رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثامن 8 بقلم سيلا وليد

 

 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثامن بقلم سيلا وليد



لم تعد العودة حلمًا،صارت محاكمة.
عاد كل شيء كما كان، إلا القلوب… كل قلب منهما عاد مكسورًا أكثر، غريبًا أكثر، أبعد من المسافة، وأقسى من الغياب.

كانت تظن أن الحب يكفي، لكنه أصبح هو الجرح.
وكان يظن أن وجودها حياة، حتى وجد نفسه يتمنى ألا يراها، حتى لا يتذكر كم انكسر بسببها.

كل الطرق بينهما مغلقة…
هي تهرب منه، وهو يطاردها بوَجعه…
هي تموت في صمت، وهو يصرخ كي يسمعها…
ولا أحد يفهم لغة الآخر.

لم يكن غيابها خيانة، ولم تكن قسوته كُرهًا…
كل شيء بينهما مجرد “حُب موجوع”، يبحث عن مخرج، ولا يجده.

تخيّل أن تكون الأم غريبة في عين ابنها…
وتخيّل أن يرى الأب طفلته تخشاه بدلًا من أن تركض إليه…
هذا ليس مشهدًا دراميًا، هذه كانت النهاية… أو البداية الجديدة للإنكسار.

في هذه الحكاية… لن تسأل من المخطئ، بل ستسأل: من سيتحمّل الوجع أكثر؟

زجَّها بعنف وهو يقبضُ على عنقها، يصيح بغضبٍ مجنون:
- اخرسي بقى!..اخرسي!.

قالها ودموعهِ تنزف رغماً عنه، لم يرَ أمامه سوى قهره، وقهرة طفله، داخله يئنُّ بصمتٍ طيلة هذه السنوات، بعدما تركتهم مضغةً لأنيابِ وجع الفراق..
فجأة...
تسمَّر في مكانه، وكأنَّ القدر يسحقه بلا رحمة، حينما انفتح الباب ببطء، واندفعت شمس باكية، تبحثُ كالتائهة، وتنادي بصوتٍ مرتجف:
- ماما!.

تراجع مذعورًا سريعًا، وشعر وكأنَّ روحهِ انتُزعت من بين ضلوعه، عيناه لا تصدقانِ ما تراه من حالة ميرال الشاحبة، دلَّكت عنقها محاولةً أخذ أنفاسها مع دموعها التي تقاذفت كالشلال..

اقتربت الطفلة تصرخُ باسمِ والدتها، بينما كانت ميرال على وشك فقدانِ وعيها، ورغم الألم الذي تشعر به بعد انسحاب أنفاسها، نعم فلقد شعرت بلحظةِ الموت التي كانت ستؤدي إلى هلاك كليهما، لولا دخول ابنتها بتلك الهيئة...
رفعت عينيها الدامعة إلى إلياس الذي يطالعُ ابنته التي توقَّفت على بعد خطواتٍ ينظر إليها بوجهٍ شاحب، هنا
أدمى قلبها على حالته.. 

لم تفكِّر، لم تتردَّد..
ارتمت في أحضانه، تدفنُ رأسها بصدره، تحاول التقاط أنفاسها، تتوارى عن نظراتِ طفلتها التي ظلت متسمِّرة مكانها تنظر إلى والدها بصمت..

أمَّا هو، فقد ظلَّ واقفًا بجسدٍ متخشِّب، وعينين متسعتين، ميت الحسِّ والشعور، يشاهد نظرات طفلته وهي تخترقهُ كالسهام القاتلة.

اقتربت الصغيرة بخطا متردِّدة، دموعها تلمع في عينيها الواسعتين، ثم نادت بصوتٍ متهدِّج:
- ماما؟ قالتها ومازالت نظراتُ الكره موجهة إلى إلياس. 

رفعت ميرال رأسها أخيرًا، بعد أن هدأت أنفاسها قليلًا، وما زالت بين ذراعي إلياس، 
اقتربت الصغيرة، ورفعت عيناها إلى ذراع والدتها التي تلفُّهُ حول عنق الياس، مدت كفَّها لتمسك يد والدتها الملتفَّة حول عنقه وهمست ومازالت تنظر إليه :
- دوَّرت عليكي..كنتي فين؟

قالتها وهي تجذبها بعيدًا عن إلياس، الذي ظلَّ جامدًا في مكانه، عيناه جاحظتان، لا يشعر بشيء سوى نار سوداء داخله تريد أن تحرق الأخضر واليابس بما يشعر به..
سؤال يصفعه بقوة:
هل حقًّا كنت سأقتلها؟!..
تراجعت ميرال إليه بعدما وجدت جموده:
-إلياس..
ولكنه ظلَّ واقفًا كالجثة، لا صوت، لا حراك، لا حتى شهقة واحدة تفضح عمق ماتمرُّ به روحه.
التقت عيناه بنظراتِ طفلته وكأنها تُحاسبه، تُعاتبه بصمتٍ موجِع.

اقتربت منه وأمسكت كفِّه في محاولةٍ للخروج ممَّا يشعر به، وهمست برجاء:
-إلياس..رد عليَّا. 
تركت كفَّ ابنتها وحاوطت خصره، في محاولةٍ لبثِّ الطمأنينة بعد تلك اللحظات العصيبة.
-خلاص..شمس ماشفتش حاجة
قالتها بهمسٍ مميت، شعرت بأنفاسهِ تتسارع، ودموعه تسقط فوق جبينها، ورغم ذلك لم ينطق، لم يبرِّر، لم يدافع، فقط ظلَّ يحتضنُ صمته..
دلفت المربية بعد طرقها على الباب الذي تركته شمس مفتوح: 
-آسفة يامدام، هيَّ سألتني عن أوضتك، ورحت أجب لها لبن.. 
ابتعدت ميرال عن إلياس واقتربت من طفلتها: 
-مش شمس بتحبِّ ماما قدِّ البحر؟أ
أومأت لها الطفلة، فأشارت ميرال إلى المربية:
-يبقى نسمع كلام أنطي. 
-أنطي..تمتمت بها الطفلة بجهل..انحنت تقبِّلها وقالت:
-روحي مع النانا حبيبتي، وأنا بعد شوية هجيلك. 

رفعت رأسها تنظر إلى إلياس الذي مازال بمكانه وعيناهُ عليها فقط ثم أشارت عليه:
-وعمُّو دا هنا بيعمل إيه؟.
أشارت ميرال إلى المربية: 
-خديها، وأنا شوية وجاية. 

أومأت المربية التي وقفت تنظر إلى إلياس للحظات، ثم حملت الطفلة بعدما قالت:
-هستناكي ياماما. 
أومأت لها بحنان وابتسامة حزينة حتى أُغلق الباب..استدارت للذي كان واقفًا، ثم اقتربت منه:

-إلياس.. 

كان جامدًا صلبًا لا يشعر سوى بالغضب والكره مما وصل إليه بسببها، احتوت كفَّيه:
-إلياس..اتَّجه بنظره إليها وهمس بتقطُّع: 
-أنا كنت هقتلك؟!.
قالها بضياع..وضعت كفَّها على فمه:
-غلطة صدَّقني، أنا آسفة، آسفة، شوفت وصَّلتك لإيه.. 
-ليه بتعملي كدا، عملت فيكي إيه؟.أنا حبِّيتك. 
-وأنا والله..والله حبيتك أوي، ومستعدة أضحِّي بنفسي علشانك. 
-اخرسي..هوَّ إنتي مابتزهقيش من الإسطوانة دي..

دار حولها كذئبٍ حبيس يشعر وأنه مكبَّل بأصفادٍ من نيران، كلَّما تذكَّر نظراتِ ابنته..مسح على وجههِ بعنف ورمقها بنظرةٍ كادت تحرقها:
-عمري ماهسامحك على اللي عملتيه، اقترب خطوةً منها وغرس عينيه بمقلتيه: 
-خلِّيكي زي ماإنتي يابنتِ راجح، خلِّيكي مريضة بضعفك وأوهامك، بس عند ولادي أرميكي وأدوس عليكي.. 
أه مابقتيش تلزميني، وجبتك علشان الولاد، ولو عايزة تمشي مش همسكك، ولا أجري وراكي تاني، اقترب خطوةً أخرى حتى اختلطت الأنفاس: 
-وحياة كسرتي السنين اللي فاتت دي، وكسرتي قدَّام بنتي لأعلِّمك درس حياتك، وزي ماقولتي ميرال ماتت، واليأس بتاع زمان مات، ولو سمعت صوتك في البيت دا هدفنك، تقعدي بشروطي ياأما تغوري في داهية، روحي للحواري اللي تشبهك.

تعلَّقت أعينها التي أصبحت كالشلال، بأعينهِ النارية الغاضبة بصمت، وكلماته التي أحرقت نبضها، ورغم ماتشعر به لم تهمس حتى بحرف.. تركته يلقي كلَّ مابجوفه، لأنها تعلم أنَّها أخطأت..
أصابه الجنون من صمتها، قبض على أكتافها بغضبٍ عنيف وهدر بحدَّة:
-يبقى موِّتي نفسك بقى، يامزيَّفة..قالها ودفعها بقوة بعيدًا عنه، وخرج كالمارد الذي يريد إحراق الكون.. 

ظلَّت لدقائقَ بمكانها، مع ارتجاف جسدها بالكامل، لحظات بل دقائق وهي ترتجفُ كالذي يقف فوق جبالٍ من الثلج..صامتة، جامدة، بطريقةٍ كادت أن تفقد حياتها.

تراجعت بصعوبة إلى فراشها، وتمدَّدت تحتضنُ جسدها كالجنين، وكلماتهِ تحرق روحها قبل أذنيها، أغلقت عينيها تدعو بداخلها:
"يارب مقومشِ تاني من نومي، يارب لو بتحبِّ عبدك ريَّحني من الحياة، أنا ضعيفة يارب، تولَّاني برحمتك"
همست بها مع دمعة أخيرة انبثقت من جفنيها، لتذهبَ بنومها كالذي لم يعد لديه قوَّة للحياة..

بغرفته هوى على فراشه وأنفاسهِ كادت تصمُّ أذنه، جراح هستيرية تصدحُ ملطَّخةً بسوادِ مايشعر به، تؤنِّب روحه المجروحة ممَّا قاله..

