رواية خيوط النار الفصل التاسع
طاولة الطعام كانت ممتلئة بالأطباق الشهية، وروائح الأكل تتسلل في الأجواء كأنها تغري الحواس وتخدع الحزن، لكن عائشة كانت غائبة عن كل هذا، عيناها شاردة، وملامحها متجمدة كأن الزمن توقف عند نقطة وجع لا تعرف طريق العودة منها. كانت تحدق في اللاشيء، في فراغ يبتلعها دون رحمة، لا تُمَد يدها للطعام، ولا تشارك أحدًا الحديث. مريم، التي لطالما قرأت ملامحها دون أن تنطق، كانت تراقبها في صمت قلق، لكن اللي لفت نظرها أكتر... كانت نظرات يونس.
يونس كان عينه مثبتة على عائشة كأنه بيحاول يقرأ أفكارها، ملامحه ما بين القلق والاهتمام، وعيونه كانت مليانة خوف... خوف حقيقي عليها. حس بيها، حس إنها مش هنا، مش موجودة فعلًا، كأن روحها تايهة في مكان بعيد جدًا.
مريم، في محاولة منها لتفتح مجال بينهما، قامت بحركة مسرحية مبالغ فيها وقالت بحماس مصطنع: ــ "أنا وخالتي هنجيب الحلو في المطبخ، حد عايز حاجة؟"
الخالة ابتسمت بخفة وقالت بنبرة حنونة:
ــ "يلا يا حبيبتي."
أما يونس، فاكتفى بهزّ رأسه بصمتٍ ثقيل، دون أن يلتفت نحو مريم ولو للحظة. عيناه ظلّتا معلّقتين بعائشة، كأنهما تحاولان سبر أغوار صمتها، كأنهما تسمعان النداء الذي لم تُفلح هي في التعبير عنه. كان يراها، حقًا يراها… لا كما تبدو للآخرين، بل كما هي من الداخل: مترددة، خائفة، تائهة في دوامة لا تملك فيها السيطرة.
مريم، وقد شعرت بثقل اللحظة، سحبت خالتها برفق وهدوء، كأنها تنتشلهما من ساحة مشاعر خاصة لا يجب اقتحامها. دخلتا إلى المطبخ بخطى هادئة، لكنهما توقفتا بالقرب من الباب، بما يكفي لتصلهما كل همسة، كأنهما لا تستطيعان الابتعاد حقًا، أو كأن القلق قد تشبّث بهما مثلما فعل بيونس.
اقترب يونس قليلًا، يده امتدت بخفّة فوق الطاولة، وكأنها تبحث عن رابط ما، عن نقطة تماس تنقله من التفرّج إلى المشاركة. صوته خرج منخفضًا، دافئًا، يحمل في نبراته قلقًا صادقًا، لا يُجيد التخفي خلف الكلمات.
قال بهدوء، وعيناه لم تزل مثبتتين على عائشة، كأن وجودها وحده يعني له كل شيء:
ــ "مالك؟ مش بتاكلي ليه؟"
رفعت عائشة عينيها ببطء، وكأنها تستفيق من غيبوبة طويلة سحبتها بعيدًا عن الواقع. رمشت قليلًا، كأنها تحاول التأكد من أن ما تراه حقيقي. لمحت المائدة أمامها، ولاحظت في لحظة خاطفة أن المكان أصبح خاليًا… لا أحد حولها سوى يونس.
شعرت وكأن العالم كله تلاشى من حولها، وكأن الزمن توقّف عند تلك اللحظة، ليتركها وحدها معه، في صمتٍ مشحون لا تسمعه سوى القلوب. كانت أنفاسها تتسارع بخفة، وشيء ما داخلها يهتز، يحاول أن يتوارى خلف قناع من التماسك.
حاولت أن تُخفي ارتباكها، أن تُعيد لملمة شتات مشاعرها المتضاربة، لكنها لم تستطع منع عينيها من الارتجاف، ولا أصابعها من التململ فوق المائدة. ازدردت ريقها في صمت، ثم تنحنحت بخفة، وأجبرت صوتها أن يخرج… هادئًا، منخفضًا، كأنها تخشى أن يكشف ارتعاش قلبها:
ــ "لا… باكل."
