رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل التاسع بقلم سيلا وليد
فتحْتُ لكَ بابًا من قلبي… ثم ثانيًا، ثم عزّزتُهُ بثالث
أقمتك في دهاليز روحي، كأنك العابر الأبديّ الذي لا يُغادر
وكنتُ أعلمُ، يا كلّ يقيني، أنك سترحل
لكنني استقبلتك كأنك الباقي ما حييت…
فعسى أن يليقَ المقامُ بالمُقيم،
وعسى أن يهوى القلبُ من لا يُجيد المكوث.
مرحبًا بك أولًا، وثانيًا، وعُمرًا، وآخر نفسٍ في صدري.
ثم، آهٍ من ثمّ…
أُقرُّ أمام قلبي وعقلي وذاكرتي:
أحببتك حبًا بارًا لقلبي…
وعاقًا لعقلي.
وما أصفاك لروحي
وما أقساك على صدري.
يا سادة:
كذبَ من قال "من راقب الناس مات همًا"
أما أنا، فحين أُراقبه… أموتُ حبًا.
علّمتُهُ العزفَ على أوتار قلبي،
فأهداني أول ألحانه…
اندفع يزن بجنون يبعد إلياس:
– ابعد عنها يامجنون!!.
لكن إلياس لكمهُ ثانية، وثالثة، وجحيمهِ انفجر كوحشٍ خرج عن السيطرة.
سقط يزن على الأرض، وإلياس يواصل ضربه..حتى استمع إلى صرخةٍ مدوية:
ميرال!!.
صرخة أطلقها أرسلان كانت كالسوط.. شقَّت صدر الياس وسحقت أنفاسه، فكلَّ شيء توقَّف حتى الهواء، تراجع عن يزن مرتجفًا من هول مارأى من حالتها..
استدارت إليه، وشعر كأنَّها لم تعد ميرال التي يعرفها، بل امرأة تائهة، ضائعة، تقاوم الغرق في مستنقع الهذيان..تصرخ، تهدرُ بجنون، تتشبَّث بذراعِ أرسلان كغريقٍ يتعلَّق بطوقٍ وهي تهمهم:
– قولُّه ياأرسلان...قولُّه كنا عند الدكتور!..
شهقات مرتفعة وكأنَّ الهواء يخنقها:
– قولُّه إنُّهم دمَّروني...حطُّوا مخدر في الدوا...قولُّه...قولُّه إنِّي اتَّصلت بيه علشان ينقذني...بس مردش عليَّا.
انفجرت بالبكاء كأنَّ صرخاتها تخرج من رحم الجحيم، ودموعها..كانت كالنقاط تُسطَر بها حروف الألم، حروف الانهيار
وضعت كفَّيها على أذنيها، وكأنَّها تحاول خنق الأصوات التي تمزِّق رأسها، وهي تتذكَّر ماصار لها، ومشاهد أمام عينيها، تدعو من الله أن يصيبها بفقدانِ ذاكرة لحياتها المؤلمة..
انكمشت على نفسها تبكي بنشيج متقطِّع، شهقاتها تُرتجف، وجسدها يرتعد يتهاوى كورقةٍ في مهبِّ إعصار.
-هياخدوا ولادي، هيموتوه، لا لا ..
قالتها وهي تهز رأسها تتراجع، تشير إلى جسدها تصرخ
-عذبوني، ضيعوني، لا هما عايزين يدمروه، عايزين يدمروه، عايزين يدمروا ولادي، ولادي ..قالتها وهوت بجسدها ومحاولة ارسلان أن يسيطر على جسدها الذي يرتجف
وقف إلياس مذهولًا، متجمِّدًا، وعيناه تلمعانِ بدمعةٍ عصيَّة، عاجزًا عن فهم ما تعنيه..
أحيانًا، لا تصف الكلمات عمقَ الألم، ولا تحتملُ القلوب رؤية من أحببناهم ينكسرون بهذه الوحشية.
ركض يزن نحوها، صوتها جذب روحه قبل قدميه، وعيناهُ تلطَّختا بسوادِ حالتها، فانحنى بجانب أرسلان، وساعده في رفعها عن الأرض..
كانت كالجثة..بلا لون..بلا وعي..
ضمَّها يزن إلى صدره، علَّ اتساع حضنه يحتوي انكسارها، ومازال بكاؤها الهستيري يثقب قلب إلياس، تهمهم بكلماتٍ مبعثرة لا يفهمها سواها:
– كنت عند الدكتور... هوَّ مالوش ذنب..أنا كنت عند الدكتور...
اقترب إلياس، وخطواتهِ تئنّ، كحال قلبه وكأنَّ كلَّ خطوة تُدميه، تلقَّاها من يزن وشدَّها إلى صدره، يضمُّها كأنَّها الروح الأخيرة التي عليه حمايتها.
وصل الجميع بوجوهٍ ملتاعة، على وقع انهيارها وصوتِ انفجارها الداخلي الذي لم تفجِّره إلَّا روحها.
ورغم الصمت الذي طغا بالمكان بعد كلماتها، لكن كانت العيون تتكلَّم... تبكي..تئن..
تحرَّك بها، وقلبه ينزف، يحملها إلى الداخل كمن يحمل نبوءةَ موت، أو كفن حياةٍ لم تُعاش كما ينبغي...
وكأنَّ الصمتَ من خلفه جنازةُ حزن، لا عزاء فيها سوى انهيارها وانهياره بذات الوقت..
وصل إلى غرفته وضعها بهدوء وقام بإزالة حجابها يمسِّد على خصلاتها بحنان، تشبَّثت به وكأنَّها تهرب من شيئ، ومازالت تهمهم بكلماتٍ غير مفهومة..
جلس بجوارها وحاوط أكتافها:
-ميرال اهدي خلاص أنا آسف..اهدي..
ولكنَّها مازالت على حالتها، استمع الى طرقٍ على باب الغرفة، دخل يزن وتوقَّف ينظر إلى أخته بعيونٍ دامعة، ثم انحنى أمام فراشها واحتضنها بعينيه:
-ميرو حبيبة أخوكي ممكن تهدي، أنا كويس خلاص اهدي..لم تستمع إليه وكأنَّها وحيدة في الغرفة، ولكنَّها مازالت متشبِّثة بإلياس مغلقةَ العينين..وهمهمات متقطِّعة حتى انهارت بين ذراعيه تذهب لعالمها الذي تهرب إليه كعادتها كلما أصابها الله بتلك اللعنة التي قضت على تلك البريئة وكل جرمها أنها ولدت من رحم الحياة لتعاني قسوة الذئاب البشرية
ظلَّ بمكانه ينظر إلى حالتها، والنار تلتهم المتبقِّي بداخله كالإعصار، يريد أن يحرق كلَّ من يقترب منه على ماوصل إليه..
نهض يزن من مكانه بعدما تاهت بحالتها وقال:
-كنَّا عند الدكتور، اتصلت بيَّا وهيَّ منهارة، أنا معرفشِ إنَّها متابعة مع دكتور أصلًا، طلبت منِّي ياأمَّا أروح معاها ياتروح لوحدها، أنا نسيت تليفوني في البيت، واتلخبط من عياطها وهيَّ بتقولِّي عايزة تروح مشوار ياأمَّا تنزل لوحدها، مكنش قدَّامي غير أنزل معاها، معرفش أصلًا إنَّك متعرفش..علشان لمَّا سألتها قالت إنَّك قولت لها وجودك زي عدمه، يعني مش فارقة معاك، صدَّقني كنت حالف ماأرجَّعها على بيتك تاني، عصبيتك مش هتعملَّك حاجة، أنا مقدَّر حالتك، بس متنساش إنَّها مريضة وإنتَ عارف كدا، معرفش ليه قسوتك دلوقتي رغم إنَّك كنت هتموت عليها وعايز توصلَّها!..
انحنى ينظر إلى صمته:
-دلوقتي عرفت ليه ميرال مكنتش عايزاك توصلَّها، علشان عارفة إنَّك قاسي ومش هترحمها.
قالها واستدار متحرِّكًا للخارج..توقف بعدما أردف إلياس متسائلًا:
-عايز عنوان الدكتور.
أملاه عنوان الطبيب، ثم رفع هاتفه وقام بمهاتفة طبيب العائلة
-الدكتور هيجي، خليك هنا اوعى تتحرك من جنبها لحد ما ارجع، تراجع إلى فراشها ظل بمكانه يتابعها بعينيهِ المقهورة وحرب عنيفة داخله، ليهبَّ من مكانه بعدما تذكَّر صراخها:
-كانوا بيحطُّوا مخدِّر في الدوا.
قام بتبديل ثيابه واتَّجه إلى غرفة مكتبه يحمل سلاحه ورفع هاتفه:
-أرسلان خارج مشوار وعايزك معايا.
-رايح فين ياإلياس؟..ممكن تهدى للصبح.
-أنا خارج..قالها وأغلق الهاتف متحرِّكًا إلى غرفة أطفاله أوَّلًا..دلف بخطا خفيفة إلى غرفة ابنته التي تغطُّ بنومها، انحنى لأوَّل مرة يقبِّلها على خصلاتها بعدما رسمها بعينيه، ابتسم ابتسامة ناقصة ولكنَّه شعر بالسعادة وهو يراها نسخةً مصغَّرةً من زوجته..همس لها:
"شمس بابا بحبِّك أوي، عارف إنِّك مابتحبيش بابا، بس بابا بيحبِّك أوي"
قبلة حنونة فوق جبينها ثم غادر الغرفة متوجِّهًا إلى غرفة طفله العنيد..
دلف للداخل إلى أن وصل إلى فراشه، مسَّد على خصلاته ولكنَّه شعر بألمٍ يشقُّ صدره وهو يرى آثارَ دموعه على خدَّيه..تنهَّد بألمٍ كاد أن يسحبَ روحه، ثم تحرَّك للخارج..
بعد فترة..
قبيل الفجر وصل إلى المبنى الذي يقطن به الطبيب، قرأ أرسلان اللافتة التي يدوَّن عليها اسم الطبيب، ثم استدار إلى أخيه:
-جايبنا هنا ليه، إيه اتجنِّنت وعلاجك مش هينفع غير الفجر؟..لم يرد عليه ولكنَّه ظلَّ يطرق بأنامله على المقود حتى استمع إلى رنين هاتفه:
-أيوة.
-دكتور محسن الناجي، دكتور أمراض عقلية ونفسية، أستاذ في الجامعة عنده تمانية وخمسين سنة، له عيادة فوق بيته، بيفتح يومين في الأسبوع بس حسب جلسات المرضى، نضيف ومالوش علاقات خبيثة، وعنده ولد في طب وبنت صيدلة، بس مسافرين برة، مفيش غيره هوَّ ومراته، وفيه حاجة مهمَّة..من أصدقائه المقرَّبين إسحاق الجارحي.
-بتقول مين!..إنتَ متأكد؟!.
-والله يافندم دي كلِّ المعلومات ومتأكد من مصادرها..
-طيب يامالك، شكرًا خليك على اتِّصال..
قالها وترجَّل يشير إلى أرسلان:
انزل.
ترجَّل أرسلان وهو يتلفَّت حول المكان يتفقَّده، ثم قال:
-أنا مش فاهم إحنا بنعمل إيه هنا؟..
تحرَّك إلياس إلى بوَّاب العمارة وقال:
-دكتور محسن موجود فوق؟.
-أيوة أنتوا مين؟.
أخرج إلياس حزمةً من النقود ووضعها بيده قائلًا:
-من ساعتين كدا كان فيه واحدة طويلة محجبة بحجاب أبيض وراجل بقميص أبيض.
ضاع الرجل بذكرياته ثم هزَّ رأسهِ وقال:
-أيوة افتكرتهم، دول بس الِّلي طلعوا للدكتور.
ربت إلياس على كتفه وقال:
-أنا جاي للدكتور علشانهم، ممكن تتِّصل بيه وتقولُّه إلياس الشافعي عايز يقابلك دلوقتي ضروري..
-بس ياباشا الوقت متأخَّر ومينفعش..
أخرج نقودًا أخرى وأشار على مقعده:
-طيب خلِّيك مكانك وإحنا هنطلع ومتخافش، إحنا جاييِّن للدكتور في مشورة، لو ينفع استنى للصبح كنت استنِّيت.
راقبهم الرجل لعدَّة دقائق، ثم ابتعد على مقعدهِ قائلًا:
-شكلكم ولاد ناس، بس الله لايسئكم بلاش تؤذوني في أكل عيشي..
أومأ إلياس وتحرَّك ينظر إلى أرسلان الذي اقترب منه..دقائق وكان أمام مسكنه يطرق بهدوء على باب المنزل..