حرب شعواء بين قلبه الذي يدمي، وعقله الذي يحافظ على كبريائه، جلس متجمِّدًا يحاول أن يمنع دموعه كلَّما تذكَّر نظراتها المريبة وهي تطالعه بدموعها..
جُنَّ جنونه وهو يتخيَّل أن تصيب نفسها بالأذى، هبَّ من مكانه بعد دقائق كادت فيه أن تخرج روحه لبارئها واتَّجه سريعًا لغرفتها.. 
فتح الباب وجد الغرفة كما تركها، بحث عنها بأنفاسٍ مختنقة حتى وقعت عينيهِ على نومها بتلك الطريقة التي انقبض لها صدره..ظلَّ لدقيقتين بمكانه وعيناه تراقب كلَّ إنشٍ بها، علَّها مستيقظة وتفتحُ عيونها، ولكن خاب أمله، تحرَّك بصعوبة إلى نومها، ظلَّ واقفًا يتابع أنفاسها المنتظمة، هنا انهارت جبروته ولم يتبقَّ من شخصيته سوى الحنان والحب، انحنى على ركبتيه أمامها يمسِّدُ على خصلاتها بحنان، مرَّر أناملهِ على وجهها الشاحب والاسمرار الذي أكل تحت جفونها، دفن رأسه بصدرها: 
-ليه تعملي كدا، قصَّرت معاكي في إيه، ليه عملتي فينا كدا؟!..بتضحكي عليَّا ولَّا على نفسك، دا شكل واحدة كانت مرتاحة؟.. 
رفع رأسه منتظرًا ردَّها ولكنها غابت في غيبوبتها كعادتها بأيامها منذ خروجها من بيته..
-ميرال..همس بها، ولكن لا يوجد رد كأنَّه وحيدًا بالغرفة، هَّزة عنيفة أصابته وكلمات ابنته: 
"ماما كلِّ شوية توقع ياتيتا"
انهارت حصونهِ بالكامل وأجهش ببكاءِ رجل قهرته الظروف..

رفع كفَّيها وطبع قبلةً حنونةً فوقهما 
"آسف "..قالها مع طرقاتٍ خفيفة على باب الغرفة، ثم دخول يوسف بخطواتٍ متردِّدة.. 
التفت ليرى من الذي دخل، وجد طفله، أزال دموعهِ سريعًا ونهض من مكانه.. 
اقترب يوسف منه ينظر لوالدته:
-هيَّ نامت ولَّا إيه؟!
هزَّ رأسهِ بصمت واستدار ليغادر الغرفة حتى لا يرى ابنه ضعفه، ولكنَّه أوقفه: 
-بابا..تجمَّد بوقوفه، ليقتربَ يوسف منه:
-ليه ماما عملت كدا، ليه بعدت وليه رجعت تاني، وليه مش عايزة تعيش معانا، هيَّ مابتحبِّناش زي ماخالتو رؤى قالت؟..
هنا التفت إليه سريعًا، ورفع سبَّباته ينظرُ لطفله بغضب:
-إنتَ مش صغير وتعرف تميِّز الصح من الغلط، وقولت لك من زمان خالتك بتبني أوهام علشان تاخد مكان مامتك، بس إنتَ ملكش غير أم واحدة بس، ومفيش حد بيحبَّك وبيخاف عليك قدَّها، وإنتَ عارف ومتأكِّد من كلامي، بدليل واحدة في مكانتها راحت اشتغلت دادة علشان تبقى قريبة من ابنها، عايز أكتر من كدا دليل ياأستاذ..
اقترب منه يهزُّ رأسه بالنفي ثم قال:
-طيب ليه مشيت يابابا، وليه قولتوا إنَّها ماتت؟!.أنا كنت جاي أسألها ليه تعمل كدا.. 

تنهَّد بصمت وراحت نظراتهِ إلى نومها، ثم اتَّجه إلى ابنه: 
-لمَّا تكبر حبيبي هتعرف، انتَ كبرت أه، بس مش السنِّ اللي يفهم اللي ماما بتعانيه..
اقترب من والده وأمسك كفِّه:
-يعني حضرتك لسة بتحبَّها، يعني مش هتزعلَّها؟..بابا أنا بحبِّ ماما أوي، حتى بعد ماسابتني مقدرتش أكرهها، وتيتا قالتلي مهما أشوف أمَّهات بس مش زي مامتي، أرجوك يابابا، ازعل منها بس مش كتير، هيَّ كانت بتسأليني دايمًا عليك، وطلبت منِّي مزعَّلكش أبدًا، لأنَّك بتحبِّني أكتر واحد في الدنيا، يعني مرَّة بحكي لها إنَّك زعَّقتلي، قالتلي من خوفه عليك، مهما يعمل دا هيكون أمانك الأوَّل..ماحاولتش ولا مرَّة تقولِّي حرف واحد وحش عنك..

أطبق على جفنيه يهمسُ لنفسه:
-ليه مقولتليش يايوسف، إزاي قدرت تقعد مع واحدة غريبة فترة كبيرة زي كدا ومتقولِّيش؟.

-خفت..هزَّ رأسه وهو ينظر لوالده وأردف بتقطُّع:
-خفت تحرمني منها، وأنا شعوري بيقولِّي الستِّ دي فيها حاجة كبيرة من ماما، وأهو زي ماحسِّيت طلعت هيَّ..

مسَّد على خصلاته: 
-متعملش كدا تاني، يالَّه روح نام علشان عندك مدرسة، وخفِّف شوية من تعامل لك مع ماما، أنا عرفت إنَّها حاولت تكلِّمك وإنتَ رفضت.
-هيَّ بالسرعة دي اشتكيت لك؟.
رسم ابتسامةً حزينة، ثم اتجه بنظره إليها: 
-لأ..أنا شوفتها وهيَّ خارجة من أوضتك..
سحبه من كفِّه وقام بإغلاق الإضاءة: 
-الصبح عايزك تقرَّب من أختك.
-أختي!..قالها بعدما توقَّف.. 
سحب إلياس نفسًا بهدوء ثم طرده: 
-أيوة عندك أخت اسمها شمس.
مش فاهم يعني إيه؟.
تحرَّك إلياس متجهًا إلى غرفته وهو يقول:
-بكرة نتكلِّم..تصبح على خير. 
بينما ظلَّ يوسف متوقِّفًا بمكانه، واتجه بنظره إلى غرفة والدته التي أغلقها يهمس: 
"أنا عندي أخت"!..يعني ماما اتجوِّزت تاني ولَّا إيه؟.

في صباح اليوم التالي..

دلفت ميرال غرفة ابنتها بهدوء، تتأمل ملامحها المنكمشة وهي تجلس بجوار المربية، تحاول التحدُّث معها، لكنَّها  انزوت في أحد الأركان تبكي وتصيح مطالبةً بوالدتها..

أشارت ميرال بصوتٍ خافت:

– سبيني معاها شوية.

أومأت المربية:
-آسفة يامدام، من وقت ماصحيت وهيَّ كدا، وكلِّمت الباشا كتير، بس مابيردش على تليفونه.
هزَّت رأسها وعيناها على ابنتها قائلة:
-روحي شوفي يوسف فطر ولا لأ. 
-لأ..يوسف بيفطر مع باباه، ومش بيفطروا دلوقتي، لسة قدَّامهم ساعة كمان هو بلغني مش هيروح المدرسة النهاردة 
كانت تستمع إليها بقلبٍ ينزف، لقد تغيَّر كلَّ شيء عما كان، ياالله كيف سأتأقلم على ذلك الواقع المرير، رفعت عينيها لمربية أطفالها:
-سبيني شوية مع شمس. 
أومأت بطاعة وخرجت دون أن تنطق بكلمةٍ أخرى، اقتربت ميرال وجلست بجوار طفلتها، فتحت ذراعيها بصمت، فما كان من الصغيرة إلَّا أن ألقت بنفسها في أحضانها، وهتفت بنشيجٍ وأنفاسٍ متقطِّعة:

– إنتي كنتي فين؟ دوَّرت عليكي كتير..كتير أوي.

شدَّت ميرال خصلات ابنتها إلى صدرها، تُقبِّل رأسها بحرارة: 

– حبيبتي، أنا هنا، ليه العياط دا، شموس القمر شاطرة، ولازم تعتمد على نفسها، مش كدا ولَّا إيه؟. 
راقبت والدتها بصمت، رسمت ميرال ابتسامة وهي تمسِّدُ على خصلاتها:
-ممكن نتكلم شوية؟ ماما متأكدة إنك كبرتي وهتفهمي، صح؟

أومأت شمس بصمت، وعيناها تتأملان أمَّها ..أشارت ميرال إلى الغرفة من حولها:

– إيه رأيك في أوضة أميرة ماما؟ مش حلوة؟

مطَّت الطفلة شفتيها، وهزَّت كتفيها قائلة:
– بس بيتنا هناك أحسن ياماما..تيتا نعيمة وحشتني أوي، إنتي ليه جبتينا هنا؟.

أغمضت ميرال عينيها وتنهيدةً ثقيلة كثقلٍ جبلٍ أخرجتها، ثم أمسكت بكفِّ الصغيرة تُقبِّله:

– إنتي فاكرة صورة بابا؟

هزَّت شمس رأسها بحماسة طفولية، ثم نهضت فجأة، وركضت نحو حقيبتها تبحث فيها حتى أخرجت دميتها، فتحت جيبها الصغير وأخرجت منه سلسالًا ذهبيًا صغيرًا، فتحته، وأخرجت منه صورة:
– هو ده..مش دي صورة بابا؟

تناولت ميرال الصورة منها بيدينِ مرتعشتين، نظرت إليها وكأنَّ قلبها سقط منها قبل عينيها، شهقت بلا صوت، وتجمَّد جسدها وهي تتأمَّل ملامحه..
– أيوه..هو.
رفعت عينيها نحو طفلتها:

– بس الصورة دي..مش شبه حد شفتيه قبل كده؟

هزَّت الصغيرة رأسها ببطء، ثم همست:

–  إزاي شبه؟ وإنتي قولتيلي إنِّ بابا مسافر بعيد ومش هييجي..أنا قلت كده للميا، فقالتلي هوَّ عند ربنا، هوَّ بابا عند ربنا ياماما؟.

ارتجف قلب ميرال، وانسابت عبراتها بغزارة، وهزَّت رأسها سريعًا:

– لأ، لأ ياقلبي، بعد الشرِّ عليه، أوعي تقولي كده تاني ياشمس، بابا كويس، وهوَّ أحسن بابا في الدنيا.

حدَّقت شمس فيها، ثم قالت بصوتٍ خافت:
بس أنا مش بحبِّه ياماما، علشان هو شبه عمو اللي بيزعق

شهقت ميرال وكأنَّ كلماتها صفعَتها، وشعرت بانسحاب روحها من بين أضلعها، ذُهلت تنظر إلى ابنتها، تتفحَّصُ ملامحها الصغيرة كأنها تنكر ماسمعت:

– ليه بتقولي كده حبيبتي؟!.مش كنتي دايمًا تسألي عليه، وعايزة تشوفيه؟
– هوَّ مش عايز شمس، وشمس كمان مش عايزة بابا، شمس خلاص مالهاش بابا.

قالتها الصغيرة، ثم نهضت من مكانها تصرخ:
– عايزة أرجع بيتنا..البيت ده وحش، أنا مش عايزة أفضل هنا..

اخترقت كلماتها صدر ميرال كخناجر، حتى شعرت وكأنَّ أحدهم يُطوِّقها بطوقٍ من النار..شهقت، وانهارت دموعها من جديد، لكنَّها لم تمنع نفسها من أن تبكي بصوتٍ مسموع، حتى اقتربت الصغيرة منها مرةً أخرى بهدوء، ومسحت دموعها بكفِّها.