كلماتها بدت وكأنها تحاول بها الدفاع عن جدار هشّ من اللامبالاة، لكن نبرتها فضحتها. كانت أشبه بطفلة تحاول إقناع نفسها بالكذب، أكثر من إقناع من أمامها. ويونس، الذي التقط ارتجافة الصوت ولمعة التوتر في عينيها، لم يُجب… فقط نظر إليها بنظرة صامتة، لكنها كانت مليئة بالفهم… والاهتمام.
لكن يونس لم يقتنع، لم تنطلِ عليه محاولتها الخجولة للهروب بالكلمات. كان ينظر إليها بعينين تقرآن ما وراء الظاهر، بعين من يعرفها جيدًا، ويشعر بتغيّرها قبل أن تنطق. كانت كلماته تخرج من أعماق قلبه قبل أن يُطلقها لسانه، بنبرة ناعمة، لكن حازمة، تحمل مزيجًا من القلق والاهتمام، وكأنها تمسك بها بلطف كي لا تنزلق أكثر في صمتها.
قال، وعيناه لا تفارقان ملامحها المتوترة، كأن كل خلجة على وجهها تُخبره بقصة كاملة:
ــ "لأ... فيكي حاجة. النهاردة شكلك متغيّر."
كان صوته لا يضغط، لكنه أيضًا لا يسمح بالإنكار. فيه دفء يُشعرك بالأمان، وفيه إصرار نابع من خوفٍ حقيقي، من رغبة في الوصول إلى الحقيقة مهما كانت. وكأن قلبه يرفض أن يراها تغرق وحدها… يرفض أن يقف متفرجًا على وجعٍ تُخفيه بصعوبة خلف ابتسامة باهتة وصوت منخفض.
وفي تلك اللحظة، أدركت عائشة أن صمته السابق لم يكن غفلة… بل انتظار. وأنه، مهما حاولت، لن تقدر على خداع عينٍ ترى ما لا يُقال.
صمتت عائشة للحظة، وكأنها تحاول لملمة شتات نفسها المتناثر، أو ربما تُخضع أفكارها المتضاربة لصوتٍ واحدٍ أخير. رمشت ببطء، ثم أغمضت عينيها للحظة قصيرة، كأنها تغوص داخلها بحثًا عن الشجاعة. أخذت نفسًا عميقًا، وتركته يخرج معها على هيئة كلمات مرتجفة، تحمل في نبرتها صدقًا هشًّا يخشى الانكسار:
ــ "أنا محتارة... وكنت محتاجة رأيك."
كلماتها لم تكن كثيرة، لكنها اخترقت قلب يونس بقوة لا يتوقعها. شعر بدقاته تتسارع، كأن قلبه يقفز من بين ضلوعه. كانت تلك هي المرة الأولى التي تكسر فيها عائشة جدار الصمت بينهما، المرة الأولى التي تفتح له نافذة صغيرة على عالمها الداخلي.
ارتسمت على وجهه لمحة اندهاش ممزوجة بفرح صامت، واتكأ على الطاولة، كأن جسده كله اندفع نحوها دون وعي، مدفوعًا برغبة صادقة في أن يكون السند، أن يسمع دون أن يُحكم، أن يحتضن حيرتها دون شروط.
قال بصوت امتلأ بالحماس، لكن فيه دفء العارف بقيمة الثقة التي منحتها له:
ــ "طبعًا... احكي لي، أنا سامعك."
كانت نظرته تحكي عن امتنان خفي، عن وعد ضمني بأنها لن تندم على مشاركته، وأنه سيكون هناك… بكل قلبه، وكل انتباهه.
كانت عائشة تحاول بصعوبة أن تُترجم زخم مشاعرها إلى كلمات مفهومة، وكأن قلبها يعجّ بعاصفة لا تهدأ. عيناها كانتا تموجان بالارتباك، بالخوف، وبألمٍ عميق تحاول جاهدة أن تُخفيه خلف صوتٍ مرتجف بالكاد يخرج:
ــ "قابلت ابن عمي النهارده... لأول مرة. عرفت إن ليا أهل في الصعيد. كنت فاكرة إن بابا قطع صلته بيهم، لكن الظاهر إن في حاجة أكبر من كده، حاجة خلّياه يبعدنا عنهم. أنا مش قادرة أصدق... ومش عارفة أروح ولا لأ. خايفة ألاقي هناك حاجة تخوفني... أو يجبروني على عيشة مش بتاعتي. أنا تايهة يا يونس، وخايفة."