استمع إلى صوت التلفاز فنظر إلى أرسلان:
-شكلهم لسة صاحين.
اقترب أرسلان وتساءل:
-مش هتفهِّمني جينا هنا ليه؟.
فتح الخادم الباب متسائلًا عن هوَّيتهم، ولكن دفعه إلياس بهدوء ودلف للداخل:
-عايز أقابل الدكتور.
صاح الخادم بصوتٍ مرتفع، ليخرج الطبيب يوزِّع نظراته بينهما:
-أنتوا مين وعايزين إيه؟.
دنا إلياس إليه بهدوء وعيناهُ تراقب كلَّ انفعالاته حينما قال:
"إلياس جمال الشافعي" جوز مدام ميرال...تجمَّد للحظات بمكانهِ إلى أن وصل إلياس إلى وقوفه:
-أنا مش جاي أأذيك، أنا جاي وعايز أعرف مراتي بتتعالج عندك من أمتى ومن إيه بالظبط؟..
تراجع الطبيب خطواتٍ للوراء ماإن لمح وجوههم، قبل أن يشير إليهم بالدخول:
– اتفضلوا...
تبادل إلياس وأرسلان النظرات، ثم أومأ إلياس برأسه وهو يتقدَّمه للداخل، جلس حيث أشار إليه الطبيب، بينما بقيت أعصابه مشدودة كوترٍ يكاد أن ينقطع..
رغم الصمت الذي غلَّف الغرفة، إلَّا أنَّ النار كانت تشتعلُ في صدر إلياس، يكتوي بجمرِ الأسئلة التي تنهشه دون رحمة.
حمحم الطبيب قبل أن يتكلَّم: حضرتك عايز تعرف إيه؟.
ردَّ إلياس مباشرة، دون تردُّد:
كلِّ حاجة، من إمتى مراتي بتتعالج عندك؟ وليه ماعرَّفتنيش؟! أنا حاسس إنَّك مش حتى متفاجئ بوجودي هنا!.
نهض الطبيب دون رد، اتجه إلى مكتبه ثم عاد بعد دقائق يحمل مجموعةً من السيديهات، وضعها أمامه على الطاولة:
– إجابة أسئلتك كلَّها هنا، مدام ميرال بتتعالج من سنتين عندي، وكان قبلها عند دكتور تاني
صُعقَ إلياس، قبض على حافَّة الطاولة:
– إزاي، جاتلك هنا إزاي؟!.دا البيت دا بعيد عنها ساعة بالعربية تقريبًا
ردَّ الطبيب وهو يعقدُ ذراعيه:
– أولًا، هيَّ مجتليش لوحدها...
صمت قليلًا، وتبادل النظر بينهما، ثم أشار إلى السيديهات:
– لمَّا تشوف دول، هتعرف جات ليه... إنَّما إزاي؟..اللي جابها هوَّ إسحاق الجارحي.
برقت عينا إلياس، كأنَّ الشرر يتطايرُ منهما، استدار بحدَّة نحو أرسلان:
– إسحاق؟!.
هزَّ أرسلان رأسهِ نافياً، وبدا عليه الذهول:
- والله ماأعرف، أوَّل مرة أسمع الكلام دا..
نظر الطبيب إلى أرسلان باستفهام:
– إنتَ أرسلان؟.
أومأ رأسه بصمت..
– أيوه، يبقى ما يعرفش فعلًا، مصطفى باشا طلب من إسحاق مايقولُّوش.
هنا ارتطم قلب إلياس بصاعقة، وشعر أنَّ الأرض تميد من تحته، تمتم بذهولٍ مجروح:
- بابا!..يعني بابا كان يعرف، طب إزاي، ليه ماقالِّيش؟!.
ردَّ الطبيب بنبرةٍ هادئة، وأعمق وجعًا: – زي ماقولت لك مدام ميرال كانت بتتعالج قبل ماتجيلي، والدكتور اللي كان بيعالجها، طلبوا منه يبدِّل دواها بمواد مخدِّرة، لحدِّ ماوصلت لمرحلة إدمان...
أقسم لك عزيزي القارئ، شعور إلياس بتلك اللحظة وكأنَّ سكِّينًا باردًا غُرس في صدره ببطء، ليذوق موتهِ حيًّا، ينزف في صمت، ينهار داخله بلا صوت...
-إدمان!..ليه، وإيه اللي حصل؟!.
-قبل ماأجاوبك عايز أكِّدلك، مراتك النهاردة لأوِّل مرة تعترف بنسبها..
تنفَّس الطبيب بعمق وهو يتابع ردِّة فعلِ إلياس، ثم أردف بنبرةٍ هادئة، بعدما وجد تغيُّرِ ملامحه:
أنا هطلب منَّك طلب واحد بس…
اسمعني للآخر، من غير ماتقاطعني، علشان تبقى فاهم مراتك عدِّت بإيه..
أوَّلًا اللي حصل مع مدام ميرال إحنا بنسمِّيه في علم النفس:
اضطراب مابعد الصدمة المعقَّد
(C-PTSD)
وده مش مجرَّد "صدمة" واحدة، بل سلسلة من الصدمات طويلة الأمد، توصل الإنسان للانهيار اللي وصلت له مدام ميرال، النوع دا من المرض النفسي أعراضه كتيرة وهيَّ مش مجرَّد اكتئاب أو حاجة بسيطة لا دا
إحساس مزمن بالذنب والعار، حتى تجاه أشياء مالهاش يد فيها..
كراهية الذات، والانسلاخ عنها، نوبات ذُعر وكوابيس وFlashbacks..
انسحاب اجتماعي تام، زي لمَّا بعدت عنَّك، وزيِّفت موتها..
الشعور بأنَّها "ملعونة" أو مرفوضة بسبب ماضي أهلها اللي هيَّ دايمًا شيفاه وصمة عار..
يعني هيَّ مش وصلت لكدا بسهولة، لا دي مرِّت بسلسلة من الصدمات، وكلِّ صدمة فيهم كانت بتهدِّ حتة منها..
تخيَّل تصحى في يوم تكتشف إنِّ أمَّك مش أمَّك،
وإنِّ أبوك وأمَّك الحقيقيين مش طيبين، دول مجرمين، وخطفوا جوزك،
وإنِّ البيت اللي اتربِّت فيه مبني على كذبة، وأكيد إنتَ مرِّيت بالإحساس زي كدا بس عندك أخف، لأن أبوك وأمَّك ناس نضاف..أمَّا هيَّ وصلت لحالة اضطراب نفسي بصدمة قوية..
يعني صدمة بتضرب القلب والعقل والهوية في وقت واحد..
بقت بتسأل نفسها كلِّ يوم:
"أنا مين؟"
"أنا بنتِ مين؟"
"أنا حَقِّي أعيش، ولَّا أنا وصمة؟"
وطبعًا جت كلمة مصطفى باشا وكمِّلت عليها، طبعًا الكلمة طلعت في لحظة غضب، بس بالنسبةلها، كانت سكين اتغرز في قلبها
من بعدها قرَّرت بعقلها اللي وصلَّها للحالة دي ،تبعد عن دنيا ظالمة من وجهة نظرها، مش عنَّك بس،
عن كلِّ حاجة كانت بتحبَّها، عن نفسها، عن اسمها، حتى عن ابنها اللي كان كلِّ حياتها..فيه أكتر من كدا يأس..
إنتَ قبلها في فترة طلبت منها ترجع شغلها، وهيَّ رفضت، مسألتش نفسك هيَّ رفضت ليه؟.أوعى تفكَّر إنَّها رفضت علشان تهرب من المجتمع زي ماإنتَ حاولت إقناعها، لا دي ماكانتش صحفية عادية…
دي كانت بتحارب بقلمها وتواجه الكلّ..
بس فجأة…بقت مش قادرة تكتب، كانت بتقول طلب منِّي أرجع شغلي، طيب إزاي أكتب عن العدل وأنا طالعة من بيت ظالم!..
"إزاي أفضح فاسدين، وأنا دمِّي نفسه فيه عار وفساد!..
قرَّرت تخلص من دا كلُّه واختارت تهرب بس ماهربتش كده وخلاص…
دي خطَّطت زي ماكانت بتخطَّط لتحقيق صحفي من اللي كانت بتعمله..
أه عقلها توقَّف عن الحياة، لكن حسَّها الوظيفي كان شغَّال واستغلِّته وفبَركت موتها، نظَّمت "حادث"،
خَلِّت كلِّ الناس تصدَّق إنَّها ماتت…
حتى إنتَ..
ليه؟..
علشان تهرب من الناس، ومنَّك، ومن "اسمها"، ومن نظرات الناس اللي بتحاكم من غير ماتفهم..
كانت ناوية تنتحر فعلًا…
بس في آخر لحظة، العقل اللي جوَّاها اللي لسه بيقاوم قال لأ، علشان إيمانها بربِّنا وخوفها على جنينها، ورغم برضو إنَّها عايزة تهرب، بس جوَّاها حاجة قالت لأ.
أقنعت نفسها بعد ماوقَّعها في الإدمان:
"أنا لو وقعت، محدش هيقول إنِّ حد ظلمني وعمل كدا، الكلِّ هيقول ماهو هيَّ بنتِ راجح ورانيا..
العار اللي جوَّاها كان سُم بيمشي في عروقها،
حتى ربِّنا كانت خايفة منُّه..
كانت فاكرة نفسها "نِتاج حرام"، وإنَّها بتتجازى عن حاجة ملهاش ذنب فيها..
تجمعت الدموع في أعين إلياس
-انا حاولت اساعدها كتير، وهي كانت خفت
-بص ياحضرة الظابط، اللي عند مراتك عواقبه كتير اوي، اغماءت وتفكير غير سليم وتخيلات صعبة، على فكرة كان ممكن تفقد الذاكرة وهي تمنت كدا فعلًا
-مستحيل ..!! تمتها إلياس بذهول
مفيش سبب يخليها تعمل كدا
-إنت فهمت انا قولت ايه، مراتك كانت بتقنع نفسها أنها عار ودمها فاسد ولازم تخلص من حياتها
أيوه..
كل ده جوَّا البنت اللي إنتَ كنت فاكرها "هربت منَّك"،
في حين إنَّها كانت بتحاول "تنقذك" منها ومن عارها اللي بتحاول تقنع نفسها بيه، ليه أخلِّي ابني وجوزي يتوصموا بعار..
المهم، أنا بقولَّك الكلام ده مش علشان تندم بس علشان تبقى فاهم، لو ناوي ترجعلها، ما ترجعش راجل يسألها: "ليه عملتي كده؟"
"ارجع بنيِّة تبقى سندها وقت مرضها والضهر وقت الوجع، والعين اللي بتشوفها زي ماهي، من غير حساب، من غير عتاب..
ارجع علشانك وعلشانها، علشان ولادم
لأن اللي وقعت فيه…أكبر من أيِّ خيانة، دي بتحارب نفسها
مراتك بتمر بمراحل صعبة، احنا اتجاوزنا مرحلة كبيرة في العلاج، وكنا خلاص اوشكنا على النهاية، لكن ظهورك لخبط الدنيا
-نعم انت بتقول ايه يادكتور
-زي مابقولك كدا، انا مكنتش عايزك تظهر لحد ماهي تقوى، رغم أنها في الفترة الأخيرة كانت عايزة تكلمك بس التردد اللي جواها مكنتش عايزه، عايزها ترجع اقوى
-إنت اكيد مش مظبوط وهحاسبك على اللي عملته، واحاسبكم كلكم، أتلفت إلى ارسلان بعيون ابت أن تصمت وقال
-شايف عملوا فيا ايه ، شايف
-إلياس أهدى خلينا نسمع الدكتور، انت مدرك بيقولك ادمان
هز الطبيب رأسه
-إنت ليه متسرع انا كان قصدي أنها في أول حالتها كانت شايفاك اكبر صدمتها، كان لازم اهيئها علشان مترجعش لنقطة الصفر تاني
-إنت بتقول ايه ..هب من مكانه وقال
-شكل الدكتور دا مجنون، انا مراتي الكل عارف مكانها وأنا لا ..طيب ليه، ازاي يعملوا كدا
-اسمعني يابني وافهم قولتلك في الاول اللي عندك مراتك مش سهل
ودي اسمها في الطب اضطراب في الهوية،
يعني ببساطة..مابقيتش عارفة هيَّ مين..
بقت تبصِّ في المراية وتحسِّ إنِّ اللي قدَّامها مش هيَّ، تحسِّ إنَّها غريبة في جسمها، غريبة في اسمها، غريبة في دمَّها.