بفيلا السيوفي.. 
جلست على مصلَّاها بعد انتهاء صلاة الضحى، تذكر ربها لبعضِ الدقائق، ثم رفعت كفَّيها تدعو لأبنائها..استمعت إلى طرقاتٍ على باب الغرفة، دخلت غادة: 
-ماما فاضية؟. 
أشارت لها بالدخول، دلفت للداخل مبتسمة وانحنت تقبِّلُ جبينها: 
-صباح الخير ياستِّ الكل. 
-صباح الورد حبيبتي، إيه رايحة الشغل؟. 
جلست بمقابلتها على المقعد وأجابتها: 
-لأ حبيبتي، أخدت إجازة النهاردة، إلياس قالِّي إمبارح أقضي اليوم النهاردة مع ميرال، حضرتك عارفة الوضع مش أحسن حاجة.. 
تنهدت بتثاقل وقالت:
-ربنا يهديه، أنا خايفة من سكوته دا، كويس إنِّك هتروحي هناك، كنت قلقانة على ميرال، طلبت من أرسلان يراقب الوضع بينهم. 
نهضت غادة وجلست أمامها: 
-ماما تفتكري ممكن يعمل إيه في ميرال؟..أنا حاولت أتكلم معاه إمبارح ورفض، كل اللي قاله بكرة الصبح تيجي، خايفة ليعمل زي مارؤى قالت.. 

ضيَّقت فريدة عينيها باستفهام:
-ليه، رؤى قالت لك إيه؟.. 
-بتقول هيطلَّقها.
شهقت فريدة تهزُّ رأسها بالنفي: 
-لأ، حبيبتي، عمره مايعملها، إنتي شايفة كان عامل إزاي وهي مختفية، لا لا..متأكدة أنه مش هيعملها، دا بيموت فيها، أه ممكن يخبِّي بس عيونه فضحاه، غير ولاده، لا لا..رؤى دي هبلة حد ياخد على كلامها.. 
حمحمت غادة بتردُّد، ثم نظرت إليها وقالت بتلعثم:
-فيه موضوع عايزة أقوله لحضرتك.. 
طالعتها فريدة بصمت، منتظرة بقية حديثها:
-رحيل مرات يزن، إمبارح قالت كلمتين على رؤى مش عجبوني. 
زوت فريدة مابين حاجبيها متسائلة:
-قالت لك إيه يعني؟. 
قصَّت لها ماصار..صمتت فريدة لدقائقَ بشرود، وبعض المشاهد تصفعُ ذاكرتها، أخرجتها غادة حينما توقَّفت وقالت:
-محتاجة حاجة؟. 
-لأ ياحبيبتي، خلِّي بالك من مرات أخوكي، وحاولي تهدِّي ميرال لو إلياس اتعصب عليها، فهِّميها حالته كانت إزاي..

بمنزلِ يزن..
دفعت الباب بخفَّة ودلفت إليه، كان منكمشًا على مقعده، يحتضنُ رأسه بكفَّيه كأنَّما يحملُ أثقال العالم فوق كتفيه..تقدَّمت نحوه بخطواتٍ وئيدة، ثم سحبت مقعدًا وجلست قبالته:
-يزن..
رفع رأسهِ ببطء، عينيه غائمتينِ بالحزن..

ـ صاحي طول الليل؟.
تنهد، ثم سحب عينيه ونظر بعيدًا قائلًا بنبرةٍ خافتة:
ـ ماجاليش نوم..كنت بخلَّص شوية شغل.

مدَّت كفَّها وربتت على يده برفق:
ـ حبيبي..هوِّن على نفسك، أزمة وهتعدِّي إن شاء الله، الدنيا هتهدى... وإلياس هيعرف غلطه..

أومأ بصمت، ثم مدَّ يده لعلبةِ السجائر، لكنَّها سبقته وأمسكت بها قائلة:
ـ قوم نفطر..بلاش تدخين على الصبح.

بسط كفِّه وملامح وجهه ترتسمُ بالحزن وقال:
ـ هاتي يارحيل..مليش نفس.

نهضت وسحبت ذراعه بلطف:
ـ قوم حبيبي، الولاد صحيوا وعايزين يفطروا قبل المدرسة.هزت رأسها ومدت كفيها 
-ياله بقى، مش هنفطر من غيرك

وقف بجانبها يحيط كتفيها، واتجها معًا إلى غرفة الطعام..في تلك اللحظة، دخلت رؤى بخطا هادئة وألقت تحية الصباح:
ـ صباح الخير.

ـ صباح النور ياحبيبتي، قالها يزن وهو يجذب المقعد، بينما ردَّت رحيل وهي تلتفت نحو الباب:
ـ هوَّ طارق لسه نايم؟

جلست رؤى على المقعد وقالت بفتور:
ـ مرجعش أصلًا..أنا بايتة لوحدي.

قطَّب يزن حاجبيه، وبدا عليه القلق:
ـ ليه ماجيتيش هنا؟ إزاي تباتي لوحدك؟.

مرَّرت أناملها بخصلاتِ شعرها وزفرت بضيق:
ـ منمتش أساسًا...قعدت أستناه كتير، وبعدين قلت أروح لميرال...افتكرت ممكن تكون صاحية، بس لقيت الكلِّ نايم..

رفعت رحيل كوب قهوتها، ارتشفت منه ثم قالت بابتسامةٍ ساخرة:
ـ طبيعي يناموا...واحدة غايبة عن جوزها سنين، هيقعدوا يسهروا ليه؟ مستنيينك؟

نظرت رؤى إليها بنظرةٍ حادَّة، وانفجرت بنبرةٍ غاضبة:
ـ لأ ياأستاذة، مش كلِّ الرجالة زي يزن، بيراضي ويداري، إلياس مش بالساهل يسامح، وعلشان ترتاحي نفاها في أوضة لوحدها، ضربت بيدها على الطاولة وهتفت بسخرية: 
ـ وانتظري..جاي الدور على عذاب إلياس السيوفي، ومحدش يقدر يقولُّه بتعمل إيه، دا لو سابها عايشة، دي واحدة مثِّلت على الكلِّ دور الميِّتة، ومش بس كدا، لجأت لحارة وربِّت بنتِ إلياس السيوفي في وضع قذر، مشفتيش لبسها ولَّا لبس البنت، تفتكري راجل زي إلياس هيسكت، اتَّجهت بنظرها إلى يزن:
-روح هات أختك قبل مايقتلها، وخلِّيه يطلَّقها، مع إنَّها تستاهل كلِّ حاجة..كانت عايشة في نعيم بس غبية متعرفش قيمة الراجل من النصِّ راجل.. 

قالتها ووقفت تدفع الكرسي بعصبية، ورمقت يزن بنظرةِ خذلان:
ـ لمِّ مراتك عنِّي، وأنا الغلطانة إنِّي جيت هنا أفطر.

أنهت كلماتها وهرولت للخارج.. 

مسح يزن على وجهه، يكتمُ غضبه:
ـ وبعدين يارحيل؟! كلِّ يوم مشهد؟..
مش كفاية حواراتك إنتي ورؤى؟

وقفت رحيل تدافع عن نفسها بصوتٍ مرتفع:
ـ أنا هقولَّك للمرَّة المليون..رؤى دي أنا مش مرتاحة لها..عايز أكتر من كده؟ دي اتَّهمت مرات أخوها في أخوها التاني، دي مش طبيعية يايزن، فوق..

قُطع الحديث بدخول الأطفال مع المربية، يلقون تحية الصباح:
ـ صباح الخير يامامي، صباح الخير يابابي..

انحنى يزن يقبِّلهم ويمسح على رؤوسهم بحنان:
ـ صباح النور ياحبايبي..يالَّا افطروا بسرعة قبل الباص مايوصل.

رفع عينيه نحو زوجته:
ـ أنا هعدِّي على ميرال...أشوف الدنيا ماشية إزاي.

أمسكتهُ من ذراعه فورًا، تنظر إليه برجاء:
ـ يزن، لو سمحت..بلاش تتدخَّل، إلياس بيحبَّها..ومستحيل يئذيها، متسمعش لكلام رؤى.

قبَّل رأسها وتحرَّك للخارج.. 

في منزل أرسلان..  

كان يجلسُ على المقعد الخشبي  بالحديقة، يحيطُ به هدوء الصباح، يتناول قهوته ببطء، وعيناهُ لا تفارق باب المنزل، ينتظر أطفاله ليوصلهم إلى المدرسة..

خرج بلال أوَّلاً، بخطواتٍ كسولة ونظرة متأفِّفة:
ـ صباح الخير يابابي..هوَّ لازم كلِّ يوم مدرسة يعني؟.

ابتسم أرسلان ومدَّ كفِّه له:
ـ يالَّه يابطل، كفاية إنِّنا فاتنا الباص، متأخرين أصلًا.
ثم نظر خلفه يتساءل:
ـ فين أختك؟

قالها بخروجِ ضي بجوار غرام، تعدلُ حقيبتها الصغيرة، وتبتسمُ لأبيها..
تحرَّك أرسلان نحو السيارة، اتَّجه ببصرهِ إلى منزل إلياس، ثم التفتَ إلى بلال:
ـ روح شوف ابنِ عمَّك..لو رايح المدرسة، ناخده معانا..

ركض بلال باتِّجاهِ منزل إلياس، بينما استقرَّ أرسلان عند باب سيارته ينتظر..

بغرفةِ يوسف..

نهض يوسف بتكاسل من على السرير، بعدما أخبر المربية قبل قليل بأنَّه لا ينوي الذهاب إلى المدرسة اليوم..
استمع إلى صوتِ الطرقات على الباب..
التفت ببطء، ليجد والدهِ واقفًا عند الباب، يحملُ كوب قهوة لم يرتشف منه، ينظر إليه باستغراب:

ـ أنا مش مصدَّق لمَّا قالولي إنَّك مش رايح المدرسة!.
اقترب منه وجلس على طرفِ السرير، عيناهُ تمسحانِ ملامحهِ الصغيرة بحنان: 

ـ حبيبي، مش عايز أي تغيير..كلِّ حاجة زي ماهيَّ، مفيش حاجة هتتغيَّر..
ثم ربت على كتفهِ بلطف:
ـ يالَّا قوم البس علشان تفطر وتنزل.

هزَّ يوسف رأسهِ ببطء رافضًا حديث والده:
ـ لا يابابا...عمِّتو غادة جاية، وأنا عايز أقضي اليوم النهاردة معاها، وكمان تيتا قالت حضرتك هتعدِّي عليهم..

صمت إلياس لحظة، ثم طوَّق وجه ابنه بكفَّيه:
ـ تروح مدرستك، أنا عارف إنَّك عايز تشوف أختك، روح مدرستك ولمَّا ترجع هتلاقيها، ماتخفش، أنا ناوي أقدملها في نفس المدرسة.

ـ هيَّ كبيرة يا بابا؟..تساءل بها يوسف، ليشعر إلياس كأنَّ سكينًا انغرس في صدره، تجمَّدت ملامحه، ولم يعد لديه قدرة على الرد.

"كبيرة"، نطقها الطفل ببساطة، لكنَّها خنجرًا في صدر رجل يرى زوجته تُمحى من صورة الأمومة أمام عينيه.

