رواية رائحة الارض المفقودة الفصل التاسع بقلم فارق العلي
كانوا للتو خارجين من غرفة العمليات، بعد أن انقطعت الأنفاس على تفاصيل الخطة التي قد تغيّر كل شيء. باب الغرفة أغلق بهدوء، لكن صداه ظل يتردد في قلوبهم.
ضرغام بصوت متردد لكن واثق يقول لشير
> "ريفا... وصلنا إلها."
لم تمرّ ثانية حتى اهتزّ جسد شير، وكأن الصوت اخترق صدره مباشرة. التفّ بسرعة نحو ضرغام، وصوته تملأه لهفة مشتعلة:
> "ضرغام... يلا نروح، نحررها هسه!"
لكن ضرغام، بجسده المنضبط وصوته العسكري البارد، ردّ بنبرة فيها حسم لا يقبل النقاش:
> "ما نعرف موقعها بدقّة حاليًا. اللي نعرفه إنها بالموصل... وإحنا عدنا خريطة بس مو مفاتيح. التحرّك العشوائي راح يضيّعنا ويضيّعها."
تجمد شير، عيونه تشتعل، وكل نبضة بقلبه تصرخ "هسه". بس عقله، المُرهق من الانتظار، يعرف... ضرغام على حق.
كان نفسه يركض صوب الموصل، يحفر الأرض بإيده إذا اضطر. لكن الخطأ، في هذه المرحلة، هو نهاية كل شيء. فتنفّس بعمق، وبلع لهفته، وردّ بصوت مختنق:
> "تمام... نكمل الخطة."
ليث وهندس قربوا منه، ربت ليث على ظهره بحنية أخ، وقال:
> " وصلنا إلها... كلها اسبوعين ثلاثة وتجي يمك."
هندس، كعادته، ما ترك اللحظة تمرّ بدون نكهته الخاصة، ابتسم بخفة وقال:
> "وجابر ننهي بطلقة وحدة... وحدة، ما تخطّي."
ضرغام باوع الكل، عيونه فيها يقظة نمر، وأمر بنبرة واضحة:
> "شير، ليث... إنتو تروحون للعقيد مهند. كولو له لكينة خيط عن مكان جابر، حاليًا بين صلاح الدين وكركوك. خلوه يصدق إنّا ضيّعنا أثره حتى يحس بامان ويطلع من مكانه افضل مكان للتحرير أثناء النقل مراح يتوقعون عمليه تحرير."
سكت لحظة، ثم أكمل:
> "صفية بالموصل، وشافت ريفا يعني هم بالموصل، وجابر ما يگدر يخليها تنتقل حاليًا... العملية هاي راح توصل له رسالة غير مباشرة: (خيطكم تقطع، جابر اختفى). لازم يحس بالأمان... حتى يطلع."
هندس شبك ذراعيه وقال:
> "يعني باختصار... نغفّيه، وننتظر يشهق."
ضرغام التفت له وقال:
> "بالضبط. وهي اللحظة... نقطع النفس."
فرق الفريق.
هندس ركب السيارة مع ضرغام، وجهتهم شمالًا، في طريق طويل ومغبر يحمل وزن الأسرار. أما شير وليث، فقد توجها نحو مقر العقيد مهند، وكل خطوة عندهم كانت بين نار الصبر ولهفة الدم.
كلّهم كانوا يعرفون...
هذه المرة، الرهان مو على الحياة فقط.
الرهان... على التوقيت.
وقف شير وليث أمام بوابة المقر، الحرس يتبادلون النظرات الرسمية، والسكون يغلف الهواء كأنه يعلم أن ما سيُقال بعد هذه اللحظة، قد يغيّر مصير ريفا.
وقبل أن يخطو نحو الداخل، مد ليث يده وأمسك ذراع شير بلطف، ثم همس له بصوت منخفض، لكنه محمّل بالتحذير:
> "شير... الزم أعصابك. جوا، لا تبين أي شي. إذا شك، حتى بشعرة...هو و جابر يختفون. لازم نخليه نايم بالعسل."
شير ما نطق، لكن نظراته المشتعلة بالغضب انخفضت للحظة، ثم أومأ برأسه بصمت، كأنه يرمي لهفته كلها في قاع صدره. كان واضحًا عليه أنه يُقاتل نفسه أكثر مما يُقاتل خصومه.
دخلوا غرفة العقيد مهند.
المكتب أنيق، مرتب، لكن برده ما كان من التكييف... كان من صاحبه.