وصلت لمرحلة خطيرة جدًا…
كانت بتقولِّي بالحرف:
"أنا مش عايزة أعيش، أنا مش عارفة أنا مين، أنا تقيلة على كلِّ الناس، وهي مفكرة انك اتجوزت ، ومصطفى باشا عمل كدا علشان يطاردها من حياتها وكل اللي على لسانها، جوزي باعني دا حتى ربِّنا شكله مش راضي عنِّي."
تعرف حاولت تنتحر بدل المرَّة اتنين وتلاتة، كانت هتموِّتني، علشان بقولَّها إنِّك بنتِ راجح ورانيا وهيِّ رافضة حتى تسمع اسمهم واسمك واسم اي حد
تخيَّل إنَّك تكون عايش جوَّه جلدك وإنتَ مش طايقه…شايف إنِّ وجودك بيئذي الناس، وإنَّك ماتستاهلش تحب ولا تتشاف.
بس مع الوقت، ومع العلاج، ومع الصبر، ابتدت تقوم، شوية بشوية..
بس الحقيقة، هيَّ لسه جوَّا منها حتة مكسورة…
وإنتَ، لو ناوي ترجع لها، لازم تبقى فاهم إنَّك مش راجع لوحدة "بتحبَّك" وخلاص..
إنتَ راجع لوحدة كانت بتدوَّر على نفسها من جديد وسط بقاياها الضائعة
-طيب هي ايه حالتها دلوقتي
-لا هي دلوقتي احسن بكتير، وعلى فكرة من سنة تقريبًا وهي تقبلت نفسها بس مش ميرال راجح، عملت اسم جديد لنفسها باسم مروة جمال، من كتر ماهي مش عارفة بتعمل ايه، مرة تقول مروة راجح ومرة مروة جمال، بس لسة بتقنع نفسها أنها لعنة عليك وعلى ابنها ..يعني فيه حاجات لخبطت ذهنها عنك شوية، انك اتجوزت، لكن من فترة جاتلي هنا وقالت انك مااتجوزتش واتلعب بيها
-اتجوزت..تمتم بها وهو ينظر إلى ارسلان بضياع وعقله كجرس انذار حرب، حتى شعر بالجنان، ماهذا التخطيط الشيطاني الذي تلاعب بهما
مسح إلياس على وجههِ بعنف وحاول تهدئة نفسه، ولكن أنفاسه مرتفعة إلى حدِّ الاختناق، قطع الصمت أرسلان:
-مين اللي غيَّر أدويتها؟..أكيد حضرتك عارف، مادام حكيت اللي مرِّت بيه، وإنَّها جت إنقاذ يبقى حضرتك عارف مين اللي عمل كدا؟..
رفع الطبيب نظارتهِ الطبية ودقَّق بملامحِ أرسلان للحظات قائلًا:
-دا مش شغلي، أنا الحالة جاتلي اتعرَّضت لإيه، حتى وصلت لكدا، إنَّما مين عمل وليه..آسف معرفش.
نهض أرسلان من مكانهِ يشير إلى السيديهات الموضوعة أمامهم:
-أحنا هناخد دول، علشان نعرف مين اللي عمل كدا..التفت إلى إلياس الجالس بشرود ينظر بتيهٍ كأنَّه غرق في بحرٍ من الظلمات ولا يعلم كيف العودة إلى الشاطئ، رفعه أرسلان من ذراعه:
-يالَّه ياإلياس..ولكن أوقفهم الطبيب:
-فيه حاجة مهمَّة لازم تعرفها، أنا اللي طلبت من مصطفى باشا إنَّك متعرفش ومتقابلش مراتك في الفترة اللي عدِّت، لأنَّها كانت شايفة وجودها في حياتك وصمة عار عليك وعلى ابنك، هيَّ من وجهة نظرها شافت أقل حاجة إنَّها تبعد، وكان ظهورك في فترة معينة هيرجَّعها لنقطة الصفر بعد أكتر من سنتين علاج..دي واحدة خرجت من بين حطام وحاولت ترجع تبني نفسها، علشان كدا أنا اللي قرَّرت إنَّك ماتظهرش..والوقت اللي شوفته مناسب إنَّك تظهر وقرَّرت مع مصطفى باشا، حصل حاجات رجَّعتنا خطوة لورا، لمَّا تسمع وتشوف هتفهم قصدي.
أوقفهُ أرسلان بصمت بعدما وجد حالته، وتحرَّك للمغادرة دون أيِّ حديثٍ آخر..
وصلا إلى السيارة، فتح باب السيارة وساعده بالركوبِ مردفًا:
-إلياس مش وقت توهان، لازم تفوق علشان فيه حاجة مريبة حصلت، إيه اللي بيحصل حواليك، هل دي قضايا قديمة وحاولوا يتخلَّصوا منَّك في مراتك؟..أمَّا بقى إسحاق دا حسابه عسير معايا..
-ودِّيني الشركة ياأرسلان.
-شركة!!..ردَّدها بذهول..
أومأ رأسهِ وتراجع بجسدهِ على المقعد مغلقَ العينين دون أن ينبسَّ بحرفٍ واحد.
بعد وقتٍ قصير، وصلا إلى مقرِّ الشركة الأمنية التي أسَّسها إلياس بعد استقالته من عملهِ الحكومي..
دخل إلياس بخطا متثاقلة، وكأنَّما الحياة انسحبت من عروقه، جلس خلف مكتبه بلا روح، وأشار إلى أرسلان دون أن ينظر إليه:
- روح..
قالها بصوتٍ مبحوح، وكأنَّه يتحدَّث من قاعِ جرحه..
عايز أبقى لوحدي، ارجع البيت، شوف يزن جنب شمس ولَّا لأ، مش عايزها تبات لوحدها النهاردة..وكلِّم غادة، خلِّيها تروح لميرال، أكيد مش هتقبل تشوف وشِّي بعد اللي حصل..
تردَّد أرسلان قليلًا، ثم جلس بجواره، نظر إليه ولم يعد يتحمَّل رؤية انهياره:
إلياس، بلاش تستسلم كده..في حاجة غلط، أنا حاسس، يمكن لمَّا تشوف الفيديوهات دي توصل لحقيقة، بس الِّلي متأكد منُّه إنِّ عمُّو مصطفى وإسحاق عمرهم مايعملوا كدا بقصد إنَّك ماتوصلش ليها.
- سبني يا أرسلان دلوقتي.
أومأ أرسلان بصمت ونهض، لكنَّه رفع هاتفه بمجرَّد خروجه وبدأ الاتصال بشخصٍ ما..
أمَّا إلياس، فجلس أمام جهازه..يدهِ ترتعش وهو يفتح أوَّل مقطع..
كان الصوتُ مشوَّشًا قليلًا، ثم ظهرت ميرال، لم تكن ميرال التي يعرفها..
بقايا لروحٍ تحاول أن تجدَ ملجأ.
دموعهِ نزلت بلا صوت، شهقة واحدة انفجرت من أعماقه حين سمع صوتها الباكي وهي تقول:
-ابني وحشتني ريحته أوي، النهاردة عيد ميلاده العاشر، روحت أشوفه، كان نفسي أضمُّه أوي، بس خفت.
-ليه خوفتي؟.
-خلاص يادكتور، هوَّ معاها أحسن منِّي، على الأقل صحابه مش هيعايروه بأمُّه ويقولوا جدَّك إرهابي..تخيَّل قتل كام واحد، ليه ابني يتحاسب بذنبي..
-بس دا مش ذنبِك.
انسابت دموعها:
-محدش هيفهم الكلام دا، الناس هتبص لابني بكدا.
-مش يمكن هوَّ محتاجك أكتر ماإنتي بتوهمي نفسك ببعدك؟.
ارتفع صوت بكائها وارتجف جسدها:
-أنا اكتر واحدة محتاجة ضمِّته، بس علشانه مستعدة أعمل أكتر من كدا.
-مش صح ياميرال.
-لأ صح، وأنا قولت لك مليون مرَّة ميرال ماتت، اللي قدَّامك دي واحدة تانية..واحدة هربت من كلِّ حاجة.
-طيب جوزك، لمَّا شوفتيه حسِّيتي بإيه؟.
هنا صمتت ودارت بعينيها تهرب من نظراتِ الطبيب، ولكن ارتجاف جسدها أظهر ماتشعر به..
-زعلانة علشان نسيكي واتجوِّز.
-حقُّه..قالتها بهمس مع دموعٍ صامتة..
هوَّ يستاهل أحسن واحدة.
-يعني اتنازلتي عليه عادي؟.
-لأ..نصيبنا انتهى يادكتور.
-مش يمكن إنتي بترسمي أوهام إنُّه مرتاح، مش يمكن مش حقيقة اللي إنتي شايفاه؟.
-أنا تعبت ومش عايزة أجيب سيرته تاني.
فيديو خلف آخر إلى أن وصل لأحدهم ليستمع إليه باهتمام:
-قوليلي إيه قصِّة الراجل دا؟.
كنت نازلة شغلي في سنتر قريب، وفجأة عربية وقفت قدامي..راجل غريب قالِّي إنُّه عايزني أدِّي درس لبنته، شكله مريب..رفضت أكلِّمه.
رفعت ميرال رأسها للطبيب وهي تمسحُ على وجهها بإرهاق:
بعد فترة وأنا رايحة جلسة علاجي شوفته، هوَّ نفسه اللي شوفته مع الدكتور اللي كنت بتعالج عنده..
تفتكري هوَّ اللي طلب من الدكتور يغيَّر أدويتك..
بس أنا معرفوش، ليه عمل كده،
تفتكر علشان رفضت أدِّي بنته درس؟.
تراجع الطبيب على مقعده، ظل يقلِّبُ القلم بين أصابعه، ثم نظر إليها مباشرة:
تفتكري حد ممكن يروح لدكتور ويخلِّيه يحطلِّك مخدر علشان
ماديتيش درس لبنته؟.
لا يا ميرال..الموضوع أكبر من كده، فكَّري معايا مين يقدر يعمل فيكي كده، مين مستفيد من كسرِك بالشكلِ ده؟
صمتت، لم تعد لديها طاقة للتفكير، فقط تنظر حولها بتيهٍ وملامح مبعثرة.
اقترب منها الطبيب قليلًا، ونظر في عينيها:
تفتكري جوزك عرف إنِّك عايشة، وعايز ينتقم منِّك، ممكن يكون عمل كده علشان يعاقبك؟..
هزَّت رأسها بجنون، وأردفت بصوتٍ مذعورً:
لأ، إلياس مستحيل يعمل كده، هوَّ ممكن يعاقبني، بس مش كده، ده لو عرف مكاني، هيكون عندي في لحظة.. مستحيل، مستحيل...
إنتي نسيتي إنِّ إلياس اتجوز؟ وإنِّك هربتي وسِبتيله فضيحة قدام الناس؟ إنتي كنتي مراته..دلوقتي إنتي خطر على صورته..
مافكرتيش إنِّ ردِّ فعله ممكن يكون عنيف؟.
لأ، هوَّ مش بالشكل ده..مش ممكن يئذيني بالطريقة دي...
طيب..لو شفتي الراجل ده تاني، هتعرفيه؟.
فركت جبينها بألم، همست:
مش عارفة..بس ممكن.
ظلَّ إلياس يتنقَّل من مقطعٍ لآخر، حتى أرخى جسده المتعب وغفا على المقعد، بعدما خُيِّل له أنَّ الحياة كلَّها تُسحبُ منه قهرًا..قطعة قطعة..
فكان النوم هروبًا..من خبايا ستتحوَّلُ لشظايا مبعثرة..
بفيلا السيوفي:
دلف إليها وجدها تقرأُ بمصحفها تنتظر صلاة الفجر..رفعت عينيها إليه:
-صحيت إمتى؟!
لسة من شوية، إنتي هتنامي بعد الفجر؟.
أومأت وردَّت قائلة:
-هستنى صلاة الضحى وبعدين أنام، إنتَ محتاج حاجة؟.
أه..انتظريني لمَّا أصلِّي وأرجع، فيه موضوع مهم لازم نتكلِّم فيه.
-خير إن شاءالله؟.
ربت على كتفها بحنان وقال:
-إن شاء الله خير..قالها ونهض من مكانه متوجِّهًا للخارج وهي تتابعه بعينيها الى أن أغلق الباب..
ظلَّت بمكانها واستكملت ماكانت تفعله، إلى أن استمعت الى رنين هاتفها:
-أرسلان..خير ياحبيبي؟.
-آسف ياماما، بتِّصل في وقت زي دا، بس ميرال محتاجاكي، لو ينفع آجي أخدك لعندها..