كانت كلماتها تنزف من قلبها أكثر مما تُقال بلسانها. وجعها كان حاضرًا في كل حرف، في كل ارتجافة صوت، في كل شهقة صغيرة كادت تخنقها. لم تكن تتحدث فقط… بل كانت تتعرّى من خوفها أمامه، دون أن تدري.
ويونس… كان يُصغي بكل جوارحه. عيناه لا تفارق وجهها، كأن كل تعبير، كل لمحة حزن، كل ارتجافة رمش، تحكي له ما لم تستطع الكلمات أن تصفه. قلبه كان يتمزق وهو يراها هكذا، ضعيفة، مرتبكة، كمن يقف على حافة مجهول يخشاه ولا يستطيع تجاهله.
رآها للحظة كطفلة صغيرة تائهة وسط ضباب كثيف، تبحث عن يدٍ تمسك بها… فقرّر ألا يصمت بعد الآن.
نظر في عينيها مباشرة، نظرًا يشبه الاعترافات الصادقة التي لا تُخبأ، وقال بنبرة عميقة، مليئة بالصدق والعاطفة:
ــ "في حاجة مهمة كنت عايز أقولها... وأظن ده الوقت المناسب. عائشة... أنا بحبك."
الكلمة خرجت منه كأنها نبض قلبه، وسقطت عليها كرجفة كهرباء صامتة، أصابت قلبها قبل عقلها. توقّف الزمن للحظة، وانحبس النفس في صدرها، وارتبك عقلها عن استيعاب وقع الكلمة. احمرّ وجهها، شهقت شهقة خفيفة لكنها كاشفة… كاشفة لما فعلته تلك الكلمة بها، وللزلزال العاطفي الذي هزّها من الداخل.
أكمل يونس بصوت أصبح أكثر هدوءًا، لكنه أعمق، كأنه يحفر بالكلمات ممرًا إلى قلبها:
ــ "من أول يوم شفتك فيه، قلبي اختارك. كنت شايفك، شايف وجعك، وسكوتك، والتعب اللي ساكن في عيونك. كنت بتمنى أكون اللي يمسح دموعك، اللي يديكي أمانك. ما كنتش بقدر أتكلم، بس جوايا... كنت بحبك. بحبك بكل معنى الكلمة."
كانت دموعها على وشك السقوط، عيناها امتلأتا بلمعة لم تُعرف إن كانت من الألم أو من الدهشة أو من شيء جديد… الأمل. لم تصدق بعد أن هناك من رآها هكذا… بهذا العمق، بهذا الاحتواء.
اقترب يونس منها أكثر، ونبرته باتت تحمل رجاءً صادقًا، كأن كل ما فيه يستنجد بها أن تصدّق:
ــ "وافقي… وأنا هكون كل حاجة محتاجاها. راجل يشيلك فوق راسه، يحميكي، ويسندك. مش هسيبك لوحدك تواجهي أي حاجة. هكون دايمًا قدامك… وسند ليكي في ضهرك."
وأخيرًا، سقطت دموعها في صمت… لكنّها لم تكن دموع يأس، بل كانت مزيجًا غريبًا بين خوفٍ قديم وفرحة مفاجئة لم تكن تنتظرها.
تراجع يونس خطوة، محاولًا أن يتحكم في طوفان مشاعره، وقال بنبرة هادئة لكنها حازمة:
ــ "خدي وقتك، وفكّري. بس ما تروحيش تقابلي ابن عمك دلوقتي وإنتِ مش مرتاحة. لازم نعرف هو مين، وجاى ليه. مش كل اللي بيظهر فجأة بيكون خير."
ثم استدار، وخرج ببطء… لكنه ترك خلفه قلبه، تركه معها. كانت كل دقة في قلبه تنادي باسمها، وكل خطوة يبتعد بها، كانت تنزف منه شوقًا.
بعد لحظاتٍ قصيرة من الصمت، عادت مريم وخالتها إلى الغرفة، وعلى وجهيهما لمعة أمل ناعمة، كأنهما لمحتا فجرًا جديدًا يشقّ طريقه وسط ظلمة طال أمدها. كان في نظراتهما شيء من الطمأنينة، وشيء من الرجاء، كأنهما شاهدتا بأعينهما بارقة نجاة تلوح أخيرًا لعائشة
اقتربت الخالة وجلست إلى جوار عائشة، ثم مدّت يدها برفق وأمسكت بكفّها المرتجف بحنانٍ يشبه حنان الأمهات، وقالت بنبرة دافئة، تملؤها محبة خالصة وصدق لا يُشترى
ــ "يونس بيحبك بصدق، وده حب ما بيتشافش كل يوم. أنا شوفته وهو بيكبر، شايل مسؤولية أخته لوحده من غير شكوى، قلبه كبير، وجدعته أوسع من الدنيا. راجل... بألف راجل. وصدقيني يا بنتي، لو ما كانش يستاهلك، ما كنتش سكت، لكن الحقيقة... إنه نعمة، وإنتي تستاهليها.