ابتلع وجعه، وتمالك صوته:
ـ طيب..البس، ونفطر كلِّنا سوا، ماشي؟

استدار ليخرج، لكنه تسمَّر على عتبة الباب، حين تساءل يوسف:

ـ بابا..هيَّ شمس بنت حضرتك؟.

آآآآآه...أفلتت من قلبه قبل شفتيه..صوت داخلي اخترق ضلوعه، كأنَّ الصدر ينزف من الداخل، كأنَّ الحقيقة أوجعت الطفل، فكسرت الأب.
التفت إليه، بعينينِ مشبعتين بحزنٍ ثقيل، تكاد دمعة تهرب، لكنَّه قاوم..

اقترب منه خطوة، ونظر إلى طفله:
ـ شمس إلياس الشافعي، يايوسف.

ـ يعني إيه؟

لم يجب..فقط أشار إليه وقال بصوتٍ متكسِّر:
ـ هستناك تحت.

ثم غادر الغرفة بخطا ثقيلة، كأنَّ الأرضَ تحته تنهار، وكتفيهِ مُحمَّلتان بعارٍ لا يد له فيه، لكنَّه وحده من يدفع الثمن.
نزل الدرج وجسده يهتزُّ داخليًا...يريد أن يحرق كلَّ شيئً..

قابلته الخادمة: 
-أجهَّز الفطار ياباشا؟.
-أومأ لها ثم قال:
-اطلعي للمدام خلِّيها تنزل تفطر هيَّ وشمس، واعملي حساب الغدا هيكون هنا للكل. 
-تحت أمرك ياباشا. 

تحرَّك للخارجِ بدخول غادة ملقيةً تحية الصباح: 
-صباح الخير ياحبيبي. 
-صباح الخير..إيه بتحلمي بينا ولَّا إيه؟..
لكزته بخفَّة:
-رد الصباح يابني هوَّ أنا مرات أبوك. 
-اطلعي لميرال فوق، خلِّيها تنزل هيَّ والبنت، وعرَّفيها إنِّ يوسف مكنش يعرف بوجود أخته. 
قالها وتحرَّك للخارج، قابله يزن: 
-فين ميرال ياإلياس؟.
رمقه بصمت ثم تابع طريقه وكأنَّه لم يستمع إليه.. 

تحرَّك خلفه ونادى بصوتٍ مرتفع: 
-أنا بكلِّمك على فكرة.
-ارجع بيتك، ووطِّي صوتك، الولاد فوق..أنا مش شايفك أصلًا، فبلاش تعمل أهمية لنفسك.
-أنا جاي آخد أختي ياإلياس، مش هخلِّيها هنا ولا لحظة. 
رمقه إلياس باستخفاف، وصلت رؤى توزِّع نظراتها بينهما، ثم تساءلت: 
-فين ميرال؟. 
قالتها بوصولِ ميرال إليهم: 
-صباح الخير..تمتمت بها بهدوء..
التفت إليها سريعًا، مع اقترابِ يزن إليها: 
-صباح الخير حبيبتي، نمتي كويس؟. 
أومأت له:
-الحمد لله، احتضن وجهها وطبع قبلةً فوق جبينها: 
-لو مش عاجبك تفضلي هنا، أنا موجود. 
وقعت عيناها على رؤى الواقفة بجوار إلياس تبتعدُ بنظراتها، ثم رفعت رأسها إلى أخيها:
-مش فاهمة قصدك يعني إيه؟.
أفلت إلياس ضحكةً ساخرةً واقترب منها: 
-أخوكي خايف عليكي منِّي، يعني لو مش مرتاحة تروحي عنده. 
ابتسمت ولا تعلم لماذا، هل من طريقة كلماته أم أنَّها اشتاقت لعناده..اتَّجهت بنظرها إلى يزن: 
-أنا مع ولادي يايزن، وهنا من هناك مش هتفرق، البيت واحد. 
-لأ مش واحد يامدام، فيه فرق، دا بيت أبو ولادك، هناك بيت أخوكي اللي استغفلني الوقت دا كلُّه..
حاوطها يزن وتراجع بها للداخل: 
-سيبك منه دا مريض بالوسوسة.. 
-واللهِ ماحد مريض غيرك إنتَ وأختك.

-
إلياس:"ممكن نتكلِّم؟"
قالتها رؤى بنبرةٍ خافتة مبتعدة عن نظراتِ ميرال..

توقَّفت ميرال والتفتت نحوها، رمقتها بنظرةٍ مميتة من عينيها المرهقتين، ورغم ذلك اقتربت من إلياس بثباتٍ متوتر:
– "فيه موضوع يوسف كلِّمني فيه إمبارح، وكنت عايزة آخد رأيك."
رمقها إلياس بتعجُّب:
- "موضوع ليوسف!!.طب أنا كنت معاه، ليه ماقالِّيش؟"
تلعثمت قليلًا وهي ترد:
- "ماهو..أصله.."
لكن توقَّفت الكلمات على شفتيها حينما ظهر يوسف من بعيد..فتساءلت:
- إنتَ مرحتش المدرسة؟
- صباح الخير عالكل..متجمَّعين بدري، قالها وتعلَّقت عينيه بوالدته باشتياقٍ خافت ودفين يشعُّ من نظرته.

التفتت إليه ميرال، تراقبه بعينينِ دامعتين ونبضةِ اشتياقٍ كادت تحرقَ ضلوعها..تعلَّقت الأعين ببعضها، ولكن قاطعهم صوتُ إلياس: 
– "يوسف، تعال عايزك."
قالها إلياس بهدوء واتَّجه نحو الخارج، فتبعه يوسف بصمت.

بينما ظلَّت رؤى متوقِّفة بمكانها، عيناها تتبع خطواتهما بارتباك، ثم تحرَّكت وراء ميرال ويزن إلى الداخل.

بالداخل...
جلست ميرال على الأريكة، تنهيدة ثقيلة خرجت منها بعدما شعرت بانقباضِ صدرها، ربت أخيها على ظهرها، رفعت عينيها إليه:
- "يزن، مش عايزاك تقرَّب من إلياس الفترة دي..لو سمحت."
رفع يزن حاجبه:
- يعني أسيبه يموِّتك؟!
لم ترد، بل ابتسمت ابتسامة مريرة، ودموعها تلألأت وهي تتذكَّر ماحدث بالأمس.

وصلت رؤى وجلست في صمت، عيناها على ميرال التي تجاهلت وجودها عمدًا..
التفتت ميرال إلى يزن، وقالت بهدوء:
- هوَّ بس مضايق شوية وهيهدى... إلياس وأنا حفظاه، بلاش تدخل بينا، علشان أنا مقدرشِ أختار بينكم."
أمسك يزن بذقنها، وقال بنبرةٍ حنونة:
- أنا جنبك دايمًا، وعرفت كلِّ حاجة خلاص.
فركت جبينها، وتنهيدة موجوعة:
- مبقاش في حاجة تفرق، اللي حصل حصل..وكلِّ واحد بياخد نصيبه..
-"هتروحي للدكتور تاني؟"
- "معرفش..تعبت، نفسي أرتاح من كلِّ حاجة.
-إلياس زعلان علشان مقولتلوش إنِّك عايشة، ومكانك..
-وإنتَ كنت تعرف مكاني؟..هيَّ كام مرَّة كلَّمتك فيهم علشان أطَّمن عليكم، سيبوه شوية.. 
-ميرال، أنا كنت عارف إنِّك عايشة، وهمَّا كلُّهم عارفين إنِّك ميتة 
رمقت رؤى وابتسمت ساخرة: 
-لأ ياحبيبي مش إنتَ بس اللي كنت عارف، فيه غيرك، المهم متحاولشِ تضايقه، وزي ماقولت لك مش هينفع أختار بينكم. 
-يعني إنتي عايزة تفضلي معاه؟.
-عايزة ومش عايزة..أنا حقيقي مش عارفة.. 
-ميرال لسة بتتعالجي؟..

في تلك اللحظة، دخلت غادة تمسكُ يد شمس الصغيرة..
نهض يزن بفرحة وفتح ذراعيه:
– "مين هييجي في حضنِ خالو؟"
لكن الطفلة اختبأت خلف غادة، وقالت بخوف:
– "ماما..."
انحنت ميرال:
– "دا خالو ياحبيبتي..أخو ماما."
قاطعتهم رؤى:
– "وأنا خالتك ياجميلة، نتعرَّف؟"
نزل يزن يجلسُ أمام الطفلة، قبَّل كفَّيها برقَّة:
– "اسمك إيه؟"
– "شمس..."

في تلك اللحظة، دخل يوسف..
توقَّف عند الباب، وعيناهُ وقعتا على الطفلة، دقَّق النظر بها، نعم تشبه والدته كثيرًا، رفع بصره ببطء إلى وجه ميرال، التي همست اسمهِ بارتجاف..
اقترب من يزن، ونبرة متألِّمة تشقُّ الصمت:
– "مش هتعرَّفنا على الضيفة، ياخالو؟"

تجمَّدت ميرال، كأنَّ قلبها طُعن
بخنجرٍ بارد.
ردَّ يزن بابتسامةٍ باهتة:
– "إنتَ مشوفتهاش؟.دي شمس
..أختك."

ارتجفت ملامحُ يوسف، التفت نحو شمس التي رمقتهُ باستغراب:
– "أنا مش فاهمة حاجة..مين دا كمان؟"
قهقه يزن حتى يمرِّر حدَّة الموقف وهو يرفعها بين ذراعيهِ ويطبع قبلةً على وجنتيها:
– "لسانك طويل يابنتِ ميرال!"
دلف إلياس على جملة يزن الأخيرة، قال وعيناهُ تلتهم الصغيرة بنظرةٍ متكسِّرة:
- "هيَّ فعلًا كدا..بنت ميرال." قالها 
ثم تقدَّم خطوة..وعيناه تغرقُ في تفاصيلها، ولكن توقَّف وهو يشعر بالحسرة، متمنيًّا للحظة لو كان هو من يحملها..لا يزن..