نهضت من مكانها وقلبها ينتفض بالخوف:
-فيه إيه ياحبيبي، إيه اللي حصل؟!
-لمَّا تيجي هتعرفي..
تمام ياحبيبي، هصلِّي الفجر وأنزلَّك، بس عمَّك مصطفى يرجع من المسجد..
-تمام، أنا كمان هعدِّي على أي مسجد وهجي لك بعد الصلاة.
بمنزل إلياس..
كان يجلس بجوارها على طرف الفراش يحتضنُ كفَّيها وهي تغطُّ بنومها، ورغم نومها كانت تنسدلُ دموعها..
مسّّد على خصلاتها بحنان يهمس لها ببعض آياتِ الذكر الحكيم..
دلفت رحيل وهي تحمل كوبًا من العصير:
-يزن اشرب دا، هيروَّق أعصابك.
-معرفش إلياس اتأخَّر ليه، ومابيردش على تليفونه.
بلاش تقلقه، أكيد مسمعوش، جلست بجواره تتطلَّع إليه مرَّة وإلى ميرال مرَّة:
-يزن، إلياس كان عنده حق، أوعى تلومه في اللي حصل، المفروض الكلِّ يعذره..
رمقها بنظرةٍ حزينة وهو يشير إلى أخته:
-يعني عجبك كدا، بصِّي شوفيها وصلت لإيه، الدكتور النهاردة كان فرحان علشان شايف إنَّها تجاوزت..
سحبت كفِّه وربتت عليه:
-أنا معاك في كلِّ اللي قولته، بس متنساش أي واحد مكانه مكنشِ هيسكت، يعني لو أنا عملت كدا كنت هتسكت، إنتَ نسيت إحنا مرِّينا بإيه؟..
مسح على وجهه يتنهَّد بألمْ يمنع تنفُّسه:
-حقيقي مش عارف أعمل إيه، أنا معاه وفي نفس الوقت عاتب عليه.
استمع إلى همسات ميرال وبكاءها بنومها..انحنى يقبِّلُ جبينها:
-ميرو أنا جنبك حبيبتي، أنا هنا أهو..
فتحت عينيها للحظات ثم أغلقتها مرَّةً أخرى..طالعتها رحيل بحزن ثم توقَّفت:
-أنا هرجع البيت، وإنتَ خلِّيك معاها لحدِّ ماجوزها يرجع..
قاطعهم دخول يوسف:
-خالو..ماما مالها؟..نهض يزن من مكانه ونظر إلى رحيل كي تتفهَّم مايقصده:
-مفيش ياحبيبي أُغمى عليها، مسَّدت رحيل على خصلاته:
-إيه رأيك تيجي معايا لحدِّ ماما تصحى من النوم..
تراجع بعيدًا عنها وتحرَّك إلى السرير الذي تغفو والدته عليه وقال:
-بابا فين، وليه حضرتك مع ماما، ومين عامل في وشك كدا؟..
قالها وانحنى بجسدهِ الصغير يزيل دمعةً تسرَّبت بجانب جفنها..
-هوَّ محدش قال لبابا ماما تعبانة؟..
حمحم يزن واقترب منه:
-ماما كويسة حبيبي، هيَّ بس عايزة ترتاح شوية، بابا راح يجب لها العلاج وزمانه جاي، إيه رأيك تروح تصلِّي لمَّا مرات خالو تعملك كوباية لبن..
-لأ، أنا هفضل جنب ماما..ممكن تروحوا أنتوا، وأنا هفضل جنبها لحدِّ بابا مايرجع اكيد هو مش هيتأخر
حاول الحديث، إلَّا أنَّ رحيل سحبت يده:
-سيبه معاها، بالعكس أنا فرحانة علشانها أوي، يوسف مكنش متقبِّل رجوعها.
جلس الصغير بجوارها، ينظر إليها بدموعٍ تسرَّبت من عينيه:
-أنا زعلان منِّك بس مش قادر أبعد عنِّك، انحنى ورفع كفَّها يطبع قبلةً حنونةً عليها:
-ألف سلامة عليكي ياماما، وآسف علشان ضايقتك، وآسف لو بابا زعَّلك، بس هو بيحبِّك أوي، فاكرة كلامنا في المدرسة، فاكرة قولت لك إيه؟..بابا مش قادر يعيش كويس بعد ماما، وقتها إنتي دمَّعتي بس أنا اللي غبي..
فكَّرتك زعلتي على وجعي مش على وجع بابا..
مرَّت عدَّة ساعات إلى أن عاد إلياس إلى منزله، صعد إلى غرفته، وجد فريدة تجلسُ بجوارها تقرأ بمصحفها:
-صباح الخير ياماما.
-صباح الخير ياحبيبي، إيه اللي أخَّرك؟..أرسلان قال عندك شغل.
-هوَّ أرسلان اللي جابك؟..
أومأت له ونهضت من مكانها تشير على ميرال:
-قالِّي إنَّها تعبانة وإنَّك مبيِّت في الشغل ومحدش موجود معاها..
أومأ متفهِّمًا، ثم اقترب من نومها، هنا صفعته حالتها وهي تقصُّ معاناتها للطبيب، انحنى ولثم جبينها هامسًا:
-آسف..نطقها واعتدل بجسدٍ مرهق:
-كويس إنِّك جيتي..أنا هغيَّر هدومي وعندي مشوار مهم.
أمسكت ذراعيه:
-إيه اللي حصل يابني مش عايز تحكي لي؟.
قبَّل جبينها وربت على كتفها دون حديث.. وخرج متَّجهًا إلى غرفة طفله:
-صباح الخير حبيبي، ليه ماجهزتش للمدرسة؟..
رفع يوسف عينيهِ لوالده:
-حضرتك عملت إيه في ماما، ليه ماما تعبانة كدا؟..حضرتك طلبت منِّي أعاملها كويس، بس أنا شايف إنِّ حضرتك بتهنها دايمًا..
-يوسف اجهز علشان المدرسة، إنتَ لسة صغير، لمَّا تكبر هتعرف.
توقَّف من مكانه واقترب من والده:
-أنا كبرت يابابا من زمان، حضرتك علِّمتني أكون مسؤول وأعرف أرد على اللي قدامي وأتعامل مع الموقف، ليه دلوقتي شايفني صغير؟..أنا شوفت ماما وهيَّ خارجة من أوضتك وكانت بتعيَّط وحالتها صعبة، اقترب خطوةً أخرى وغرس عينيهِ بمقلة والده:
-إنتَ السبب في اللي ماما فيه، محدش تاني، حضرتك المسؤول الأوَّل قدَّامي، أمِّي دخلت البيت دا كانت كويسة، واستحملت منِّنا كتير، بس ماوصلتش لدرجة الانهيار دي غير إمبارح لما كانت في أوضتك..
كان يستمع إلى طفله بذهول، هل كبر لدرجة أنَّه يعاتب والده بهذه الطريقة، رغم معاناته في غيابها، ظلَّ صامتًا للحظات وهو يتطلَّع إليه دون أن ينطق حتى تحدَّث يوسف:
-آسف يابابا، أنا عارف من حقَّك تزعل، بس هيَّ أمِّي اللي اتحرمت منها سنين، مش عايز أتحرم منها تاني، مش هستنى لمَّا تموت فعلًا، مقدَّر حالتك، بس برضو مقدرش أشوفها كدا، ماما مش سليمة لأنَّها مش دي اللي كانت زمان، عارف مش من حقِّي أتكلِّم معاك بأسلوب مش كويس، بس ماما صعبانة عليَّا، وشمس كمان، لو سمحت علشان خاطري أنا وشمس بلاش تقسى عليها أكتر من كدا، عاقبها بطريقة تانية إلَّا إنَّك توصَّلها لمرحلة إنَّها رافضة حتى تفتح عيونها، أنا سمعت الدكتور بيكلِّم خالو..ماما رافضة إنَّها تصحى صح يابابا؟..
سحبه يمسِّد على خصلاته، ثم قبَّل جبينه:
-حبيبي إنتَ فاهم غلط، ممكن ماتشغلشِ نفسك بالحاجات دي، وتثق في بابا زي مابتثق فيه كلِّ مرَّة..
-حاضر..بس افتكر أنا بثق في بابا علشان يرجَّع ماما تاني..
قبَّل رأس يوسف وقال:
-روح اجهز علشان مدرستك.
-مش رايح النهاردة، عايز أفضل جنب ماما..
-إنتَ مرحتش إمبارح يايوسف..
-مش مهم، لو فيه حاجة وقفت معايا أكيد مش هتتخلَّى عنِّي.
هزَّ رأسه رافضًا حديث طفله واستدار مغادرًا الغرفة، وصل إلى غرفة طفلته..
توقَّف للحظات على باب الغرفة، تذكَّر حديث الطبيب:
-أكيد مش هتتقبَّلك من أوَّل مرَّة، بس حاول معاها، وحاول تكون عادي وتبيِّن لها حنيِّتك، طول ماإنتَ عصبي قدَّامها هتفضل كارهة وجودك..
طرق على باب الغرفة مرَّة ثم فتح الباب ودلف للداخل، وجد المربية تقوم بتصفيفِ خصلاتها، توقَّف يراقبها ورغم مايمرُّ به إلَّا أنَّ عيناهُ لمعت بابتسامةٍ وهو يتخيَّلها ميرال..خطا بخطواتٍ هادئة إليها..توقَّفت المربية:
-صباح الخير ياباشا.
هبَّت من مكانها بعدما علمت بوجوده، واستدارت تختبئُ خلف مربيَّتها..
انطفأت لمعةُ عينيهِ التي لمعت للحظات من خوفها كالعادة، جلس على عقبيه يبسط ذراعيه إليها:
-حبيبتي ماتخفيش تعالي عايز أتكلِّم معاكي..
هزَّت رأسها بالنفي وبكت تهمس اسم والدتها:
-عايزة ماما..قاطعهم دخول غادة:
-صباح الخير ياأبيه..نهض من مكانه يهزُّ رأسه:
-صباح الخير حبيبتي..
أشارت غادة للمربية:
-جهِّزي فطار الولاد، أومأت بطاعة وخرجت، بينما اقتربت غادة وهي تراقب ملامح وجه إلياس..علمت رفض شمس إليه كالعادة..
-صباح الخير ياعمِّتو...قالتها غادة وهي تضمُّها لأحضانها..ورغم احتوائها بأحضانِ غادة إلَّا أنَّ نظراتها كانت على إلياس المتوقِّف يراقبها..
جلست غادة ورفعتها على ساقيها تمرِّر أناملها في خصلاتها البنيِّة:
-إيه الجمال دا ياروحي، عارفة ياشموسة إنتي شبه مامي أوي، ثم رفعت عينيها إلى إلياس وأكملت:
-وحلوة كمان وحنيِّنة زي بابي..
تلاقت عيناها بأعينِ إلياس تنظر إليه بصمت..تحرَّك إلى جلوسهم بعد نظراتها إليه وجلس على طرف الفراش؛
-شمس ليه خايفة منِّي حبيبتي، إنتي تعرفي انا مين؟!
نزلت من فوق ساق غادة وتحرَّكت إلى دميتها كالعادة وأخرجت سلسالها، وتراجعت متَّجهةً إليه..اقتربت منه بتردُّد وعيناها بعينيه، تنظر إليه بخوفٍ وتردُّد، ورغم ذلك اقتربت ومدَّت يدها التي ارتجفت بسلسالها، نزل بنظره للَّذي بيدها ومدَّ يدهِ يأخذها..
هنا شعر بتفتُّتِ قلبه إلى شظايا متناثرة، حينما وجد سلسال ميرال الذي كانت دائمًا ترتديه منذ صغرها، إحدى هداياهُ بأحد أعيادِ ميلادها، فتحه بأناملَ مرتجفة وانزلقت دمعةً عصيَّةً رغمًا عنه وهو يرى صورته داخل السلسال..رفع عينيهِ بعدما استمع إلى صوتها المتقطِّع وهي تختبئُ بحضن غادة:
-إنتَ دا مش كدا؟.،ماما قالت دا بابا، وإنتَ شبهه، بس أنا مش عايزاك، أنا عايزة أرجع هناك عند تيتا نعيمة..علشان هيَّ طيبة مش شريرة وبتزعَّق، إنتَ بتخلِّي ماما تعيَّط، إنتَ وحش..
انحنى بجسده يسحبها من أحضان غادة ورغم بكائها المرتفع إلَّا أنَّه ضمَّها لأحضانه بقوَّةٍ يستنشق رائحتها:
-أنا فعلًا وحش ياقلبي وحش أوي، علشان معرفتش أوصل لكم..