كلمات الخالة تسللت إلى قلب عائشة بهدوء، كسِرب من الطيور البيضاء، تحطّ على أرضٍ ظلت قاحلة طويلًا. أحسّت بدفء غريب يجتاح صدرها، فمسحت دموعها التي ما تزال تبلّل وجنتيها، ثم وقفت ببطء، وداخلها مزيج من الهدوء والعزم
نظرت إليهم بعينين ما تزالان حائرتين، لكن فيهما ومضة يقين بدأت تنمو، وقالت بصوت مبحوح من البكاء، لكنه أكثر ثباتًا مما سبق:
ــ "أنا محتاجة أصلي... أستخير ربنا. هو الوحيد اللي يقدر يهديني للطريق الصح."
ثم خطت خطواتها ببطء نحو غرفتها، خطوات هادئة، لكنها تحمل معنى جديدًا لم تكن تعرفه من قبل. ولأول مرة، شعرت أن الظلمة من حولها بدأت تنحسر شيئًا فشيئًا... وأن في آخر هذا النفق البارد، هناك نور خافت… صغير لكنه حقيقي.
نور اسمه: "يونس".
**********
مرّ يومان...
وكانت عائشة غارقة في بحرٍ من التفكير، كل لحظة تمرّ كانت كفيلة بأن تعيد على مسامعها صوت يونس، وكلام خالته، ونظراته، وكل الأحاسيس التي بعثها في قلبها. قلبها كان يتقلّب بين الخوف والأمل، بين السعادة المرتقبة والقلق المجهول. كانت تصلّي كثيراً، تتضرّع إلى الله بكل جوارحها، تطلب الهداية، وتبكي بصمت وهي تسأله: "يا رب، أرشدني لما فيه الخير، وطمّن قلبي."
وفي إحدى لحظات السكون، وبينما كانت تسجد، شعرت بشيء غريب... راحة خفية تسلّلت إلى أعماقها، كأن أحدهم يهمس لها: "اطمئني... لقد اخترت الطريق الصحيح."
قامت من صلاتها وعلى وجهها ملامح هدوء لم تعرفه منذ أيام. مسحت دموعها، تنفّست بعمق، ثم أمسكت هاتفها بيد ترتجف قليلاً، لكن هذه المرّة لم يكن التردّد هو السبب، بل رهبة القرار... القرار الذي انتظرته روحها دون أن تعترف.
اتصلت بخالة يونس.
رنّ الهاتف مرّتين فقط، حتى جاءها صوت الخالة كعادته دافئاً حانياً، يحمل بين نبراته حباً صادقاً وحنان أم: ــ
"عامله ايه يا حبيبتي طمنيني عليكي "
تردّدت لوهلة، ثم ردّت بصوت خافت لكنه ثابت، مليء بالتصميم والهدوء:
"الحمد لله... أنا كنت عايزة أقولك حاجة... أنا... أنا موافقة... موافقة أتجوّز يونس."
سكتت الخالة للحظة، كأن الكلمات لم تستوعبها بعد، ثم فجأة، جاء صوتها مليئاً بالدهشة الممزوجة بالفرحة: ــ
"بِـجـدّ؟! بجد يا بنتي؟!"
ضحكت عائشة بخجل، والحرارة ارتفعت إلى وجهها، لكنها لم تتراجع، بل أكّدت بثقة: ــ
"أيوه... استخرت ربنا، وفكّرت كويس... وحسّيت إن ده القرار الصح. يونس إنسان محترم، وقلبه طيب، وأنا... مرتاحة له."
كان صوت الخالة يفيض بالبهجة وهي تقول: ــ
"يا حبيبتي، والله يونس هيطير من الفرحة! استني ثواني، أنا لازم أبلّغه دلوقتي حالاً، الخير لازم يتم بسرعة."