أنزلها يزن بهدوء، ثم سحب رؤى من كفِّها وتحرَّك للخارج: 
-ميرال لو احتاجتي حاجة كلِّميني..
تعلَّقت عينيها بعيني إلياس الذي ينظر إلى ابنته.. 
خطا خطوةً واحدة، ورغم ذلك شعر وكأنَّه يتحرَّك على بلورٍ متناثر وهو يقترب منها وهي تتراجع تختبئُ خلف غادة، تنظر إليه بعينٍ واحدة تتمتم:
-ماما عايزة أروح عند تيتا نعيمة. 
اقتربت ميرال سريعًا منها بعدما تجمَّد إلياس بخطواته: 
-شمس إيه رأيك تروحي مع..توقَّفت وهي تنظر إلى إلياس الذي زمَّ شفتيه بمرارة قائلًا: 
-مع عموُّ الحرامي.. 
بتر حديثهم صوت الخادمة: 
-الفطار جاهز ياباشا.
أومأ لها ثم اتَّجه إلى طاولة الطعام: 
-الفطار..تحرَّك يوسف خلفه وعيناه مازالت على أخته..ربتت غادة على كتف ميرال: 
-يالَّه حبيبتي، بلاش تضيَّعي حلاوة الفطار مع جوزك وولادك. 
-جوزك!..تمتمت بها بينها وبين نفسها، تشعر بأنَّ هذه الكلمة سُرقت من معاجمها اللغوية..
عانقت غادة ذراعيها وتحرَّكت خلف إلياس الذي جلس على رأس الطاولة، يشير إلى ابنه: 
-مكانك هنا بعد كدا، دا مكان ماما. 
أومأ له وانبثقت السعادة رغمًا عنه من عينيه، ولكن بُتِرت ابتسامته بعدما استمع إلى كلمات ميرال: 
-خلِّيه في المكان اللي يريَّحه..
رفع إلياس عينيهِ إليها وأشار: 
-اقعدي افطري حبيبتي..رغم أنَّه قالها بسخرية إلَّا أنها ابتسمت عليها، سحبت المقعد وجلست، تشير إلى غادة: 
-اقعدي افطري.
لا..قالتها وهي تتَّجه إلى المطبخ: 
-أعمل لكم قهوة من إيدي.. 
-طنط غادة..قالتها شمس وتوقَّفت متَّجهةً إليها: 
-أنا مش جعانة، عايزة أعمل القهوة زي هند.
مدَّت كفَّيها وضحكت بتعلُّقِ شمس بها:
-تعالي ياروحي..التفت لوالدتها: 
-ماما ينفع شمس تروح مع طنط غادة؟.. 
-مش تفطري حبيبتي الأوَّل؟. 

نظرت إلى إلياس وقالت:
-شربت لبن مع طنط اللي فوق، شمس شبعانة.. 
كان يراقب حديثها بصمت، إلى أن غادرت المكان: 
صمتٌ دام لدقائق وهي تنظر بطعامها، إلى أن قطع الصمت يوسف:
-بابا..
رفع إلياس نظره إليه: 
-هوَّ ليه حضرتك ماتجوزتش الفترة اللي فاتت دي؟..
تعلَّقت عيناهُ بأعينِ ميرال التي انزلقت منها دموعها وأكمل حديثه:
-ليه حضرتك ماتجوزتش على ماما؟..زمَّ شفتيه بمرارة ورفع كوبه يرتشف منه بعض المياه وتابع حديثه المميت:
-قصدي طنط مروة النانا بتاعة المدرسة، مكنتيش تقولي حضرتك، بدل اللفِّ والدوران دا، ولَّا كنتي خايفة متقبِّلش حضرتك؟.. 

هنا لم تتحمَّل نظراتِ طفلها ولا اتهاماته، نهضت من مكانها وقالت: 
-أنا هطلع أوضتي شبعت. 
أشار إلياس بعينه إلى الطعام: 
-اقعدي كمِّلي أكل..ماأكلتيش حاجة. 
-شبعت..كمِّل فطارك إنتَ وابنك.. قالتها واستدارت ولكنَّه أوقفها: 
-أنا ماأذنتش إنِّك تمشي، ولمَّا أقولك تفطري كلامي يتنفذ، اتَّجه لطفله وقال:
-اعتذر من والدتك، وبعد كدا تتكلِّم معاها بأدب.. 
-آسف..قالها ونظر إلى طعامه يتناوله بصمت..وهو يشعر بألمٍ حتى كادت دموعه أن تتساقط بصمت..

رمقت إلياس بنظرةٍ لا يعلم ماهيتها، ورغم ذلك أشار على الطعام:
-اقعدي كمِّلي فطارك.
-شبعت، قالتها وهي تنظرُ إلى طفلها، ثم اقتربت منه ووضعت يدها على رأسه بتردُّد:
-أنا مش زعلانة منَّك، وعملت كدا علشان كنت وحشني أوي، مكنش قدَّامي غير أعمل كدا، ومستعدة أعمل أكتر من كدا..مش عايز تسامح ماما براحتك وحقَّك حبيبي، بس أختك حاول تقرَّب منها، اعتبرني مش موجودة، قالتها واستدارت مغادرةً المكان.. 
ظلَّ يتابع تحرُّكها حتى اختفت من أمامه، دخل أرسلان: 
-صباح الخير ياآل الشافعي. 
ابتسم يوسف: 
-صباح الخير ياعمُّو..جذب المقعد وجلس بجوار يوسف يداعب خصلاته، 
يسحبُ كوب قهوة إلياس: 
-فين ميرال؟. 
رفع إلياس حاجبهِ ينظر إليه بسخرية:
-ليه متواعدين على الفطار؟.
قهقه أرسلان وهو يغمز له:
-ممكن..أشار إلى قهوته:
-حطِّ القهوة مكانها، وقولِّي إيه جابك على الصبح؟.
ارتشف من القهوة ثم نظر إلى الكوب يلفُّه وقال:
-مراتك فين وليه مابتفطرش معاكم؟.. 
قاطعهم صوتُ ضحكاتِ شمس وغادة وهم يتوجهون إليهم: 
-صباح الخير ياأبيه.
-صباح الخير يادودي.
أغمض عين وفتح الأخرى: 
-مين القمر اللي منوَّر بيت المضَّايقين دول؟..
ضحكت غادة بصوت مرتفع وقالت
-قصدك المكتأبين
-اخوكي دا لو اخويا كنت اتبريت منه، رمقه إلياس بسخرية، فنظر الاخر إليه
-حصل ولا محصلش!! وضعت غادة الصينية وأمسكت شمس تشير على أرسلان: 
-عارفة مين دا؟.
هزَّت كتفها بجهل، فقالت غادة:
-دا عمُّو أخو بابا؟!..
ضيَّقت الصغيرة عينيها تهمس: 
-كلُّه أخو بابا..طيب هوَّ فين بابا دا؟..
التفت أرسلان سريعًا إلى إلياس الذي رفع فنجان قهوته وابتعد بنظراته عن الجميع، توقَّف يوسف واتجه إليها: 
-اسمك شمس؟. 
دقَّقت النظر بأخيها ثم هزَّت رأسها، مدَّ يده إليها: 
-أنا يوسف..رفعت عيناها إلى غادة وتساءلت: 
-فين ماما ياطنط!..
ابتعد يوسف ينظرُ إليها بحزن ثم قال:
-هروح أتمرَّن شوية يابابا.
قالها وتحرَّك للخارج، بينما توقَّف أرسلان واقترب منها، جلس أمامها: 
-ماتيجي في حضن عمُّو ياشموسة..
تراجعت للخلف خائفة وقالت:
-أنا عايزة ماما، هيَّ كانت هنا، عايزة نرجع بيتنا. 

صرخ إلياس على المربية حتى انتفضت شمس واختبأت خلف غادة تبكي باسمِ والدتها:
-عايزة ماما..أشار إلياس للمربية التي هرولت إليه: 
-خدي البنت وجهِّزيها علشان هنخرج، اتَّجهت إليها ولكنَّها دفعتها تصرخ:
-عايزة ماما..مش عايزة الراجل الشرير دا..
نهض أرسلان سريعًا واقترب منها: 
-حبيبة عمُّو تعالي..هزَّت رأسها وتراجعت تبكي بصوتٍ مرتفع: 
-عايزة ماما..قالتها بركض ميرال إليها بعدما استمعت إلى بكائها:
-شمس..استدارت سريعًا تهرول إلى والدتها: 
-ماما..ضمَّتها ميرال لأحضانها تمسِّدُ على خصلاتها وتقبِّلها:
-اهدي حبيبتي..خلاص اهدي أنا هنا..

-عايزة أرجع بيتنا، مش عايزة أفضل هنا. 
ضمَّت وجهها وطبعت قبلةً حنونةً على جبينها:
-شموسة حبيبتي، دا بيتنا، مينفعش نرجع تاني هناك. 
-عايزة أروح لهند..عايزة هند ياماما. 
دفع الكرسي بغضب وأشار إلى المربية:
-أنا قولت لك إيه؟!
اقتربت منها المربية وهي تشير:
-ماهي بتعيط وعايزة مامتها..
-خديها..صاح بها بعدما فقدِ سيطرته..
-إلياس اهدى..قالها أرسلان وهو ينظر إلى الطفلة التي انكمشت بأحضانِ والدتها.. 
حملتها ميرال واتَّجهت إلى المربية:
-سبيها معايا، روحي شوفي شغلك. 
-شغلها إيه يامدام..دا شغلها، نزِّلي البنت خلِّيها تعرف تتعامل معاها، انسي شغل الحواري اللي إنتي جاية منُّه..
-إلياس..صاح بها أرسلان بغضب..

التفت إلى أخيه ينظرُ إليه بجنون:
-إنتَ مش وراك شغل، قاعدلي ليه، محدش طلب تدخَّل بيني وبين مراتي، رمق ميرال بنظرةٍ مميتة وقال: 
-دي لسة مراتي وطول ماهيَّ مراتي محدش له يدَّخل.. 
سحبت المربية الطفلة من بين أيدي ميرال التي تنظر إلى إلياس بصمت، كلَّ هذا ويوسف متوقِّفًا يشاهد مايحدث..
التفت أرسلان إلى غادة: 
-غادة اطلعي مع شمس، وإنتي ياميرال 
اطلعي أوضتك، وخلِّي النانا تساعد البنت علشان تقدر تتعايش مع أخوها.. 

-أرسلان، سبني مع جوزي شوية لو سمحت. 
-ميرال..
رفعت عينيها إليه:
-لو سمحت، هوَّ عنده حق، محدش يدَّخل بينَّا. 
أومأ ارسلان متفهِّمًا ثم ربت على كتف إلياس هامسًا:
-اهدى واسمعها الأوَّل، قالها أرسلان وتحرَّك مغادرًا.. 
بينما تحرَّك إلياس إلى مكتبه، سحبت نفسًا وزفرته بهدوء: 
-عارفة هتعب معاك أوي ياإلياس، تحرَّكت خلفه وجدتهُ جالسًا على مقعدهِ يشعل سيجارته..

جلست بهدوء وقالت: 
-البنت طول ماإنتَ بتتعامل قدَّامها كدا مش هتتقبَّلك، البنت خايفة منَّك 
ممكن تهدى شوية، هيَّ صغيرة ومتعرفشِ حاجة غير اللي كانت بتلعب معاهم.. 
أه، قصدك عيال الحارة وهند ونعيمة.. 
-إلياس..أنا موافقة تعمل فيَّا اللي إنتَ عايزه، بس مش قدَّام الولاد، بلاش تحسِّس الولاد إننا بنكره بعض..
-إنتي هنا مالكيش رأي، وولادي هعرف أتعامل معاهم..
نهضت من مكانها: 
-أنا بكون أمِّ الولاد دول، استندت بكفَّيها على المكتب وقالت:
-ومراتك..ماإنتَ لسة قايل ياإلياس باشا..
نطقتها وتحرَّكت ولكنُّه أوقفها قائلًا:
-ماجاوبتيش على أسئلتي ياحضرة الميتة المزيفة..
-ماليش مزاج، لمَّا أشوف الوقت المناسب، ولو مش عاجبك اخبط دماغك في الحيطة.. 
-ميرال..قالها بعدما هبَّ من مكانه متوجِّهًا إليها يسحبها بعنف: 
-إنتي عايزة توصلي لإيه؟. 
نظرت ليده التي يضغطُ بها على ذراعها ثم رفعت عينيها إليه: 
-إلياس بتوجعني، شيل إيدك. 
-مش هسيبك لمَّا تقولي ليه عملتي كدا؟..
وبلاش إسطوانة علشان بحبَّك وكلامك الأهبل اللي مش مصدَّقه..
-براحتك..قالتها ونفضت ذراعه، وتحرَّكت سريعًا من الغرفة.. 