مهند كان جالسًا خلف طاولة خشبية عريضة، يقرأ تقارير بنصف اهتمام، حتى دخلوا. رفع رأسه، وعيناه مباشرةً اصطادت ملامحهم.
أدّوا التحية العسكرية.
> "سيدي، الرائد ضرغام هو اللي وجهنا للحضور."
بمجرد ما سمع اسم "ضرغام"، تغيّرت قسمات وجه مهند للحظة، لكن بسرعة لبس قناعه من جديد. انحنى قليلًا للأمام، مسندًا مرفقيه على الطاولة، وقال بنبرة فيها سخرية مموّهة بابتسامة باردة:
> "هاه... لكيتو الشبح؟ اللي مادري منين طلعه ضرغام؟"
ليث، بصوت ثابت وموزون، رد:
> "نعم سيدي. لكينا خيط من مخبر... جابر شوهد بمنطقة بين صلاح الدين وكركوك. بس لحد الآن ما حددنا الموقع الدقيق."
العقيد مهند سحب نفسًا طويلًا، وكأن راحة نزلت على قلبه المتوتر، ثم اتكأ للخلف على كرسيه الجلدي، ألقى بجسده بثقل وكأن ثقلًا انزاح عنه.
ابتسم، وقال بصوت أكثر دفئًا، لكن عيونه ما ودّعت الحذر:
> "أبطال... عاشت إيدكم. استمروا وانطوني التحديثات أول بأول. أكو شي ثاني عرفتوه عنه؟"
ليث هز رأسه وقال بهدوء محسوب:
> "لا سيدي. فقط إنه المخبر شافه بنفسه بالمنطقة المذكورة."
مهند لوّح بيده بإشارة إنهاء:
> "أحسنتم. انصراف."
استداروا للخروج، خَطَوا خارج المكتب بهدوء، لكن بين خطواتهم، كانت هناك ابتسامة خفيفة تُرسم على وجهيهما... ابتسامة رجلين يعرفان أن الطُعم انبلع، وأن السم بدأ يذوب في جسد الخديعة.
كانا يعلمان أن "جابر" سيشعر بالطمأنينة.
وذلك ما كانوا يريدونه بالضبط.
كان الغبار يتصاعد من تحت دواليب السيارة، والهواء حارّ كأن الصحراء تلفظ أنفاسها الأخيرة. في المقعد الجانبي، جلس هندس، متصلب الوجه، لا يُشبه نفسه التي اعتاد أن يُضحك بها الجميع. هذه المرة، كان صامتًا، وعيناه تتنقلان بحذر من الطريق إلى الوجوه خلف الزجاج المعتم.
ضرغام، بجانبه، كان يتفحّص ملفًا ورقيًا سميكًا بين يديه، أطراف أوراقه مهترئة من كثرة التصفّح، لكنه يعرف كل ما فيه عن ظهر قلب. التفت لهندس وقال بنبرة واضحة، فيها حزم القادة وحرص من يدفع رجلاً إلى ساحة الخطر:
> "اسمك الحركي من هسه: قتيبة. هاي اللحية المزيفة تلبسها طول الوقت، لا تخلعها أبد. إحنا داخلين جوّا التنظيم، بمركز ثقة. ماكو مجال للخطأ."
مدّ يده بعلبة فيها أدوات تنكّر: لحية، شال، سبحة، وخاتم نحاسي كبير.
> "أنت مجنّد جديد... جبتك وياه للتنظيم لأنك شاب ملتزم، ما عندك ماضي مشبوه، وخلوق. حافظ الدور، لا تظهر ضعف... ولا فضول زايد. خليك ظلّي، بس عادي، بسيط."
هندس، لأول مرة، ردّ دون نكته المعتادة. صوته كان هادئًا، خشنًا قليلًا، فيه جدّية لم يعهدها حتى هو:
> "حاضر، سيدي."
أخذ اللحية، ثبّتها بإحكام، ثم نظر إلى نفسه في مرآة السيارة، واختفى "هندس"... وولد "قتيبة".
---
الموصل – بيت أبو حارث
دخلوا المدينة، والعيون بدأت تلتفت. الجدران المتهالكة، الأعلام السود، المحلات المغلقة، والخوف يمشي على أطراف الحيطان.
كل من مرّ بهم قالها بصوت واحد، بابتسامة مصطنعة، ونظرة خالية:
> "حيّاك الله، أبو حارث..."