قلبت الخالة رقم يونس بسرعة، وكانت الفرحة تملأ روحها كأنها هي العروس.
في تلك اللحظة...
كان يونس جالساً في غرفته، شارد الذهن، مشاعره معلّقة بين الرجاء والقلق. كان كل شيء من حوله صامتاً، إلا صوت قلبه، الذي ينبض باسم عائشة. كل لحظة تمرّ كانت ثقيلة، والانتظار يُمزّق أعصابه.
وفجأة... رنّ الهاتف.
نظر إلى الشاشة، وحين رأى اسم خالته، توقف قلبه للحظة، شعر بحرارة تسري في أطرافه، ورفع الهاتف كمن يتهيأ لاستقبال مصير.
ردّ بسرعة، وصوته يحمل ارتباكاً وتلهفاً: ــ
"أيوه يا خالتي... خير؟"
وجاءه صوتها كنسمة دافئة تذيب القلق: ــ
"خير يا حبيبي... عائشة وافقت."
للحظة، لم يتنفس.
تجمّد في مكانه، وكأن الزمن توقف، ثم انفجر قلبه بالفرحة، وقفز واقفاً، ضحك وهو لا يصدق: ــ
"بجد؟ بجد يا خالتي؟! والله بجد؟"
ضحكت الخالة بفرحة أم تزوّج ابنها وقالت: ــ
"أيوه يا حبيبي، قالتلي بنفسها، ووشّها كان منوّر، ربنا يسعدكوا يا رب. وبتقول إنها جاهزة نبدأ في الترتيبات."
يونس دار حول نفسه في الغرفة، لم يكن يعرف أين يضع سعادته، صوته ارتجف وهو يقول: ــ
"يااااه... خالتي، أنا مش مصدق! قلبي هيطير من الفرحة! والله أنا هخليها أسعد واحدة في الدنيا."
ابتسمت الخالة وهي تقول: ــ
"وأنا عارفة ده كويس... يلا بقى نبدأ نشوف هنبتدي منين، الخير لازم يتم بسرعة."
تنهد يونس، وكأن جبلًا أزيح عن صدره، ثم قال بصوت خافت لكنه مليء بالحب: ــ
"هي مش بس وافقت، هي أنقذت قلبي... أنا مش هشيل عيني من عليها بعد كده، هتكون في عنيا."
وأغلق الهاتف، وهو يشعر وكأنه وُلد من جديد.
هكذا... بدأت حكاية جديدة بين يونس وعائشة، حكاية خيوطها من الصدق، وأرضها الطمأنينة، وسقفها الدعاء. حكاية كتبها القدر، ومهّد طريقها الحب.
*
فى اليوم التالي
في مكتب يونس، كان جالسًا على كرسيه الجلدي الوثير، ظهره مستندٌ للخلف، بينما عيناه تحدّقان بثبات في شاشة الحاسوب أمامه. ظاهريًا، يبدو منشغلًا، لكن الحقيقة أن ذهنه كان في مكان آخر تمامًا... أفكار متداخلة، شكوك تتصاعد، ومخاوف تطرق بابه بصمت لا يُحتمل.
رنّ الهاتف على المكتب، فقطع تيار أفكاره كصاعقة. مدّ يده بسرعة، رفع السماعة وردّ بنبرة صارمة خلت من أي مجاملة: ــ
"أيوه، وصلت لحاجة؟"
جاءه صوت رجله من الجهة الأخرى، ذاك الذي كلفه بالتجسس على زاهر الحديدي من داخل الشركة: ــ "أيوه يا باشا، وصلت لحاجة تقلب الموازين... زاهر الحديدي مش لوحده في اللعبة، عنده شريك جديد في مصنع الحديد والصلب."
يونس انتفض قليلًا، جلس إلى الأمام، نظراته تحوّلت من الشرود إلى التركيز الحاد، ونبرته غلظت كمن يتأهب لهجوم: ــ
"مين الشريك؟"
ساد صمتٌ قصير في الطرف الآخر، وكأن الرجل يتأكد من وقع اسمه قبل أن يلفظه، ثم قال بوضوح: ــ "ماجد... الجابري."
كأن تيار كهربائي اخترق جسده.
يونس شعر برجفة خفيفة تسري في أطرافه، عينيه اتسعتا، وشفتيه انفرجتا قليلاً في صدمة مكبوتة. ماجد؟ الاسم ارتطم بداخله كطلقة غير متوقعة.
أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا السيطرة على غليان داخلي بدأ يتصاعد. نبرته كانت مشحونة بالغضب والتحفّظ: ــ "إنت متأكد من المعلومة دي؟"
أجابه الرجل بثقة لا تحتمل الشك: ــ
"مليون في المئة، يا باشا. الأوراق اللي بتثبت الشراكة دي موجودة في ملفات المصنع، وشوفت ماجد بنفسي، داخل وبيتكلم مع العمال كأنه صاحب المكان."
سكت يونس، لكن في داخله كان عاصفة.
ماجد شريك زاهر؟
المعادلة بدأت تتضح في رأسه، وقطع من اللغز بدأت تتجمع أمام عينيه. كيف دخل ماجد إلى حياة عائشة فجأة؟ هل كانت خطة مدروسة؟ هل كان كل شيء موجه لهدف خفي؟
الشك تمدد في صدره كالأفعى، يلف على قلبه ويضغط على أنفاسه.
قال بنبرة حاسمة مشبعة بالحذر: ــ
"أنا عايز كل حاجة عن ماجد، من أول يوم اشتغل فيه لحد آخر خطوة عملها. عايز علاقاته، تحركاته، مشاريعه، أي حاجة تدينه أو تفتح لي طريق. وزاهر الحديدي كمان... راقبهوا كويس، خصوصًا تنقلاته الأخيرة، وحاولوا تعرفوا بيخطط لإيه."
ــ "تمام يا باشا، هجهز لك تقرير شامل في أسرع وقت."
أغلق يونس الهاتف ببطء، ثم أمسك القلم الموضوع على مكتبه، وراح يلفّه بين أصابعه بعصبية مكبوتة. عينيه كانتا زائغتين، تمتلئان بالتفكير والارتياب.
الشعور بالخطر تملّكه. لم يكن الأمر مجرد منافسة تجارية أو شراكة عابرة، بل هناك شيء أعمق، شيء مريب يتسلل بهدوء إلى حياته، وحياة عائشة بالذات.
وقف فجأة.
كأن جسده رفض الجلوس، وكأن قلبه صار يصرخ: "افتح عينك... الموضوع كبير!"
تنفس ببطء، نظر من النافذة بعينين لا تريان المنظر، بل تبحثان عن إجابة، عن خيط، عن الحقيقة المدفونة تحت ركام الأكاذيب.
ــ "أنا مش هسكت... لازم أوصل لنهاية اللعبة دي... قبل فوات الأوان."
كانت عائشة جالسة في غرفتها، عيونها تائهة في فراغٍ من الأفكار، لا تزال تشعر بتوتر خفيف من القرار الذي اتخذته، لكن في نفس الوقت كان هناك شعور غريب بالراحة يملأ قلبها، وكأنها للمرة الأولى تشعر بأنها تسير في طريقٍ نحو شخص قد يكون السند الحقيقي لها. لم تكن تعرف ما الذي سيحدث بعد، لكن قلبها كان يطمئن تدريجيًا على الرغم من القلق الذي يراودها بين الحين والآخر.
فجأة، رنَّ موبايلها. نظرت إلى الشاشة، وكان الاسم الذي ظهر أمامها هو "يونس". قلبها قفز بين ضلوعها، ضرب بقوة، ابتسمت لا إراديًا، ثم أسرعت لإخفاء ابتسامتها وعادت لتضع ملامحها الطبيعية، وردت بصوت هادئ حاولت فيه إخفاء التوتر: ــ "ألو؟"
من الجهة الأخرى، جاء صوت يونس، يحمل في نبرته فرحة حقيقية ونبرة حماسية لأول مرة تسمعها منه، كانت كأنها سعادة خالصة: ــ
"عائشة، مش مصدق إنك وافقتي! أنا طاير من الفرحة!"
أحست بحماسه ينتقل إليها، وضحكت بخجل، شعرت بسعادة غامرة، لكن أيضًا شعرت بشيء من الخوف، اختلطت مشاعرها في لحظة واحدة وقالت: ــ
"ربنا يفرح قلبك دايمًا يا يونس."
يونس ابتسم من أعماق قلبه، لكنه كان يعلم أن هناك أمرًا أكثر أهمية يجب أن يخبرها به، فعدل نبرته، وزادت الحماسة في صوته: ــ
"بصي بقى، كتب الكتاب بعد يومين، اتفقنا!"