بمنزلِ إسحاق.. 
كان متوقِّفًا بالحديقة يتابع الإشراف على تزيينها، رأى سيارة أرسلان تدلف إلى المنزل، تحرَّك إليه: 
-صباح الخير ياعريس.
-صباح الخير ياأخويا..
فين غرام والولاد يابني؟.
تحرَّك معه للداخل ورد:
-الولاد في المدرسة، بعد مايرجعوا هتيجي..في تلك اللحظة توقَّفت سيارة فاروق، ترجَّلت أحلام أولًا ثم فاروق، همس أرسلان:
-دا إيه المعازيم اللي تفتح النفس دي..

ظلَّ متوقِّفًا بمكانه حتى اقتربت منه أحلام تطالعه بسخرية:
-دا الكلام حق وحقيقي وعايز تعمل فرح..
رفع عيناه إلى فاروق: 
-صباح الخير يافاروق، إيه كنت بتحلم بيَّا ولَّا إيه؟..
حاوط فاروق كتفه ونظر إلى أرسلان:
-صباح الخير يابابا.
-صباح الخير حبيبي..عامل إيه؟..
-زعلان منَّك، فين الولاد، دا وعدك ليَّا ياأرسلان؟..
-آسف والله المدرسة والنادي واخدين الوقت كلُّه، حتى يوم الإجازة مبقتش أشوفهم.. 
ربت فاروق على كتفه مردفًا: 
-ربنا يباركلك فيهم ياحبيبي، أكيد هيجيوا فرح جدُّهم.. 
ضحك أرسلان وهو يهزُّ رأسه: 
-أه..كانت تقف تطالع تجاهلهم إليها بغضب، فقالت:
- هفضل واقفة كدا يابنِ الجارحي، بردو عملت اللي في دماغك وعايز تعمل فرح لبنتِ الشحاتين دي..

أبعد إسحاق ذراع فاروق واقترب منها: 
-مراتي خط أحمر، هتقرَّبي منها هموِّتك، أنا مش معترف بيكي أصلًا..وكلِّ اللي يفرَّح مراتي لازم أعمله، عايزة تقعدي هحاول أستحملك علشان فاروق وبس، إنَّما هتغلطي في أمِّ ولادي صدَّقيني هتشوفي إسحاق تاني خالص..قالها واتَّجه للداخل..تحرَّك أرسلان خلفه..


أخبرني، كيف يُشفى القلب منك، وأنت الداء والدواء معًا؟
وكأنك لي الحياة... ولكن أي حياة تلك التي يتقاسمها الفقد مع الأمل؟
حياة بين الرماد… بين الشظايا التي زرعتها في صدري، وظننتها زهورًا.

علّمتني أن الحب ليس كافيًا، وأن الوفاء لا يحمي القلب من الانكسار.
فكيف أخبرك الآن، أنني أحبك رغم كل شيء؟
وكأنني خُلقت لأجمع شظايا قلبي… كلما بعثرتها من جديد.
وكأنها لي الحياة... وأنت كنت الحكاية التي قتلتني ببطء.

مرَّت الساعات سريعًا إلى أن جاء المساء، أنهت دينا زينتها، التفتت إلى غرام: 
-أنا مكسوفة أوي، إزاي أنزل قدَّام الناس كدا؟.
توقَّفت غرام واقتربت منها: 
-إنتي جميلة أوي يادينا، وحقيقي عمُّو إسحاق محظوظ بيكي. 
تلألأت عيناها بالدموع وضمّّت كفَّيها:
-أنا محظوظة بيكي أوي ياغرام، وأرسلان كمان، ربنا يسعدكم دايمًا يارب. 
-حبيبتي تسلميلي، المهمِّ إنتي مكسوفة من إيه؟..أولًا مفيش حد غريب، ثانيًا فيه حد يلاقي واحد يهتمِّ بيه زي عمُّو أسحاق كدا، أهمِّ حاجة عايزك تفرحي ويبقى ذكرى حلوة.. 
ابتسمت تشير على نفسها:
-بعد العمر دا كلُّه، حمزة دلوقتي شاب، دا خلاص هيقفل الخماستشر سنة. 

رفعت غرام ذقنها ونظرت إليها عندما وجدت الخجل ينبثقُ من عينيها: 
-حبيبتي السعادة مالهاش سن، وبعدين الراجل عايز يعمل معاكي ذكريات حلوة، مش موضوع فرح، موضوع عايز يسعدك، وكمان دا تقديرًا ليكي قدَّام ولادك، علشان ياخدوا حنان أبوهم.. 
تنهدت بارتياح ثم التفتت إلى المرآة تضع حجابها لتنهي زينتها بالكامل..ولكن فُتح الباب ودلفت أحلام: 
-مبروك يامرات ابني، يالَّه حظُّه كدا. 
-ماله حظُّه ياحماتي؟..على الأقل زي القمر ومحترمة وعارفة تسعد جوزها وبتربِّي ولاده، لا بتاعة سهرات ولا قاعدات فاضية.. 
استدارت إليها ورفعت ذراعيها لتلطمها، ولكنَّها أمسكتها ونظرت لعينيها بغضب:
-إنتي هنا ضيفة، متنسيش نفسك يا أحلام هانم، أنا هنا ستِّ البيت، ودا مش كلامي دا كلام صاحب البيت نفسه، أوعي تفكَّري تاني ترفعي إيدك عليا..
-ليه يابايرة، ليكي عين تتكلِّمي، اللي زيِّك كانت زمانها مدفونة بالحيا، بس ابني الأهبل.. 
دنت صفية تغرسُ عينيها بعيني أحلام وقالت:
-أنا ربِّيت رجلين وبنت، إنتي ربيتي مين؟..البايرة دي طلَّعت رجالة الكلِّ بيشهد بأخلاقهم، أنا زمان كنت بسكت علشان أرسلان وملك، لكن دلوقتي خلاص، لازم أوقفك عند حدِّك، ومتنسيش إنِّك السبب في إنِّي مخلفش، بس ولادي عندي أغلى من كنوز الدنيا، الأم اللي بتربِّي ياأحلام هانم، والفرق واضح بيني وبينك، إسحاق أنا اللي ربِّيته مش إنتي، بدليل وقفتك قدَّامي هنا وأنا اللي بحكم عليكي، روحي اضحكي على فاروق وابعدي عن ولادي، دنت خطوةً أخرى حتى لم يفصل بينهما إنش: 
-أكلك بأسناني لو فكَّرتي تئذي حد فيهم. 

قاطعهم طرقات على الباب، ارتبكت دينا تنظر الى غرام التي توجَّهت تفتح الباب، وقف فارق متسائلًا:
-دينا خلَّصت؟..يالَّه المعازيم جم تحت. 
اتَّجهت بنظرها إلى دينا التي أومأت بصمت ثم اتَّجهت إليه:
-أه خلَّصت..
-خلاص هشوف إسحاق، اجهزوا علشان تنزلوا.. 

دلف أرسلان إلى غرفة إسحاق وهو يقهقه بصوتٍ مرتفع.. 
ألقاه إسحاق بفرشاة الشعر:
-هتتلم ولَّا لأ..
انحنى من كثرة ضحكاته:
-طيب والله أنا ماعارف أقول إيه، يعني كبير ماشاء الله والمفروض إنَّك جد، وعامل فرح، طيب هيكون فيه شهر عسل وكدا، ولَّا نفسك جذعت..

وصل إليه يجذبه من ذراعه:
-ماتسكت ياتحفة، مش كفاية حمزة كلِّ شوية يقوِّلي المفروض أنا أعمل فرحي. 
قهقه عليه أرسلان:
-صراحة الواد عنده حق، أنا اللي مصبَّرني على الموضوع، متأكِّد وراك مصيبة. 
لكزه بجنبهِ بدخول فاروق يوزِّع النظرات بينهم: 
-خلَّصت ياعريس، العروسة.. 
هنا لم يتحكَّم أرسلان بضحكاته، يهزُّ رأسه: 
-ودا هنغني له إيه، طلِّي بالأحمر، قهقه فاروق على كلماتِ أرسلان، ممَّا جعل إسحاق ينزع حلّّته:
-طيب والله ماأنا نازل ياحيوان. 

دنا يرفعه وهو مازال يضحك:
-خلاص إسحاقوا، يالَّه بقى متبقاش عريس نكدي. 
دلف حمزة: 
-بابا..يالَّه علشان فيه ناس بيسألوا عليك تحت. 
أشار أرسلان إلى حمزة: 
-تعال ياميزو..اقترب منه وحاوط أكتافه ينظر إلى إسحاق: 
-إيه رأيك حمزة اللي ينزل بدينا تحت، هتكون حلوة، يبقى العروسة وابنها.. 

دفعه إسحاق للخارج: 
-اطلع ياحلوف بدل ماأبيِّتك في التخشيبة.

بمنزل إلياس.. 

ظلَّت جالسة بالشرفة تنظر الى النجوم، استمعت إلى رنينِ هاتفها: 
-أيوة ياطنط نعيمة. 
-عاملة إيه حبيبتي؟. 
-كويسة الحمد لله، أو بحاول أكون كويسة. 
-حبيبتي بتاخدي علاجك؟. 
تراجعت بجسدها تستندُ على المقعد وهمست:
-باخده، يعني هيعمل إيه، بقالي سنين باخده.
-حبيبتي مش قولنا إحنا بقينا كويسين، لو مش مرتاحة أجيلك. 
-لأ حبيبتي..يعني هكون جنب إلياس ومكنش مرتاحة. 
-هوَّ عمل فيكي حاجة؟. 
-بالعكس، هوَّ كويس معايا.
-قولتي له اللي حصل يامروة؟.
-لأ..ومش قايلة، المهم هند عاملة إيه؟.
-كويسة بس إنتي وشمس وحشتوها أوي..
-وأنا كمان وحشتني أوي..يومين أظبَّط وضعي وأعدِّي عليكم. 
-ميرال..صمتت تستمع إليها: 
-أمِّك جت هنا واتجنِّنت بعد ماعرفت إنِّ إلياس أخدك. 
-تمام..
أغلقت الهاتف واستندت على ركبتيها تنظر للخارجِ بعيونٍ تقطر حزنًا ممزوجًا بالألم..تذكَّرت حديث الطبيب:
-طيب لو جوزك رجع ترجعي؟. 
هزَّت رأسها تتمتم: 
-هيتقبِّلني كدا..
-ليه مايتقبلكيش؟. 
-لأنُّه هيتجنِّن عليا ويتِّهمني.
-مش يمكن يعذرك؟.
نظرت إليه بتيه: 
-ممكن الأوَّل..بس دلوقتي مستحيل يتقبِّلني. 
-ليه حكمتي عليه قبل ماتشوفي ردِّة فعله؟.
-لأنِّي حفظاه وعارفة ردِّة فعله. 
-طيب جرَّبي، اتصلي بيه وقولي له 
إنِّك عايشة، وإنِّك تعبانة ومحتاجاه..
-ويرجع يعايرني.. 
-ليه بتقولي كدا؟. 
-لأن دا اللي حيحصل. 
مدَّ يده بالهاتف وقال: 
-جرَّبي ياميرال، جرَّبي تتِّصلي بجوزك وقولي له أنا محتاجاك..
-أنا مش ميرال، وقولت لحضرتك أنا مش هكلِّمه، ولا هقولُّه محتاجاك، هوَّ خلاص بنى حياة جديدة..
-مش يمكن ظلماه؟.
-أنا تعبت وعايزة أروح. 
وضع الطبيب الهاتف وقال:
-تمام نكمِّل الجلسة الجاية، بس أنا لسة عند رأيي.