لكزته حتى تخرج من أحضانه، قبَّل رأسها ونهض من مكانه يزيلُ دموعه يشير إلى أخته:
-خلِّي بالك منها، مش عايز المربية طول الوقت معاها، أنا مبقتش أثق في أيِّ حد، مش عايز رؤى تبقى مع الولاد زي ما اتَّفقنا..
نهضت غادة وعينيها ممتلئةً بالدموع:
-إلياس دي طفلة حبيبي متاخدش على كلامها، علشان خاطري متزعلش..
ربت على ظهرها وهزَّ رأسه ينظر إلى ابنته التي تبكي بشهقاتٍ تختبئُ خلف غادة من نظراته وتهمس باسمِ والدتها…
استدار إلى باب الغرفة:
-غادة متروحيش غير لمَّا أرجع، ميرال والولاد في أمانتك..
-إلياس..توقَّف وهو يواليها ظهره، اقتربت منه ووضعت يدها على كتفه:
-إيه اللي بيحصل معاك ياحبيبي، وميرال إيه اللي وصلَّها للمرحلة دي؟..
رسم ابتسامة حزينة وجذب رأسها يقبِّلُ جبينها وتحرَّك للخارج دون رد.
عند أرسلان..
ظلَّ جالسًا بسيارته أمام منزل إسحاق لبعض الوقت ثم أخذ قراره وترجَّل من السيارة متوجِّهًا إلى الداخل؛ دقائق وطرق على باب المنزل، فتحت الخادمة..
-عمُّو صحي ولَّا لسة؟.
-صحي ياباشا..هوَّ بيشرب قهوته جوَّا اتفضل..
خطا للداخل..وجده يقرأ الجريدة ويتناول القهوة، رفع عينيهِ للذي دخل فجأة..
صباح الخير ياعمُّو..
دقَّق النظر به، ثم نظر بساعته:
-صباح الخير، الساعة سبعة إيه كنت بتحلم بيَّا ولَّا إيه، ولَّا نسيت إنِّي عريس يالا..
جذب المقعد وجلس بمقابلتهِ بملامح حزينة، دلفت الخادمة:
-أجهَّز الفطار للباشا ولَّا أعمل قهوة؟..
رفع إسحاق رأسه إليها:
-اعملي قهوته، قالها والتفتَ إلى أرسلان بعدما تيقَّن أنَّ به شيئا
-إيه اللي حصل معاك؟.
ظلَّ يتطلَّع إليه لبعض اللحظات بصمت، ثم أردف:
-أنا بالنسبالك إيه ياإسحاق باشا؟..
-أوووبا..لا الموضوع كبير مادام فيها إسحاق باشا.
وضع فنجان قهوته وألقى الجريدة من يده:
-سامعك يابنِ فاروق على الصبح.
-لأ، حضرتك غلطان أنا ابنِ جمال الشافعي.
تراجع إسحاق بجسده وعيناهُ تنطق بالكثير من المشاعر المتضاربة أمامه:
-سامعك يابنِ جمال الشافعي..نطقها بنبرةٍ حزينة..
-ميرال راجح الشافعي.
تهكَّم إسحاق ورفع فنجانه يرتشف منه ثم قال:
-إيه هربت من جوزها تاني؟..وجاي نطلَّع لها شهادة وفاة جديدة..
هنا انسابت دموع أرسلان فجأة وقال بنبرةٍ متقطِّعة:
-لأ..جاي عايز شهادة الدكتور اللي طلَّع إنَّها مدمنة، وحاولوا يئذوها وهيَّ لوحدها بتخبَّط بمرضها، وشخص في يوم من الأيام كنت معتبره أبويا عرف بدا من فترة..وشايفنا كلِّنا بندوَّر عليها ورغم كدا شاف أخويا يوم عن يوم بيخسر، وسكت..
هنا علم إسحاق مايدور برأس أرسلان..
دلفت الخادمة بقهوة أرسلان وضعتها بهدوء ثم تحرَّكت للخارج كما دخلت، سحب إسحاق نفسًا وطرده بهدوء فالقادم سيء..
-أنا دلوقتي مش أبوك ياأرسلان!!.يعني علشان خبِّيت عليك موضوع زي دا يبقى خلاص مسحت اللي بينا؟!..
طيب يابنِ جمال اسمعني للآخر، أوَّلًا مش أنا اللي قرَّرت محدش يعرف، دا دكتورها، بعد ماشاف ظهور حد فيكم هيئذي علاجها، ثانيًا بقى مصطفى السيوفي اللي هوَّ أبوها كان عارف بكلِّ حاجة، وهوَّ اللي ضغط عليَّا بعد مالدكتور وضَّح حالتها..
ثالثًا بقى ودا الأهم كنَّا عايزين نعرف مين اللي ورا كدا، ودا مكنَّاش هنعرفه لو هيَّ رجعت أو إنتوا عرفتوا..
-حضرتك مقتنع بللِّي بتقوله؟.. تسائل بها ارسلان
توقَّف إسحاق يضع كفَّيهِ بجيب بنطاله، وتحرَّك إلى النافذة ينظر للخارج وردَّ عليه:
-أنا ماليش دعوة بهروب ميرال، الموضوع بقى قضية وفيه ظابط متولَّى الموضوع..استدار يرمقه:
-دول كانوا عايزين يئذوا إلياس مش ميرال في أوِّل الموضوع، بس إيه اللي يئذيه..طبعًا مراته، حدِّ كان مراقبها من وقت خروجها من فيلا السيوفي، ووصل لها قبلنا وكان عارف بيعمل إيه، واللي نفعه إعلان موتها للأسف، دا كلِّ اللي أقدر أقوله..
هبَّ من مكانه واقترب منه كالمجنون:
-أنا ليه معرفتش بكلِّ دا، ليه حضرتك معرَّفتنيش، ليه حضرتك وافقت نعلن وفاتها وهيَّ عايشة أصلًا؟..
-لأنِّي وقتها مكنتش أعرف، معرفتش غير لمَّا رجعت القاهرة وكانت بتتعالج مع دكتور، والدكتور دا حد اتعاون معاه وقرَّروا يخلَّصوا عليها بالبطيء، معرفناش غير من فترة، ودا بعد مادخلت مرحلة اللارجوع..
ذهول، غضب، نيران كادت أن تحرق صدر أرسلان وهو ينظر إليها بشراراتٍ تخرج من مقلتيه:
-عارف إنَّها عايشة من سنة ومحاولتش تقولِّي، طيب ليه؟!..
التفت إليه بغضب وصاح بصوتٍ مرتفع:
-إنتَ مابتفهمش يابني، بقولَّك الدكتور قال مش عايز حد، هيَّ كانت كارهة إلياس وكلِّ حاجة تربطه بيها، عملوا إيه معرفش، كلِّ اللي على لسانها ابنها وبس..دي حاولت تقتل نفسها وبنتها..
اتحجزت في مصحَّة وصور وفيديوهات ولولا تدخُّل مصطفى السيوفي كانت زمانها ادمَّرت من زمان؛ والستِّ اللي معاها الصراحة سكتنا علشان شوفنا فيها السند اللي يقدر يعدِّيها..
-كذب ياعمُّو اللي بتقوله دا كذب، مكنشِ حد هيعرف يتعامل معاها زيِّنا، زي جوزها، زي أمَّها، إيه اللي حضرتك بتقوله دا!..
-أرسلان فوق من شغل الحنية دا، بقولَّك الموضوع أكبر من ميرال وأذيِّتها، دي قضية، دول لمَّا عرفوا إنِّنا وصلنالها قتلوا الدكتور اللي وصلَّها لكدا، تقولِّي كنتوا!!.كنتوا هتعملوا إيه في واحدة مدمَّرة وكلِّ اللي شيفاه إنَّها عار ولازم تخلص من حياتها علشان ترضي الكل..
-طيب اسمعني بقى، ميرال كانت مفكَّرة إنِّ إلياس اتجوز غادة، ومصطفى عمل كدا علشان يجوِّزهم لبعض، إيه رأيك، قولِّي إيه رأيك وهيَّ شايفة جوزها خانها مع البنت اللي المفروض تكون أختها؟!..عد بقى على الأدوية اللي أخدتها دمَّرت أعصابها، اللي متعرفوش بنتها كانت عندها تلات سنين ومتعرفشِ عنها حاجة..
تراجع بجسده مذهولًا وكأنَّ جدران الغرفة تطبقُ على عنقه يهزُّ رأسه بالرفض:
-مين..مين له يد بكدا؟!..طيب رانيا كانت محبوسة، وراجح مات مين ياعمُّو؟!..
-منعرفش، القضية عند جاسر الألفي وراكان البنداري وهمَّا بيحفروا فيها، وخروج رانيا دا في حدِّ ذاته لخبط الدنيا، إزاي يعني تخرج بعد مصايبها دي كلَّها!..
-رانيا..أيوة هيَّ رانيا معقول تبقى هيَّ ورا دا كلُّه!..
-يابني افهم من إمتى وإنتَ غبي كدا، إلياس كان ظابط أمن دولة وأكيد له عداوات كتيرة، أنا مش مستبعد رانيا، بس برضوا لازم نحطِّ كلِّ الاختيارات..
-طيب إزاي رانيا خرجت؟!..
-مفيش، حد اعترف إنُّه هو وعطوة اللي عملوا دا كلُّه، وإنَّها اتعذَّبت في السجن علشان إلياس كان واصل فغيَّرت إفادتها، ومش بس كدا، قالت إنُّه هدَّدها وخلَّاها تتنازل عن بنتها، وقالت إنُّه حاول ينتقم منها وبدليل إنِّ بنتها اتقتلت ومتعرفشِ جثَّتها فين..
بص جابت محامي عقر وعرف يخرَّجها، وطبعًا القانون عندنا مالوش غير بالأوراق..والورق كان بيدين راجح لأن كلِّ البلاوي كانت باسمه..
-طيب ماوصلتوش لحاجة؟..
-هزَّ رأسه بالنفي وقال:
-راكان بيحقَّق ورا معارف الدكتور، وكلِّ علاقاته، القضية صعبة..
عايز تقنعني سنتين وانت معرفتش توصله
رمقه اسحاق باستخفاف
-زي ماانتوا قاعدتوا خمس سنين ومعرفتوش توصلوا لميرال
فوق انت بدور على إبرة في كوم قش ياحبيبي..لولا البنت كانت متراقبة من البداية مكنوش وصلولها، وفيه حاجة مهمة لازم تعرفها، فيه حد ساعدهم من جوا ..يعني منكوا فيكوا، شوف بقى مين الخاين
هز رأسه رافضًا مايستمع إليه، اقترب اسحاق منه وحاول تهدئته
-ارسلان لولا وصولي لميرال صدقني كان فيه حاجات كتيرة هتحصل، انت ماشفتش السيديهات اللي مصورينها، البنت كانت وقعت خلاص، صدقني أنا بدور مش ساكت، واحنا ماصدقنا أنها اتعافت، حتى لما طلبت من الدكتور انها تروح تشتغل في مدرسة يوسف، الدكتور وافق على طول، وقال هيساعدها، وفعلًا عدينا مرحلة كويسة، سواء من المخدر والنفسي، الاتنين صعبين، شوف واحد بيعمل ايه، انت ازاي ملاحظتش بعد رجوعها
حاوط أكتافه وتحرك به قائلًا
-هي متعرفش مصطفى عارف علشان خايفة يبصلها بعد كدا مش كويس، اخدت مني وعد مااعرفش حد بالي حصل، بس مصطفى كان عارف، علشان وقت مالقيتها كلمت مصطفى على طول
-إنت لقيتها ازاي ياعمو، هو انا ليه بقيت اشوف الكل خاين دلوقتي..حضرتك ومصطفى باشا، وكمان يزن، ناقص مين عارف واحنا لأ
صرخ يدفع المقعد
-ازاي استغبتني كدا، طيب إلياس ومكنتش عايزة تشوفه وهصدق دا، إنما أنا ليه تخبي عليا ..ليه تعمل كدا
-علشان عارفك مش هتسكت وهتروح تقوله .
اقترب منه كالمجنون يشير إلى عينيه
-بص في عيوني يااسحاق باشا واتكلم، انت مصدق الكلام دا
❤️❤️❤️
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
لكنني لا أكرهها، تلك الشظايا...
ففيها نبضي، فيها ضعفي، فيها ما جعلني "أنا".
كلّ قلبٍ احترق، ترك داخلي شظيّة، تنغرس كلّما حاولتُ النسيان،
فأدرك أنني لا أُشفى،
أنا فقط أعتاد الألم...
وأبتسم، كأنّ الاحتراق لم يكن.
ولأنني ما زلت أقف رغم الاحتراق،
فهي، رغم كل شيء... وكأنها لي الحياة.