فجأة، صعقتها المفاجأة، شهقت بسرعة، خفقات قلبها تسارعت، وقلوبها بدأت تدق بعنف: ــ
"إيه؟! بعد يومين؟! يونس، إنت بتهزر؟ أنا مش هقدر أجهز أي حاجة!"
يونس ضحك بمرح، كان يستمتع بمفاجأتها وخوفها، لكنه بسرعة طمأنها، صوت قلبه كان مليئًا بالحنو والطمأنينة: ــ
"متقلقيش من حاجة، أنا هجهز كل حاجة، وكل اللي عايزاك تعمليه إنك تبقي مبسوطة ومستعدة لليوم ده... ولازم كتب الكتاب يكون قبل سفرك للصعيد، مش هسيبك تروحي هناك وإحنا لسه مش متجوزين."
عائشة ظلت صامتة للحظة، كلمات يونس كانت تتردد في ذهنها. قلبها كان مشوشًا بين رغبتها في الاطمئنان وقلقها من سرعة الأمور. فكرة السفر كانت تخيفها، لكن شعورها بأن يونس بجانبها يدفع عنها الكثير من الخوف.
قالت له، بصوت هادئ لكن فيه قلق واضح: ــ
"بس برضه، بعد يومين دي حاجة سريعة قوي، ما فكرتش نأجل شوية؟"
يونس كان رده سريعًا وثابتًا، نبرة صوته كانت حازمة، وكأن قراره قد اتخذ بلا رجعة: ــ
"لا لا، مفيش تأجيل، وإنتي عارفة إني لما بقرر حاجة، بعملها! وبعدين ده مش فرحنا، كتب الكتاب بس، لكن الفرح... هعمله لك فرح مش عادي، الناس كلها هتتكلم عنه، عشان الكل يعرف إن عائشة بقت مراتي."
عائشة ابتسمت من قلبها، شعرت بحماسه، وكلامه نفذ إلى أعماقها، جعلها تشعر بشيء من الارتياح، لكن جزءًا منها كان لا يزال متوترًا من سرعة الأحداث. لكنها لم تجد لنفسها حجة لتتراجع، قلبها بدأ يتأقلم مع القرار، وحينما فكرت أكثر، أدركت أنه ليس خوفًا، بل نوع من التردد الطبيعي. هل هي مستعدة حقًا للخطوة التي طالما حلمت بها؟ لكن وجود يونس بجانبها، في اللحظة الحاسمة، جعلها تذهب مع قلبها.
أخذت نفسًا عميقًا، وهدأت من نفسها، وقالت له بهدوء، ولكن بتصميم: ــ
"خلاص يا يونس، مدام ده قرارك، يبقى على خير إن شاء الله."
يونس ضحك بصوت مرتفع، في فرحة عارمة، ثم قال بحماس: ــ
"يا بنتي ده قرارنا إحنا الاتنين، وإن شاء الله هيكون أحلى يوم في حياتنا."
عائشة ضحكت بخفة، وكان في ضحكتها شيء من التوتر المختلط بالراحة، وقالت: ــ
"ربنا يستر بقى."
يونس ضحك بصوت عالٍ وقال: ــ
"ربنا يستر؟! ده ربنا هيبارك لنا يا بنتي، وأنا هخليكي أسعد واحدة في الدنيا!"
أغلقت المكالمة، ولكن قلب عائشة كان يدق بسرعة غير معتادة، كان إحساسها غريبًا، ليس خوفًا ولا ترددًا، بل إحساس جديد تمامًا. شعرت وكأنها لم تعد وحيدة، كما لو أن في حياتها شخصًا قد قرر أن يسير بجانبها، يساندها، ويأخذ بيدها في كل خطوة، وكان هذا الإحساس يجعل قلبها يطمئن أكثر من أي وقت مضى.
*********
في نهاية اليوم، دخل يونس إلى البيت وعيناه تتلألأان بوضوح، لمعة السعادة فيهما كانت لا تخطئها عين. قلبه يخفق بقوة، وكأنه لا يحتمل الانتظار للحظة إضافية قبل أن يُبلغ خالته بالخبر السعيد. كان يشعر بأنه اقترب أخيرًا من تحقيق الحلم الذي راوده لسنوات، وبأن الخطوة الفاصلة أصبحت على بُعد أنفاس منه... عائشة ستكون في حياته رسميًا.
