، متأملة، تنتظر أن يمنحها المزيد... لكنها لم تُلح.

وهو شعر بذلك، شعر أنها رغبت في الاستماع، لا الفضول، بل رغبة حقيقية في أن تكون قريبة من همه، من تعبه. نظر إليها مجددًا، وابتسم ابتسامة أكثر دفئًا هذه المرة، وقال بنبرة امتنان حقيقي:

"على فكرة... أنا مبسوط إنك مهتمة بيا... ومهتمة بمشاكلي."

تسارعت دقات قلب عائشة دون إنذار، توردت وجنتاها، وحرارة خفية تسربت إلى وجهها. لم تكن تتوقع أن يُفصح عن شيء كهذا، حتى وإن كان بسيطًا، فقد لمس شيئًا عميقًا فيها.

خفضت نظرها بسرعة، وأجابت محاولة إخفاء ارتباكها:

"طبعًا... يعني... أكيد! إحنا... إحنا جيران، مش كده؟"

نظر إليها يونس نظرة غامضة، نظرة تحمل ما هو أبعد من كلمة "جيران". اقترب خطوة منها، وصوته خفت، صار أكثر جدية، وأكثر قربًا:

"عائشة... أنا كنت عايز أتكلم معاكي في موضوع مهم..."

وقبل أن تسأله عمّا يقصده، وقبل أن تنفتح المسافة بينهما على اعترافٍ كان على وشك أن يُقال... دخلت مريم وخالته بالصينية والأطباق، وقطعتا المشهد بابتسامة مرحة.

قالت مريم وهي تضحك:

"إنتوا قاعدين ساكتين كده ليه؟ كنتم بتتكلموا في حاجة سرية ولا إيه؟!"

تراجع يونس خطوة بخفة، وأخفى ما كان على وشك قوله بابتسامة باهتة:

"لأ خالص... بس كنت هقول لعائشة حاجة، بس مش وقته... بعدين."

وقبل أن ترد، التفت إليها ونظر بسرعة، نظرة لم تكن عابرة... كانت وعدًا. وعائشة التقطت تلك النظرة، وشعرت بشيء يتحرك بداخلها. ترقب... قلق... وربما بداية مشاعر لم تكن تتوقعها.

كانت تنتظر أن تسمع... لكن الأهم، أنها بدأت تتساءل: هل هي مستعدة لسماع ما قد يُقال؟

**********

في مكتب زاهر الحديدي، كان الدخان يملأ الجو كضباب كثيف يخنق الأنفاس، يتسلل ببطء ويتشبث بالستائر الثقيلة والحوائط الكاتمة. صدى خفيف لصوت الكريستال وهو يصطدم ببعضه خرج من كأسٍ يهتز في يد زاهر، لكن ما ملأ المكان فعليًا كان ضحكته الثقيلة... تلك الضحكة المتعجرفة التي تنبع من شعورٍ جارفٍ بالانتصار.

جلس زاهر في مقعده الوثير كملكٍ على عرش غير مرئي، رجلٌ على رجل، يحرّك كأسه في هدوء، كأن النصر بالنسبة له مشروب يجب الاستمتاع به على مهل. عيناه تلمعان بانتشاء واضح، وملامحه مشبعة بالثقة... لا، بالغرور.

أمامه جلس الشخص المجهول، رجلٌ لا يظهر عليه التأثر بسهولة. عينيه ضيقتان، تراقبان كل تفصيلة بدقة قاتلة، وابتسامة خفيفة بالكاد تُرى على شفتيه، كأنها وُلدت من فكرة لا يريد البوح بها بعد. كان ثابتًا، هادئًا، عكس زاهر الذي كان يطفح بالحماس.

نظر زاهر له وضحك بخبث، وخرج صوته وكأنه صفعة سخرية:

"قوللي بقى... مش قلتلك يونس ده فاكر نفسه أذكى مننا؟ اتصرفنا صح، وطلعناه يدور على سلاح... ولقى إيه؟ فاكهة! هاهاها! والله لو كان قدامي، كنت ضحكت في وشه لحد ما دموعي تنزل!"

ضحك الشخص المجهول ضحكة قصيرة، باهتة، لكنها كانت محسوبة، محكومة... بعكس زاهر. ثم قال بصوت هادئ كعادته، نبرة لا تهتز لكنها تحمل إنذارًا خفيًا:

"يونس مش غبي يا زاهر... وده اللي لازم تفهمه. ما تستهينش بيه. إحنا كسبنا جولة، بس المرة الجاية؟ مش مضمونة. لازم نكون أذكى، وأسرع."

زاهر هزّ كتفه بلا مبالاة، وكأنه لا يُعير التحذير اهتمامًا، ثم رمى الكأس على الطاولة بخشونة، وارتكز بجسده للأمام، نظر بعينين يشتعلان بالحماسة وقال بحدة:

"طب ما تيجي نبدأ بقى في الشغل الصح؟ كفاية لعب عيال... أنا عايز أجهز لدخول الشحنة الكبيرة. المرة دي عايز العملية تبقى أنضف من أي مرة فاتت، من غير غلطة واحدة!"

ظل الشخص المجهول ساكنًا، لفّ السيجار بين أصابعه ببطء، وعيناه تحدقان في الشرر المتطاير من حماسة زاهر، ثم قال بصوت منخفض لكن يحمل ثقل القرار:

"لازم نهدي اللعب الفترة دي... يونس فاتح عينه علينا، وراصص كل حركة. وده مش من النوع اللي بيهدى أو يستسلم. إحنا دلوقتي كسبنا معركة، لكن الحرب؟ لسه طويلة."

صمت لحظة، ثم أضاف بنبرة أكثر دهاءً:

"بس... أنا عندي فكرة. ممكن تبعده عننا لفترة، تخلّيه يطارد سراب، يشغل نفسه بحاجة تانية، وفي الوقت ده... إحنا نعدي شحنتنا من غير ما يحس، ولا حتى يشم ريحتنا!"

ارتكز زاهر في مقعده، وعيناه ضاقتا بشك:

"إيه الفكرة؟"

لم يُجب الرجل فورًا. بل اكتفى بابتسامة جانبية غامضة، كأنها وعدٌ بلعنة قادمة، ثم قال بصوتٍ مملوء بالثقة المظلمة:

"سيبها عليّا... أنا هخليه يجرى ورا خيط مالوش آخر، يفتكر إنه قرّب، وهو في الحقيقة بيبعد... بيضيع."

ضحك زاهر، ضحكة خرجت كصوت طبلٍ أجوف، وضرب الطاولة بيده بقوة، قائلاً بحماس:

"أهو ده الكلام اللي يطمن! بس اسمعني... إياك تستهين بيه. يونس لما بيمسك حاجة ما بيسيبهاش... خطتك لازم تكون محبوكة زي خيط الموت، مفهاش سهو ولا غلطة!"

أطلق الشخص المجهول زفرة طويلة من دخان السيجار، وعيناه ما تزالان ثابتتين، وابتسامته الخفيفة لم تفارقه، وقال بصوت أشبه بالوعد:

"يونس؟ سيبه عليا... أنا هخليه يطارد وهم، لحد ما ينسى حتى هو كان بيطارد مين!"

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1