بمنزل أرسلان..
وضعت طعام الإفطار وجلست تنتظر زوجها، خرجت صفية ملقيةً تحيَّة الصباح:
-صباح الخير حبيبتي.
-صباح الخير ياماما.
دقَّقت النظر إليها واقتربت منها:
-مالك حبيبتي، ليه قاعدة كدا؟..
-أرسلان لسة مرجعش، من وقت ماخرج مع إلياس، شوفته نزَّل ماما فريدة قدَّام البيت وطلع دقايق فوق وخرج ولسة مارجعش..
ربتت على كتفها بحنانٍ أمومي:
-زمانه جاي متقلقيش، إنتي عارفة جوزك مابيتأخَّرش غير لمَّا يبقى الموضوع كبير..
تنهَّدت تهزُّ رأسها وردَّت قائلة:
-فعلًا للأسف ياماما، شكل الموضوع مش زي ماكنَّا متخيِّلين، كلام ميرال رغم إنُّه مش مفهوم أوي بس شكله مايطمنش..
-خير إن شاءالله حبيبتي، الولاد راحوا المدرسة؟.
-أه..قالتها وهي تمسح على وجهها، تشعر بضيقٍ يخنق تنفُّسها..
هقوم أجبلك الشاي.
أومأت صفية دون حديث..تدعو ربَّها بسريرتها:
-ربِّنا يسترها معاك يابني، وينوَّرلك طريقك يارب، ويبعد عنَّك الأذى يانور عيني.
بمنزل طارق..
انتهت من ارتداء ثيابها، توقَّفت أمام المرآة تضع أحمر الشفاه ببطء، وابتسامة على وجهها، كلَّما تذكَّرت ماصار..نظرت لنفسها بتقييم، ثم ابتسمت لنفسها بالمرآة:
-ياسلام على تخطيطك يابتِّ يارؤى، أنا متأكدة إنَّها مش هتقول حاجة، والأهمِّ بقى اللي حصل إمبارح..يالَّه بنت حلال وتستاهلي ياستِّ ميرال..
تناولت هاتفها وقامت بمهاتفة أحدهم:
-صباح الخير.
-صباح الخير، إيه اللي حصل؟..
مفيش حاجة حصلت، بس قريبًا بنتك هتيجي لعندك.
-ليه إيه اللي حصل؟.
قصَّت لها رؤى ماحدث..
-وهيَّ كانت فين؟.
هزَّت كتفها ومطَّت شفتيها تنظر إلى أظافرها:
-مش مهمِّ كانت فين، المهمِّ اللي حصل وجنان إلياس، دا كان هيموِّت يزن، وضربها كمان..
هبَّت من مكانها:
-وليه يضربها إن شاءالله؟!..
-تؤ تؤ..اهدي ياطنط، إنتي كنتي عايزة ياخدها بالأحضان ولَّا إيه، دي خرجت من وراه بالليل، وسمعت كلام من يوسف وهوَّ بيكلِّم يزن إنِّ إلياس طردها من الأوضة، ياريت بقى تلمِّيها، وبعدين مش كان بيقولِّك ماتت؟..
-إنتي تخرسي خالص، ويبقى عدِّي عليَّا علشان تاخدي باقي حسابك، بس بنتي لو قرَّبتي منها يارؤى هموِّتك، ويكون في علمك ياحلوة ممكن هيَّ متقولش، بس أنا واطية وأقول..
قالتها رانيا وأغلقت الهاتف وألقته بعنف تسبُّها، دلفت الخادمة:
-مدام رانيا مختار باشا وصل.
أومأت لها فخرجت الخادمة، بينما همست رانيا:
-حيوان، له عين يجي لعندي، دلف إليها:
-صباح الخير ياملكة.
-أهلًا..اقترب وهو ينفثُ تبغه الغالي:
-لأ لأ..كدا أزعل، إيه المقابلة دي مش اتفاقنا..
ثارت ترمقه بغضبٍ قائلة:
-بقولَّك إيه، اتفاقنا وخلص، أخدت كلِّ الأسماء اللي إنتَ عايزها، وفي المقابل خرَّجتني من السجن، كدا خالصين..
اقترب منها بخطواتٍ باردة، ثم دفعها بقوَّةٍ على المقعد وحاصر جلوسها بذراعيه يحدجها بنظراتٍ نارية:
-لسة الأهم يارانيا، أنا ممكن أرجَّعك تتعفِّني في السجن من تاني، اتفاقنا مكملش..
ارتجف جـسدها من نبرته ونظراته النارية..فهمست بتقطُّع:
-عايز إيه يامختار؟..
اعتدل وهو ينفث بسيجاره، ثم تراجع بنظره إليها:
-بنتك، مش دا كان اتفاقنا، أنا عملت كلِّ اللي طلبتيه، ولولا وجودي مكنتيش هتلاقيها صح ولَّا لأ؟..
هبَّت من مكانها تصيح فيه بغضب:
-أه، علشان كدا اتَّفقت مع الدكتور وخلِّيته يغيَّر دواها..
زمَّ شفتيه وتراجع على المقعد يضع ساقًا فوق الأخرى:
-هوَّ أنا عبيط يارانيا، مش لازم أمسك الخطوط في إيدي..
-يعني إيه مش فاهمة؟.
-يعني بنتك تكون عندي قبل نهاية الشهر، ياأمَّا هقلب وقلبتي وحشة أوي..
إنتَ أكيد مجنون، البنت متجوزة ومخلِّفة كمان..
-هيطلَّقها خوفًا من الفضيحة يامدام رانيا هيطلَّقها، لمَّا الكلِّ يعرف إنَّها هربت منُّه بسبب تعذيبه، ولجأت للإدمان، ولمَّا عرف عمل مسرحية موتها..
هبَّت من مكانها:
-أكيد إنتَ مجنون، دا إلياس السيوفي إنتَ متعرفوش..
-هيخرس، وحياتك ليخرس، أنا بس اللي مضايقني إنُّهم وصلوا لها قبل ماأنفِّذ مخطَّطي، بس متخافيش بنتك عاقلة وأكيد هتحسبها صح.
-أنا معرفش عايز توصل لإيه، بس إنتَ أكيد مجنون ومتعرفش مين هوَّ إلياس السيوفي، دا عدم عمُّه، فوق وأنا قولتها لك زمان مش هتقدر توقف قدَّامه..
تهكَّم ساخرًا:
-إنتي قولتيها، إلياس السيوفي، ودا كان زمان، بدليل معرفشِ يوصلَّها قبلي، يبقى مين الأقوى يارانيا؟..
-لأنَّك كنت مراقبها، صدَّقني إلياس لو عرف هيموِّتك، ويبقى افتكر كلامي..
قهقه وهو يرجع رأسهِ للخلف ثم رمقها بنظرةٍ ساخرة:
-كلُّه بالاتِّفاق يارانيا.
توقَّفت واقتربت منه وانحنت بجسدها تتطلَّع إلى عينيه مباشرة:
-أنا مكنتش أعرف إنَّها عايشة، إنتَ قولت المقابل لمَّا تخرجي، فكَّرتك عايز تتجوزني، مكنتش متخيلة إنَّك وصلت لها وعملت فيها كدا..
صمتٌ بالمكان سوى من ضحكاته المستهزئة، فاعتدل يغلق حلَّته:
-أنا عملت دا كلُّه علشان أوصلَّها هيَّ، مجنونة إنتي..سلام يارانيا، عندي مقابلة مع جوز مراتي مستقبلًا، شوفتي أنا شاري إزاي وبقول مراتي..
قالها وتحرَّك للخارج، بينما جلست رانيا وأنفاسها أوشكت على الانقطاع:
-أه يارؤى ياحيوانة، عارفة إنِّك اللي ورا الحيوان دا..
بفيلا السيوفي..
توقَّف أمام المرآة ينثر عطره، بخروجها من الحمَّام، التفت إليها يغمز بشقاوة:
-صباح الجمال ياملوكة.
تحرَّكت إلى الفراش، ويبدو عليها الإرهاق، ثم هوت على جسدها:
-والله إنتَ رخم أوي ياإسلام، وأنا زعلانة منَّك.
تراجع يقهقهُ عليها، ثم انحنى يطبع قبلةً فوق جبينها:
-ألف سلامة عليكي ياصغننة، لمَّا إنتوا مش حمل الجواز بتتجوزوا ليه؟..
ألقته بالوسادة:
-امشي من هنا يامفتري..
توسَّعت عيناه وطالعها بنظراتٍ حزينة متصنِّعة:
-يعني أنا مفتري، علشان بحبِّك مفتري!..
انحنى وحاصر جسدها ينظر إليها بنظراتٍ وقحة:
-طيب أعمل إيه ومراتي بالرقَّة والجمال دا..حد قالِّك تبقي حلوة كدا..
والله إنَّك وقح وقليل الأدب ياإسلام..
اعتدل وهو يضحك متراجعًا إلى المرآة، وقام بارتداء ساعته وهو يشير إليها:
-ارتاحي حبيب قلبي، عندي محاضرتين وهعدِّي على إلياس، يعني هرجع على بالليل..
هبَّت من نومها واعتدلت جالسةً على الفراش:
-إيه دا هتروح هناك؟!..طيب ماتاخدني عايزة أشوف أرسلان والولاد وحشوني أوي..
ابتسم بحنان وخطا إليها، ثم انحنى وطبع قبلةً مطوَّلةً أعلى رأسها:
-تمام..هعدِّي عليكي لمَّا أخلص، صمت للحظات واحتضنها بعينيه:
-طيب ماإنتي كويسة أهو..أومال ليه تعبانة ومفتري وقليل أدب، كويس علشان لمّّا ترجعي مسمعش صوتك..
لكمته بصدره:
-امشي يامنحرف من هنا..بتر حديثها وهو يحتضن ثغرها للحظات، ثم تراجع للوراء يشير بيده:
-تصبيرة لحدِّ ماأرجع
تورَّدت وجنتيها وهي تسبُّه، خرج وهو يطلق صفيرًا:
-سامعك ياملاكي باي باي هتوحشيني..
نزل للأسفل، دلف للداخل وجد والده يتناول إفطارهِ بشرود:
-صباح الخير يابابا، فين ماما وغادة؟.
صباح الخير ياحبيبي، راحوا عند إلياس..
قطب جبينه متسائلًا:
-إلياس، ليه خير في إيه على الصبح؟.
ابتعد بنظره وقال:
-ميرال تعبانة وهوَّ مكنش موجود، أرسلان جه أخد والدتك بدري.
أومأ متفهِّمًا، ثم أردف وهو يفرد محرمة الطعام:
-أنا شوفتها إمبارح واتكلِّمت معاها، مش عارف حاسس دي واحدة تانية غير اللي اتربِّت معانا، وكمان طريقة إلياس معاها صعبة أوي.
-بكرة كلِّ حاجة هتتحلّ، المهمِّ إنَّها عايشة وبخير ورجعت.
قالها مصطفى بشرود..
قاطعهم صوت إلياس وهو يلقي تحية الصباح، ثم اتَّجه يجذب المقعد وجلس في مقابلة والده..
نظر إليه مصطفى وعلم مايدور بخلده..
-صباح الخير ياحبيبي، عاملين إيه؟.
ضحك إسلام قائلًا:
-جبنا في سيرة القط، المهم مراتك عاملة إيه؟..
كان ينظر إلى مصطفى بصمت.. لحظات ثم رد ومازالت نظراته على مصطفى:
-دا مصطفى باشا هيقولِّي عليه، مش كدا ياباشا؟.
-إسلام سبني مع أخوك شوية..
زوى إسلام مابين حاجبيه:
-هوَّ فيه إيه بالظبط وبعدين أنا بفطر ياباشا..
توقَّف مصطفى يشير إلى إلياس على باب المكتب:
-هستنَّاك في المكتب.
عند ميرال..
فتحت عينيها بإرهاق تتأوَّه بخفوت، اعتدلت فريدة ونهضت من مكانها:
-حبيبتي صباح الخير..دارت بعينيها بالغرفة:
-أنا فين؟..مسَّدت على شعرها وطبعت قبلةً فوق جبينها:
-إنتي في حضن ماما ياحبيبتي..
اعتدلت تنظر حولها تتمتم بشهقاتٍ بعدما تذكَّرت ماصار:
-ولادي فين، أخد ولادي مش كدا؟..لمَّا عرف الحقيقة أخد ولادي..
نهضت من مكانها تصرخ:
-ولادي فين ياماما، ولادي، ابنك أخدهم مش كدا...