دخل إلى الصالة فوجد خالته جالسة على الأريكة، تتنقل بين القنوات في فتور، ولكن ما إن وقع نظرها عليه ورأت تلك الابتسامة الواسعة التي تملأ وجهه، حتى انتبهت أن هناك شيئًا غير عادي قد حدث. رفعت حاجبها بدهشة وقالت بنبرة فضولية ممزوجة بالترقب: ــ
"مالك يا يونس؟ وشك منوّر كده ليه؟ شكلك فرحان بزيادة!"
اقترب منها بخطواتٍ حماسية، جلس أمامها، وكأنه لا يريد أن يضيع لحظة، ثم قال بصوتٍ تغلّفه السعادة: ــ "أنا قررت، كتب الكتاب هيكون بعد يومين."
اتسعت عينا خالته في صدمة، سقط الريموت من يدها دون أن تشعر، وأخذت تنظر إليه بدهشة حقيقية: ــ "بعد يومين؟! إنت بتتكلم بجد؟! إيه الاستعجال ده كله يا ابني؟"
ابتسم يونس، ولكن نبرة صوته هذه المرة كانت أكثر جدية، وكان فيها تصميم واضح لا يقبل الجدال: ــ "أيوه بتكلم بجد، أنا عايز عائشة تبقى مراتي بأسرع وقت. مفيش حاجة تستدعي التأجيل. إحنا اتفقنا، وكل الناس عارفة. نكتب الكتاب ونرتاح."
خالته نظرت إليه نظرة طويلة، محاولة أن تتعمق فيما وراء كلماته. شعرت أن هناك شيئًا يخفيه، شيء لا يقوله بوضوح، فقالت له وهي تمعن النظر في وجهه: ــ "يونس... أنا مش ضد الجواز ولا السرعة، بس في حاجة في نبرتك مش مريحة. في حاجة مزعلاك؟ في حاجة وراك؟"
سكت يونس للحظة، شعر بأنه لا يريد أن يقلقها، لكنه في الوقت نفسه لم يُرِد أن يخفي عنها قلقه. نظر إليها بعينين فيها حنو وخوف متداخلان، وقال بصوت خافت لكنه واثق: ــ
"بصراحة... أنا مش مرتاح لفكرة إن عائشة تسافر الصعيد وهي لسه مش مراتي. مش مرتاح أسيبها لوحدها. عايز أبقى جنبها، في أي خطوة، خصوصًا إن السفر ده... مقلقني. وجودي معاها هيدّيها قوة وهي محتاجه ده دلوقتي أكتر من أي وقت."
نظرت إليه خالته بتمعن أعمق، وكأنها بدأت ترى ما كان يخفيه. لم يكن فقط شابًا متحمسًا للزواج، بل كان رجلاً يحمل الخوف على من يحب، يحاول بكل طريقة أن يحميها. رأت في عينيه توترًا خفيفًا، وحرصًا عميقًا.
ابتسمت بحنان، وهزت رأسها وقالت بصوت مليء بالعطف: ــ
"إنت بتحبها بجد يا يونس، مش كده؟"
تنهد يونس، وضحك ضحكة خافتة، ثم قال بصوت دافئ خرج من أعماق قلبه: ــ
"أكتر مما تتخيلي يا خالتي... عائشة مش مجرد حد بحبه. دي بقيت حياتي. وجودها جنبي بيكملني... ومقدرش أسيبها تواجه حاجة لوحدها، مش بعد اللي عدت بيه، ومش بعد ما بقت جزء مني."
شعرت خالته بقشعريرة خفيفة تسري في قلبها من صدق كلماته، نظرت إليه بإعجاب، وحسّت أن عائشة محظوظة جدًا إن في حياتها حد زي يونس. فهزّت رأسها مرة أخرى وقالت بحب ورضا: ــ
"ربنا يسعدكم يا ابني... وأنا معاك. نجهز كل حاجة بسرعة عشان اليوم ده يعدي على خير ويبقى بداية جديدة ليكم."
ابتسم يونس براحة لأول مرة منذ أيام، شعر وكأن ثقلًا كان على صدره وانزاح. الأمور بدأت تتحرك في الاتجاه الصحيح، وخطوته المقبلة صارت أقرب مما ظن.
خرج من الغرفة وعيناه مليئتان بالأمل، وقلبه ينبض بحلمٍ أصبح أقرب إلى الحقيقة.