خرجت من شرودها على صوتِ سيارته، نظرت إلى ترجُّله من السيارة..
راقبت تحرُّكه، لقد اشتاقت إلى جنون عشقه، وهيئته التي تخطف قلبها، دقَّقت النظر لطلَّته، كان يرتدي بدلة توكسيدو..علمت أنَّه كان بحفل زفاف إسحاق، تراجعت بعدما وجدت نظراته على غرفتها..ابتسمت وهمست لنفسها:
-هوَّ لسة بيحبني؟..عارفة أنُّه قاسي بس بيحبِّني..نهضت واتَّجهت إلى غرف أطفالها، دفعت باب يوسف أولًا بخفَّة.. 
دلفت للداخل بهدوء حتى لا توقظه، انحنت تطبع قبلةً على وجنتيه، تغمض عيناها تسحبُ رائحتهِ الطفولية التي اشتاقت إليها..خلَّلت أناملها بخصلاته وطبعت قبلةً عليها ثم اعتدلت قبل إفاقته، تعلم نومه خفيف مثل والده.. 
استدارت وتحرَّكت للخارج، فتح عينيهِ وابتسم بعدما رآها.. 

اتَّجهت إلى غرفة ابنتها وفعلت مثلها مثل أخيها..توجَّهت إلى غرفتها.. ولكنه قطع طريقها وهو متوجهًا إلى غرفة طفله 
-ايه اللي مصحيكي لحد دلوقتي 
-ليه هو النوم عندك بميعاد؟!

هز رأسه وزم شفتيه ساخرًا:
-اه ...لو مش عاجبك الباب مفتوح 
وصلت إلى وقوفه وسحبته من ياقة حلته:
-اسمعني ياالياس متحاولش تستفزني، وزي ماقولت انا بنت راجح، يعني تخيل منها أي حاجة 
قهقه بصوت مرتفع:
-ماهو انتي شاطرة اهو، اومال ليه عاملة هبلة ومكسورة
هنا تذكرت مااصابها فتلألأت عيناها بالدموع وانسابت رغمًا عنها تهمس:
-علشان أنا اكتر واحدة مؤذية في الدنيا، وربنا بيخلص مني حاجات كتير

قطب جبينه من تغيرها، لكزته بصدره وقالت:
-وأكتر واحد انت ..المهم متحاولش تستفزني بكلماتك، علشان اللي قدامك دي اتعمل فيها حاجات بشعة عقلك مايقدرش يستوعبها 

دفعها على الحائط بقوة بعدما شعر بجنونه من كلماتها المؤذية:
-قصدك ايه يابت، والله شكلي هموتك بجد ..دموع فقط التي انسابت على وجنتيها ..ضغط على وجهها بعدما احرقت صدره دموعها 
-امشي من قدامي مش عايزة اشوفك 
-ايه رأيك تطلقني ونتفق علشان الولاد، كفاية كرهك ليا لحد هنا 

جذبها من خصلاتها يقربها إليه يهمس بفحيح اعمى:
-دا في كوابيسك إن شاءالله، هتفضلي مراتي، وفيه حفلة مصطفى باشا عاملها على شرف مرات ابنه الهربانة، وهتحضريه غصب عنك، ومش بمزاجك، والكل لازم يقتنع بأنك فقدتي الذاكرة، وكل حاجة جاهزة ..واهتمي بنفسك يامدام علشان الحفلة، جوزك معروف بين الناس، مش عايز اصدم الناس بشكلك البيئة دا، عاملة زي المحششة 
هزت رأسها وهمست:
-حاضر ياجوزي ياحلو واه فعلًا عندك حق، اصلي مدمنة، حبيتك تعرف مني قبل ماتعرف من الغريب 

قالتها بعيونًا لامعة بدموعها وتحركت إلى غرفتها 

جلست لفترة وهي تستعيد حديثه، مع ارتفاع انفاسها، توقفت أمام المرآة تنظر إلى وجهها الشاحب، مررت أناملها على وجهها
-عنده حق، بقيتي بقايا ياميرال، ربنا ينتقم منك يارانيا انتي ورؤى، تذكرت حديثه، خطرت فكرة بذهنها، تراجعت على المقعد لفترة، سحبت حقيبتها الصغيرة، وأخرجت بعض الأوراق، تنظر إلى المدون بها، قبضت بكفيها عليها، تهمس لنفسها
-قوليلي له مش هو كل شوية يقولك ياميتة، روحي قولي له إنك مزيفة بحق وحقيقي، فركت جبينها وراحت ذاكرتها إلى مصطفى، فهزت رأسها
-لأ لا ..بلاش خليه مفكر انك كدا، بلاش، فكري في ولادك وبس، نهضت من مكانها تعارض نفسها
-لأ ، خليه يعرف يايعذر، يايرميكي برة حياته للابد ، التفت تنظر إلى المرآة
-إلياس بيحبك وهيوقف جنبك ياميرال، صدقي حبه رغم اللي حصل بس نبضه لسة بيتحرك، ارجعت خصلاتها للخلف 
-أيوة بيحبني، ولازم يعرف كل حاجة غصب عني، حتى عمو مصطفى قال كدا، هيعذرني، ظلت بمكانها كأنَّها تجمع شتات قرارها ثم نهضت، ودلفت إلى غرفة الملابس، وانتقت غلالةً حريريةً سوداء، انسدلت على جسدها بانكسارٍ أنيق..لمست أدوات الزينة، واستخدمتها، لتضيف لمساتها التجميلية بهدوءِ امرأة قرَّرت أن تعيد عشقها الضاري..تداري ماتحت عيناها 
أنهت ماتفعله ثم وقفت أمام المرآة، تتأمَّل ملامحها، التي تغيرت، ذهبت ذاكراتها لأحدى مشاهد العشق وخفقاتُ قلبها تكاد تزلزل صدرها، شوقًا، وخوفًا من اللقاء...
، شقَّت شفتيها ابتسامةً رغمًا عنها، ثم رفعت عقدها حول عنقها، وفتحت صندوقهِ الصغير الذي مازال يحتوي على صورته، لمستها بأناملها مبتسمة، تهمس لنفسها:
-مانشوف أخرتها إيه، ياحضرة جوزي الموقر...استدارت، وخرجت إليه.

بغرفة إلياس قبل قليل ، نزع كنزته بعصبية ثم اتَّجه إلى الفراش، جلس للحظاتٍ يتأفَّف، يعتصر أنفاسهِ كلَّما تذكَّر كلماتها، ثم تمدَّد أخيرًا واضعًا يديه أسفل رأسه، يحدِّق في السقفِ بصمت..

تسلَّلت ابتسامة خفيفة إلى شفتيه، حين تذكَّر حديثها مع طفلها بالصباح عن ما فعلته اقترب منه، شعر بدفء نبرتها، وصدق احتضانها 

فجأة...
فُتح الباب ببطء، فأدار رأسه نحوها..
أطلَّت بخطا هادئة، توقَّفت لوهلة تطالع الغرفة، ثم تحرَّكت صوب الفراش..

تابعها بصمت وهو ينهض قليلًا مستندًا على مرفقه..

قامت بخلع روبها، لتبدو منامتها السوداء الشفافة وكأنَّها صُنعت لتثير كلَّ شيء مكبوتٍ بداخله..ألقت الروب على المقعد، ثمَّ اتَّجهت نحو الفراش وتمدَّدت بجواره في هدوءٍ متعمَّد..
وهي تسحب ذراعيه تتوسَّده..

نظر إليها بدهشة، لم يستوعب ماتفعله:

ـ "إنتي بتعملي إيه هنا؟" سألها بصوتٍ خافت، بين الذهولِ والريبة.

أجابته باستنكار:

ـ "بعمل إيه؟" أشارت لنفسها بثقة:
"نايمة في أوضتي، جنب جوزي..مش لسه جوزي برضو؟"
قطب جبينه، وداخله بركان كاد على الانفجار، وهو ينظر إلى هيئتها، مستنكرًا حالتها:
ـ "دي كانت لسه بتعيَّط من شوية..." قالها بهمس.. 
تراجعت بجسدها تدفن نفسها بأحضانه، فأردف بحدَّة وهو يحاول أن يستعيد توازنه:
ـ "قومي روحي أوضتك."

ـ "وطِّي صوتك..ابنك صاحي، وعيب يسمع أبوه بيطرد أمُّه من أوضتها."

ـ "أبوه، أمُّه!" تمتم باستخفاف. "آه... شغل الحواري اشتغل."

ابتسمت بسخرية:

ـ "نام..أنا تعبانة، والصبح نشوف حكاية شغل الحواري."

حاول يسحب ذراعه من تحتها، لكنَّها استدارت نحوه، وابتسامة خفيفة تعبثُ بشفتيها، تكبح ضحكةً كادت تفضحها..
فاقتربت وهي تدفنُ وجهها في عنقه، وبحركةٍ هادئة وضعت ساقيها بين ساقيهِ تهمس بصوتها الناعم حتى لمست شفتيها عنقه قائلة:
ـ "الرسول وصَّانا ننام على جنبنا اليمين، مش مهم إنت"
-تصبح على خير ياأبو يوسف..
تجمَّد جسده تمامًا من فعلتها..
لحظة واحدة..كانت كفيلة، لينحني بجسده يحاوطها بذراعه:

-عارفة أنا جاي منين دلوقتي؟. 
ارتفعت دقََّاتها داخل صدرها من فعلتهِ هذه، وحركته التي جعلت صدرها يعلو ويهبط بطريقةٍ ملفتة..
انحنى وخطف ثغرها للحظات، بعدما فقد سيطرته من هيئتها، ثم رفع رأسه يرسم وجهها وعينيها التي اغلقتها، فانحنى وهمس بجوار أذنها: 
-كنت رايح أشوف عروسة، أنا مش هفضل طول حياتي عايش مع واحدة موهومة بمرض نفسي، وكل شوية تهرب، وتعمل مسرحيات ساقطة ، مش هقبل على نفسي افضل مع واحدة مريضة، هتجوِّز ياميرال، ودا حقي زي ماابنك قال الصبح، راجل ومحتاج لست تفهمني وتسعدني، وعلى مااظن انتي لما هربتي قولتي كدا، قصدي لما موتي، معلش بقى الموتة الجاية يبقى وصّيني بحاجة تانية، انتي متعرفيش بحبك قد ايه ومينفعش مااسمعش كلام حبيبتي 
جمع خصلاتها حتى ظهر عنقها أمامه باستفاضة وقميصها الذي أظهر مفاتنها الأنثوية ومازال على وضعه فقال 
- على فكرة مش هطلَّقك، ماهو انتي حلوة برضو، ليه اسيب الجمال لحد تاني، أو ممكن هسيبك متعلَّقة، علشان أعرَّفك تخطِّطي حلو، التفت بعينيه على سلاحه وأشار إليه:
-المسدس أهو، لو عايزة تموِّتي نفسك، وحياة حبِّي ليكي ياروحي ماهمنعك، قالها واعتدل من فوقها يشير إلى باب الغرفة:
-اطلعي برَّة ومش عايزك تدخلي الأوضة دي تاني من غير اذني..رمقها بنظرةٍ كادت أن تزهقَ روحها وتابع:
- متخافيش مش هطلب منك تاني تدخليها، ولَّا أقولِّك لمَّا يبقى ليا مزاج يبقى أشوف الموضوع دا..
رجفة قوية تسرَّبت إلى جسدها، حتى شعرت ببرودةٍ قاسية، وكأنَّها تحوَّلت لجثة، نهضت بهدوء وكأنَّها ليست التي دلفت، وسحبت روبها تجرُّهُ خلفها وخرجت من الغرفة حافيةَ القدمين، وهو يتابع تحرُّكها بأنينِ قلبه المنفطر، ولكن كيف يعفو عنها وهي التي أحرقته وكسرت رجولتهِ أمام الجميع، نزلت دموعهِ بعدما صفعه قلبه بقوة على ماقاله لها..
بالخارج تحرَّكت ودموعها تفرش طريقها، حتى أنَّها لم تشعر بيوسف الذي خرج صدفةً بكوبِ الماء، توقَّف مصدومًا وهو يرى والدته بتلك الهيئة، تحرَّكت بجواره ومازالت تجرُّ روبها ليُسحبَ خلفها على الأرضية، لا تشعر بما يدورُ حولها.. 
-ماما..نطقها بهمسٍ مميت، ولكنَّها لم تستمع إليه، أغلقت الباب خلفها..بينما ظلَّ يوسف بمكانهِ متجمِّدًا وعيناه على غرفتها، هل يذهب خلفها أم يذهب لوالده، توقَّف عاجزًا حائرًا، ولكنَّه اتَّخذ قرارهِ ودفع باب غرفة والده بغضبِ طفل..من يراه لا يقل أنَّه سوى شابًّا ناضجَ التفكير..
-ماما مالها، وليه خرجت كدا؟.. 
-روح أوضتك، تاني مرة لمَّا تدخل تستأذن، من أمتى وإنتَ قليل الذوق كدا..
ظلَّ ينظر لوالده للحظاتٍ بصمت، ثم خرج كالمارد يريد أن يحرقَ كلَّ 
مايقابله..

بغرفة ميرال.. 
نزعت ثيابها بغضب، تمسحُ دموعها بعنف، حتى شعرت بأنَّها تضرب نفسها:
-كفاية بقى، اخرسي، غبية، كنت منتظرة إيه، ياخدك بالحضن؟..فوقي دا إلياس السيوفي، ضحكت بشكل هستيري كالمجنونة تدور بالغرفة: 
-كنتي ناوية تقولي له كلِّ حاجة، علشان بعد كدا يذلِّك، فوقي ياغبية، متخليش رانيا وإلياس يتحكِّموا فيكي..
فوقي بقى، غبية ياميرال..
أمسكت هاتفها وقامت بمهاتفة طبيبها:
-عايزة أقابلك دلوقتي. 
نظر بساعته وهو ينزع نظارتهِ الطبية:
-الساعة واحدة مدام مروة. 
-أنا ماليش دعوة الساعة كام، وبعدين أنا مش مروة أنا ميرال راجح الشافعي يادكتور، هكون عندك مسافة السكة.. 
قالتها وأغلقت الهاتف وقامت بمهاتفة أخيها:
-يزن اجهز عايزة أروح مشوار دلوقتي. 
-دلوقتي ياميرال؟!.
-هتيجي معايا ولَّا أروح لوحدي؟. 
-تمام تمام.. 

بعد دقائق معدودة انتهت من ثيابها، وهبطت للأسفل، كان يزن قد خرج بسيارتهِ منتظرًا نزولها، فتحت باب السيارة وغادرت المكان.. 

بفيلا السيوفي.. 

استيقظ على صوتِ هاتفه، نظر لاسمِ المتَّصل، نهضَ سريعًا وجذب الهاتف: 
-أيوة..
ضحك بخفَّة وقال:
-آسف مصطفى باشا بس فيه تطور حبِّيت أفرَّحك..صمت ليتابع الطبيب حديثه:
-ميرال الشافعي كلِّمتني وجاية في الطريق. 
نظر بساعته وتساءل مذهولًا:
-دلوقتي..ليه ؟!
-معرفش، بس واضح إنَّها منهارة جدًا، المهم مش دا اللي بكلِّمك علشانه..صمت ليقول الطبيب:
- أنا بكلِّمك علشان أقولك إنَّها قالتلي: "ميرال راجح الشافعي"

ابتسم مصطفى ورد: 
-دا يعني..إنَّها..ضحك الطبيب بصوتٍ مرتفع ورد:
- بالظبط..حضرتك مسمعتشِ صوتها وهي بتقولها.
-تفتكر تكون جاية مع إلياس؟. 
-معرفش حقيقي بس زي ماقولت لحضرتك صوتها في البداية كانت منهارة..
-طيب أكلِّم إلياس ولَّا إيه؟.
-لأ ..استنى لمَّا نشوف آخر الزيارة.. 
- طيب بالنسبة للموضوع التاني، نقدر نقول خلاص كدا ولا لسة لسه أثر؟.
-هرد عليك بعد ماأقابلها..
- منتظر..بس بقولَّك أنا مش هنام، هستنى مكالمتك بفارغ الصبر.
-ماتقلقش..وقت ماتخرج هكلِّمك..
-شكرًا..
-لأ، الشكر دا مش في التليفون.. 
ضحك مصطفى، المهم طمِّني.. 

عند إلياس..

صمتٌ ثقيل يحلُّ بالغرفة سوى من أنفاسهِ المرتفعة منذ خروجها، ماذا يفعل كي يؤلمها مثلما آلمته، كلُّ شيءٍ حوله أصبح نارًا سوداء، استمع لأنين بكاءِ شمس  بالخارج..شعر بطعنةٍ في صدره، لم يتحرَّك..ظنَّ أنَّ ميرال ستخرج لاحتوائها، لكنَّها لم تصمت وارتفع صوتُ بكائها، قطع صوت البكاء صوت المربية، بنبرةٍ قلقة: 
-حبيبتي تعالي نشوف ماما راحت فين.

انتفض من مكانه، مع خروج يوسف من غرفته بفزعٍ على صوتِ بكاء شقيقته..

اقترب إلياس من المربية وهو يومئُ بيده مستفسرًا:
- مالها شمس؟!.

رفعت عينيها إليه بخوف وتردُّد: 
– والله ياباشا حاولت أسكِّتها، بس هيَّ عايزة مدام ميرال..وهيِّ مش موجودة.

انعقد حاجباه وعلت نبرته:
- يعني إيه مش موجودة؟!

هزَّت كتفيها بعدم معرفة، فدبَّت النار في صدره..

ركض كالمجنون نحو مكتبه، راح يفتِّش بكاميرات المراقبة، حتى رآها وهي تصعد بسيارةِ يزن، ممَّا جعل الدماء تغلي في عروقه..

اشتعلت ثورة الغضب في قلبه، أراد أن يحطِّم كلَّ ما تطاله يداه، أمَّا في الأعلى، احتضن يوسف شقيقتهِ التي ارتجفت من البكاء، ربتَ على ظهرها يهمس: 
- بطَّلي عياط، تلاقيها راحت تشتري حاجة وهترجع.

لكن شمس لم تصدِّقه، ولم تفهم مايقوله، تبكي وتردِّد بين شهقاتها:
–عايزة ماما...

ضمَّها أكثر، وسحبها إلى غرفته، ثم التفت إلى المربية: 
- هاتي لها كوباية لبن ياأنطي، وأنا هافضل معاها...

مرَّ الوقت ببطءٍ قاتل، حتى عادت ميرال من عند الطبيب، بصحبة يزن.

كانت تغمضُ عينيها والابتسامة تعلو ثغرها ببراءةٍ طفولية، ممَّا أثار ضحكة خفيفة من يزن: 
- أول مرَّة أشوفك بتضحكي من زمان..

فتحت عينيها واتجهت بنظراتها إليه:  -رانيا كانت بتهدِّدني..تخيَّل!

ضاق بعينيه، وسأل بريبة: 
- رانيا مين؟!

أسندت رأسها إلى نافذة السيارة تتأمَّل الخارج: 
- رانيا..مرات راجح، نسيت أقولَّك خرجت من السجن من فترة.

ضغط على المكابح فجأة، فارتطم رأسها بالنافذة: 
- آااه، إيه؟ مش تحاسب وإنتَ سايق؟!

استدار نحوها بالكامل، بعدما وصل إلى منزله، وجههِ مشدود: 
- رانيا وصلتلك إزاي؟!

لكن الكلمات اختنقت في حلقه حينما لمح إلياس واقفًا أمام السيارة، كأنَّ النار تجسَّدت في ملامحه.

ترجَّل يزن سريعًا: 
- مالك واقف كده ليه؟!

لكمة مفاجئة من إلياس اخترقت وجهه، دفعتهُ للخلف بقوة، بوصولِ أرسلان بعدما استمع لصوتِ السيارة.

هرول إلياس إلى الباب، فتحه بعنف، وجذب ميرال من ذراعها صارخًا: 
– كنتي فين؟!

أجابته بنبرةٍ متحدية رغم الارتباك: 
- هتفرق معاك؟! كنت في مشوار...

صفعة مدمِّرة على وجهها أخرست كلَّ شيء، لم تكن مجرَّد صفعة، كانت كسرًا في شيءٍ ما داخلها..

زمجر بوجهها:
- إنتي عايزة توصلي لإيه؟! ها؟! عايزة أموِّتك؟! ليه أنا مجبور أتحمِّل واحدة متخلفة مريضة زيك؟!

جرَّها بعنف للداخل، فدفع يزن أرسلان صارخًا:
- إنتَ مالك ياحيوان؟!.فاكرها يتيمة ومالهاش حد ولَّا إيه؟!.

اندفع يزن بجنون يبعد إلياس: 
– ابعد عنها يامجنون!!.

لكن إلياس لكمهُ ثانية، وثالثة، وجحيمه انفجر كوحشٍ خرج عن السيطرة.

سقط يزن على الأرض،  وإلياس يواصل ضربه..حتى استمع إلى صرخةٍ مدوية:

– ميرال!!

صرخ بها أرسلان، فتجمَّد الزمن.. وتوقَّف كلَّ شيء، بعدما استدار ينظر إليها..

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1