ضرغام، بثيابه الطويلة، عمامته السوداء، وحركته الواثقة، كان يمشي كقائد لا يُسأل. خلفه، يمشي قتيبة بخطى ثابتة، لكن صدره يضج، قلبه يدق أقوى من صوت محرك السيارة، ورجليه تترنح بين الصدمة والخوف. لكنّ وجهه كان ثابتًا... جامدًا... مقنّعًا بإحكام.
وصلوا بيت "أبو حارث" — منزل كبير تحيط به الجدران العالية، ويملؤه صمت ثقيل لا يشبه البيوت. في الداخل، أصوات خافتة، حفيف عباءات، وتمتمات ضعيفة.
"السبايا".
جلس ضرغام في صالة بسيطة، أمامه فنجان قهوة، وسأل إحدى "الأخوات" المتطوعات بالتنظيم:
> "وين صفية؟ زوجتي... دزيتها تساعد بواحد من الاعراس أثناء غيابي."
ردّت الأخت، بصوت متزن، لكنها متحفظة:
> "خرجت في مهمة خاصّة. وصلتها أوامر من القيادة العليا. ما نعرف تفاصيلها، بس راجعة باجر، بإذن الله."
أومأ ضرغام دون أن يظهر أي انفعال. لكن خلف عينيه... كانت عاصفة تدور.
---
في المساء
جلس ضرغام وهندس في أحد أروقة البيت الداخلي، يحيط بهم عدد من عناصر التنظيم. الأحاديث تدور، ضحكات باهتة، وكل منهم يحاول أن يبدو طبيعيًا.
همس هندس بصوت خافت، بالكاد يُسمع:
> "سيدي... هذولة السبايا؟ ليش ما نحررهم؟ إذا عدنه هالسلطة وهالموقع؟"
ضرغام لم ينظر إليه مباشرة، فقط أجابه بصوت متزن، فيه ثقل يعرفه من عاش سنوات في الاستخبارات:
> "ما نكدر نحرر الكل سوا. إذا أخذتهم دفعة وحدة... يشكّون. كل فترة، أطلّع وحدة، أسوي نفسي مليت، وأقول راح أبيعها بالسوق."
سكت لحظة، ثم أكمل:
> "بس بالحقيقة... أوصلها لسيطرة الجيش. آمنة، وتتحرر. بس هاي الخدعة ما نكدر نكررها أكثر من مرّتين أو ثلاث... بعدها، يشكّون، يتحققون، ينكشف كلشي."
هندس أومأ، وفهم اللعبة.
> "واضح، سيدي."
ضرغام التفت له مجددًا، بعين مركزة:
> "اليوم تطلع ويّا بعض عناصر التنظيم. اسأل، لكن لا تسأل مباشر. خليك طبيعي. إنت عندك كاريزما تساعدك، لكن لا تتجاوز حدودك... كلمة وحدة غلط، وانتهينا."
أومأ هندس، قام من مجلسه، سحب عباءته، وخرج دون أن يلتفت.
ضرغام بقي وحده... الفنجان بين يديه برد، والليالي كلها صارت تتشابه.
---
الليل
جلس في زاوية غرفته، ينظر إلى الحائط، وعيناه لا ترى الطلاء المتشقق... بل ترى وجها.
ريفا.
المشهد الذي لم يغادره منذ سوق السبايا، عاد ينبض في رأسه.
صوت المزايدات، عباءتها، عيونها... سكونها الموجع.
قلبه، الذي عاش عمره كجدار حديدي في وجه العواطف، صار خفيفًا... هشًا... كأنه ريشة.
سأل نفسه بصمت:
> "حررت أكثر من عشرين سبية... ليش هاي هيج مهمه عندي؟؟"
ظل جالسًا هناك، بين صرامة الواجب... وخيانة الشعور.
الزمن هنا لا يُقاس بالساعات، بل بالأنفاس الثقيلة، وبعدد الخطوات التي يخطوها "جابر" في الممر الضيق، جيئةً وذهابًا.
ريفا، ما زالت على حالها، جالسة عند طرف الجدار الطيني، ضامّة ركبتيها إلى صدرها، تستند بظهرها إلى البرد المتراكم في الإسمنت. كل شيء ساكن... إلا عقلها.
كانت تراقبه يوميًا، "جابر"، يتحدث بلغة غريبة لا تفهمها. نغمة أقرب للهمس، فيها حروف تنكسر وتُردَد كأنها موسيقى بلا روح. لم تكن عربية، ولا كردية، ولا أي لهجة سمعتها من قبل. لغة تنتمي لظل العالم، لا لسطحه.
لكن في إحدى المكالمات، قبل يومين، سمعت الكلمة...