فتحت غادة الباب ودلفت بعدما استمعت إلى صراخها، التفتت بفزع تنظر للذي دلف، وجدت غادة بجوارها شمس، ركضت الصغيرة إليها:
-ماما..انحنت تحمل طفلتها ورغم ترنُّح جسدها إلَّا أنَّها ضمَّتها لأحضانها تقبِّلها وتبكي:
-حبيبتي إنتي كويسة؟.
هزَّت الصغيرة رأسها:
-أنا زعلانة علشان إنتي رجعتي تتعبي تاني..
جلست تحتويها بين ذراعيها ثم جمعت خصلاتها للخلف تنظر لعينيها:
-آسفة ياروحي أنا آسفة، ماما مش هتعمل كدا تاني، ماما هتبقى كويسة علشان شمس..
رفعت عيناها إلى غادة:
-فين يوسف، لسة زعلان منِّي مش كدا؟..
-لأ، ياماما مش زعلان منِّك..قالها يوسف وهو يتوقَّف على باب الغرفة..
أنزلت شمس من فوق حجرها.. ونهضت إلى طفلها تستند على الأشياء تتطلَّع إليه باشتياق، اقترب منها بعدما وجد جسدها الهزيل يترنَّح:
-ارتاحي..إنتي لسة تعبانة.
-عايزة أحضنك..ينفع تحضن ماما؟..
ترقرقت عيناه بالدموع وهو يرى والدته بتلك الهيئة، اقترب حتى وصل إلى وقوفها ينظر إلى عينيها:
-وأنا كمان، عايز أحضنك..
آااااه..صرخت وهي تجثو بركبتيها، تضمُّه لأحضانها حتى سقط مع سقوطها، وارتفعت شهقاتها بالبكاء مع بكاء غادة وفريدة..
اقتربت فريدة منهما تضمُّ ابنتها بحنانٍ أمومي:
-اسم الله عليك ياحبيبة ماما من وجع القلب ومن الفراق، اسم الله عليكي يابنتي..
-آااه ياماما..ابني أخيرًا في حضني، آه ياماما..إزاي قدرتي تتحمِّلي دا كلُّه،
احتوت وجهه بين راحتيها تبكي وتضحك بنفس الوقت:
-حبيبي إنتَ كويس، عامل إيه؟..
أزال دموعها وابتسم رغم دموعه:
-أنا دلوقتي كويس أوي، بطَّلي عياط بقى..
قبَّلت كفَّيه تهزُّ رأسها ومازلت دموعها تغرق وجنتيها:
-حاضر..حاضر.
ساعدتها فريدة على النهوض، فتراجعت إلى الفراش تجلس عليه ومازال طفلها بين ذراعيها..
تمدَّدت تشير إليه أن يغفو بأحضانها، ابتسم وجاورها على الفراش، ثم رفع شمس إليه..
احتضنتهم فريدة بعينيها تهمس بخفوت:
-ربِّنا مايحرم حد من ضناه..قالتها وتراجعت للخارج تجذب غادة..بينما احتضنت ميرال أطفالها تمسِّد على خصلات يوسف:
-وحشتني أوي ياحبيبي..أوي..قالتها وأغلقت عينيها لتذهب بنومها مرَّةً أخرى بسبب المهدئات التي تتناولها..
ظلَّ يوسف يطالعها لفترة..رفعت شمس كفَّها الصغير على وجه أخيها:
-إنتَ زيه كدا ليه؟..
نزل بنظره إليها:
-زي مين ؟!.
أشارت إلى باب الغرفة:
-الشرير اللي بيزعَّق على طول، بابا..
قهقه عليها يداعب عنقها:
-لو سمعك الشرير هيرميكي في الغابة..
برقت عيناها وتراجعت تنكمش في أحضان والدتها:
-هضربه أنا وماما وتيتا نعيمة.
هزَّ رأسه وضحك على حركاتها:
-أيوة ماأنا عارف، أهي طنطك نعيمة دي ممكن تكون دلوقتي بتلمّ ورق الغابة..
هزَّت كتفها بجهل:
-يعني إيه بقى إن شاءالله؟..
اقترب من أذنها وهمس لها بعض الكلمات فصرخت:
-ياماما..قومي نمشي من هنا قبل الشرير مايجي..
قهقه عليها يوسف ثم سحبها لأحضانه:
-بس يابت وإنتي شكلك بنت حواري صح، له حق بابا، دفعته بعيدًا عنها بعدما ارتفع صوت ضحكاته:
-سحبها مرَّةً أخرى:
-هتنامي في حضني ولَّا أجبلك الشرير؟..
انكمشت تهزُّ رأسها بصمت، أشار إلى حضنه:
احضنيني جامد، استخبِّي علشان لو جه مايشفكيش..
اختبأت في احضانه وهو يضحك عليها، ثم رفع عينيه إلى والدته، سحب كفَّها ووضعه تحت رأسه بعدما قبَّله:
-آسف ياماما..نزل بنظره للتي تتحرَّك بأحضانه:
-هتنامي ولَّا أقوم وأسيبك؟..
-لأ هنام بس متمشيش، ماما نايمة والشرير هيجي..
-طيب نامي..
هزَّت رأسها وأغلقت عيناها..مسَّد على خصلاتها حتى غفا هو الآخر..
بعد عدةِ ساعات عاد إلياس، دلف للداخل وجد فريدة تضع الطعام، يبدو أنَّها أحضرته لميرال وأطفاله..
وقع بصره على أولاده بأحضان والدتهم..
نهضت فريدة واقتربت منها، كان يجرُّ خطواتهِ بصعوبة، إلى أن وصل إلى فراشها، اقتربت منه فريدة تربتُ على كتفه:
-حبيبي كنت فين دا كلُّه، إيه الساعات دي كلَّها بعيد عن مراتك وهيَّ بالحالة دي؟..
استدار إليها وامتلأت عيناه بالدموع:
-أنا تقريبًا مش قادر أسند نفسي ياماما، عايز أنام شوية، ممكن نتكلِّم بعدين..
أومأت له بعدما ربتت على ظهره:
-ربِّنا يزيح عنَّك أي ألم يابني..
خلع حذائه وهو يؤمِّن على دعائها ثم تمدَّد بجوار يوسف، ورفع شمس من بينه وبين والدتها يضمُّها لأحضانه، ثم فرد ذراعيه يجذب ميرال تحت ذراعه الأخر وأغمض عينيهِ بسلام بعد سنواتٍ هرب منها النوم..
بمنزل يزن..
استيقظ على رنينِ هاتفه، ضغط زرَّ الرد بخمول:
- أيوة حبيبتي، في حاجة؟..
أجابته معتذرة:
- آسفة ياحبيبي، هتأخَّر شوية، عندي اجتماع، خلِّيك مع الولاد لحدِّ ماأرجع..
- بالتوفيق إن شاء الله..وخلِّي بالك من نفسك.
أغلق الخط، نهض من فراشه وتوجَّه إلى الحمَّام..مكث لدقائق ثم خرج، توضأَ وأدَّى صلاة العصر، بعدها تحرَّك إلى غرفة ابنه.
وجدهُ جالسًا ينهي واجباته، ابتسم واقترب:
- حمد الله على السلامة حبيبي.
- الله يسلِّمك يابابا، إحنا رجعنا من ساعتين..ماما قالت حضرتك نايم ومينفعشِ نزعجك..
انحنى وقبَّله أعلى رأسه:
ربِّنا يوفقك، خلَّص اللي عليك لحدِّ
ماأخلي طنط تجهَّز الغدا.
أوكيه، أنا تقريبًا خلَّصت، باقي الإنجلش.
تمام حبيبي، خلَّصه ولمَّا تخلص أشوفه، هروح أشوف رولا.
تحرَّك وطرق باب غرفتها..كان صوتُ الموسيقى يتسلَّل للخارج، وماإن فتحت الباب ورأت والدها، حتى اندفعت نحوهِ ركضًا..
قهقه وهو يشير إليها:
تعالي ياستِّ النجمة...
فركت كفَّيها ونظرت للأرض بخجل، فمدَّ يده يعبث بخصلاتها بخفَّة وهو لا يزال يضحك:
إحنا مش قولنا نبطل نقلِّد الرقصات يا بت؟.عايزة تجنِّنيني ولَّا إيه؟
خلاص بقى يابابا، أنا خلَّصت الـ home work، ولمَّا نخلص لازم نروَّح عن نفسنا شوية..
آه يابابا، مش بنَّمي مواهبي؟.
ضمَّها إلى صدره وضحك:
نمِّي ياروحي، بس خدي بالك…ماليش دعوة لمَّا ماما تعرف.
رفعت عينيها إليه ببراءة:
أكيد حضرتك مش هتقولَّها...
غمز لها مازحًا:
على حسب...حبيبة بابا هتسمع الكلام ولَّا لأ؟..
أوف يابابا...عرفت حضرتك تقصد إيه..
غمز مرَّةً أخرى وخرج، ثم نادى على الخادمة:
جهِّزي الغدا...المدام هتتأخَّر.
"حاضر ياباشمهندس."
دلفت "رؤى" فجأة، فرفع رأسه نحوها، ثم سأل بهدوء:
- مكلِّمتيش طارق؟.
رمقته بنظرةٍ سريعة، ثم أشارت إلى ملابسها:
لأ، عندي مشوار ساعتين كده، هكلِّمه بعدين.
نهض من مجلسه ونظر إليها مطوَّلًا، ثم عقد حاجبيه:
إنتي خارجة كده؟ مش شايفة اللبس ضيَّق شوية؟.
ابتسمت بسخرية:
ما هي مراتك بتلبس ضيق...ولَّا علشان بنتِ الحسب والنسب!..
قبض على ذراعها بقوة، فصرخت من الألم:
اسمعيني كويس...إحنا لوحدنا دلوقتي، إنتي مهما كنتي أختي، الغلط عندي مالوش سماح، لمِّي نفسك وبلاش شغل الحقن اللي ماشية توزَّعيها.
نظر في عينيها مباشرةً وهو يضغط أكثر:
أنا بعدِّي بمزاجي..بس لو غلطتي، مش هرحمك، مراتي اللي طايرة تتكلِّمي عليها؟ أنا واثق فيها، وواثق في لبسها..
ضغط أسنانه وتمتم بغضب:
أنا اللي بشتري لبسها، ولو هيَّ اشترت، عارفة بتشتري إيه...لأنَّها بتخاف ربِّنا قبل ماتحترم مكانة جوزها.
ثم دفعها بغضب وهو يشير لها:
روحي غيَّري لبس السهرات ده... وإيَّاكي تخرجي كده تاني..احترمي الحجاب اللي بتحاولي تستخدميه كواجهة، اتلمِّي يا رؤى..
اتَّسعت عينيها من الصدمة، ثم استدارت تغادر بسرعة، تمتمت من بين دموعها وهي تتوعَّد لرحيل:
أنا هتخلَّص من الكلِّ علشانك… مستحيل تفضلي في حضنه أكتر من كده.
بمنزل أرسلان..
جلس في مكتبه يتحدَّث بهاتفه مع أحدهم..أمسك الجهاز وقال:
-ابعتلي كلِّ اللي يخصُّه، عايز كلِّ حاجة عنُّه خلال ساعتين..
-صعب ياأرسلان، إنتَ بتطلب معلومات عن شخص تقيل، وطبعًا إنتَ عارف أنا لازم أتأكد من المعلومات..
-تمام قدَّامك لبكرة، بس إيَّاك إسحاق يعرف.
-تمام متقلقش، المهم إنتَ متقولش علشان ممكن تئذيني في شغلي..
-عارف..خلِّيك واثق فيَّا، إنتَ مش أوَّل مرَّة تتعامل مع أرسلان.
-تمام هشتغل الساعات على الراجل دا، وكمان هجبلك معلومات عن الدكتور اللي اتقتل ومن داخل مكتب راكان البنداري نفسه.
-شكرًا..ووعد وكأنِّنا متكلمناش..
دلفت غرام تحمل قهوته..وضعتها أمامه..توقَّفت للحظات تراقب ملامحه الغاضبة:
-أنا معرفش إيه اللي حصل معاك، بس أكيد شيء كبير..
رفع عينيه المرهقة إليها:
-غرام حقيقي ماليش نفس أتكلِّم، فلو سمحتي مش عايز أزعَّلك، خلِّيكي بعيد لمَّا أهدى.
استندت على المكتب وهو يمسح على وجهه وينفخ براحتيه يحاول أن يسيطر على غضبه:
-حاضر هسيبَك، بس متنساش العصبية مش هناخد منها غير إنَّها بتقضي على طاقتنا الإيجابية..رجاءً ابعد عن عصبيِّتك دي، قوم صلِّي ركعتين لله، واهدى، وبلاها قهوة وهعملَّك حاجة تروَّق دمَّك..
-حاضر، ممكن تسبيني أقوم أصلِّي، وأكمِّل شغل..دنت منه وانحنت تطبع قبلةً بجوار خاصَّته وابتسمت:
-بتكون وحش أوي لمَّا تكون غضبان، فكَّها وربِّنا هييسرَّها إن شاءالله..
رسم ابتسامة وأشار على باب الغرفة يحاول ألَّا يغضب عليها:
-يالَّه حبيبتي بتعطَّليني.
أومأت واعتدلت مبتعدة بعدما تنهَّدت تنهيدة شعرت بأنَّها آلمت صدرها..
اتَّجهت إلى غرفة صفية، وجدتها تُنهي صلاتها، جلست تنتظرها إلى أن نهضت من مكانها تتطلَّع إليها:
-مالك يابنتي؟..ولكن قطع حديثهم صوتُ بلال مع ملك بالخارج:
-مامي، عمِّتو ملك جت.
هبَّت صفية وتحرَّكت إليها:
-ملك، فيه إيه حبيبتي؟.
ضيَّقت عيــناها تنظر إليها بحزن:
-دي مقابلتك ليَّا ياستِّ ماما وأنا اللي قولت هتفرحي..
اقتربت منها تضمُّها ثم قبَّلتها على وجنتيها:
-اتفاجئت مش أكتر، يعني كنَّا مع بعض من ساعات في فرح إسحاق، قلقت بس..
سحبت كفَّها ودلفت للداخل تنظر الى غرام بابتسامة:
-ماما ستِّ مصرية أصيلة، رغم حياتها في قصرِ الجارحي، مفيش ياستِّي، إسلام جه لإلياس وجابني عندكم، أرجع؟..
ضحكت غرام على طريقتها فقالت:
-لأ، حبيبتي نوَّرتي البيت وأهو تتغدِّي معانا.
تلفَّتت بالمكان تبحث عن أرسلان:
-فين أرسو..مش باين ليه؟.
أشارت صفية على مكتبه وقالت:
-جوَّا حبيبتي..نهضت من مكانها وقالت:
-طيب هشوفه، ولكن أوقفتها غرام:
-ملك، مزاجه مش حلو، بلاها دلوقتي، شوية نجهَّز الغدا وبعدين ادخلي عنده، أهو تحاولي تقنعيه يتغدَّا معانا..
اتَّجهت لوالدتها تنظر بتساؤل نطقته عيناها قبل شفتيها:
-ماله أرسو ياماما؟.
نطقت ملامحها بالحزن وقالت:
-منعرفش، خرج من الفجر ولسة راجع من ساعة..قافل على نفسه ومبيكلمش حد..
بمنزل إلياس..
تململت ميرال متأوِّهة من ألمِ رأسها، فتحت عينيها ببطء، حينما شعرت بشيءٍ ثقيل فوق كتفها، رفعت عينيها المتأرجحة، وجدت ذراعيه تحاوطها هي وأطفالها، ابتسمت بدموعٍ انسابت رغمًا عنها وهي ترى ذلك المشهد الذي تمنَّته منذ سنوات، أغمضت عينيها، تمنَّت أن تلقي نفسها بأحضانه حتى تستنفذَ كلَّ آلام السنواتِ الماضية، كلَّ هذا وهي تشعر بأنَّها تحلم لا تعلم أنَّه حقيقة، أغلقت عيناها لتنسحب بدوَّامتها
مرَّةً أخرى..
وهي لا تشعر بشيءٍ سوى أحلامها، بعد فترةٍ تململ يوسف وفتح عينيهِ..نهض ببطء بعدما التفتَ ليجد والده يطوِّقهم بذراعه، ابتسم ابتسامةً جعلته يعتدل ببطء، إلى أن نهض من فوق الفراش..توقَّف للحظاتٍ وهو ينظر لاحتضانِ والده لوالدته، انحنى يحمل شمس من فوق صدرِ والده، وتحرَّك بها للخارج وهو يهمسُ لها:
-إنتي تقيلة كدا ليه يابت، ماما كانت بتشرَّبك لبن جمال!..
فتحت عينيها..تلفَّتت حولها بعدما وجدت يوسف يحملها:
-إنتَ واخدني فين؟..
أنزلها بعدما وجدها استيقظت،
وتوقَّف يأخذُ أنفاسه:
-إنتي تقيلة كدا ليه؟..إيه كنتي بتاكلي أكل الحارة كلَّها؟..
ضربته بغضبٍ طفوليّ واستدارت متوجِّهةً إلى غرفة ميرال:
-أنا هروح لماما، إنتَ اخدتني ليه؟..
-تعالي يابت هنا..لم تردّ عليه وخطت ولكنَّها توقَّفت بعدما قال:
-إنتي حرَّة..قولت أخدك علشان الشرير جه في الأوضة، وماما مش هنا..
تراجعت سريعًا إليه تتشبَّثُ بملابسه:
-ماما فين؟.
سحبها من يدها وأشار إلى غرفتها:
-تعالي ندخل أوضة روبنزول دي، وأنا أقولِّك.
بغرفة إلياس..
استفاق على صوتٍ خافتٍ لغلقِ الباب،
استدار برأسهِ ببطء، كأنَّه يصارع اليقظة.
عيناهُ تبحثانِ عن الصغيرينِ اللذان ناما بأحضانه، وقعت عينيهِ على الفراش الذي كان خاليًا إلَّا منها..
اتَّجه بنظره إلى ميرال التي مازالت بجواره..متكوِّرة كعصفورةٍ مكسورة الجناح، تتنفَّس على مهل، كأنَّ كلَّ نَفَسٍ تؤدِّيه بترخيصٍ من الألم..
سحب كفِّه من تحتِ رأسها برفقٍ شديد، كأنَّ لمسته تخشى أن تؤلمها، أو توقظ آلامها..
تململت وارتعشت أجفانها، ثم فتحت عينيها ببطء، وقعت نظراتها عليه بعينينٍ ثقيلتين بالوجع…
هل هو الذي يغفو بجوارها ام أنَّها تحلمُ كعادتها؟!..ولكن أنفاسه الحارَّة التي ضربت وجهها أيقنت وجوده..
نعم إنَّه أمامها، ينظر إليها كما لو أنَّه لم يصدِّق أنَّها بأحضانه، كالذي عثر على ضالَّته في صحراءِ فقدٍ ممتدَّة..
مدَّ يدهِ بلطف، بلطفٍ موجع، يمرِّرها بين خصلاتها المُبعثرة كأنَّها أطرافُ قلبه:
- عاملة إيه دلوقتي؟.
جالت بنظرها في الغرفة، بقلقٍ يشبه ذعرَ الأطفال فتساءلت بتقطُّع:
- فين الولاد كانوا نايمين في حضني؟!.
اقترب يحتويها بين ذراعيه، ونطق بصوتٍ أكثر نعومة ممَّا أراده، ولكنَّه جعلها بسخريةٍ شجيَّة:
- يعني همَّا مسموح ليهم يناموا في حضنِك…وأنا لأ؟
ارتجف قلبها، فتراجعت تلقائيًّا، كأنَّ صوته لمس موضعًا لم يندمل..
ترقرقت عيناها، وسحبت جسدها للوراء لتهربَ من أحضانه:
لأ…لأ مينفعش..أنا آسفة…ضايقتك،
معرفش جيت هنا إزاي…
هقوم، ووعد مش هدخلها تاني.
قالتها بعدما ابتعدت عن أحضانه تلمُّ خصلاتها بأناملَ مرتعشة،
كأنَّها تجمع بقايا كرامتها، أو تُخفي عُريَّ خذلانها..
لكنَّه لم يُمهلها تفعلُ ماتريد، سحبها بقوَّةٍ ورغم سحبته إليها القويَّة ولكن فيها رجاء، فيها وجع، ضمَّها لصدره…
كأنَّها بيته، ودفئه، ومغفرته.
طبع قبلةً طويلةً على جبينها،
قبلةً تذيبُ الأسوار، وتكسرُ المسافات..
أنا اللي آسف…سامحيني.
رفعت عينيها إلتي كانت كمرآةٍ لروحٍ ذبُلت من فرطِ الالم :
متتأسفش…إنتَ عندك حق..
أنا…أنا كنت حمل تقيل عليك،
واحدة موهومة بمرضها، مهووسة بخوفها…
احتوى وجهها بكفَّيه، وكأنَّ ملامحها وطنًا لا يريد أن يتيهَ عنه ثانية:
ميرال…
أنا مش عايز نرجع للماضي..
اعتبري النهاردة أوَّل يوم…
أوَّل يوم في عمرنا الحقيقي..
همست وهي تبتسمُ بوجعٍ مؤلم:
مش هينفع ياعريس…
مراتك الجديدة هتزعل.
ضحك من بين دموعه،
ضحكة أذابت بعض وجعه…كانت ضحكةُ اشتياقٍ بل ضحكةُ رجلٍ اتحرم من ضحكته سنين، ضمَّها بقوَّة يدفن أنفاسه بخصلاتها..
وآااه حارقة بلهيبِ الاشتياق والذنب كادت أن تحرقَ جسده بالكامل، همس بخفوت:
- وحشتيني…
انتفض قلبها كحالِ جسدها، تمنَّت أن يدفنها داخله، ولكنَّها تعاني من جراح الماضي..همست بتقطُّع رغم دفءِ حنانه الذي افتقدته، رغم اشتياقها، احتياجها إليه:
-إلياس ابعد شوية..همست بها وتمنَّت أن يخذلها ولا يستمع إلى نداءِ كرامتها، تريدهُ أن يستمعَ إلى نداء قلبها الذي ينتفضُ داخلها، ولكن كيف للعاشق أن لا يشعر بمعشوقه..
ضمَّها بقوَّة…كأنَّه يجمعُ أجزائه المبعثرة فيها، تنهَّد، وزفراته تخنقه كأنَّه حُرم من التنفس عمُرًا كاملًا..
ليتنفس أخيرًا:
كلِّ حاجة فيكي وحشتني..أخرجها من أحضانه وضمَّ وجهها بين راحتيه:
-وحشتيني ياميرو..
ضحكت بألم وهي ترى تغيُّر حالته، علمت أنَّه علم بمرضها، دفعت صدره براحتيها حتى ارتجف جسدها بنبضِ الألم:
-مالوش داعي كلامك دا، أنا كويسة، متخافش عليَّا، مرِّيت بأكتر من كدا ولسة عايشة..
ابتعد عنها بسرعة، وقد انكمش قلبه من كلماتها، فمالت وسقطت على ظهرها دون وعي..
أسرع نحوها يحيطها بذراعيه، يحتضنها بكلِّ ماتبقَّى فيه من وجعٍ واشتياق..
ضمَّها بقلبهِ قبل جسده، وهمس وهو يربتُ على كتفها المرتعش ورغم
ماقالته إلَّا أنَّه لم ييأس فقال وهو يعانقها بعينه:
"تصدَّقي أكتر حاجة كانت وحشاني فيكي قلبتك دي..بتقلبي من الظالمة للمظلومة في ثانية!"
ضحكت من بين الألم، وارتجفت عيناها بخجلٍ من قرب أجسادهم، ونظراتهِ التي تحفظها فهمست:
- إلياس وسَّع كده بلاش تضايقني، إنتَ نسيت قولت إيه، أنا هنا علشان..
لكنَّه لم يُمهلها أن تُكمل…
انحنى نحوها، يلتقطُ شفتيها بين أنفاسه، ويُخرس بها كلَّ ماتبقَّى من وجعِ الكلمات..
قبلةٌ ليست ككلِّ القبلات…
قبلةُ غفران، قبلةُ ندم، قبلةُ اعتذار عن سنواتٍ من الضياع..
قبلةُ حبٍّ دفين، اشتعل من بين الركام، وثار من عمقِ الحنين..
قبلةٌ تفيض بكلِّ مالم يُقال…
بكلِّ نبضٍ كُتم، وكلِّ شوقٍ حُبس، وكلِّ “أحبُّك” لم تُنطق في وقتها..
قبَّلها وكأنَّه يُنقذها من الغرق، أو ربما…
كان يغرق فيها عن طيبِ خاطر..
قبلةٌ كانت الحياة نفسها،
لا بدايةَ لها، ولا نهاية…
فقط لحظةُ نجاة، وسط بحرٍ من الفقد..
قبلاتٌ خلف قبلات، إلى أن فُتح الباب فجأة..ورغم فتحه بتلك الطريقة لم ينقطع عن جنَّةِ عشقه، وكأنَّ انفصال قبلتهما انفصالًا لحياتهما..