"شير."
جسدها ارتعش دون إرادة، وقلبها عاد ينبض كما لم ينبض منذ أن تم اقتلاعها من حضن أبيها في كوجو.
> "شير؟ شير بعده حي؟ لو هذا اسم ثاني؟"
ومنذ ذلك اليوم، صار اسم شير يتكرر في عقلها مع كل نبضة. صار كل صمت تفكير، وكل نفس دعاء.
> "حتى لو ما شفته أبد... حتى لو ظليت هنا طول عمري... بس أعرف إنه عايش. كافي."
---
في مساء ذلك اليوم، حين بدأ الضوء الخافت ينسحب من مصباح النفق، فُتح الباب الحديدي الثقيل، ودخلت فتاة تحمل صينية طعام وماء.
الوجه مألوف... لكن ريفا، رغم التعب، شعرت أن هذه المرة مختلفة.
كانت هي... نفس الفتاة التي حضرت مع "الأخوات" يوم تجهيزها لما أسموه "الزفاف". نفس العيون، نفس الشال، نفس الخطوات الخفيفة.
لكن اليوم، عيونها... تحكي.
التقت نظرات ريفا بها، نظرة طويلة، صامتة، كأن بينهما حوارًا من زمن بعيد.
اقتربت الفتاة، وجلست إلى جوارها، بصوت خافت، يكاد لا يُسمع:
> "أنا... صفية. تتذكريني؟"
ريفا اتسعت عيناها، للمرة الأولى منذ أسابيع تحركت شفتاها بكلمات:
> "إنتِ... إنتِ اللي كلتي إنك تزوجتي خمس مرات صح؟"
قالتها بصوت خافت، فيه خجل، فيه كسر... لكنه أيضًا مليء بالدهشة، لأن ريفا لم تكن قد تكلمت منذ تم اختطافها.
صفية خفضت رأسها، كأنها تحتمي من الجواب، ثم قالت بصوت ينكسر:
> "إي... إي، أني."
لكن قبل أن تذوب الكرامة في الحزن، رفعت ريفا رأسها وقالت بهدوء:
> "بس إنتِ... مالچ ذنب. ذولا مو بشر... ذولا وحوش."
صفية وضعت إصبعها بسرعة على شفتيها، وهمست بانفعال:
> "ششش... خفّضي صوتچ. إحنا بالنفق، وصوتچ يوصل للحيطان."
ريفا فهمت الإشارة، أومأت، واقتربت قليلاً. وجهها تعلّق بالأمل، وعيناها تقرأان كل تفصيلة في ملامح صفية.
اقتربت صفية أكثر، وقالت بالكاد يُسمع صوتها:
> "ريفا... لا تخافين ولا تطلعين اي صوت، او اي رد فعل. شير، أخوج، بعده حي... ويدوّر عليچ، واختج ايفين عايشة."
ريفا وضعت يدها على فمها، كأنها تمنع صرخة من الخروج، والدموع بللت عينيها. قلبها صار يدقّ بقوة لم تعرفها منذ آخر مرة ضحكت مع شير قرب الحقول.
> "وشلون عرفتي؟ شلون؟ إيفين شلون عايشة قفزت من الجبل كدام عيني؟"
صفية همست بثقة، عيناها فيها بريق تحدٍّ:
> "إي، إيفين عايشة... وشير جندي يشتغل ويه ضابط بالاستخبارات... وكاعد يسوون المستحيل حتى يحرروج اصمدي فترة وتتحررين."
ريفا ارتجفت، جسدها ما عاد يتحمل هذا الكم من الأمل دفعة واحدة.
لكن قبل أن تنبس بكلمة أخرى...
صوت خشن من خارج النفق قطع اللحظة:
> "صفية! مهمتچ خلصت. زوجچ رجع من المهمة!"
قفز قلب ريفا من مكانه، التفتت بسرعة، ونظرت إلى صفية.
صفية وقفت بهدوء، نظرت لرفيقتها التي بالكاد بدأت تحلم من جديد، وهمست:
> "اصبري... وكوني قوية. راح يجي يوم وتشوفين النور."
ثم غادرت، والصينية بيدها، وخلفها بقايا حلم بدأت للتو تنمو في ظلام النفق.
---
ريفا بقيت وحدها، لكن عيونها مفتوحة، أوسع من أي وقت مضى.
أول مرة، تحس إن النور موجود... حتى لو بعيد.
شير عايش...
وإيفين عايشة...
وربما، هي الأخرى... ستُبعث من رمادها.
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم